- الأحد مايو 05, 2013 4:51 pm
#62505
روسو (جان جاك ـ)
(1712 ـ 1778)
شهد عصر التنوير Siècle des Lumières ميلاد الأديب الفرنسي جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau الذي ناهض ظواهر التعسف والقمع واحتكار الثروات التي سادت في القرن الثامن عشر. فلقد اجتاحت أوربا في القرن السادس عشر موجة من الحروب الدينية امتدت لقرنين من الزمن، وخلّفت مشكلات اجتماعية عديدة، كان من نتائجها الحتمية أن حدثت هجرات كثيرة لعائلات مختلفة من مناطق إلى أخرى، حسب تجمعات السكان الذين ينتمون لمذهب محدد. ومن جرّاء ذلك نزح ديدييه روسو، من مدينة مونلري Montlhéry في فرنسا إلى مدينة جنيف. وكان أحد أحفاده، إسحق والد جان جاك قد تزوج سوزان برنار، وهي من سكان جنيف الأصليين ورزق منها بفرانسوا ثم جان جاك وتوفيت بعد أيام من ولادته. تركت وفاتها أثراً كبيراً في نفس الأديب لازمه طوال حياته، إذ كتب «دفعت والدتي حياتها ثمناً لهذه الولادة التي كانت أولى المصائب التي حلّت بي». لم يستطع الوالد تربية ابنه، فكفلته عمته ونجحت في تربيته ونمَّت لديه حب القراءة، فقرأ لكثير من الأدباء، منهم أوفيد[ر] وبلوتارخس[ر] وموليير[ر] وغيرهم. وأثرت المطالعات تأثيراً واضحاً في تكوين ثقافته وأطلعته على الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية. أُدخل جان جاك مدرسة داخلية عند القسيس البروتستنتي لا مبرسييه Lambercier في بلدة بوسي Bossey الواقعة على سفح جبل ساليف Salève، وعاش حياة هنيئة في أحضان الطبيعة، ووصف هذه المرحلة قائلاً: «لم أكن أتمنى سوى دوام تلك الحياة فترة أطول، كي أرسخ في نفسي الأسس الأخلاقية الصحيحة»، وبقي في هذه الأجواء سنتين عاد بعدهما إلى جنيف. وفكر وهو في الخامسة عشرة في انتقاء عمل يكسب منه عيشه، فأراد أن يصبح قسيساً بروتستنتياً، لكنه أُلزم مُكرَهاً على العمل متمرناً عند نقّاش، فهرب من جنيف. تقرب روسو أثناء وجوده في بلدة أنيسي Annecy من لويز فارون Mme de Warens وهي سيدة محسنة لم توفق في حياتها الزوجية. كانت بروتستنتية ثم اعتنقت الكاثوليكية ونجحت في تغيير مذهب روسو، إذ كان في ضائقة مادية وينتظر المساعدة أياً كانت ورأى روسو فيها صورة الأم نظراً لفارق العمر بينهما الذي تجاوزالعقد، ودامت علاقتهما حتى عام 1740.
بدأ روسو يتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن عمل يكسب منه عيشه، فعلّم الموسيقى بعضاً من الوقت. وظل يجري وراء الشهرة والثروة حتى عام 1749 عندما عرض مجمع ديجون العلمي L’académie de Dijon جائزة مالية لأحسن مقال يُكتب حول «مساهمة النهضة العلمية والفنية في تهذيب الأخلاق». ونالت مقالة روسو «خطاب في العلوم و الفنون» Discours sur les sciences et les arts تلك الجائزة عام 1750. وقد تحدث فيها عن مضار العلوم والفنون وبيَّن كيف أنها تجعل الحياة الاجتماعية أكثر رفاهية وترفاً وتساعد بالتالي على البطالة واستعباد الناس، كما تقضي على الشعور الديني، وكيف أن تقدمها يؤدي إلى انحطاط في العادات والتقاليد ويساعد على الكسل والاستغناء عن القيم الأخلاقية التي تحلى بها المجتمع الباريسي بعد النهضة. ورأى النقاد أن براهين روسو حول هذه المسائل لم تكن محكمة بشكل منطقي.
