- السبت مايو 04, 2013 10:17 pm
#62128
أزمة الشرعيةوجه من أبشع وجوه الأزمة الخانقة في العالم العربي، ينطق بها الواقع السياسي المتردي، وتنطق بها غثائية الأمة في زمن العولمة والعلاقات الدولية القائمة عل البحث المستمر عن التوازن العسكري والنووي، وتثبيت المصالح الاقتصادية القومية عبر توسيع الأسواق الاستهلاكية في العالم.
أزمة الشرعية كما عبر تقرير التنمية الإنسانية 2004، تكشف عمق المأساة التي اصطنعتها أنظمة حكم عشائرية وقومية واشتراكية وليبرالية طوال عقود الاستقلال الوطني. أنظمة سياسية متعددة الإيديولوجيات استمد بعضها شرعيته من توحيد الجزيرة العربية أو حيازة الاستقلال بعد مكافحة المستعمر، بينما ارتكز آخرون إلى شرعية الانقلاب على حكم ملكي وراثي... ولكن تعددية هذه المصادر في استمداد الشرعية تتلازم مع فشل كبير في صيانة القرار السياسي الوطني والقومي، وتحقيق التنمية الموعودة والنهضة الكاملة. بل الأكيد أن الحقوق الفردية والجماعية للمواطنين أصبحت عنصر تهديد لهذه الأنظمة التي توقن أن فتح باب ممارسة الحريات هو انتحار عاجل لها وتقويض لأسسها، وبات شعار الدولة العربية الحديثة هو الأمن للحاكم والخوف للجميع.
لقد تجاهلت هذه النخب الحاكمة أن شرعية ممارسة السلطة في العالم العربي بل في العالم أجمع، ينبغي أن تستند إلى عنصرين أساسيين: شرعية الاختيار وشرعية الإنجاز.
أما شرعية الاختيار فهي التفويض الشعبي للحكام بممارسة السلطة وتدبير شؤون المجتمع وتصريف أحواله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا شك أن هذه الشرعية قد تم تجاوزها منذ الانقلاب الأموي على الحكم الشرعي حينئذ وهو الخلافة الراشدة. ولكون الجذور التاريخية لهذا الصنف من الشرعية ترجع إلى فترة بعيدة من زمن الأمة، فإن خوض معركة الإصلاح السياسي لاشك يكون عسيرا وشاقا. وفي هذا المنعطف التاريخي بالذات نحتاج إلى رؤية واضحة تؤسس لشرعية الاختيار مفهوما وآليات، لعلنا نشفى من داء البغي والجبر الذي عبث وما يزال- بالأمة خاصتها وعامتها، نسائها ورجالها. شرعية الاختيار نجدها واضحة في حديث البشارة الذي ورد في مسند الإمام أحمد . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت".
حديث نبوي يكشف الانحراف الكبير الذي وقع في وقت مبكر من الحياة السياسية للأمة، حيث اغتصب بنو أمية الحكم وحولوا أمر الأمة من شرعية الاختيار الشوري إلى "شرعية" القهر والسيف. وإنها "الشرعية" التي ما تزال تطوق عنق المسلمين وتكبل طاقاتهم في النهوض والبناء السياسي الراشد.
وأما شرعية الإنجاز فهي التي تمنح القيادات السياسية أهلية الاستمرار في تدبير شؤون الشعب المختلفة والمتجددة على أساس التعاقد مع المحكومين، ومن خلال تحريك قيم العدل والحرية والشورى في جميع مفاصل الدولة والمجتمع، وضمن مسارات الحياة العامة لجماعة المسلمين التي تمثل الكيان الجماعي العضوي الحي للمواطنين في الدولة الإسلامية.
ويبدو في السلوك السياسي للنخب الحاكمة في الوطن العربي أنها تفتقد أيضا هذا الصنف من الشرعية بعدما سقطت خياراتها الاقتصادية والاجتماعية، ليبرالية واشتراكية. وباءت مرتكزاتها الإيديولوجية بالفشل الكبير، قومية كانت أو وطنية حداثية أو وحدوية. ولعل افتقاد شرعية الإنجاز يجعل فئات واسعة من شعوبنا تزداد ضيقا بتفاهة حكامنا واندراجهم ضمن سياق التحذير القرآني في سورة النساء: "ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما". ولا يرى عاقل للسفهاء فائدة ولا عائدة غير تبذير ثروات الأمة المعدنية والنفطية وكذا البشرية، بل التمادي في تدمير قدرات وإمكانات شعوبنا العربية والمسلمة في النهوض والتحرر والبناء. لقد تحولت شرعية الإنجاز إلى نوع آخر اصطلح تقرير التنمية الإنسانية 2004 على تسميته "شرعية الوعد بالإنجاز".
