- الجمعة مايو 03, 2013 6:22 pm
#61845
علم السياسة
طرح ماكيافيلي ( هو رائد في الكتابة عن هذا العلم ) أشكال السلطة بأسلوب تميز بالواقعية الصارمة و بتحديد فظ و صارخ للحاجات . لكن ذلك لا ينفي تأثر هذا المؤلف بالارسطوطاليسية التي وضعت السياسة في قمة هرم العلوم التطبيقية لتدرج الاقتصاد و السلوك الشخصي ( علم النفس و التربية ) كتوابع لها أدنى منها أهمية . فقد اهتم أرسطو بالبحث عن مواصفات الحكومة الصالحة التي تؤمن الحياة الصالحة للمواطنين . في حين تمرد ماكيافيلي على هذه الأولوية، وركز على شخصية الحاكم حيث أنه الشخص الذي يجب التعرف إلى أغواره و العمل على تثقيفه و توسيع مداركه لتدعيم سلطته . بعد ذلك يمكن للسياسة أن تكون فن إضفاء السعادة على الإتباع أكثر مما هي مجرد الحصول على طاعتهم . لكن السلطة قد لا تجد دوما القدرة على كسب الطاعة عبر إعطاء السعادة و ذلك لتعلق الأمر بالناس و بأهوائهم و بالعوامل المؤثرة فيهم إيحائيا. و عندها فان الحاكم يلجأ للقوة. وهكذا فان ماكيافيلي يقدم لنا في كتابه تأسيسا لعلم السياسة الحديث و يضمنه جرعة كبيرة من العلوم النفسية والتربوية.
علم السياسة :
علم السياسة ( politologie ) يطرح اليوم على انه المعرفة الوصفية و التحليلية والتبصيرية للدولة و للظواهر المتعلقة بها . و هذه المعرفة تحتاج للدعم بكميات هائلة من المعلومات . لذلك كان التسابق العالمي في مجال المعلوماتية ( informatique ) حيث جرى التسابق, و يستمر، على إنتاج المعلومة و على تصنيعها و على سرعة نقلها و إيصالها للهدف و على توليد معلومات جديدة ( المستقبليات بشكل خاص ) .
حتى طرحت اليوم فرضيات تقول أن من يملك المعلومات سيملك السلطة في القرن المقبل .
و حاجة علم السياسة الماسة إلى المعلومات هي وراء تطور الفروع التي كانت ملحقة به أساسا. فهو قد سمح لها بإنتاج المعلومات و هو لا يزال يجاهد كي يحتكر تصنيع وتوليد هذه المعلومات. في حين ينتج الآخرون معلومات غير مصنعة ( أي خام ) .
ميادين علم السياسة :
يصر الباحثون العاملون في اليونسكو على اعتبار علم السياسة علما قائما بذاته. رافضين اعتباره بمنزلة الفن أو المهارة أو الموهبة . و على هذا الأساس انطلق هؤلاء الباحثون من الوجود الموضوعي - الواقعي لهذا العلم كي يحددوا ميادينه. متجنبين بذلك الخوض في جدلية الاعتراف به و عدم استكماله لقواعد هذا الاعتراف . و لقد حدد هؤلاء ميادين علم السياسة على النحو التالي:
أ- النظريات السياسية : النظرية السياسية - تاريخ الأفكار .
ب- المؤسسات السياسية : الدستور - الحقوق المركزية .- الحقوق الإقليمية والمحلية - الإدارة العامة - الوظائف الاقتصادية و الاجتماعية للحكومة - المؤسسات السياسية المقارنة.
ج- الأحزاب و الكتل و الرأي العام: الأحزاب السياسية - الكتل و التجمعات - مساهمة المواطن في الحكم و في الإدارة - الرأي العام.
د- العلاقات الدولية : السياسة الدولية - المنظمات الدولية - القانون الدولي .
أما في الجامعات فان تدريس السياسة يعتمد لائحة تصنيفية قوامها:
1- تاريخ الآراء السياسية.
2- المؤسسات السياسية.
3- سوسيولوجيا السياسة.
