جان جاك روسو - رائد من رواد فلسفة التنوير
مرسل: الجمعة مايو 03, 2013 6:34 pm
جان جاك روسو, فيلسوف ومفكر وأديب وموسيقى, ورائد من رواد حركة التنوير, التى مهدت للثورة الفرنسية عام 1789م. مؤلف كتاب العقد الإجتماعى الذى يعتبر أهم مصدر من مصادر الفكر السياسى الحديث فى العالم اليوم.
عاش فقيرا بائسا ومات فقيرا معدما, لا يملك شروى نقير. إضطر إلى إرسال أطفاله الخمسة فور ولادتهم واحدا تلو الآخر إلى الملجأ لعدم قدرته على إعالتهم ورعايتهم صحيا. رفض تلقى راتبا من أحد الملوك, أو أى راتب آخر بدون أجر, على خلاف الكثير من معاصريه الفلاسفة والأدباء.
عندما تقرأ أعماله, تجد فيها الصفاء والنقاء والصوفية. فهو يدعو إلى تنوير متوازن يراعى الجسد والروح, والعاطفة والعقل. ويسحرك حين يتحدث عن الإخاء والمساواة بين البشر. فمن هو جان جاك روسو?
ولد جان جاك روسو فى مدينة جنيف بسويسرا عام 1712م. عائلته من أصل فرنسى. ووالده ساعاتى ومعلم رقص فى نفس الوقت. توفيت والدته بعد مولده بثمانية أيام. قام الوالد بتعليم طفله جان جاك القراءة والكتابة حتى سن السادسة. وكان يقرأ الأب لولده بعد العشاء كتب الأطفال وقصص المغامرات. وبعد ذلك كان يقرأ له كتب جده, لمؤلفين مثل فونتنيل وأوفيد ومولير وبلوتارك. وهى مطالعات أثرت فى ثقافتة المبكرة.
الأخ الأكبر لجان جاك, ترك منزل العائلة فى سن الثالثة عشر بغير رجعة. أما الأب إسحق روسو, فإثر مشاجرة مع ضابط فرنسى, هرب من ملاحقة العدالة. تاركا جان جاك, وهو فى سن العاشرة, فى رعاية عمه, الذى أرسله إلى مدرسة داخلية فى بوساى, كان يرأسها قسيس بروتستانتى. ومكث بها سنتين, عاد بعدها إلى جنيف.
أرسل جان جاك لكى يتعلم مهنة حرفية يتكسب منها عند نقّاش عنيف أنانى, كان يمنع عنه الطعام حتى تعلم السرقة. لكنه فى ذلك الوقت كان قد أولع بالمطالعة ولعا شديدا. ثم قرر ترك جينيف والهرب من النقّاش.
فى سن السادسة عشر عام 1728م, كان يهيم على وجهه فى الحقول بغير مأوى. وبتوصية من الأب يونفير, أرسل إلى السيدة المحسنة مدام دى وارانس التى تقيم فى مدينة أنس. كانت مدام دى وارانس بروتستانتية تزوجت فى سن مبكرة ولم توفق فى حياتها الزوجية التى دامت 12 سنة, ثم تحولت إلى الديانة الكاثوليكية. وكانت تتعيش على الراتب الذى قرره لها ملك سردينيا نظير تحويل الناس من المذهب البروتستانتى إلى الكاثولويكى.
قام جان جاك بالتحول إلى الكاثوليكية. وبعد عدة مغامرات غير ناجحة, عاد إلى مدام دى وارانس التى لم ترغب فى أن تبقيه عندها. فأرسلته إلى إحدى المدارس الإكليركية لكى يلحق بجوقة الكاتدرائية الموسيقية.
فى هذه الأثناء , تعرف على أسقف يونانى كان يجمع التبرعات للقبر المقدس, وإتخذ جان جاك سكرتيرا له فى تجواله. لكن سرعان ما تم القبض على الأسقف بتهمة النصب والإحتيال. وعندما تبينت براءة روسو, تم الإفراج عنه.