قرر روسو إعلان عودته إلى البروتستنتية مذهب أجداده، لرغبته في استعادة حقوقه كمواطن في جنيف. واستقر بين عامي 1756 ـ 1757 في منزل ريفي قرب باريس يُعرف بالإرميتاج L’Ermitage، قدمته له الأديبة السيدة ديبيني Mme d‘Epinay ليبقى إلى جوارها، وأصبحت الطبيعة والغابة مكتباً فسيحاً لأفكاره وتأملاته. والتقى في إحدى نزهاته بالسيدة دودُتو Mme d’Houdetot قريبة السيدة ديبيني، وكان الحب هذه المرة حقيقياً وعذرياً، ولم يستطع إلا أن يجهر به، فغادر الإرميتاج مرافَقاً بتهمة نكران الجميل، بعد أن بدأ كتابة «جولي أو هيلوييز الجديدة» (1761) Julie ou la Nouvelle Héloïse، وهي رواية ذاتية اجتماعية نفسية فلسفية: ذاتية لتوافقها مع حياة المؤلف، فقد ضمت مشاعره الخاصة من حب وانفعال وتوافق وافتراق، ورأى فيها حباً مثالياً رومنسياً ذكّره باليوم الذي دخلت فيه صوفي دودُتو عالمه، فهام بها وهو في الأربعينيات؛ واجتماعية لأنها انطوت على وصف المجتمع الباريسي والريفي، فوصفت عادات الناس وأخلاقهم وأسلوب حياتهم؛ ونفسية لأنها ركّزت على دراسة الحب في نفس بطليها، وخاصة في نفس البطلة التي قاست الكثير بسبب حبها؛ وفلسفية لأن روسو ضمنها نظرته إلى الله والكون والإنسان. وتحكي الرواية قصة شاب يهيم بحب تلميذته، لكنها تتزوج سواه بناء على رغبة والدها، ويكتشف زوجها قصة حبها فيدعو العاشق القديم للإقامة زمناً بقرب العائلة. ولا تلبث الزوجة أن تتوفى بعد عيش هانئ بجوار الناس الذين أحبتهم وأحبوها.
لا تكمن قيمة «هيلوييز الجديدة» في أحداثها بل في مشاعر أشخاصها، وقد شغلت موضوعات الحب والفضيلة والطبيعة والتأمل فكر روسو طويلاً. والحب في رأيه طريق للسعادة، إن كان مشروطاً بالفضيلة. والفضيلة كما رآها روسو هي البراءة والطيبة الطبيعية والسلوك الذي يمليه العقل المفكر والصوت العلوي للضمير، وتتجلى بأروع صورها في الريف. وقد نجحت هذه الرواية في الدعوة إلى التنعم بالريف وبجمال طبيعته، ومهّدت بذلك الطريق للمدرسة الرومنسية [ر. الإبداعية].
نشر روسو عام 1762 الكتاب التربوي «إميل أو في التربية» Émile ou de l’Education في خمسة أجزاء، يتناول روسو في كل جزء منه مرحلة من مراحل عمر الإنسان. فيؤكد في الجزء الأول على ضرورة تربية الطفل من قبل والديه معاً، فالإنسان صالح بالفطرة، والتربية تقيه من المجتمع الذي قد يفسد هذه الطبيعة، ويرى أن من أخطاء التربية الحديثة استخدام الطرق والوسائل التي من شأنها إزعاج الطفل وتخويفه. وفي الجزء الثاني، عندما يصبح الطفل قابلاً للتعلم والمناقشة (4ـ12سنة)، يرى روسو أن تعليم الصدق والابتعاد عن حشو الذهن بالخرافات يشكلان أساس هذه المرحلة، كما يشدد على التربية البدنية التي جعلت القدماء أقوياء وأشداء، فيتصور بطله إميل في الثانية عشرة من عمره «قوياً مليئاً بالحيوية والنشاط خالي الفكر من الهموم والمشكلات». وفي الجزء الثالث يبدأ التعليم الإيجابي (12ـ15سنة)، ففكرة التعلم من الظواهر الطبيعية هي من مبادئ روسو التربوية، فتعلّم الجغرافية مثلاً مقرون بمشاهدة الطبيعة، كما أراد روسو أن يتعلم إميل، الذي قارب سن الرشد، مهنة مفيدة في الحياة تؤمن لـه رزقه فاختار لبطله مهنة النجارة، وقدم أمثولة تربوية رائدة هي مشاركة الأستاذ الطالبَ في العمل. ويركز الجزء الرابع الذي يتناول المرحلة الرابعة من عمر الإنسان (15-20سنة) على التربية الخلقية والدينية، فيرى روسو أنه لا يجوز مطلقاً غرس التعليم الديني عند مراهقين لم تنضج مداركهم بعد. أما الجزء الخامس فيبرز دور المرأة الفاضلة في التربية والأسرة والمجتمع.