التاريخ المعاصر لعلم السياسة:
الولادة الحديثة لعلم السياسة بدأت مطلع الخمسينيات عقب استشعار الحاجة له بعد الحرب العالمية الثانية. ما دفع المؤسسات الدولية ( الناشئة كنتيجة لهذه الحرب )، مثل اليونسكو, على تشجيع نموه و تطوره . حتى أن أول تحقيق لليونسكو في ميدان العلوم الاجتماعية تناول موضوع السياسة و نجم عنه مجلد متعدد المؤلفين تحت عنوان " علم السياسة المعاصر " كما رعت اليونسكو ولادة " الجمعية الدولية لعلم السياسة " التي عقدت مؤتمرها الدولي الأول في زيوريخ العام 1949 ثم توالت مؤتمرها بمعدل مؤتمر كل ثلاث سنوات. و توالت بعد ذلك الجمعيات و المجلات المحلية و العالمية المتخصصة في مجال السياسة.
و ترافقت هذه التحركات البحثية مع تطورات أكاديمية فظهرت المعاهد و المؤسسات الجامعية المعنية بتدريس العلوم السياسية لغاية درجة الدكتوراه في المجال .
السياسة و علم الاجتماع:
وفق المفهوم التقليدي لعلم السياسة يكون علم الاجتماع تابعا للسياسة كفن من فنون تنظيم العائلات و ترتيب و تحديد اطر علاقاتها في ما بينها وفق الأنظمة السياسية للحاضرة ( المدينة - الدولة ) . لكن مبادئ عالم الاجتماع "اوغست كونت" جاءت لتهدد هذا التفوق. بل أن السوسيولوجي ( علم الاجتماع ) بدا و كأنه يحاول إزاحة السياسة و الحلول مكانها كعلم بنيوي قادر على تحليل الروح الحقيقية المرتبط بالشعور الاجتماعي العام. فقد دعا كونت إلى إزاحة بؤرة الاهتمام من الحاضرة أو الدولة إلى البشرية التي عرفها كونت على أنها مجموعة المخلوقات البشرية السابقة و اللاحقة والحالية. كما يذكر كونت بالاتصال عبر الأجيال حيث يرى أن عدد الأموات ( الذين لا يزالون يمارسون تأثيرهم و كأنهم أحياء ) في ازدياد مستمر و هنا يصطدم كونت بحاجز الدين فيحله مكان الدراسة العلمية للبشرية. و كأنه يتكئ على الدين ليواجه المفهوم التقليدي لعلم السياسة. أما " دور كهايم " و تلامذته فقد رأوا في السوسيولوجي تجسيدا لعلوم المجتمع و منها السياسة التي يمكن إلحاقها بالسوسيولوجي.
و لقد وصل بعض السوسيولوجيين إلى حدود اعتبار المجتمع كائنا له حياته و تاريخه وضميره و مصالحه . بما يحول السوسيولوجي باتجاه البحث في الظواهر الإنسانية.
و من هنا نشأة علم النفس الاجتماعي و علم نفس الجماعات وظهور مبادئ اللاوعي الجماعي و الشخصية الأممية الممهدة لظهور علم النفس السياسي .
السياسة و علم النفس :
ترتبط السياسة بالـ(سيكولوجيا) عبر علاقة عضوية تعود إلى البدايات الأولى للفكر الإنساني . أي إلى ما قبل تشكل المفاهيم النظرية لأي منهما . و بالعودة إلى "أرسطو" نجده يصنف السيكولوجي و السياسة و الاقتصاد في إطار العلوم التطبيقية . معرفا الأخلاق على أنها علم دراسة السلوك الشخصي، و الاقتصاد على أنه علم تدبير معيشة العائلة و السياسة على أنها علم تدبير المدينة ( الدولة ) . لكن الطابع العضوي لهذه العلاقة يعود عمليا إلى حاجة السياسة الماسة لأية وسيلة تسهل الاتصال الذي يحتاج بدوره إلى أية معلومة تساهم في إكمال فعاليته و تدعيمها .