ظل روسو يهيم على وجهه بين المدن. وتعرف على راهب كلفه بنسخ قطعا موسيقية بأجر لا بأس به. ثم وجد عملا فى دائرة مساحة فى شامبيرى. لكن حبه للموسيقى جعله يدرس ويمارس الموسيقى بجانب عمله فى المساحة, وكان ينظم حفلا موسيقيا كل شهر بمساعدة مدام دى وارانس.
هذه الأيام السعيدة بالقرب من مدام دى وارانس والتى كانت تسبغ عليه عطفها وحنانها لم تدم. فقد تبين له أن قلب السيدة مضيفته مشغول بفتى سويسرى ضخم الجثه أشقر الشعر مفلطح الوجه يعمل مزين. لذلك كان إخلاؤه المكان هو الحل الوحيد.
سافر روسو غير آسفا إلى وظيفة معلم خصوصى فى مدينة ليون. وبعد سنة فى وظيفته الجديدة, حاول مساعدة مدام دى وارانس وهى فى ضنك مالى عسير. ففكر فى إبتكار نوتات موسيقية جديدة تستند إلى الأعداد. وظن أنه يحصل على ثروة من نشر تلك النوتات. إلا أن المجع العلمى لم يجد طريقة روسو عملية أو مفيدة.
وجد روسو وظيفة سكرتير لدى سفير فرنسا فى البندقية, إلا أنه لم يستمر طويلا فى هذه الوظيفة, فعاد إلى فرنسا لزيارة والده. وهنا تعرف على زوجته تيريز لوفاسور التى تعمل فى غسل الملابس والبياضات فى أحد الفنادق. ولم تكن تعرف القراءة أو الكتابة. وحاول عبثا تثقيفها لكن دون فائدة. وكانت والدتها تسعى لإستغلاله بالقيام بأود سبعة أو ثمانية أشخاص من أقربائها.
حاول روسو فتح بعض أبواب الرزق له. وأقيمت له حفلة موسيقية لعزف بعض أغنياته بدون نجاح. وعند ولادة طفله الأول من تيريز, خشى على حياة الطفل من الفاقة والمرض, لذلك بادر إلى إيداعه أحد الملاجئ. وفعل نفس الشئ بالنسبة لباقى أطفاله الخمسة من تيريز.
كانت نسبة الوفيات فى الملاجئ تصل إلى 50%. وعندما إستعلم روسو عن مصير أولاده بعد عشر سنوات, لم يقتفى لهم على أثر. وعندما صار مشهورا وصاحب نظرية فى التعليم وتربية الأطفال, إستخدم منتقدوه حادث تخلصه من أولاده لنقده بشده, وكان من بينهم فولتير.
لا شك أن روسو ندم ندما شديدا فيما بعد, وذاق وخز الضمير. وفى كتابه إميل يقول: "لا فقر ولا أشغال ولا حياء بشرى ولا شئ من ذلك يستطيع أن يعفى الأب من أن يكفى أولاده معاشهم, ومن أن يقوم بتربيتهم هو بنفسه".
فى عام 1749م عندما كان روسو يقترب من سن الأربعين, توثقت عرى الصداقة مع الفيلسوف ديدرو القريب منه فى السن, والذى يشابهه فى ضنك العيش. وكان على صلة بدالامبير وكوندياك. وشارك ببعض المقالات فى دائرة المعارف التى كان يصدرها ديدرو ودالامبير. ثم اشترك فى مسابقة بمقال عن تأثير النهضة العلمية والفنية على الأخلاق, حصل بها على الجائزة الأولى. جاء فيه أن تقدم العلوم والفنون يفضى إلى فساد الأخلاق.
إستعاد روسو جنسيته كمواطن فى جنيف بعد أن إرتد إلى المذهب البروتستانتى, مذهب أجداده. ثم أقام مع زوجته ورفيقة عمره تيريز. وكانت تيريز ملازمة له للعناية به, لأنه كان مريضا يشكو من نوبات المرارة وآلامها الحادة. وبعث بنسخة من دراسة قام بها لفولتير, كان موضوعها "التفاوت بين الناس". فأجابه فولتير: "...أنت تجعلنا مثل البهائم. يود الإنسان عندما يقرأ بحثك أن يمشى على أربع".