بدأ روسو كتابه «إميل» بقوله: «كل شيء يخرج من يد خالق الكون خير، وكل شيء يخرج من يد الإنسان شر». وقد تحدث عن أهمية الإيمان بخالق الكون، وخلص إلى أن عدم التآلف بين معطيات الفلسفة والديانات، واختلاف آراء الفلاسفة وتباينها يدل على عجز العقل البشري عن التوصل إلى الحقيقة، وبالتالي يبقى الإنسان فريسة الشكوك. إلا أنه كان يؤمن بوجود إله أزلي لا يمكن معرفته، والإيمان بوجوده عقيدة مشتركة بين الديانات. وقد نظم هذا الإله الكون بنواميس ثابتة لا حاجة لأن يبحث الإنسان في أسرارها، فالعقل البشري قاصر عن إدراكها. وإن كانت الديانات المزدهرة في العالم كثيرة فإن اتباع الإنسان ديانة معينة خاضع للمحيط الذي يولد فيه. ونادى روسو بالدين الطبيعي La Religion naturelle، دين الفطرة الذي يولد عليه الإنسان. وقد جلب كتاب «إميل» لمؤلفه سخط الملحدين والمتدينين على حد سواء، ولم يمض شهر واحد على نشره في هولندا حتى أصدر برلمان باريس حكماً يقضي بحرقه وسجن كاتبه. أما أصدقاؤه فكانوا يؤيدون أفكاره دون أن يجرؤ أحد منهم على البوح بذلك علانية. وردّ روسو على هجوم رئيس أساقفة باريس قائلاً: «إني أتخذ الكتاب المقدس وعقلي القاعدتين الوحيدتين اللتين أبني على أساسهما عقيدتي، كما أنني أرفض سلطان البشر ولا أخضع لما يعتقدونه إلا بقدر ما أرى فيه من حقيقة».
كان روسو قد بدأ في الوقت ذاته كتابة «العقد الاجتماعي» (1762) Le Contrat social ، كنموذج للحياة السياسية، يحارب فيه الاستبداد مبيناً أن القوة لا تولّد الحق، ويشدد على الديمقراطية التي تمثل حكم الشعب بكامله أو بأكثريته. ورأى أنه لا يجوز أن تقوَّض الإرادة العامة في سبيل تحقيق أي هدف، مؤيداً عملية الانتخابات ومنادياً بالأخلاق والقيم. و«العقد الاجتماعي» هو اتفاق بين فريقين أو شعب بكامله، اتفاق يلزم الفرد بالتنازل عن حريته الطبيعية بملء إرادته للمجموعة، وبالتالي يدخل الحياة الاجتماعية وينتقل من الحياة الطبيعية إلى الحياة المتحضرة، وهذا الانتقال يحوِّل الفرد، في رأي روسو، من حيوان جاهل إلى حيوان عاقل. أما المجتمع فيخضع لصوت الإرادة العامة أو الأكثرية، والقانون وحده هو الذي يحدد الحرية. ورأى أنه لابد من تعديل القوانين أحياناً حسب المكان والزمان، فلكل بلد خصوصيته. ليس هذا فحسب، بل كان لروسو أيضاً فلسفة غايتها الأساسية سعادة الإنسان عن طريق إنماء عقله وتعليمه حقوقه وواجباته وتحريره من قيود القرون الوسطى وعبوديتها. وبهذا كرّس مبدأ سلطة الشعب المطلقة والمساواة بين المواطنين، وأبدع تياراً فكرياً كان المرجع لرجال الثورة الفرنسية.
كان روسو الملهم الأول للمصلحين التربويين في القرن التاسع عشر الذين وضعوا نظرياته موضع التطبيق، وكان لـه أثر فعال في تغيير بعض العادات والتقاليد السائدة في عصره، لكن يؤخذ عليه سلوكه الذي لايتطابق والأفكار التي نادى بها. فقد حارب التربية الشكلية التي تفتقر إلى الجانبين العاطفي والأخلاقي وركّز على أهمية تربية الطفل في المرحلة الأولى، وفي الوقت ذاته وضع أطفاله الخمسة في دار اللقطاء، وعلى الرغم من ندمه على ذلك لاحقاً. فمؤلفه «اعترافات» Les confessions، الذي بدأ كتابته عام 1765 وصدر الجزء الأول منه عام 1782 والثاني عام1789، يُعد تبريراً ودفاعاً عن شخصية ازدواجية، رآها النقاد متعالية وأنانية. ويعترف روسو بأنه يتأرجح بين الضعف والشجاعة وبين الانزلاق والفضيلة، ومع ذلك يفضل أن يكون رجلاً متناقضاً على أن يكون متعصباً منقاداً.