وكنا قد أشرنا إلى أن البدايات الحديثة لعلم السياسة تعود إلى مطلع الخمسينيات وهي اقترنت ببدايات علم النفس السياسي. فقد نُشرت منذ مطلع هذا القرن العديد من البحوث النفسية السياسية. التي بدأها " فرويد " بعودة إلى ما قبل الحضارة البشرية لينتقل بعدها إلى دراسة الأساطير وتحديدا مناقشة الأساطير اليهودية ومسألة التوحيد في كتابه "موسى والتوحيد" ليدخل بعدها مباشرة إلى السياسة في مقالته " أفكار لأزمنة الحرب والموت " . ثم كانت دراسات "يونغ" الشهيرة حول الأساطير واللا وعي الجماعي وعلاقتهما باللاوعي الفردي. وبعدها أتت محاولة إتباع "فرويد" والمنشقين عنه للتوفيق بين التحليل النفسي والسياسة والنظرية الماركسية خصوصا. كما تجدر الإشارة إلى الكتاب الذي نشره "غراهام والاس" في العام 1921 تحت عنوان " الطبيعة الإنسانية في ميدان السياسة " .
لكن البحث العلمي الحقيقي في ميدان السيكولوجي السياسية بدأ في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية. حين دُعمت هذه البحوث بهجرة مكثفة لعلماء النفس الأوروبيين الهاربين إلى أميركا من الحرب. فبدأت هذه البحوث من منطلقات (عرقية) وسخرت هذه البحوث لدراسة اللاوعي الجماعي والشخصيات الأممية لأصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها. في محاولة لتسخير سيكولوجية الرأي العام في الاتجاه السياسي المناسب. وهكذا بحيث يمكن اعتبار ولادة السياسة والسيكولوجي السياسية في مطلع الخمسينيات ولادة توأم.
لكن هذه الفترة وتحديدا العام 1952 سجلت ترسيخ العلوم النفسية كعلم له منهجيته الطبية الصارمة. إذ شهد هذا العام ظهور دواء الكلوربرومازين (دواء معقل) الذي كان مقدمة لإرساء الطب النفسي كأحد فروع الاختصاصات الطبية مما أذكى الصراع بين هذا الفرع المستجد ( الذي وجد لنفسه التطبيقات في الميادين السياسية والعسكرية والحضارية....الخ) وبين بقية الفروع المعنية بهذه الميادين. بل إن الطب النفسي بدأ وكأنه يحاول وضع النظم الأخلاقية لهذه الفروع وخصوصا السياسية منها. إذ يرى الطب النفسي ضرورة الإفادة من معارفه( وضرورة مساعدة بقية الفروع له) لكي يحقق الضوابط الأخلاقية.
تتلخص هذه الضوابط في الآتي:
1- إن أية أبحاث تعمل على إحداث تغييرات في الإنسان (مثل التربية العبقرية وأبحاث الهندسة الوراثية والاستنساخ والجراحة الدماغية....الخ). ويجب أن تكون خاضعة لسياسة اجتماعية صارمة تهتم بتوجيه هذه الأبحاث لتحسين شروط معيشة وسعادة الإنسان.
2- أن مثل هذه الأبحاث يجب أن يمنع توجيهها باتجاه تحقيق تفوق أفراد أو جماعات أو شعوب على حساب غيرها من البشر.
3- يجب النظر إلى جميع محاولات (تحسين) السلوك الإنساني على أنها اعتداء على حرية الشخص. باستثناء الحالات التي تتم فيها هذه المحاولات بطلب من الشخص نفسه لاستشعاره الحاجة إليها. على أن تدعم الآراء العلمية الموضوعية هذا الاستشعار.
4- إن "اللاانسانية" المتمثل باستبدال أعضاء بشرية هامة بأعضاء حيوانية هي مسألة تطرح إشكاليات أخلاقية خطيرة.
5- أن الرغبة الشخصية بالاستفادة من تقنيات معينة لاستغلالها لتحقيق أهداف شخصية من شأنها أن تنسف قواعد السياسة الاجتماعية وأخلاقياتها. الأمر الذي يقتضي التريث في تشريعها لقياس مدى قدرة هذه السياسة على استيعاب التعديلات. مثال على ذلك أن الدعوة العالمية للحد من زيادة السكان (ومعها دعوة الشعوب لا يتجاوز متوسط أعمارها الأربعين عاما للحد من التكاثر) تصطدم بالرغبات الشخصية في الإنجاب باستخدام تقنيات طفل الأنبوب أو الاستنساخ أو غيرها.