بعد ذلك, إنتقل روسو إلى ضيافة المارشال دى لوكسمبورج وزوجته, وكتب أهم مؤلفاته. فأكمل "هيلوبيز الجديدة", ونشر كتاب "العقد الإجتماعى" و"إميل". والرواية الأخيرة, أثارت ضجة وسخط المتديينين والملحدين والمسيحيين والفلاسفة على السواء.
قصة "هيلوبيز الجديدة", كان لها تأثير بالغ في تنبيه أوروبا لمفاتن الطبيعة وروائعها. فقد تميز روسو بالإحساس المرهف بجلال الجبال وجمال ألوان السماء. فهو قد ولد في أحضان أروع مناظر أوربا وقعاً في النفوس. وكان قد مشى من جنيف متجولاً في سافوي عبر الألب إلى تورين، ومن تورين إلى فرنسا؛ واستمتع بمشاهد الريف وأصواته وعبيره؛ وأحس بكل شروق شمس كأنه انتصار الإله على الشر والشك. وقد تصور توافقاً صوفياً بين حالات مزاجه والمزاج المتغير للأرض والهواء؛ وعانقت نشوة حبه كل شجرة وزهرة، وكل ورقة عشب. وتسلق الألب إلى نصف ارتفاعها، ووجد نقاء في الهواء، خيل إليه أنه يطهر أفكاره ويجلوها. وقد وصف هذه التجارب بإحساس وحيوية جعلا من تسلق الجبال، ولا سيما في سويسرا، رياضة من أكبر رياضات أوربا. وبرواية "هيلويز الجديدة", بدأت الحركة الرومانسية تحديها للعصر الكلاسيكى.
أما كتاب روسو "العقد الإجتماعى" فهو أهم أعماله. يبين فيه الأساس القانونى للحكم الجمهورى. وما أن صدر عام 1762م, حتى أصبح أهم مصادر الفكر السياسى الحديث فى العالم الغربى. كلنا يعرف الصيحة الجريئة التي استهل بها الفصل الأول: "ولد الإنسان حراً وهو في كل مكان مكبل بالأغلال". هذه العبارة أصبحت شعار قرن بأكمله.
افترض روسو وجود حرية و"حالة طبيعية" بدائية للإنسان لم يكن فيها يعرف قوانين أو قيود. واتهم الدولة القائمة وسلطاتها بتدمير تلك الحرية. واقترح بديلاً عنها, هو إيجاد شكل جديد للمجتمع. يدافع عن حقوق كل عضو فيه وعن أملاكه, ويحميهما بكل ما أوتي من قوة. مجتمع يعيد للإنسان حريته كما كان من قبل.
يقول روسو أن هناك عقداً اجتماعياً. يأتى من إتفاق الأفراد على أن يخضعوا رأيهم وحقوقهم وسلطاتهم, لإرادة مجتمعهم ككل. كل شخص يصبح طرفا في مثل هذا العقد, إذا قبل حماية القوانين العامة التى تحكم هذا المجتمع.
السلطة العليا فى أى دولة, هى سلطة المجتمع, أو روح الجماعة. القانون يجب أن يعبر عن روح الجماعة لكى يصبح المجتمع أمرا ممكنا. إطاعة القانون, وليس إطاعة الفرد, هى التى تحرر الإنسان من العبودية. الدولة تصبح جمهورية متى حكمتها القوانيين. أما إذا كان الحاكم هو الذى يضع القوانين وينفذها, فليست هناك جمهورية أو دولة. بل طاغية يحكم عبيدا. ورفض روسو فكرة "الإستبداد المنير" أو "الحاكم العادل", كسبب لدفع الحضارة والإصلاح.
العقد الإجتماعى يسمح بالملكية الخاصة بشرط رقابة الجماعة. فيجب أن تحتفظ الجماعة بحقها فى مصادرة الأملاك لخير المجتمع, ويجب أن تحدد الملكية وإعادة توزيع الثروة عن طريق الضرائب التصاعدية. والأفراد يجب أن يكونوا متساون فى الحقوق الإجتماعية والقانونية. ويجب أن تفرض الضرائب العالية على الكماليات. ومن حق الشعب أن يطيح بحكومة تصر على مخالفة الإرادة العامة.
