صفحة 1 من 1

سر التعليم في اليابان

مرسل: السبت مايو 04, 2013 11:14 pm
بواسطة محمد صالح العلي333
كتب السفير الأمريكي «إدوين أشاور» كتابًا تحت عنوان «اليابانيون»، طرح فيه سؤالًا جوهريًا، ما سر اليابان؟ وما سر نهوضها ؟ وأجاب: بأن سر نهوضها شيئان اثنان، هما: إرادة الانتقام من التاريخ، وبناء الإنسان، هذا هو الذي نهض باليابان إرادة الانتقام من تاريخ تحدى أمة هزمت وأهينت فردت على الهزيمة بهذا النهوض العظيم، وبناء الإنسان الذي كرسه نظام التعليم والثقافة.
فالنقلة النوعية التي أحدثها الشعب الياباني في التاريخ الإنساني المعاصر تعد مثلًا أعلى لشعوب العالم، ولا غرو فهزيمة كبرى تلحق به في الحرب العالمية الثانية تثير في نفوس أبنائه الغيرة على بلادهم، وتلهب نيران الحماسة في صدور شبابه على مستقبلهم ومكانتهم بين دول العالم، ولذا فهم استمروا في المحاولات وظلوا وما زالوا يبحثون عن السبل التي تمكنهم من الرقي والتقدم، وما انفكوا حتى حولوا بلادهم إلى مكانتها المتقدمة بين شعوب الأرض قاطبة، فأصبح اسم اليابان مطبوعًا في أذهاننا ؛ لما يقدمه ذلك البلد من اختراعات وصناعات للعالم، ذلك البلد الذي لم تثنه الحروب عن التقدم والازدهار، وعكف على بناء نفسه، وأدرك قادته أن لا سيادة لهم إلا بالعلم واليد العاملة.

بعد كارثة مفجعة تمثلت في هزيمة مؤلمة من قبل قوات الحلفاء عند نهاية الحرب العالمية الثانية فقد كثير من الناس والسياسيين الأمل في قدرة هذه الدولة على أن تقف على قدميها من جديد؛ لأنها تراجعت إلى دولة مهزومة من دول العالم الثالث، لم يكن من المتوقع لها أن تقف على قدميها، فكيف بقدرتها على أن تهيمن على الواجهة العالمية بعد عقدين من نهاية الحرب العالمية الثانية. تلك الهزيمة النكراء والخسائر البشرية الهائلة والدمار غير المحدود كانت أسبابًا حقيقية لتموت تلك الدولة بمن فيها، لكن العزيمة والإرادة كانتا تملآن نفوس اليابانيين..
اليابان... في الجغرافيا
لقد تضافرت مجموعة من الظروف التاريخية والجغرافية كي تدفع بالتجربة اليابانية إلى النجاح، حيث أعطت الجغرافيا لليابان خصائص فريدة، فخُمس مساحتها لا يصلح للاستغلال، وما تبقى من مساحة يضيق عن استيعاب البشر، كما يصعب أن يعطيهم الإنتاج الزراعي الكافي لحاجتهم، فلجؤوا إلى زراعة كل أرض فضاء في المدن المهدمة كي يحصلوا على لقمة العيش. لذلك فإن هذه الطبيعة أعطت اليابان القدرة على العمل الشاق قرنا بعد قرن وحقبة بعد أخرى، حتى أصبح لدى الياباني «أخلاقيات عمل» يصفها بعض الخبراء بأنها (أكثر أخلاقيات العمل عمقًا وأصالة في العالم كله)، كما أن هذه الجزر الممتدة بموقعها الجغرافي المعروف الذي يعرضها إلى أكثر الأعاصير والهزات الأرضية عنفًا، جعلت لسكانها سمة هي قدرتهم على التكيف السريع. كما أن الذات الجماعية لدى اليابانيين ملحوظة، والعمل كفريق سمة من سمات شخصيتهم الوطنية، وكذلك التنظيم الاجتماعي، وذلك كله ليس نتاج التاريخ الحديث، إنما يضرب في تاريخهم قدمًا، فقد انصهر المجتمع الياباني منذ القدم في بوتقة واحدة.
واليابان تقع في شرق القارة الأسيوية، وتتكون من سلسلة من الجزر (حوالي أربعة آلاف جزيرة) تمتد بين الشمال والجنوب على شكل أرخبيل طوله 3000كم، أربع منها رئيسية (هونشو- شيكوكو- كيوشو- هوكايدو)، وجزر اليابان مقسمة إداريًا من قبل الحكومة إلى 43 ولاية وأربع بلديات، مساحتها الإجمالية 881,369 كيلو مترًا مربعًا، والمسافة بين اليابان وأرض القارة عند أقرب نقطة تبلغ حوالي 180 كلم, وهذا الوضع الجغرافي جعلها وحيدة نسبيا على الصعيد الجغرافي والثقافي، فأنتجت ثقافة خاصة بها بالغة التميز. ويبلغ إجمالي تعداد سكان اليابان حوالي 127 مليون نسمة، وهي بذلك تعتبر سابع دولة أكثر تعدادًا بالسكان، عاصمتها طوكيو. ويشكل اليابانيون حوالي 99,4٪ من السكان، والكوريون 0,5٪، وما تبقى وقدره 0,1٪ فهم من الجنسيات المختلفة. يعيش أكثر من 79٪ من السكان في المدن الكبرى، والباقي في القرى والأرياف. ويعمل 35٪ من السكان في الصناعة، بينما يعمل 27٪ منهم في الزراعة , وهناك ما يقرب من 700 ألف صياد يعملون في مهنة صيد الأسماك، أما باقي السكان فيعملون في التجارة والمهن الحرة، وكموظفين في الدوائر الحكومية للدولة والمؤسسات الخاصة., واللغة اليابانية هي اللغة الرسمية، والين هو العملة المستخدمة. وتغطي الجبال والغابات الكثيفة ثلثي الأراضي اليابانية، وتنحصر الصناعة والزراعة والمناطق السكنية ونحوها في السهول المحاذية للسواحل. لهذا فإن الكثافة السكانية في المدن الساحلية عالية جدا, مما تسبب في ارتفاع أسعار الأراضي.