أزمة الشرعية المتفاقمة تفتح بإلحاح شديد ملف الإصلاح السياسي الشامل الذي يظل ضرورة قومية ودينية، ومطلبا شعبيا يخفي وراءه مغناة واضحة من الفقر والتهميش وكبت الحريات وافتقاد الكرامة الآدمية المنصوص عليها طبعا وشرعا وقانونا.
الإصلاح السياسي: القيادة والمشروعالعالم العربي منطقة بركانية إلى حين، وإن كانت علامات التحول بدأت في البروز والظهور منذ مدة قريبة من خلال التصادم المستمر بين شعوبنا المغلوبة على أمرها، الطامحة إلى حياة عزة وكرامة وأمن، وأنظمة الحكم الاستبدادي الشمولي، الساعية إلى تمكين دولها وتثبيت امتيازاتها وأشكال احتكارها للسلطة والثروة والنفوذ.
بدأت تتمايز المواقف على مستوى الخطاب السياسي على الأقل، داخل النخب والحركات الجماهيرية العربية إزاء الشأن المحلي و الإقليمي والدولي، بينما تسعى الأنظمة إلى كسب مواقع جديدة واصطناع نخب سياسية وفكرية تابعة تتقن التبرير الإيديولوجي والسياسي لمواقف متخاذلة تطعن الأمة طعنة الخيانة من خلال التواطؤ المستمر ضد مصالحها وأهدافها في التحرر و استقلالية القرار والمصير. تغير نسبي في خرائط الجغرافيا السياسية يوحي بتململ الوضع، لكنه يكشف مرة أخرى عن ضحالة المشاريع- إن وجدت التي تحملها قيادات شاخت في زمن متغير، ووسط عالم يبحث عن قواعد دولية جديدة، للسلم والأمن العالميين، بعد ان بدأت أوراق النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتهاوى مرة أولى بإنهاء الحرب الباردة وانهيار القطبية الثنائية، ومرة ثانية بصراعات الخليج وأحداث 11 شتنبر. إنه عالم يفتقد الاستقرار الحقيقي بحكم تغييب العدل في الاستفادة من الثروات والمشاركة الجماعية في بناء الحياة والمستقبل، عالم تسعى فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحكم بقطبية واحدة وبالشكل الذي يعمم العنف والتهديد في العلاقات الدولية.
في هذا السياق الدولي، تنبري الحركات الإسلامية وغيرها لخوض معركة الإصلاحات السياسية في العالم العربي، وفتح حوارات وورشات تفكير في كيفية كسر احتكار الدولة العربية الحديثة للقرار السياسي الوطني، والوصول إلى تعبئة الرأي العام الشعبي الرافض لهذه المنهجية الفاسدة في التدبير السياسي والاقتصادي لثرواتنا وطاقاتنا القومية.
أسئلة كثيرة تطرح بهذا الصدد. هل تمكنت القوى الإسلامية والديمقراطية في الوطن العربي من صياغة رؤية واضحة لأشكال الإصلاح وبنوده ومراحله؟ هل يمكن خوض لجج الإصلاح الداخلي بمنأى عن التدخل الأجنبي خاصة الأمريكي في الشؤون الوطنية لبلداننا؟
الأكيد أن قوى التغيير في هذه البلدان تتحرك في اتجاه الإصلاح بأقدار متباينة ومواقف متنوعة. لكن الإشكال الذي يظل ماثلا في الواقع السياسي العربي يتخذ مظهرين اثنين:
1- إشكال بناء مشروع الإصلاح والنهضة: إذا كانت مراكز القوى الغربية تتحرك وفقا لبرامج عمل تعكس مصالحها القومية، وتملك رؤى إصلاحية لأوضاع العالم العربي تحت عناوين مختلفة، منها "مشروع الشرق الأوسط الكبير"...فإن قوى وتيارات التغيير داخل بلداننا القطرية المجزأة الضعيفة لا تملك مشروعا للإصلاح والنهضة يستجيب لحاجيات شعوبنا وأهدافها في التحرر والتنمية والنهضة، هذا المشروع لا يمكن أن يكون منسوبا إلى جماعة سياسية أو قوة اجتماعية معينة، وإنما ينبغي أن يصدر عن توافقات وطنية وتفاعل رؤى جماعية قادرة على تحديد آفاق الإصلاح ومضامينه ومراحله وشروط إنجازه.
