منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#62189
كل إنسان مهما علا شأنه أو انخفض – العمل واجب عليه؛ لأن قواعد الإسلام وسلوك الأنبياء والصالحين تشير إلى وجوب العمل لاكتساب المال من وجه حلال للإنفاق منه على النفس والأهل والأولاد، والارتقاء بهذا المال الذي يكسبه الإنسان من العمل فيقتات به ويكتسي ويربي عياله ويصل رحمه، ويحفظ عرضه، ويصون دينه ويستغني عن السؤال ويعيش كريمًا عزيزًا ويموت جليلاً حميدًا ..

ولقد أكدت الدراسات الميدانية في مجال علم الاجتماع الصناعي أن الإنسان دائمًا يعمل ليجد إشباعًا لكل حاجاته، وأولى هذه الحاجات. ما يحتاجه الجسم: من الطعام والشراب والكساء – ، فإذا فرغ من ذلك يعمل لإيجاد مأوى لنفسه يجد فيه الأمن والاستقرار .

فإذا هيأ المأوى بحث عن الزوجة؛ فإن تزوج وأنجب بدأ يبحث عن المكانة الاجتماعية ليحظى بمقتضاها بالاحترام والتقدير.. من هنا – كما يؤكد علماء الاجتماع الصناعي والمهني – فإن العمل واجب لمواجهة متطلبات الحياة، وفي إطار الحدود الشرعية التي لا تمس حقوق الآخرين ولا تضر بمصالح المجتمع ليتعايش الجميع في سلام وتعاون ..

ومن هنا وضع الإسلام قواعد عامةً للعمل فعنى بتنظيمه وتوزيعه حتى لا ينشغل الإنسان بعمل الدنيا عن الآخرة، ونبه إلى أن المغالاة في جانب على جانب فيه ضياع للإنسان الذي يجب عليه أن يعتدل ويجمع بين عملي الدنيا والآخرة إعمالاً لقول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَـٰـكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ سورة القصص: آية77.

وعندما أمرك الإسلام أن تعتدل في حياتك، أمرك أن تتحرى طرق العمل الحلال عملاً وإنتاجًا – بيعًا وشراءً – ؛ لأن العمل في الشيء المحرم يجلب الخراب ويحقق للإنسان الشقاء ويدفع به إلى التعاسة .. ومما قاله لقمان لابنه في هذا المقام "يابني استعن بالكسب الحلال على الفقر؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابته ثلاث خصال: رقة في دينه – وضعف في عقله – وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث استخفاف الناس به"، ولقد عرف الأنبياء قيمة العمل على هذا النحو.. وكان لكل نبي حرفة يعمل فيها ويعيش منها مع عظم مسؤولياته.. وخذ مثلاً سيدنا – إدريس – كان خياطاً يكسب بعمل يده، وداود كان حدادًا كما ذكر القرآن في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيْدَ أَنِ اعْمَلْ سـٰـبِغـٰـتٍ وَقَدِّرْ فِىْ السَّرْدِ وَاعْمَلُوْا صَالِحًا﴾ سبأ: الآيتان 10، 11، وهناك بعض الروايات تؤكد أنه كان خوَّاصًا يعمل من الخوص – القفة – وغير ذلك، ونوح عليه السلام كان نجارًا، كما كان زكريا عليه السلام، وإبراهيم كانت عنده الجمال والخيل والأغنام.. كما كان موسى عليه السلام أجيرًا عند رجل يعمل في رعي الغنم، والقرآن الكريم يقول لنا ﴿وَقُلِ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوْله وَالمُؤْمِنُوْنَ﴾ التوبة: آية 105، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لأهل مكة بأجر معين .

إن العمل عندما يكون هو الذي ينتج الكسب الحلال؛ فهو أحسن الطرق.. لهذا ليس بغريب أن يهتم الإسلام بالعمل والعاملين؛ لأن العمل لا تعود فائدته على العامل وحده، وإنما العائد على المجتمع كله، وخذ مثلاً المزارع الذي يفلح الأرض لتثمر الثمر وتنبت الزرع؛ فإن العائد من هذه الزراعة للمجتمع .. كذلك الذي يقوم بالبناء ويبني العمارات؛ فإن ذلك عائد على المجتمع، وخذ كل مهنة فسوف ترى أن كل واحد يعمل في جزء يكمله الآخر، فالذي يعمل في الزراعة يحتاج إلى من يطحن وبعد الطحن لابد من مخبز، وبعد الخبز لابد من حمله إلى المستهلك، والذي يصنع النسيج يحتاج إلى من يزرع القطن، وإلى التاجر الذي يحمله منه إلى مصانع الغزل، وإلى التاجر الذي يحمله منه إلى مصانع الغزل، وهناك الآلات التي صنعها الصانع لتتولى غزل القطن أو الصوف ثم يدخل إلى النسيج ثم يدخل إلى الصباغة ثم إلى التجهيز.. ثم .. ثم .. إلى أن يُنقل إلى المستهلكين ..