6- إن أية محاولة لتعديل الشخصية يجب أن تخضع لتحري دوافع هذه المحاولة سواء من قبل شخص أو من قبل الإختصاصي الذي يتولى عملية التعديل.
7- إن تطور تقنية الاتصال (ومعها التجسس على الأفراد) يؤمن مراقبة دقيقة لسلوك الأشخاص مما يزيد من احتمالات إساءة الاستغلال السياسي لهذه المراقبة ( خصوصا بعد علمنا أن دولا نامية عديدة تخضع بشكل جماعي لهذا النوع من المراقبةّ!).
8- أن موضوع ولادة بدون رحم ومعها موضوع الاستنساخ هي مواضيع تلامس حساسيات تحديد الانتماء العائلي. الأمر الذي يهدد مفاهيم البنية العائلية في المجتمع البشري. وهو تهديد يستحق الدراسة والمناقشة المعمقة.
9- إن محاولات زيادة الذكاء السكاني (نسبة 20%) أو ما يعرف بمحاولات إنتاج جيل من العباقرة , وأيضا محاولات زيادة متوسط أعمار البشر بحوالي عشرين بالمئة إضافية , هي محاولات محفوفة بمخاطر الاحتكار الذي يؤدي إلى التفرقة والتمييز العنصريين(العلميين) مما يجعل تكاليف هذه الأبحاث الأخلاقية خارج إطار قدرة البشرية على تحملها. فهي تشجع فرز البشر إلى أذكياء وأغبياء بل يعني ولادة نوع جديد من الأسباب الممهدة لانتهاك حقوق الإنسان.
10- ترتبط كرامة الإنسان بقاعدة ذهبية تقول: إن البشر يكونون أكثر فعالية وعطاء ( أي أكثر إنسانية) عندما نعاملهم كأحرار مسئولين متمتعين باستقلاليتهم الذاتية .
11- إن مسألة الحفاظ على التنوع الإنساني ( الجيني والثقافي ) هي مسألة حيوية محورية. ومحاولة إنتاج مخلوقات مثالية جينيا ( أو ثقافيا عن طريق العولمة) هي محاولة تحرم الإنسانية من هذا التنوع.
12- يجب أن تبقى العائلة الواحدة الرئيسة لتكاثر البشر ويجب الإصرار على عدم استبدالها بأي من الوحدات المقترحة. وحول حبة الرمل هذه (أي العائلة) أي تطور اللؤلؤة التي تشكل التنوع الثقافي الإنساني. الذي لم تستطع الاقتراحات المطروحة لغاية اليوم أن تأتي ببديل له.
وبهذا تبدو العلوم النفسية , الطب النفسي خصوصا , وكأنها خط الدفاع الضابط للأخلاقيات. لكن هذا الضابط لا يشكل سوى قمة جبل الجليد. فمن ناحية يقع الطب النفسي ومعه العلوم النفسية والإنسانية كافة تحت تأثير علوم أخرى مثل الاقتصاد والاتصال والإحصاء. وهذا الأخير بات قادرا على فبركة النتائج بأي اتجاه كان , وباتت الإحصاءات لعبة بدون قواعد .
ومن ناحية أخرى فقط وقعت العلوم النفسية في أسر الفكر السياسي. فعلاقة هذه العلوم بالفلسفة علاقة قديمة وعضوية ومتبادلة. فلو راجعنا التصنيفات المقترحة للأمراض النفسية لوجدنا أنها متأثرة لدرجة التوحد بالفكر السياسي السائد. فالتصنيف الأمريكي يعتمد المبادئ البراجماتية والظواهرية عن طريق تحديده للتشخيص من خلال العوارض. حتى أعتبر بعض المؤلفين أن التصنيف الأمريكي هو حصان طراودة الذي يحاول الفكر الأمريكي النفاذ من خلاله إلى عقول الأطباء النفسيين حول العالم. فإذا ما أضفنا الوقائع المتوافرة حول إساءات استخدام الطب النفسي فإنا نجد أن الفن المسمى بالسياسة قد أمتلك القدرة على السيطرة وعلى تسخير العلوم لمصلحته مع بقاء قواعده سرية وعصية على الأرصاد في مناهج أكاديمية خاضعة للمنطق العلمي وقابلة للتجريب.