عوامل النهضة اليابانية بعد الحرب
في كتابه المتميز «أسرار الإدارة اليابانية» حاول الدكتور حسين حمادي أن يجيب عن السؤال المهم: «ما الذي فعله إنسان اليابان لتخطي خسارة الحرب؟ وكيف وضع نفسه على الطريق لكي يجعل من اليابان واحدة من أكبر ثلاث قوى اقتصادية في عالمنا المعاصر؟» فيقول إن هذا الإنسان لم يغب عن باله أن أكثر من مئة مليون من الناس يجب أن يعيشوا في رقعة من الأرض لا تتجاوز مساحتها 380 ألف كيلو متر مربع تغطي الجبال البركانية نحو 85% منها، هذا مع غياب شبه كامل لأي نوع من الثروات والموارد الطبيعية. وقبل ذلك، ومنذ تولي الإمبراطور ميجي مقاليد الحكم بمساعدة رجال الساموراي عام 1867م، كان التصور أن حل المشكلة القومية لليابان هو التحديث، بأن تصبح اليابان دولة عصرية قوية تدخل في المجال الصناعي بكل قوة، ولا بد لها من فتح الأسواق الخارجية بالقوة، والحل يكمن في التوسع الأفقي على حساب الجيران، حيث القوة العسكرية هي المفتاح لتحقيق هذا التوسع. وهكذا انتصر الجيش الياباني في حربه مع الصين عام 1895م، ثم انتصر على روسيا عام 1905م، ثم على كوريا عام 1910م، ثم دخلت اليابان الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية لتستولي على الهند الصينية والفلبين والملايو وسنغافورة وبورما وتايلاند. ولكن هذا كله لم يوصل إلا إلى الاستسلام غير المشروط عام 1945م، والذي كان البديل الطبيعي له الانتحار القومي لليابان بأسرها. من هنا انتهى إنسان اليابان، كما يقول الدكتور حمادي في كتابه الشيق، إلى البحث عن طريق آخر وقرار جديد، وكان أساس هذا القرار الجديد أن الحل يقع داخل حدود اليابان، وأنه مرتبط بالإنسان الياباني وبالعقل الياباني. ومن هنا جاء دور النظام التعليمي في اليابان لكي يأخذ القرار القومي ويصبه بكل قوة في عقل إنسان اليابان الجديد، ومن ثم انتهى إنسان اليابان بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن القرار القومي يكون بالتوسع الرأسي من خلال إنسان اليابان وعقله، وليس بالتوسع الأفقي باستخدام السلاح الياباني.