فقد روسو في جميع مواقفه مصداقيته، فلم يصدق أهل جنيف دفاعه عن البروتستنتية، فبقي بلا انتماء ديني ورحل إلى لندن عام 1766، وأصبح فريسة أوهام أدخلت الشك في نفسه إزاء أقرب أصدقائه، إذ تصور أنه مضطهد وملاحق من قبل الجميع، فقرر العودة إلى باريس عام 1767، ووجد أنه فقد اهتمام المجتمع الباريسي أيضاً. ومع ذلك أراد أن يترك للأجيال صورة نقية لا شائبة فيها، فكتب حوارات Dialogues ثلاثة أسماها «روسو قاضي جان جاك» (1772ـ1776) Rousseau juge de Jean-Jacques .
كانت فلسفة روسو على الصعيد النظري هادفة تعكس وجهة نظر فيلسوف خَبِر واقعاً اجتماعياً أراد إصلاحه. فإن كان الإنسان حراً ووحيداً عند ولادته، كما يرى الأديب الفيلسوف، وإن كان الإنسان البدائي أكثر سعادة من الإنسان الحضاري، لأن حياته تقتصر على أشياء بسيطة أولية، فإن هذا لا يعني أن روسو كان ينادي بالعودة إلى الحياة البدائية، فهو يعرف أنه أمر مستحيل، لكنه أراد أن يدفع الإنسان إلى اختيار حياة بسيطة فاضلة ترتبط بأخلاقية الفرد لا المجتمع. ويثور روسو، الذي عانى البؤس، على التقسيم غير العادل للثروات الذي يؤدي بالضرورة إلى انعدام المساواة بين الناس، وبالتالي إلى الظلم الذي يسبب ظهور أحاسيس الطمع والغيرة والخداع والبخل، وهي صفات تدمر الإنسان، وتولد صراعاً بين طبقتي المترفين والمحتاجين. وهو يرى أن أي عقد يبرم بينهما يكبّل الضعيف ويقوّي الظالم. وبالنتيجة يرى روسو أن البشرية بكاملها قد خضعت للبؤس والعبودية لصالح بعض الأفراد الذين جُبلت نفوسهم على الطمع. وقد نادى بقوانين تخدم الصالح العام، ودافع عن الحرية السياسية والمساواة الاجتماعية والاقتصادية، وأراد أن يُخرج النفس البشرية من صراعها بين الحقائق والأوهام، فكشف في اعترافاته عن مشاعره الدفينة بهدف إصلاح الذات ومحاسبتها. وقدم حلولاً للنفس التواقة للسعادة، فالطبيعة والحياة الريفية تقدمان حياة مريحة بعيدة عن منغصات المجتمع.
تدهورت حالة روسو الصحية وهو يكتب «أحلام يقظة لمتجول وحيد» Rêveries du promeneur solitaire (كُتبت بين عامي 1772ـ1776ونشرت عام1782) حاول فيها أن يكون مرآة لطبيعته الكامنة التي تآلفت وطبيعة الكون. وكتب مؤلفات أخرى اقل أهمية، منها أوبرا أو مسرحية غنائية ضاحكة بعنوان «عرّاف القرية» (1752)Le Devin du village وملهاة «نرسيس» (1752) Narcisse ، و«خطاب في أسباب وأسس عدم المساواة بين الناس» (1755) Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes هاجم فيه المجتمع والملكية الخاصة. وألف أيضاً «معجم الموسيقى» (1767) Dictionnaire de musique .
لم يكن الموت لروسو باعثاً على القلق، بل خير وراحة، ولاسيما أنه شعر بالإخفاق في حياته وعزاه لأعدائه، وتوفي في قصر إيرمنونفيل Ermenonville شمالي فرنسا حيث كان في ضيافة صديق لـه. ونُقلت رفاته عام 1794 إلى البانتيون ليرقد إلى جانب العظماء.