طرح ماكيافيلي ( هو رائد في الكتابة عن هذا العلم ) أشكال السلطة بأسلوب تميز بالواقعية الصارمة و بتحديد فظ و صارخ للحاجات . لكن ذلك لا ينفي تأثر هذا المؤلف بالارسطوطاليسية التي وضعت السياسة في قمة هرم العلوم التطبيقية لتدرج الاقتصاد و السلوك الشخصي ( علم النفس و التربية ) كتوابع لها أدنى منها أهمية . فقد اهتم أرسطو بالبحث عن مواصفات الحكومة الصالحة التي تؤمن الحياة الصالحة للمواطنين . في حين تمرد ماكيافيلي على هذه الأولوية، وركز على شخصية الحاكم حيث أنه الشخص الذي يجب التعرف إلى أغواره و العمل على تثقيفه و توسيع مداركه لتدعيم سلطته . بعد ذلك يمكن للسياسة أن تكون فن إضفاء السعادة على الإتباع أكثر مما هي مجرد الحصول على طاعتهم . لكن السلطة قد لا تجد دوما القدرة على كسب الطاعة عبر إعطاء السعادة و ذلك لتعلق الأمر بالناس و بأهوائهم و بالعوامل المؤثرة فيهم إيحائيا. و عندها فان الحاكم يلجأ للقوة. وهكذا فان ماكيافيلي يقدم لنا في كتابه تأسيسا لعلم السياسة الحديث و يضمنه جرعة كبيرة من العلوم النفسية والتربوية.
علم السياسة :
علم السياسة ( politologie ) يطرح اليوم على انه المعرفة الوصفية و التحليلية والتبصيرية للدولة و للظواهر المتعلقة بها . و هذه المعرفة تحتاج للدعم بكميات هائلة من المعلومات . لذلك كان التسابق العالمي في مجال المعلوماتية ( informatique ) حيث جرى التسابق, و يستمر، على إنتاج المعلومة و على تصنيعها و على سرعة نقلها و إيصالها للهدف و على توليد معلومات جديدة ( المستقبليات بشكل خاص ) .
حتى طرحت اليوم فرضيات تقول أن من يملك المعلومات سيملك السلطة في القرن المقبل .
و حاجة علم السياسة الماسة إلى المعلومات هي وراء تطور الفروع التي كانت ملحقة به أساسا. فهو قد سمح لها بإنتاج المعلومات و هو لا يزال يجاهد كي يحتكر تصنيع وتوليد هذه المعلومات. في حين ينتج الآخرون معلومات غير مصنعة ( أي خام ) .
ميادين علم السياسة :
يصر الباحثون العاملون في اليونسكو على اعتبار علم السياسة علما قائما بذاته. رافضين اعتباره بمنزلة الفن أو المهارة أو الموهبة . و على هذا الأساس انطلق هؤلاء الباحثون من الوجود الموضوعي - الواقعي لهذا العلم كي يحددوا ميادينه. متجنبين بذلك الخوض في جدلية الاعتراف به و عدم استكماله لقواعد هذا الاعتراف . و لقد حدد هؤلاء ميادين علم السياسة على النحو التالي:
أ- النظريات السياسية : النظرية السياسية - تاريخ الأفكار .
ب- المؤسسات السياسية : الدستور - الحقوق المركزية .- الحقوق الإقليمية والمحلية - الإدارة العامة - الوظائف الاقتصادية و الاجتماعية للحكومة - المؤسسات السياسية المقارنة.
ج- الأحزاب و الكتل و الرأي العام: الأحزاب السياسية - الكتل و التجمعات - مساهمة المواطن في الحكم و في الإدارة - الرأي العام.
د- العلاقات الدولية : السياسة الدولية - المنظمات الدولية - القانون الدولي .
أما في الجامعات فان تدريس السياسة يعتمد لائحة تصنيفية قوامها:
1- تاريخ الآراء السياسية.
2- المؤسسات السياسية.
3- سوسيولوجيا السياسة.