هذا المشروع الكبير يجد أهميته في حسم إشكالات فكرية وسياسية ترتبط بكيفية بناء تمثلات جماعية سليمة حول الماضي وتراثه وتراكماته المعرفية والأنتربولوجية، وبالقدرة على التفاعل الإيجابي مع عقبات الحاضر وصياغة بدائل مستقبلية للحفاظ على الوجود الحضاري للأمة.
2- إشكال وجود قيادة: بتواز مع مشروع للإصلاح والنهضة يستحضر الأبعاد الوطنية والإقليمية والقومية، ويسعى إلى تجاوز سقف التجزئة الاستعمارية لطاقاتنا وإمكاناتنا وثرواتنا، بتواز مع كل هذا تظهر الحاجة إلى قيادات وطلائع للإصلاح السياسي والنهضة العمرانية الشاملة. مشكل قيادات ميدانية يظل محورا مهما في سياق الحركية المنشودة، خاصة إذا أثبتنا حاجة الشعوب إلى قيادات سياسية قادرة على التعبئة والتأطير واجتراح سبل إجرائية وجريئة. قيدات طلائعية تكسب ثقة الجماهير، بل تنسج علاقات سوية وواضحة معها، بما يمكن من توحيد مسار الحركية وأشكال تدبير الأزمة الخانقة.
إن إشكال القيادة يفرض نفسه خاصة بملاحظة فشل القيادات الرسمية وأجهزتها في كسب احترام شعوبها وتأييدها الواعي والمشروط؛ ذلك الفشل الذي يجد مرتكزاته في الإرث الاستبدادي الغني وغياب نخب فاعلة وجريئة في فضح سلوك الاستبداد الواضح والمقنع، وابتكار وسائل وطرائق المواجهة والتعبئة.
إن دراسة تاريخ الأزمات السياسية في العالم تكشف حاجة الشعوب في بعض اللحظات التاريخية إلى قيادات ذات إرادة استثنائية وقدرات متميزة ورؤية طلائعية تتناسب مع الدور التاريخي المأمول. ولا تكاد الوضعية الحالية لشعوبنا العربية تبتعد عن هذا الاستخلاص إذ تتكالب علينا الأمم القوية من كل جهة وبأشكال مختلفة في الاستنزاف والتخريب والاستعباد، بينما لا تعكس قياداتنا السياسية الرسمية طموحات الشعوب في أن تعيش عزيزة كريمة لا تخرب دينها المسألة والحاجة، ولا يعبث بإرادتها الفقر والمذلة.
أزمة الشرعية كما عبر تقرير التنمية الإنسانية 2004، تكشف عمق المأساة التي اصطنعتها أنظمة حكم عشائرية وقومية واشتراكية وليبرالية طوال عقود الاستقلال الوطني. أنظمة سياسية متعددة الإيديولوجيات استمد بعضها شرعيته من توحيد الجزيرة العربية أو حيازة الاستقلال بعد مكافحة المستعمر، بينما ارتكز آخرون إلى شرعية الانقلاب على حكم ملكي وراثي... ولكن تعددية هذه المصادر في استمداد الشرعية تتلازم مع فشل كبير في صيانة القرار السياسي الوطني والقومي، وتحقيق التنمية الموعودة والنهضة الكاملة. بل الأكيد أن الحقوق الفردية والجماعية للمواطنين أصبحت عنصر تهديد لهذه الأنظمة التي توقن أن فتح باب ممارسة الحريات هو انتحار عاجل لها وتقويض لأسسها، وبات شعار الدولة العربية الحديثة هو الأمن للحاكم والخوف للجميع.
لقد تجاهلت هذه النخب الحاكمة أن شرعية ممارسة السلطة في العالم العربي بل في العالم أجمع، ينبغي أن تستند إلى عنصرين أساسيين: شرعية الاختيار وشرعية الإنجاز.
أما شرعية الاختيار فهي التفويض الشعبي للحكام بممارسة السلطة وتدبير شؤون المجتمع وتصريف أحواله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا شك أن هذه الشرعية قد تم تجاوزها منذ الانقلاب الأموي على الحكم الشرعي حينئذ وهو الخلافة الراشدة. ولكون الجذور التاريخية لهذا الصنف من الشرعية ترجع إلى فترة بعيدة من زمن الأمة، فإن خوض معركة الإصلاح السياسي لاشك يكون عسيرا وشاقا. وفي هذا المنعطف التاريخي بالذات نحتاج إلى رؤية واضحة تؤسس لشرعية الاختيار مفهوما وآليات، لعلنا نشفى من داء البغي والجبر الذي عبث وما يزال- بالأمة خاصتها وعامتها، نسائها ورجالها. شرعية الاختيار نجدها واضحة في حديث البشارة الذي ورد في مسند الإمام أحمد . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت".