ولو أن أي إنسان أهمل في إنتاجه سيلحق الضرر بالآخرين؛ لأن كل إنسان عليه مرحلة من مراحل الإنتاج، عليه أن يجوِّدها ويحسِّن فيها ويرقى بمستوى الأداء وهذا ما حث عليه الإسلام في قول الرسول صلى الله عليه وسلم"إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه". إن الإسلام يطلب مع إتقان العمل إخلاص النية فيه لله، فهو المكافئ مع زيادة معدلات الإنتاج والله تبارك وتعالى يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّه حَيـٰـوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ﴾ النحل: آية 97.. والحق سبحانه وتعالى رفع شأن الإنسان وزوده بقدراته البدنية والعقلية والملكات الفكرية؛ فالحكمة من وراء ذلك هي تهيئة الإنسان لعمارة الكون وحمل مسؤوليات التنمية في كل الاتجاهات التي لا تتحقق إلا بالعمل الدائب والنشاط المثمر المتواصل لاستغلال خيرات الأرض وما أفاء الله به على الإنسان من جليل النعم، وما منَّ به سبحانه على الإنسان من مصادر لا تنفد ومدد لا ينقطع من المواد الخام والأساليب الإنتاجية الفنية، وكل ذلك يكون مادةً لعمل الإنسان وحقلاً لتفكيره، وهذه الأشياء أصبحت كافيةً في تحقيق رسالة الإنسان في التنمية الاجتماعية والاقتصادية على أن يقاس ذلك بمقدار ما يبذله الإنسان من عمل وما يقوم به من جهد؛ لأن العائد عليه مرهون ببذل الجهد في العمل وما يتحمله من مشقة .

لقد حبب الإسلام كل المهن والأعمال والحرف والوظائف إلى الناس؛ لأنهم يتفاوتون؛ فهذا يعمل بيده، وهذا بالوقوف خلف الآلات، وهذا بالحساب جمعًا وطرحًا، وهذا بالرسم الهندسي، وذاك بمعرفة المرض وتشخيصه ووصف العلاج، وهكذا تجد أن كل واحد يخدم الآخر من حيث يدري أو لا يدري ولذا قال الشاعر:

الناس للناس من بدو وحاضرة ..