الدين فى رأى روسو, لا غنى عنه للفضيلة. وما قامت دولة بدون أساس دينى. إلا أن رجال الدين لا يجب أن يكونوا فوق قوانين الدولة, حتى لا ينقسم ولاء الوطن بتعدد الأديان. وهو يختلف مع رجال الدين فى أن الدين يجب أن يكون بسيطا واضحا دون شروح ملتوية وتعقيدات. الدين يجب أن يركز على الإيمان بوجود إله قادر وحياة أخرى والخلق النبيلة. وفى نفس الوقت, يمجد العقد الإجتماعى والقوانين الصادرة عنه. فروسو يتسامح مع الأديان التى تتسامح مع غيرها. ومن يدعى أن دينه فقط هو الصواب, أو يقول بأنه لا يوجد خلاص خارج الكنيسة, يجب طرده من الدولة.
وعليه, وجب أن نتقبل الدين على أنه في مجموعه هدية للبشر. ولا حاجة بنا إلى أن نعلق أهمية كبرى على الفروق بين المذاهب والشيع التي مزقت الأديان. فكلها خير إذا حسنت السلوك وغذت الرجاء. ومن السخف أن نفترض أن أصحاب العقائد والأديان الأخرى سوف يحكم عليها بالهلاك، "فلو لم يكن على الأرض سوى دين واحد صحيح؛ ولو حكم على كل الخارجين عنه بالعقاب الأبدي..لكان إله ذلك الدين أظلم الطغاة وأقساهم.
فى رواية "إميل" نرى رأى روسو فى التربية والتعليم للأطفال. فهو يرفض الأسلوب الذى يعتمد على الحفظ لأفكار بالية فاسدة. والتى تحاول جعل الطفل آلة طيعة فى مجتمع منحل. وتمنع الطفل من التفكير والحكم بنفسه. وتشوهه فتهبط بمستوى قدراته إلى الحضيض. فالتعليم يجب أن يكون تجربة سعيدة للطفل, تنمى قدراته نحو حياة أفضل. وتعتنى بصحته وخلقه وذكائه وقدرته على التفكير.
لم يخلق البشر لكى يتكدسوا مثل كثبان الرمل. لكن لكى ينتشروا فى الأرض وليفلحوها. وكلما حشدوا معا فسدوا. المرض والرزيلة هما سمتان محتومتان للمدن المكتظة. وإذا استمر الحال على ما هو عليه, سوف ينحط الإنسان إلى الدرك الأسفل. مالم يجدد نفسه بالعيش فى الريف والبعد عن الهواء الفاسد. شجعوا أولادكم على حب الطبيعة والعيش فى الخلاء وأكل ما يقومون بزرعه بأنفسهم, والإقلال من اللحوم. والإستيقاظ المبكر والنوم المبكر. وكتابه "إميل", يعتبر أمتع كتاب ألف فى التربية على الإطلاق.
لم يمض عشرون يوما على نشر كتاب "إميل" فى هولاندا, حتى حكم عليه برلمان باريس بالحرق. وحكم على مؤلفه بالسجن عام 1762م. ففر روسو إلى سويسرا بلد الحرية, لكن بعد أربعة أيام من قدومه, حكم مجلس مدينة جنيف بمصادرة كتابين له. وفى عام 1764م, قذف الفلاحون بيته بالحجارة.
فى عام 1766م, ذهب روسو إلى إنجلترا. فاستقبله دافيد هيوم الفيلسوف البريطانى, وأسكنه بالقرب من العاصمة لكى يكمل كتابه "إعترافاتى". لكنه بدأت تعتريه نوبات عصبية وهواجس. فقرر عام 1767م, العوده إلى فرنسا ضيفا على الماركيز ميرابو.
ساءت حالة روسو الصحية بعد عودته إلى باريس, وفى عام 1778م, داهمته الوفاة بسبب مضاعفات مرض التهاب المرارة الذى كان يلازمه طوال حياته. فمات فقيرا بائسا غريبا بين البشر. وانطفأت شمعة من شموع التنوير, عاشت تتعذب وتحترق لكى تضئ للبشرية طريقها إلى الحرية والمساواة والسعادة. وفى عام 1794م, قررت الحكومة الفرنسية نقل رفات روسو فى إحتفال كبير إلى البانثيون حيث كانت رفات فولتير قد سبقته منذ ثلاثة أعوام.