(1712 ـ 1778)
شهد عصر التنوير Siècle des Lumières ميلاد الأديب الفرنسي جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau الذي ناهض ظواهر التعسف والقمع واحتكار الثروات التي سادت في القرن الثامن عشر. فلقد اجتاحت أوربا في القرن السادس عشر موجة من الحروب الدينية امتدت لقرنين من الزمن، وخلّفت مشكلات اجتماعية عديدة، كان من نتائجها الحتمية أن حدثت هجرات كثيرة لعائلات مختلفة من مناطق إلى أخرى، حسب تجمعات السكان الذين ينتمون لمذهب محدد. ومن جرّاء ذلك نزح ديدييه روسو، من مدينة مونلري Montlhéry في فرنسا إلى مدينة جنيف. وكان أحد أحفاده، إسحق والد جان جاك قد تزوج سوزان برنار، وهي من سكان جنيف الأصليين ورزق منها بفرانسوا ثم جان جاك وتوفيت بعد أيام من ولادته. تركت وفاتها أثراً كبيراً في نفس الأديب لازمه طوال حياته، إذ كتب «دفعت والدتي حياتها ثمناً لهذه الولادة التي كانت أولى المصائب التي حلّت بي». لم يستطع الوالد تربية ابنه، فكفلته عمته ونجحت في تربيته ونمَّت لديه حب القراءة، فقرأ لكثير من الأدباء، منهم أوفيد[ر] وبلوتارخس[ر] وموليير[ر] وغيرهم. وأثرت المطالعات تأثيراً واضحاً في تكوين ثقافته وأطلعته على الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية. أُدخل جان جاك مدرسة داخلية عند القسيس البروتستنتي لا مبرسييه Lambercier في بلدة بوسي Bossey الواقعة على سفح جبل ساليف Salève، وعاش حياة هنيئة في أحضان الطبيعة، ووصف هذه المرحلة قائلاً: «لم أكن أتمنى سوى دوام تلك الحياة فترة أطول، كي أرسخ في نفسي الأسس الأخلاقية الصحيحة»، وبقي في هذه الأجواء سنتين عاد بعدهما إلى جنيف. وفكر وهو في الخامسة عشرة في انتقاء عمل يكسب منه عيشه، فأراد أن يصبح قسيساً بروتستنتياً، لكنه أُلزم مُكرَهاً على العمل متمرناً عند نقّاش، فهرب من جنيف. تقرب روسو أثناء وجوده في بلدة أنيسي Annecy من لويز فارون Mme de Warens وهي سيدة محسنة لم توفق في حياتها الزوجية. كانت بروتستنتية ثم اعتنقت الكاثوليكية ونجحت في تغيير مذهب روسو، إذ كان في ضائقة مادية وينتظر المساعدة أياً كانت ورأى روسو فيها صورة الأم نظراً لفارق العمر بينهما الذي تجاوزالعقد، ودامت علاقتهما حتى عام 1740.
بدأ روسو يتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن عمل يكسب منه عيشه، فعلّم الموسيقى بعضاً من الوقت. وظل يجري وراء الشهرة والثروة حتى عام 1749 عندما عرض مجمع ديجون العلمي L’académie de Dijon جائزة مالية لأحسن مقال يُكتب حول «مساهمة النهضة العلمية والفنية في تهذيب الأخلاق». ونالت مقالة روسو «خطاب في العلوم و الفنون» Discours sur les sciences et les arts تلك الجائزة عام 1750. وقد تحدث فيها عن مضار العلوم والفنون وبيَّن كيف أنها تجعل الحياة الاجتماعية أكثر رفاهية وترفاً وتساعد بالتالي على البطالة واستعباد الناس، كما تقضي على الشعور الديني، وكيف أن تقدمها يؤدي إلى انحطاط في العادات والتقاليد ويساعد على الكسل والاستغناء عن القيم الأخلاقية التي تحلى بها المجتمع الباريسي بعد النهضة. ورأى النقاد أن براهين روسو حول هذه المسائل لم تكن محكمة بشكل منطقي.