التاريخ المعاصر لعلم السياسة:
الولادة الحديثة لعلم السياسة بدأت مطلع الخمسينيات عقب استشعار الحاجة له بعد الحرب العالمية الثانية. ما دفع المؤسسات الدولية ( الناشئة كنتيجة لهذه الحرب )، مثل اليونسكو, على تشجيع نموه و تطوره . حتى أن أول تحقيق لليونسكو في ميدان العلوم الاجتماعية تناول موضوع السياسة و نجم عنه مجلد متعدد المؤلفين تحت عنوان " علم السياسة المعاصر " كما رعت اليونسكو ولادة " الجمعية الدولية لعلم السياسة " التي عقدت مؤتمرها الدولي الأول في زيوريخ العام 1949 ثم توالت مؤتمرها بمعدل مؤتمر كل ثلاث سنوات. و توالت بعد ذلك الجمعيات و المجلات المحلية و العالمية المتخصصة في مجال السياسة.
و ترافقت هذه التحركات البحثية مع تطورات أكاديمية فظهرت المعاهد و المؤسسات الجامعية المعنية بتدريس العلوم السياسية لغاية درجة الدكتوراه في المجال .
السياسة و علم الاجتماع:
وفق المفهوم التقليدي لعلم السياسة يكون علم الاجتماع تابعا للسياسة كفن من فنون تنظيم العائلات و ترتيب و تحديد اطر علاقاتها في ما بينها وفق الأنظمة السياسية للحاضرة ( المدينة - الدولة ) . لكن مبادئ عالم الاجتماع "اوغست كونت" جاءت لتهدد هذا التفوق. بل أن السوسيولوجي ( علم الاجتماع ) بدا و كأنه يحاول إزاحة السياسة و الحلول مكانها كعلم بنيوي قادر على تحليل الروح الحقيقية المرتبط بالشعور الاجتماعي العام. فقد دعا كونت إلى إزاحة بؤرة الاهتمام من الحاضرة أو الدولة إلى البشرية التي عرفها كونت على أنها مجموعة المخلوقات البشرية السابقة و اللاحقة والحالية. كما يذكر كونت بالاتصال عبر الأجيال حيث يرى أن عدد الأموات ( الذين لا يزالون يمارسون تأثيرهم و كأنهم أحياء ) في ازدياد مستمر و هنا يصطدم كونت بحاجز الدين فيحله مكان الدراسة العلمية للبشرية. و كأنه يتكئ على الدين ليواجه المفهوم التقليدي لعلم السياسة. أما " دور كهايم " و تلامذته فقد رأوا في السوسيولوجي تجسيدا لعلوم المجتمع و منها السياسة التي يمكن إلحاقها بالسوسيولوجي.
و لقد وصل بعض السوسيولوجيين إلى حدود اعتبار المجتمع كائنا له حياته و تاريخه وضميره و مصالحه . بما يحول السوسيولوجي باتجاه البحث في الظواهر الإنسانية.
و من هنا نشأة علم النفس الاجتماعي و علم نفس الجماعات وظهور مبادئ اللاوعي الجماعي و الشخصية الأممية الممهدة لظهور علم النفس السياسي .
السياسة و علم النفس :
ترتبط السياسة بالـ(سيكولوجيا) عبر علاقة عضوية تعود إلى البدايات الأولى للفكر الإنساني . أي إلى ما قبل تشكل المفاهيم النظرية لأي منهما . و بالعودة إلى "أرسطو" نجده يصنف السيكولوجي و السياسة و الاقتصاد في إطار العلوم التطبيقية . معرفا الأخلاق على أنها علم دراسة السلوك الشخصي، و الاقتصاد على أنه علم تدبير معيشة العائلة و السياسة على أنها علم تدبير المدينة ( الدولة ) . لكن الطابع العضوي لهذه العلاقة يعود عمليا إلى حاجة السياسة الماسة لأية وسيلة تسهل الاتصال الذي يحتاج بدوره إلى أية معلومة تساهم في إكمال فعاليته و تدعيمها .