عاش فقيرا بائسا ومات فقيرا معدما, لا يملك شروى نقير. إضطر إلى إرسال أطفاله الخمسة فور ولادتهم واحدا تلو الآخر إلى الملجأ لعدم قدرته على إعالتهم ورعايتهم صحيا. رفض تلقى راتبا من أحد الملوك, أو أى راتب آخر بدون أجر, على خلاف الكثير من معاصريه الفلاسفة والأدباء.
عندما تقرأ أعماله, تجد فيها الصفاء والنقاء والصوفية. فهو يدعو إلى تنوير متوازن يراعى الجسد والروح, والعاطفة والعقل. ويسحرك حين يتحدث عن الإخاء والمساواة بين البشر. فمن هو جان جاك روسو?
ولد جان جاك روسو فى مدينة جنيف بسويسرا عام 1712م. عائلته من أصل فرنسى. ووالده ساعاتى ومعلم رقص فى نفس الوقت. توفيت والدته بعد مولده بثمانية أيام. قام الوالد بتعليم طفله جان جاك القراءة والكتابة حتى سن السادسة. وكان يقرأ الأب لولده بعد العشاء كتب الأطفال وقصص المغامرات. وبعد ذلك كان يقرأ له كتب جده, لمؤلفين مثل فونتنيل وأوفيد ومولير وبلوتارك. وهى مطالعات أثرت فى ثقافتة المبكرة.
الأخ الأكبر لجان جاك, ترك منزل العائلة فى سن الثالثة عشر بغير رجعة. أما الأب إسحق روسو, فإثر مشاجرة مع ضابط فرنسى, هرب من ملاحقة العدالة. تاركا جان جاك, وهو فى سن العاشرة, فى رعاية عمه, الذى أرسله إلى مدرسة داخلية فى بوساى, كان يرأسها قسيس بروتستانتى. ومكث بها سنتين, عاد بعدها إلى جنيف.
أرسل جان جاك لكى يتعلم مهنة حرفية يتكسب منها عند نقّاش عنيف أنانى, كان يمنع عنه الطعام حتى تعلم السرقة. لكنه فى ذلك الوقت كان قد أولع بالمطالعة ولعا شديدا. ثم قرر ترك جينيف والهرب من النقّاش.
فى سن السادسة عشر عام 1728م, كان يهيم على وجهه فى الحقول بغير مأوى. وبتوصية من الأب يونفير, أرسل إلى السيدة المحسنة مدام دى وارانس التى تقيم فى مدينة أنس. كانت مدام دى وارانس بروتستانتية تزوجت فى سن مبكرة ولم توفق فى حياتها الزوجية التى دامت 12 سنة, ثم تحولت إلى الديانة الكاثوليكية. وكانت تتعيش على الراتب الذى قرره لها ملك سردينيا نظير تحويل الناس من المذهب البروتستانتى إلى الكاثولويكى.
قام جان جاك بالتحول إلى الكاثوليكية. وبعد عدة مغامرات غير ناجحة, عاد إلى مدام دى وارانس التى لم ترغب فى أن تبقيه عندها. فأرسلته إلى إحدى المدارس الإكليركية لكى يلحق بجوقة الكاتدرائية الموسيقية.
فى هذه الأثناء , تعرف على أسقف يونانى كان يجمع التبرعات للقبر المقدس, وإتخذ جان جاك سكرتيرا له فى تجواله. لكن سرعان ما تم القبض على الأسقف بتهمة النصب والإحتيال. وعندما تبينت براءة روسو, تم الإفراج عنه.
ظل روسو يهيم على وجهه بين المدن. وتعرف على راهب كلفه بنسخ قطعا موسيقية بأجر لا بأس به. ثم وجد عملا فى دائرة مساحة فى شامبيرى. لكن حبه للموسيقى جعله يدرس ويمارس الموسيقى بجانب عمله فى المساحة, وكان ينظم حفلا موسيقيا كل شهر بمساعدة مدام دى وارانس.