حديث نبوي يكشف الانحراف الكبير الذي وقع في وقت مبكر من الحياة السياسية للأمة، حيث اغتصب بنو أمية الحكم وحولوا أمر الأمة من شرعية الاختيار الشوري إلى "شرعية" القهر والسيف. وإنها "الشرعية" التي ما تزال تطوق عنق المسلمين وتكبل طاقاتهم في النهوض والبناء السياسي الراشد.
وأما شرعية الإنجاز فهي التي تمنح القيادات السياسية أهلية الاستمرار في تدبير شؤون الشعب المختلفة والمتجددة على أساس التعاقد مع المحكومين، ومن خلال تحريك قيم العدل والحرية والشورى في جميع مفاصل الدولة والمجتمع، وضمن مسارات الحياة العامة لجماعة المسلمين التي تمثل الكيان الجماعي العضوي الحي للمواطنين في الدولة الإسلامية.
ويبدو في السلوك السياسي للنخب الحاكمة في الوطن العربي أنها تفتقد أيضا هذا الصنف من الشرعية بعدما سقطت خياراتها الاقتصادية والاجتماعية، ليبرالية واشتراكية. وباءت مرتكزاتها الإيديولوجية بالفشل الكبير، قومية كانت أو وطنية حداثية أو وحدوية. ولعل افتقاد شرعية الإنجاز يجعل فئات واسعة من شعوبنا تزداد ضيقا بتفاهة حكامنا واندراجهم ضمن سياق التحذير القرآني في سورة النساء: "ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما". ولا يرى عاقل للسفهاء فائدة ولا عائدة غير تبذير ثروات الأمة المعدنية والنفطية وكذا البشرية، بل التمادي في تدمير قدرات وإمكانات شعوبنا العربية والمسلمة في النهوض والتحرر والبناء. لقد تحولت شرعية الإنجاز إلى نوع آخر اصطلح تقرير التنمية الإنسانية 2004 على تسميته "شرعية الوعد بالإنجاز".
أزمة الشرعية المتفاقمة تفتح بإلحاح شديد ملف الإصلاح السياسي الشامل الذي يظل ضرورة قومية ودينية، ومطلبا شعبيا يخفي وراءه مغناة واضحة من الفقر والتهميش وكبت الحريات وافتقاد الكرامة الآدمية المنصوص عليها طبعا وشرعا وقانونا.
الإصلاح السياسي: القيادة والمشروعالعالم العربي منطقة بركانية إلى حين، وإن كانت علامات التحول بدأت في البروز والظهور منذ مدة قريبة من خلال التصادم المستمر بين شعوبنا المغلوبة على أمرها، الطامحة إلى حياة عزة وكرامة وأمن، وأنظمة الحكم الاستبدادي الشمولي، الساعية إلى تمكين دولها وتثبيت امتيازاتها وأشكال احتكارها للسلطة والثروة والنفوذ.
بدأت تتمايز المواقف على مستوى الخطاب السياسي على الأقل، داخل النخب والحركات الجماهيرية العربية إزاء الشأن المحلي و الإقليمي والدولي، بينما تسعى الأنظمة إلى كسب مواقع جديدة واصطناع نخب سياسية وفكرية تابعة تتقن التبرير الإيديولوجي والسياسي لمواقف متخاذلة تطعن الأمة طعنة الخيانة من خلال التواطؤ المستمر ضد مصالحها وأهدافها في التحرر و استقلالية القرار والمصير. تغير نسبي في خرائط الجغرافيا السياسية يوحي بتململ الوضع، لكنه يكشف مرة أخرى عن ضحالة المشاريع- إن وجدت التي تحملها قيادات شاخت في زمن متغير، ووسط عالم يبحث عن قواعد دولية جديدة، للسلم والأمن العالميين، بعد ان بدأت أوراق النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتهاوى مرة أولى بإنهاء الحرب الباردة وانهيار القطبية الثنائية، ومرة ثانية بصراعات الخليج وأحداث 11 شتنبر. إنه عالم يفتقد الاستقرار الحقيقي بحكم تغييب العدل في الاستفادة من الثروات والمشاركة الجماعية في بناء الحياة والمستقبل، عالم تسعى فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحكم بقطبية واحدة وبالشكل الذي يعمم العنف والتهديد في العلاقات الدولية.