قرر روسو إعلان عودته إلى البروتستنتية مذهب أجداده، لرغبته في استعادة حقوقه كمواطن في جنيف. واستقر بين عامي 1756 ـ 1757 في منزل ريفي قرب باريس يُعرف بالإرميتاج L’Ermitage، قدمته له الأديبة السيدة ديبيني Mme d‘Epinay ليبقى إلى جوارها، وأصبحت الطبيعة والغابة مكتباً فسيحاً لأفكاره وتأملاته. والتقى في إحدى نزهاته بالسيدة دودُتو Mme d’Houdetot قريبة السيدة ديبيني، وكان الحب هذه المرة حقيقياً وعذرياً، ولم يستطع إلا أن يجهر به، فغادر الإرميتاج مرافَقاً بتهمة نكران الجميل، بعد أن بدأ كتابة «جولي أو هيلوييز الجديدة» (1761) Julie ou la Nouvelle Héloïse، وهي رواية ذاتية اجتماعية نفسية فلسفية: ذاتية لتوافقها مع حياة المؤلف، فقد ضمت مشاعره الخاصة من حب وانفعال وتوافق وافتراق، ورأى فيها حباً مثالياً رومنسياً ذكّره باليوم الذي دخلت فيه صوفي دودُتو عالمه، فهام بها وهو في الأربعينيات؛ واجتماعية لأنها انطوت على وصف المجتمع الباريسي والريفي، فوصفت عادات الناس وأخلاقهم وأسلوب حياتهم؛ ونفسية لأنها ركّزت على دراسة الحب في نفس بطليها، وخاصة في نفس البطلة التي قاست الكثير بسبب حبها؛ وفلسفية لأن روسو ضمنها نظرته إلى الله والكون والإنسان. وتحكي الرواية قصة شاب يهيم بحب تلميذته، لكنها تتزوج سواه بناء على رغبة والدها، ويكتشف زوجها قصة حبها فيدعو العاشق القديم للإقامة زمناً بقرب العائلة. ولا تلبث الزوجة أن تتوفى بعد عيش هانئ بجوار الناس الذين أحبتهم وأحبوها.
لا تكمن قيمة «هيلوييز الجديدة» في أحداثها بل في مشاعر أشخاصها، وقد شغلت موضوعات الحب والفضيلة والطبيعة والتأمل فكر روسو طويلاً. والحب في رأيه طريق للسعادة، إن كان مشروطاً بالفضيلة. والفضيلة كما رآها روسو هي البراءة والطيبة الطبيعية والسلوك الذي يمليه العقل المفكر والصوت العلوي للضمير، وتتجلى بأروع صورها في الريف. وقد نجحت هذه الرواية في الدعوة إلى التنعم بالريف وبجمال طبيعته، ومهّدت بذلك الطريق للمدرسة الرومنسية [ر. الإبداعية].
نشر روسو عام 1762 الكتاب التربوي «إميل أو في التربية» Émile ou de l’Education في خمسة أجزاء، يتناول روسو في كل جزء منه مرحلة من مراحل عمر الإنسان. فيؤكد في الجزء الأول على ضرورة تربية الطفل من قبل والديه معاً، فالإنسان صالح بالفطرة، والتربية تقيه من المجتمع الذي قد يفسد هذه الطبيعة، ويرى أن من أخطاء التربية الحديثة استخدام الطرق والوسائل التي من شأنها إزعاج الطفل وتخويفه. وفي الجزء الثاني، عندما يصبح الطفل قابلاً للتعلم والمناقشة (4ـ12سنة)، يرى روسو أن تعليم الصدق والابتعاد عن حشو الذهن بالخرافات يشكلان أساس هذه المرحلة، كما يشدد على التربية البدنية التي جعلت القدماء أقوياء وأشداء، فيتصور بطله إميل في الثانية عشرة من عمره «قوياً مليئاً بالحيوية والنشاط خالي الفكر من الهموم والمشكلات». وفي الجزء الثالث يبدأ التعليم الإيجابي (12ـ15سنة)، ففكرة التعلم من الظواهر الطبيعية هي من مبادئ روسو التربوية، فتعلّم الجغرافية مثلاً مقرون بمشاهدة الطبيعة، كما أراد روسو أن يتعلم إميل، الذي قارب سن الرشد، مهنة مفيدة في الحياة تؤمن لـه رزقه فاختار لبطله مهنة النجارة، وقدم أمثولة تربوية رائدة هي مشاركة الأستاذ الطالبَ في العمل. ويركز الجزء الرابع الذي يتناول المرحلة الرابعة من عمر الإنسان (15-20سنة) على التربية الخلقية والدينية، فيرى روسو أنه لا يجوز مطلقاً غرس التعليم الديني عند مراهقين لم تنضج مداركهم بعد. أما الجزء الخامس فيبرز دور المرأة الفاضلة في التربية والأسرة والمجتمع.