هذه الأيام السعيدة بالقرب من مدام دى وارانس والتى كانت تسبغ عليه عطفها وحنانها لم تدم. فقد تبين له أن قلب السيدة مضيفته مشغول بفتى سويسرى ضخم الجثه أشقر الشعر مفلطح الوجه يعمل مزين. لذلك كان إخلاؤه المكان هو الحل الوحيد.
سافر روسو غير آسفا إلى وظيفة معلم خصوصى فى مدينة ليون. وبعد سنة فى وظيفته الجديدة, حاول مساعدة مدام دى وارانس وهى فى ضنك مالى عسير. ففكر فى إبتكار نوتات موسيقية جديدة تستند إلى الأعداد. وظن أنه يحصل على ثروة من نشر تلك النوتات. إلا أن المجع العلمى لم يجد طريقة روسو عملية أو مفيدة.
وجد روسو وظيفة سكرتير لدى سفير فرنسا فى البندقية, إلا أنه لم يستمر طويلا فى هذه الوظيفة, فعاد إلى فرنسا لزيارة والده. وهنا تعرف على زوجته تيريز لوفاسور التى تعمل فى غسل الملابس والبياضات فى أحد الفنادق. ولم تكن تعرف القراءة أو الكتابة. وحاول عبثا تثقيفها لكن دون فائدة. وكانت والدتها تسعى لإستغلاله بالقيام بأود سبعة أو ثمانية أشخاص من أقربائها.
حاول روسو فتح بعض أبواب الرزق له. وأقيمت له حفلة موسيقية لعزف بعض أغنياته بدون نجاح. وعند ولادة طفله الأول من تيريز, خشى على حياة الطفل من الفاقة والمرض, لذلك بادر إلى إيداعه أحد الملاجئ. وفعل نفس الشئ بالنسبة لباقى أطفاله الخمسة من تيريز.
كانت نسبة الوفيات فى الملاجئ تصل إلى 50%. وعندما إستعلم روسو عن مصير أولاده بعد عشر سنوات, لم يقتفى لهم على أثر. وعندما صار مشهورا وصاحب نظرية فى التعليم وتربية الأطفال, إستخدم منتقدوه حادث تخلصه من أولاده لنقده بشده, وكان من بينهم فولتير.
لا شك أن روسو ندم ندما شديدا فيما بعد, وذاق وخز الضمير. وفى كتابه إميل يقول: "لا فقر ولا أشغال ولا حياء بشرى ولا شئ من ذلك يستطيع أن يعفى الأب من أن يكفى أولاده معاشهم, ومن أن يقوم بتربيتهم هو بنفسه".
فى عام 1749م عندما كان روسو يقترب من سن الأربعين, توثقت عرى الصداقة مع الفيلسوف ديدرو القريب منه فى السن, والذى يشابهه فى ضنك العيش. وكان على صلة بدالامبير وكوندياك. وشارك ببعض المقالات فى دائرة المعارف التى كان يصدرها ديدرو ودالامبير. ثم اشترك فى مسابقة بمقال عن تأثير النهضة العلمية والفنية على الأخلاق, حصل بها على الجائزة الأولى. جاء فيه أن تقدم العلوم والفنون يفضى إلى فساد الأخلاق.
إستعاد روسو جنسيته كمواطن فى جنيف بعد أن إرتد إلى المذهب البروتستانتى, مذهب أجداده. ثم أقام مع زوجته ورفيقة عمره تيريز. وكانت تيريز ملازمة له للعناية به, لأنه كان مريضا يشكو من نوبات المرارة وآلامها الحادة. وبعث بنسخة من دراسة قام بها لفولتير, كان موضوعها "التفاوت بين الناس". فأجابه فولتير: "...أنت تجعلنا مثل البهائم. يود الإنسان عندما يقرأ بحثك أن يمشى على أربع".
بعد ذلك, إنتقل روسو إلى ضيافة المارشال دى لوكسمبورج وزوجته, وكتب أهم مؤلفاته. فأكمل "هيلوبيز الجديدة", ونشر كتاب "العقد الإجتماعى" و"إميل". والرواية الأخيرة, أثارت ضجة وسخط المتديينين والملحدين والمسيحيين والفلاسفة على السواء.