وكنا قد أشرنا إلى أن البدايات الحديثة لعلم السياسة تعود إلى مطلع الخمسينيات وهي اقترنت ببدايات علم النفس السياسي. فقد نُشرت منذ مطلع هذا القرن العديد من البحوث النفسية السياسية. التي بدأها " فرويد " بعودة إلى ما قبل الحضارة البشرية لينتقل بعدها إلى دراسة الأساطير وتحديدا مناقشة الأساطير اليهودية ومسألة التوحيد في كتابه "موسى والتوحيد" ليدخل بعدها مباشرة إلى السياسة في مقالته " أفكار لأزمنة الحرب والموت " . ثم كانت دراسات "يونغ" الشهيرة حول الأساطير واللا وعي الجماعي وعلاقتهما باللاوعي الفردي. وبعدها أتت محاولة إتباع "فرويد" والمنشقين عنه للتوفيق بين التحليل النفسي والسياسة والنظرية الماركسية خصوصا. كما تجدر الإشارة إلى الكتاب الذي نشره "غراهام والاس" في العام 1921 تحت عنوان " الطبيعة الإنسانية في ميدان السياسة " .
لكن البحث العلمي الحقيقي في ميدان السيكولوجي السياسية بدأ في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية. حين دُعمت هذه البحوث بهجرة مكثفة لعلماء النفس الأوروبيين الهاربين إلى أميركا من الحرب. فبدأت هذه البحوث من منطلقات (عرقية) وسخرت هذه البحوث لدراسة اللاوعي الجماعي والشخصيات الأممية لأصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها. في محاولة لتسخير سيكولوجية الرأي العام في الاتجاه السياسي المناسب. وهكذا بحيث يمكن اعتبار ولادة السياسة والسيكولوجي السياسية في مطلع الخمسينيات ولادة توأم.
لكن هذه الفترة وتحديدا العام 1952 سجلت ترسيخ العلوم النفسية كعلم له منهجيته الطبية الصارمة. إذ شهد هذا العام ظهور دواء الكلوربرومازين (دواء معقل) الذي كان مقدمة لإرساء الطب النفسي كأحد فروع الاختصاصات الطبية مما أذكى الصراع بين هذا الفرع المستجد ( الذي وجد لنفسه التطبيقات في الميادين السياسية والعسكرية والحضارية....الخ) وبين بقية الفروع المعنية بهذه الميادين. بل إن الطب النفسي بدأ وكأنه يحاول وضع النظم الأخلاقية لهذه الفروع وخصوصا السياسية منها. إذ يرى الطب النفسي ضرورة الإفادة من معارفه( وضرورة مساعدة بقية الفروع له) لكي يحقق الضوابط الأخلاقية.
تتلخص هذه الضوابط في الآتي:
1- إن أية أبحاث تعمل على إحداث تغييرات في الإنسان (مثل التربية العبقرية وأبحاث الهندسة الوراثية والاستنساخ والجراحة الدماغية....الخ). ويجب أن تكون خاضعة لسياسة اجتماعية صارمة تهتم بتوجيه هذه الأبحاث لتحسين شروط معيشة وسعادة الإنسان.
2- أن مثل هذه الأبحاث يجب أن يمنع توجيهها باتجاه تحقيق تفوق أفراد أو جماعات أو شعوب على حساب غيرها من البشر.
3- يجب النظر إلى جميع محاولات (تحسين) السلوك الإنساني على أنها اعتداء على حرية الشخص. باستثناء الحالات التي تتم فيها هذه المحاولات بطلب من الشخص نفسه لاستشعاره الحاجة إليها. على أن تدعم الآراء العلمية الموضوعية هذا الاستشعار.
4- إن "اللاانسانية" المتمثل باستبدال أعضاء بشرية هامة بأعضاء حيوانية هي مسألة تطرح إشكاليات أخلاقية خطيرة.
5- أن الرغبة الشخصية بالاستفادة من تقنيات معينة لاستغلالها لتحقيق أهداف شخصية من شأنها أن تنسف قواعد السياسة الاجتماعية وأخلاقياتها. الأمر الذي يقتضي التريث في تشريعها لقياس مدى قدرة هذه السياسة على استيعاب التعديلات. مثال على ذلك أن الدعوة العالمية للحد من زيادة السكان (ومعها دعوة الشعوب لا يتجاوز متوسط أعمارها الأربعين عاما للحد من التكاثر) تصطدم بالرغبات الشخصية في الإنجاب باستخدام تقنيات طفل الأنبوب أو الاستنساخ أو غيرها.