بدأ روسو كتابه «إميل» بقوله: «كل شيء يخرج من يد خالق الكون خير، وكل شيء يخرج من يد الإنسان شر». وقد تحدث عن أهمية الإيمان بخالق الكون، وخلص إلى أن عدم التآلف بين معطيات الفلسفة والديانات، واختلاف آراء الفلاسفة وتباينها يدل على عجز العقل البشري عن التوصل إلى الحقيقة، وبالتالي يبقى الإنسان فريسة الشكوك. إلا أنه كان يؤمن بوجود إله أزلي لا يمكن معرفته، والإيمان بوجوده عقيدة مشتركة بين الديانات. وقد نظم هذا الإله الكون بنواميس ثابتة لا حاجة لأن يبحث الإنسان في أسرارها، فالعقل البشري قاصر عن إدراكها. وإن كانت الديانات المزدهرة في العالم كثيرة فإن اتباع الإنسان ديانة معينة خاضع للمحيط الذي يولد فيه. ونادى روسو بالدين الطبيعي La Religion naturelle، دين الفطرة الذي يولد عليه الإنسان. وقد جلب كتاب «إميل» لمؤلفه سخط الملحدين والمتدينين على حد سواء، ولم يمض شهر واحد على نشره في هولندا حتى أصدر برلمان باريس حكماً يقضي بحرقه وسجن كاتبه. أما أصدقاؤه فكانوا يؤيدون أفكاره دون أن يجرؤ أحد منهم على البوح بذلك علانية. وردّ روسو على هجوم رئيس أساقفة باريس قائلاً: «إني أتخذ الكتاب المقدس وعقلي القاعدتين الوحيدتين اللتين أبني على أساسهما عقيدتي، كما أنني أرفض سلطان البشر ولا أخضع لما يعتقدونه إلا بقدر ما أرى فيه من حقيقة».
كان روسو قد بدأ في الوقت ذاته كتابة «العقد الاجتماعي» (1762) Le Contrat social ، كنموذج للحياة السياسية، يحارب فيه الاستبداد مبيناً أن القوة لا تولّد الحق، ويشدد على الديمقراطية التي تمثل حكم الشعب بكامله أو بأكثريته. ورأى أنه لا يجوز أن تقوَّض الإرادة العامة في سبيل تحقيق أي هدف، مؤيداً عملية الانتخابات ومنادياً بالأخلاق والقيم. و«العقد الاجتماعي» هو اتفاق بين فريقين أو شعب بكامله، اتفاق يلزم الفرد بالتنازل عن حريته الطبيعية بملء إرادته للمجموعة، وبالتالي يدخل الحياة الاجتماعية وينتقل من الحياة الطبيعية إلى الحياة المتحضرة، وهذا الانتقال يحوِّل الفرد، في رأي روسو، من حيوان جاهل إلى حيوان عاقل. أما المجتمع فيخضع لصوت الإرادة العامة أو الأكثرية، والقانون وحده هو الذي يحدد الحرية. ورأى أنه لابد من تعديل القوانين أحياناً حسب المكان والزمان، فلكل بلد خصوصيته. ليس هذا فحسب، بل كان لروسو أيضاً فلسفة غايتها الأساسية سعادة الإنسان عن طريق إنماء عقله وتعليمه حقوقه وواجباته وتحريره من قيود القرون الوسطى وعبوديتها. وبهذا كرّس مبدأ سلطة الشعب المطلقة والمساواة بين المواطنين، وأبدع تياراً فكرياً كان المرجع لرجال الثورة الفرنسية.
كان روسو الملهم الأول للمصلحين التربويين في القرن التاسع عشر الذين وضعوا نظرياته موضع التطبيق، وكان لـه أثر فعال في تغيير بعض العادات والتقاليد السائدة في عصره، لكن يؤخذ عليه سلوكه الذي لايتطابق والأفكار التي نادى بها. فقد حارب التربية الشكلية التي تفتقر إلى الجانبين العاطفي والأخلاقي وركّز على أهمية تربية الطفل في المرحلة الأولى، وفي الوقت ذاته وضع أطفاله الخمسة في دار اللقطاء، وعلى الرغم من ندمه على ذلك لاحقاً. فمؤلفه «اعترافات» Les confessions، الذي بدأ كتابته عام 1765 وصدر الجزء الأول منه عام 1782 والثاني عام1789، يُعد تبريراً ودفاعاً عن شخصية ازدواجية، رآها النقاد متعالية وأنانية. ويعترف روسو بأنه يتأرجح بين الضعف والشجاعة وبين الانزلاق والفضيلة، ومع ذلك يفضل أن يكون رجلاً متناقضاً على أن يكون متعصباً منقاداً.