في هذا السياق الدولي، تنبري الحركات الإسلامية وغيرها لخوض معركة الإصلاحات السياسية في العالم العربي، وفتح حوارات وورشات تفكير في كيفية كسر احتكار الدولة العربية الحديثة للقرار السياسي الوطني، والوصول إلى تعبئة الرأي العام الشعبي الرافض لهذه المنهجية الفاسدة في التدبير السياسي والاقتصادي لثرواتنا وطاقاتنا القومية.
أسئلة كثيرة تطرح بهذا الصدد. هل تمكنت القوى الإسلامية والديمقراطية في الوطن العربي من صياغة رؤية واضحة لأشكال الإصلاح وبنوده ومراحله؟ هل يمكن خوض لجج الإصلاح الداخلي بمنأى عن التدخل الأجنبي خاصة الأمريكي في الشؤون الوطنية لبلداننا؟
الأكيد أن قوى التغيير في هذه البلدان تتحرك في اتجاه الإصلاح بأقدار متباينة ومواقف متنوعة. لكن الإشكال الذي يظل ماثلا في الواقع السياسي العربي يتخذ مظهرين اثنين:
1- إشكال بناء مشروع الإصلاح والنهضة: إذا كانت مراكز القوى الغربية تتحرك وفقا لبرامج عمل تعكس مصالحها القومية، وتملك رؤى إصلاحية لأوضاع العالم العربي تحت عناوين مختلفة، منها "مشروع الشرق الأوسط الكبير"...فإن قوى وتيارات التغيير داخل بلداننا القطرية المجزأة الضعيفة لا تملك مشروعا للإصلاح والنهضة يستجيب لحاجيات شعوبنا وأهدافها في التحرر والتنمية والنهضة، هذا المشروع لا يمكن أن يكون منسوبا إلى جماعة سياسية أو قوة اجتماعية معينة، وإنما ينبغي أن يصدر عن توافقات وطنية وتفاعل رؤى جماعية قادرة على تحديد آفاق الإصلاح ومضامينه ومراحله وشروط إنجازه.
هذا المشروع الكبير يجد أهميته في حسم إشكالات فكرية وسياسية ترتبط بكيفية بناء تمثلات جماعية سليمة حول الماضي وتراثه وتراكماته المعرفية والأنتربولوجية، وبالقدرة على التفاعل الإيجابي مع عقبات الحاضر وصياغة بدائل مستقبلية للحفاظ على الوجود الحضاري للأمة.
2- إشكال وجود قيادة: بتواز مع مشروع للإصلاح والنهضة يستحضر الأبعاد الوطنية والإقليمية والقومية، ويسعى إلى تجاوز سقف التجزئة الاستعمارية لطاقاتنا وإمكاناتنا وثرواتنا، بتواز مع كل هذا تظهر الحاجة إلى قيادات وطلائع للإصلاح السياسي والنهضة العمرانية الشاملة. مشكل قيادات ميدانية يظل محورا مهما في سياق الحركية المنشودة، خاصة إذا أثبتنا حاجة الشعوب إلى قيادات سياسية قادرة على التعبئة والتأطير واجتراح سبل إجرائية وجريئة. قيدات طلائعية تكسب ثقة الجماهير، بل تنسج علاقات سوية وواضحة معها، بما يمكن من توحيد مسار الحركية وأشكال تدبير الأزمة الخانقة.
إن إشكال القيادة يفرض نفسه خاصة بملاحظة فشل القيادات الرسمية وأجهزتها في كسب احترام شعوبها وتأييدها الواعي والمشروط؛ ذلك الفشل الذي يجد مرتكزاته في الإرث الاستبدادي الغني وغياب نخب فاعلة وجريئة في فضح سلوك الاستبداد الواضح والمقنع، وابتكار وسائل وطرائق المواجهة والتعبئة.
إن دراسة تاريخ الأزمات السياسية في العالم تكشف حاجة الشعوب في بعض اللحظات التاريخية إلى قيادات ذات إرادة استثنائية وقدرات متميزة ورؤية طلائعية تتناسب مع الدور التاريخي المأمول. ولا تكاد الوضعية الحالية لشعوبنا العربية تبتعد عن هذا الاستخلاص إذ تتكالب علينا الأمم القوية من كل جهة وبأشكال مختلفة في الاستنزاف والتخريب والاستعباد، بينما لا تعكس قياداتنا السياسية الرسمية طموحات الشعوب في أن تعيش عزيزة كريمة لا تخرب دينها المسألة والحاجة، ولا يعبث بإرادتها الفقر والمذلة.