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

إن الله سبحانه وتعالى وقد وهب الناس كل واحد موهبةً تختلف عن الآخر لتستقيم الحياة، وعلى المجتمع أن يضع أسس التربية العامة التي تمكن كل ذي موهبة من القيام بالعمل الذي يناسب موهبته؛ لأنه في أثناء التربية؛ فإن المواهب تكتشف وتعرف بالاختبارات النفسية، كذلك القدرات والذكاء ليتأتى من وراء ذلك تكوين هرمي للمجتمع قاعدته العمالية أوسع، ويحتاجون إلى من يساعدهم حتى يتم العمران بأيديهم، وإذا علونا من قاعدة الهرم إلى ماهو أعلى منها نجد العمال الفنيين المهرة؛ فإذا ما وصلنا إلى الوسط نجد الإدارة الوسطى وهؤلاء هم واسطة العقد في سلم العمل.. فإذا قاربنا قمة الهرم كان المفكرون والمخططون من أعلى المستويات، فإذا ما علونا كانت طبقة النبوغ ثم الذين يكونون في أعلى القمة وهم الذين تعيش الإنسانية على اختراعاتهم وابتكاراتهم واكتشافاتهم لنواميس الكون، وبمقدار ارتقاء تفكيرهم يكون تقدم الأمة، ولهذا نوه الحق سبحانه وتعالى بأن رفع شأنهم وأعلى أقدارهم؛ لأنهم يقول عنهم الحق ﴿يَرْفَعُ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوا الْعِلْمَ دَرَجـٰـتٍ﴾ المجادلة: آية 11، ولمكانتهم السامية، فإن خشيتهم من الله تشتد؛ لأنهم عرفوا أن المانح للعقل هو الله، وأن الملهم للتفكير الرشيد هو الله.. لهذا قال الله عنهم ﴿إنَّمَا يَخْشى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمـٰـؤا﴾ فاطر: آية 28، إن العمل في الإسلام عبادة؛ لأنه من وراء العمل المتقن نفع الناس وتسيير دولاب العمل، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله"، والإسلام وهو يؤكد على هذا المعنى ينبه على راحة العاملين وتوفير الأجور المناسبة لهم مع توفير المساكن، ووسائل المواصلات، وإيجاد جوّ من الرفاهية المباحة ليروِّحوا عن أنفسهم عناء العمل؛ لأن العمال إذا تعبوا من بعض أوضاعهم فإن عملهم يرتبك.. لذلك يحدد الإسلام أسلوب التعبير عن هذا التعب ورفع أمرهم إلى المسؤولين عنهم ولا يليق بالعامل أن يترك عمله؛ لأنه إن عطّل عمله أساء إلى الأمة؛ لأن العامل بعمله له ثواب عند الله فهو في عبادة مستمرة لا يقصر فيها ولا يتكاسل حتى لا يضر بالآخرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، والدين الذي نؤمن به دين اجتماعي لا ينفصل عن الدولة .. لهذا حذر الله سبحانه وتعالى من القعود والكسل بدعوى التدين أو التعبد فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلـٰـوةُ فَانْتَشِرُوا فِى الأَرْضِ وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ الجمعة: آية 10، ويقول أيضًا: ﴿هُوَ الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُوْلاً فَامْشُوْا فِيْ مَنَاكِبِهَا وُكُلُوْا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُوْرُ﴾ الملك: آية 15، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، أي تذهب أول النهار ضامرة البطون من الجوع، وترجع آخره ممتلئة البطون، فالحركة فيها بركة؛ ولذلك يقول الإمام أحمد t في هذا الحديث ليس فيه دلالة على القعود عن الكسب؛ بل فيه ما يدل على طلب الرزق إذا المراد أنهم لو توكلوا على الله في سعيهم كما تسعى الطير لرزقهم كما يرزق الطير في سعيه إذ تغدو خماصًا وتعود بطانًا.. ويقول عمر بن الخطاب t"لايقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول اللهم ارزقني؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضةً". إن اتقان العمل إحسان، وحسن المعاشرة إحسان لذلك نرى أن الحق سبحانه وتعالى بكريم تأييده وعظيم مؤازرته مع المحسنين وهم الذين لا يكتفون بمجرد العمل؛ بل يتقنوه يجودوه ويحسنِّوه ويأتون به على وجهه الأكمل فهؤلاء لهم الجزاء الأوفى من رب عظيم قال ﴿وَأَنَّ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعـٰـى * وَأَنَّ سَعْيَه سَوْفَ يُرٰى * ثـُمَّ يُجْزٰـهُ الجَزَاءَ الأَوْفـٰـى﴾ النجم الآيات 39 – 40، ويقول أيضًا: ﴿وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِيْنَ﴾ العنكبوت: آية 69.

إن الإسلام مَجَّد حرفًا كان الناس ينظرون إليها نظرةً فيها كثير من الازدراء والتحقير مثل.. رعي الغنم.. فبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كانت مهنة الأنبياء فيقول في حديثه الشريف: "ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم قالوا – وأنت يارسول الله؟ قال نعم.. كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يقول لرعاة الغنم عملكم عظيم فالغنم غنيمة والخيل في ركابها الخير، وكل عمل يؤديه الإنسان فخر للعامل؛ لأنه ما أكل إنسان طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده.. تقول: السيدة عائشة – رضي الله عنها – عن المرأة التي تعمل وتمارس نشاط الإنتاج تقول "المغزل في يد المرأة أحسن من الرمح بيد المجاهد في سبيل الله"، جاء ذلك في كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه الجزء الثاني، فكما أن الإسلام دعا الرجل للعمل رغَّب المرأة فيه كذلك ولها أن تمارسه في أي مكان مادامت محافظةً على وقارها ملتزمةً بالحشمة غير جالبة ضررًا خلقيًا أو اجتماعيًا لأسرتها؛ فلنعرف للعمل قدره، فإن الله يحب العاملين