ويمكن تلخيص عوامل النهضة في اليابان من خلال استعراض النقاط التالية:
الإدارة اليابانية: من أبرز عوامل النهضة اليابانية بعد انهيار الاقتصاد الياباني عقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية ما عُرف «بالإدارة اليابانية»، بمعنى تطبيق مبادئ إدارية حديثة من بينها إدارة الجودة الكاملة، والعمل ضمن فريق عمل «روح الفريق»، وإتقان العمل الإداري وتحويله إلى قيمة اجتماعية مرتبطة بالثقافة اليابانية، والابتكار والتطوير، إلى غير ذلك من المبادئ والمفاهيم الإدارية الفعالة.وإذا ما علمنا أن اليابان لا تمتلك أي موارد طبيعية، وتقع في موقع جغرافي ناءٍ، أدركنا أن العنصر البشري هو عماد وركيزة التنمية والنهضة اليابانية، والذي ركزت عليه برامج التنمية الاقتصادية اليابانية. ولا غرو أن العنصر البشري أهم ركائز التنمية والنهضة في أي مجتمع، لذا يأتي الاستثمار في العنصر البشري من أوليات خطط التنمية والنهضة في كل المجتمعات. ومرد ذلك يعود إلى عدة عوامل من بينها: التنشئة والتربية الاجتماعية، ومناهج التعليم، وأنظمة وبيئة العمل، وغير ذلك.إن العمل ضمن فريق عمل محدد له تنظيم إداري، كفيل بأن يتيح لفريق العمل إنجاز المهام المنوطة به، ولعل من أبرز ملامح ذلك ما يلي: تحديد مهمة الفريق بشكل واضح، وحجم فريق العمل، وتعيين رئيس لفريق العمل مع تحديد واجبات وصلاحيات كل عضو في الفريق، وتحديد الوقت اللازم لإنجاز المهمة، ويتوجب أن يكون تشكيل فريق العمل متماشيًا مع أهداف ومهام الفريق.
الشخصية اليابانية: فالشخصية اليابانية منضبطة،‏ تقدس الوقت،‏ وتحترم النظام‏،‏ وتبدع من ضمن الفريق الواحد‏،‏ وتلتزم وبشدة بآداب التعامل‏،‏ وأخلاقيات المتاجرة رفيعة وموصوفة بالصدق والأمانة‏.‏ وهناك إحساس عام بالأمن والأمان في اليابان لتوافر الوظيفة المنتجة والتأمين لمعظم الخدمات الاجتماعية‏.‏ وهذه الأخلاقيات نابعة من الاهتمام بالبرامج التعليمية المتعلقة بالأخلاقيات والسلوك للمواطن‏، ومنذ الصغر في البيت والمجتمع والمدرسة‏.‏ كما أن محاسبة القانون صارمة للمخالفين،‏ والإحساس بالعيب المجتمعي الذي يخلق بالمواطن الياباني منذ صغره قاسية‏.‏ ولا يرحم القانون الياباني الغني أو الفقير‏،‏ الوزير أو الغفير‏،‏ فحينما تكتشف المخالفات‏،‏ تدرس أسباب حدوثها،‏ ويحاسب مرتكبوها‏,‏ وتمنع تكررها‏.‏ بالإضافة إلى أن القيم المجتمعية اليابانية تفرض على الشخص الاعتذار‏.‏ لذلك يعتذرون ويعترفون بأخطائهم في معظم الأحيان‏.‏ ولقد حاولت الثقافة الأمريكية تعزيز الشخصية الفردية والقيم الفردية في الإنسان الياباني من خلال الدستور وقانون التعليم‏،‏ والذي يخالف تماما القيم اليابانية الأخلاقية والدينية في التأكيد على أهمية المجتمع والطبيعة والتناغم الجميل بينهما‏.‏وفي عام‏1989‏ نجح اليابانيون في مراجعة البرامج التعليمية وتطهيرها من القيم الفردية المستوردة‏،‏ وأضيفت برامج السلوك والأخلاقيات بصيغة متكاملة على أن تراجع كليا كل عشر سنوات‏.‏ وقد أدخلت مادة السلوك والأخلاقيات بتناغم في جميع المواد المدرسية ونشاطاتها بالإضافة لبرنامج متخصص في الأخلاقيات يقدم ساعة كل أسبوع على مدار السنة وفي جميع السنوات الدراسية‏.


المعلم الياباني:
يعكس دور المعلم في اليابان في مختلف المراحل اهتمام اليابانيين بالتعليم وحماسهم له، ومدى تقديرهم له، فالمعلمون يحظون باحترام وتقدير ومكانة اجتماعية مرموقة، ويتضح ذلك من خلال النظرة الاجتماعية المرموقة لهم، وكذلك المرتبات المغرية التي توفر لهم حياة مستقرة كريمة، ويتساوى في ذلك المعلمون والمعلمات. ويتضح كذلك من خلال التهافت على شغل هذه الوظيفة المرموقة في المجتمع. فمعظم هؤلاء المعلمين هم من خريجي الجامعات، ولكنهم لا يحصلون على هذه الوظيفة إلا بعد اجتياز اختبارات قبول شاقة، تحريرية وشفوية. وبالطبع نسبة التنافس على هذه الوظيفة شديدة أيضًا، وهم بشكل عام يعكسون أيضًا نظرة المجتمع إليهم، ويعكسون أيضًا صورة الالتزام وروح الجماعة والتفاني في العمل عند اليابانيين. فهم إلى جانب عملهم في المدرسة وقيامهم بتدريبات ودراسات لرفع مستوياتهم العلمية، فهم يهتمون بدقائق الأمور الخاصة بتلاميذهم، كما يقوم المعلمون بزيارات دورية إلى منازل التلاميذ أو الطلاب للاطمئنان على المناخ العام لاستذكار التلاميذ من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤكدون التواصل مع الأسرة وأهمية دورها المتكامل مع المدرسة.