فقد روسو في جميع مواقفه مصداقيته، فلم يصدق أهل جنيف دفاعه عن البروتستنتية، فبقي بلا انتماء ديني ورحل إلى لندن عام 1766، وأصبح فريسة أوهام أدخلت الشك في نفسه إزاء أقرب أصدقائه، إذ تصور أنه مضطهد وملاحق من قبل الجميع، فقرر العودة إلى باريس عام 1767، ووجد أنه فقد اهتمام المجتمع الباريسي أيضاً. ومع ذلك أراد أن يترك للأجيال صورة نقية لا شائبة فيها، فكتب حوارات Dialogues ثلاثة أسماها «روسو قاضي جان جاك» (1772ـ1776) Rousseau juge de Jean-Jacques .
كانت فلسفة روسو على الصعيد النظري هادفة تعكس وجهة نظر فيلسوف خَبِر واقعاً اجتماعياً أراد إصلاحه. فإن كان الإنسان حراً ووحيداً عند ولادته، كما يرى الأديب الفيلسوف، وإن كان الإنسان البدائي أكثر سعادة من الإنسان الحضاري، لأن حياته تقتصر على أشياء بسيطة أولية، فإن هذا لا يعني أن روسو كان ينادي بالعودة إلى الحياة البدائية، فهو يعرف أنه أمر مستحيل، لكنه أراد أن يدفع الإنسان إلى اختيار حياة بسيطة فاضلة ترتبط بأخلاقية الفرد لا المجتمع. ويثور روسو، الذي عانى البؤس، على التقسيم غير العادل للثروات الذي يؤدي بالضرورة إلى انعدام المساواة بين الناس، وبالتالي إلى الظلم الذي يسبب ظهور أحاسيس الطمع والغيرة والخداع والبخل، وهي صفات تدمر الإنسان، وتولد صراعاً بين طبقتي المترفين والمحتاجين. وهو يرى أن أي عقد يبرم بينهما يكبّل الضعيف ويقوّي الظالم. وبالنتيجة يرى روسو أن البشرية بكاملها قد خضعت للبؤس والعبودية لصالح بعض الأفراد الذين جُبلت نفوسهم على الطمع. وقد نادى بقوانين تخدم الصالح العام، ودافع عن الحرية السياسية والمساواة الاجتماعية والاقتصادية، وأراد أن يُخرج النفس البشرية من صراعها بين الحقائق والأوهام، فكشف في اعترافاته عن مشاعره الدفينة بهدف إصلاح الذات ومحاسبتها. وقدم حلولاً للنفس التواقة للسعادة، فالطبيعة والحياة الريفية تقدمان حياة مريحة بعيدة عن منغصات المجتمع.
تدهورت حالة روسو الصحية وهو يكتب «أحلام يقظة لمتجول وحيد» Rêveries du promeneur solitaire (كُتبت بين عامي 1772ـ1776ونشرت عام1782) حاول فيها أن يكون مرآة لطبيعته الكامنة التي تآلفت وطبيعة الكون. وكتب مؤلفات أخرى اقل أهمية، منها أوبرا أو مسرحية غنائية ضاحكة بعنوان «عرّاف القرية» (1752)Le Devin du village وملهاة «نرسيس» (1752) Narcisse ، و«خطاب في أسباب وأسس عدم المساواة بين الناس» (1755) Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes هاجم فيه المجتمع والملكية الخاصة. وألف أيضاً «معجم الموسيقى» (1767) Dictionnaire de musique .
لم يكن الموت لروسو باعثاً على القلق، بل خير وراحة، ولاسيما أنه شعر بالإخفاق في حياته وعزاه لأعدائه، وتوفي في قصر إيرمنونفيل Ermenonville شمالي فرنسا حيث كان في ضيافة صديق لـه. ونُقلت رفاته عام 1794 إلى البانتيون ليرقد إلى جانب العظماء.