قصة "هيلوبيز الجديدة", كان لها تأثير بالغ في تنبيه أوروبا لمفاتن الطبيعة وروائعها. فقد تميز روسو بالإحساس المرهف بجلال الجبال وجمال ألوان السماء. فهو قد ولد في أحضان أروع مناظر أوربا وقعاً في النفوس. وكان قد مشى من جنيف متجولاً في سافوي عبر الألب إلى تورين، ومن تورين إلى فرنسا؛ واستمتع بمشاهد الريف وأصواته وعبيره؛ وأحس بكل شروق شمس كأنه انتصار الإله على الشر والشك. وقد تصور توافقاً صوفياً بين حالات مزاجه والمزاج المتغير للأرض والهواء؛ وعانقت نشوة حبه كل شجرة وزهرة، وكل ورقة عشب. وتسلق الألب إلى نصف ارتفاعها، ووجد نقاء في الهواء، خيل إليه أنه يطهر أفكاره ويجلوها. وقد وصف هذه التجارب بإحساس وحيوية جعلا من تسلق الجبال، ولا سيما في سويسرا، رياضة من أكبر رياضات أوربا. وبرواية "هيلويز الجديدة", بدأت الحركة الرومانسية تحديها للعصر الكلاسيكى.
أما كتاب روسو "العقد الإجتماعى" فهو أهم أعماله. يبين فيه الأساس القانونى للحكم الجمهورى. وما أن صدر عام 1762م, حتى أصبح أهم مصادر الفكر السياسى الحديث فى العالم الغربى. كلنا يعرف الصيحة الجريئة التي استهل بها الفصل الأول: "ولد الإنسان حراً وهو في كل مكان مكبل بالأغلال". هذه العبارة أصبحت شعار قرن بأكمله.
افترض روسو وجود حرية و"حالة طبيعية" بدائية للإنسان لم يكن فيها يعرف قوانين أو قيود. واتهم الدولة القائمة وسلطاتها بتدمير تلك الحرية. واقترح بديلاً عنها, هو إيجاد شكل جديد للمجتمع. يدافع عن حقوق كل عضو فيه وعن أملاكه, ويحميهما بكل ما أوتي من قوة. مجتمع يعيد للإنسان حريته كما كان من قبل.
يقول روسو أن هناك عقداً اجتماعياً. يأتى من إتفاق الأفراد على أن يخضعوا رأيهم وحقوقهم وسلطاتهم, لإرادة مجتمعهم ككل. كل شخص يصبح طرفا في مثل هذا العقد, إذا قبل حماية القوانين العامة التى تحكم هذا المجتمع.
السلطة العليا فى أى دولة, هى سلطة المجتمع, أو روح الجماعة. القانون يجب أن يعبر عن روح الجماعة لكى يصبح المجتمع أمرا ممكنا. إطاعة القانون, وليس إطاعة الفرد, هى التى تحرر الإنسان من العبودية. الدولة تصبح جمهورية متى حكمتها القوانيين. أما إذا كان الحاكم هو الذى يضع القوانين وينفذها, فليست هناك جمهورية أو دولة. بل طاغية يحكم عبيدا. ورفض روسو فكرة "الإستبداد المنير" أو "الحاكم العادل", كسبب لدفع الحضارة والإصلاح.
العقد الإجتماعى يسمح بالملكية الخاصة بشرط رقابة الجماعة. فيجب أن تحتفظ الجماعة بحقها فى مصادرة الأملاك لخير المجتمع, ويجب أن تحدد الملكية وإعادة توزيع الثروة عن طريق الضرائب التصاعدية. والأفراد يجب أن يكونوا متساون فى الحقوق الإجتماعية والقانونية. ويجب أن تفرض الضرائب العالية على الكماليات. ومن حق الشعب أن يطيح بحكومة تصر على مخالفة الإرادة العامة.