6- إن أية محاولة لتعديل الشخصية يجب أن تخضع لتحري دوافع هذه المحاولة سواء من قبل شخص أو من قبل الإختصاصي الذي يتولى عملية التعديل.
7- إن تطور تقنية الاتصال (ومعها التجسس على الأفراد) يؤمن مراقبة دقيقة لسلوك الأشخاص مما يزيد من احتمالات إساءة الاستغلال السياسي لهذه المراقبة ( خصوصا بعد علمنا أن دولا نامية عديدة تخضع بشكل جماعي لهذا النوع من المراقبةّ!).
8- أن موضوع ولادة بدون رحم ومعها موضوع الاستنساخ هي مواضيع تلامس حساسيات تحديد الانتماء العائلي. الأمر الذي يهدد مفاهيم البنية العائلية في المجتمع البشري. وهو تهديد يستحق الدراسة والمناقشة المعمقة.
9- إن محاولات زيادة الذكاء السكاني (نسبة 20%) أو ما يعرف بمحاولات إنتاج جيل من العباقرة , وأيضا محاولات زيادة متوسط أعمار البشر بحوالي عشرين بالمئة إضافية , هي محاولات محفوفة بمخاطر الاحتكار الذي يؤدي إلى التفرقة والتمييز العنصريين(العلميين) مما يجعل تكاليف هذه الأبحاث الأخلاقية خارج إطار قدرة البشرية على تحملها. فهي تشجع فرز البشر إلى أذكياء وأغبياء بل يعني ولادة نوع جديد من الأسباب الممهدة لانتهاك حقوق الإنسان.
10- ترتبط كرامة الإنسان بقاعدة ذهبية تقول: إن البشر يكونون أكثر فعالية وعطاء ( أي أكثر إنسانية) عندما نعاملهم كأحرار مسئولين متمتعين باستقلاليتهم الذاتية .
11- إن مسألة الحفاظ على التنوع الإنساني ( الجيني والثقافي ) هي مسألة حيوية محورية. ومحاولة إنتاج مخلوقات مثالية جينيا ( أو ثقافيا عن طريق العولمة) هي محاولة تحرم الإنسانية من هذا التنوع.
12- يجب أن تبقى العائلة الواحدة الرئيسة لتكاثر البشر ويجب الإصرار على عدم استبدالها بأي من الوحدات المقترحة. وحول حبة الرمل هذه (أي العائلة) أي تطور اللؤلؤة التي تشكل التنوع الثقافي الإنساني. الذي لم تستطع الاقتراحات المطروحة لغاية اليوم أن تأتي ببديل له.
وبهذا تبدو العلوم النفسية , الطب النفسي خصوصا , وكأنها خط الدفاع الضابط للأخلاقيات. لكن هذا الضابط لا يشكل سوى قمة جبل الجليد. فمن ناحية يقع الطب النفسي ومعه العلوم النفسية والإنسانية كافة تحت تأثير علوم أخرى مثل الاقتصاد والاتصال والإحصاء. وهذا الأخير بات قادرا على فبركة النتائج بأي اتجاه كان , وباتت الإحصاءات لعبة بدون قواعد .
ومن ناحية أخرى فقط وقعت العلوم النفسية في أسر الفكر السياسي. فعلاقة هذه العلوم بالفلسفة علاقة قديمة وعضوية ومتبادلة. فلو راجعنا التصنيفات المقترحة للأمراض النفسية لوجدنا أنها متأثرة لدرجة التوحد بالفكر السياسي السائد. فالتصنيف الأمريكي يعتمد المبادئ البراجماتية والظواهرية عن طريق تحديده للتشخيص من خلال العوارض. حتى أعتبر بعض المؤلفين أن التصنيف الأمريكي هو حصان طراودة الذي يحاول الفكر الأمريكي النفاذ من خلاله إلى عقول الأطباء النفسيين حول العالم. فإذا ما أضفنا الوقائع المتوافرة حول إساءات استخدام الطب النفسي فإنا نجد أن الفن المسمى بالسياسة قد أمتلك القدرة على السيطرة وعلى تسخير العلوم لمصلحته مع بقاء قواعده سرية وعصية على الأرصاد في مناهج أكاديمية خاضعة للمنطق العلمي وقابلة للتجريب.