الدين فى رأى روسو, لا غنى عنه للفضيلة. وما قامت دولة بدون أساس دينى. إلا أن رجال الدين لا يجب أن يكونوا فوق قوانين الدولة, حتى لا ينقسم ولاء الوطن بتعدد الأديان. وهو يختلف مع رجال الدين فى أن الدين يجب أن يكون بسيطا واضحا دون شروح ملتوية وتعقيدات. الدين يجب أن يركز على الإيمان بوجود إله قادر وحياة أخرى والخلق النبيلة. وفى نفس الوقت, يمجد العقد الإجتماعى والقوانين الصادرة عنه. فروسو يتسامح مع الأديان التى تتسامح مع غيرها. ومن يدعى أن دينه فقط هو الصواب, أو يقول بأنه لا يوجد خلاص خارج الكنيسة, يجب طرده من الدولة.
وعليه, وجب أن نتقبل الدين على أنه في مجموعه هدية للبشر. ولا حاجة بنا إلى أن نعلق أهمية كبرى على الفروق بين المذاهب والشيع التي مزقت الأديان. فكلها خير إذا حسنت السلوك وغذت الرجاء. ومن السخف أن نفترض أن أصحاب العقائد والأديان الأخرى سوف يحكم عليها بالهلاك، "فلو لم يكن على الأرض سوى دين واحد صحيح؛ ولو حكم على كل الخارجين عنه بالعقاب الأبدي..لكان إله ذلك الدين أظلم الطغاة وأقساهم.
فى رواية "إميل" نرى رأى روسو فى التربية والتعليم للأطفال. فهو يرفض الأسلوب الذى يعتمد على الحفظ لأفكار بالية فاسدة. والتى تحاول جعل الطفل آلة طيعة فى مجتمع منحل. وتمنع الطفل من التفكير والحكم بنفسه. وتشوهه فتهبط بمستوى قدراته إلى الحضيض. فالتعليم يجب أن يكون تجربة سعيدة للطفل, تنمى قدراته نحو حياة أفضل. وتعتنى بصحته وخلقه وذكائه وقدرته على التفكير.
لم يخلق البشر لكى يتكدسوا مثل كثبان الرمل. لكن لكى ينتشروا فى الأرض وليفلحوها. وكلما حشدوا معا فسدوا. المرض والرزيلة هما سمتان محتومتان للمدن المكتظة. وإذا استمر الحال على ما هو عليه, سوف ينحط الإنسان إلى الدرك الأسفل. مالم يجدد نفسه بالعيش فى الريف والبعد عن الهواء الفاسد. شجعوا أولادكم على حب الطبيعة والعيش فى الخلاء وأكل ما يقومون بزرعه بأنفسهم, والإقلال من اللحوم. والإستيقاظ المبكر والنوم المبكر. وكتابه "إميل", يعتبر أمتع كتاب ألف فى التربية على الإطلاق.
لم يمض عشرون يوما على نشر كتاب "إميل" فى هولاندا, حتى حكم عليه برلمان باريس بالحرق. وحكم على مؤلفه بالسجن عام 1762م. ففر روسو إلى سويسرا بلد الحرية, لكن بعد أربعة أيام من قدومه, حكم مجلس مدينة جنيف بمصادرة كتابين له. وفى عام 1764م, قذف الفلاحون بيته بالحجارة.
فى عام 1766م, ذهب روسو إلى إنجلترا. فاستقبله دافيد هيوم الفيلسوف البريطانى, وأسكنه بالقرب من العاصمة لكى يكمل كتابه "إعترافاتى". لكنه بدأت تعتريه نوبات عصبية وهواجس. فقرر عام 1767م, العوده إلى فرنسا ضيفا على الماركيز ميرابو.
ساءت حالة روسو الصحية بعد عودته إلى باريس, وفى عام 1778م, داهمته الوفاة بسبب مضاعفات مرض التهاب المرارة الذى كان يلازمه طوال حياته. فمات فقيرا بائسا غريبا بين البشر. وانطفأت شمعة من شموع التنوير, عاشت تتعذب وتحترق لكى تضئ للبشرية طريقها إلى الحرية والمساواة والسعادة. وفى عام 1794م, قررت الحكومة الفرنسية نقل رفات روسو فى إحتفال كبير إلى البانثيون حيث كانت رفات فولتير قد سبقته منذ ثلاثة أعوام.