صفحة 1 من 1

الليبرالية المحدثة

مرسل: الأحد مايو 05, 2013 4:55 pm
بواسطة سليمان أحمد
وقد استخدمت كلمة ليبرالي لأول مرة على وجه التحديد عام 1810 عندما أطلقت على أحد الأحزاب السياسية في أسبانيا ، ويرى جون فيسبار أن اليونان القديمة عرفت بعض التنظيرات والممارسات التي يمكن اعتبارها إرهاصات مبكرة لليبرالية عبّر عنها كل من ديمقريطس ولوكريتيوس منذ القرن الخامس قبل الميلاد .أما جذور الليبرالية الحديثة التي تهم هذا المصطلح فترجع إلى الثورة الإنجليزية الثانية لعام 1688 التي أرست النزعة الدستورية والتسامح الديني والتوسع في النشاط التجاري .لهذا يعتبر من غير المأمون بل والمتعذر أيضاً وضع تعريف دقيق لهذا المصطلح الذي يمتد تاريخه في أوروبا الغربية لثلاثة قرون ونيف ظهرت خلالها أنماط متباينة من الليبرالية تبعاً للزمان والمكان والمرحلة والظروف التي سادت كلاً منها ، هذا علاوة على أنها مرت بانقسامات كثيرة داخلها شأنها في ذلك شأن غيرها من التيارات والمدارس الفكرية الأخرى .نادى الليبراليون في أوائل العصر الحديث – حوالي القرن السابع عشر – بالدفاع عن الحرية الفردية وخاصة حرية الاستثمار وإنشاء المشروعات التجارية والصناعية وحرية انتقال الأفراد من الريف إلى المدينة للعمل في المصانع الجديدة دون التقيد بالقواعد الصارمة التي كانت الطوائف الحرفية تفرضها في النظام الإقطاعي ، وكذلك تشجيع مرور التجارة بإلغاء المكوس والرسوم الباهظة بين الإقطاعيات ثم بين الدول القومية فيما بعد ، وقد لخصت الليبرالية كل هذه المطالب في مرحلة لاحقة في شعارها المعروف "دعه يعمل ، دعه يمر" بالنسبة لمصطلح المذهب الفردي أو النزعة الفردية والذي يستخدم أحياناً كمرادف لليبرالية فإنه يعني استقلال الفرد عن المجتمع والدولة ، أي الاعتراف بأن له حقوقاً مطلقة مستقلة عنهما وسابقة على وجود أي منهما وهي ما تسمى بحقوق الفرد الطبيعية .ويضع هذا المذهب الفرد في مواجهة الجماعة ويعطي الأولوية للمصالح الشخصية على المصالح الاجتماعية .وفي تناول آخر لهذه العلاقات يقول أربلاستر إن النزعة الفردية هي الجوهر الميتافيزيقي والوجودي لليبرالية ، ومن هذا الفرض تشتق الالتزامات الليبرالية المألوفة إزاء الحرية والتسامح والحقوق الفردية ، ولما كان الليبراليون لا يحتكرون الالتزام بهذه القيم ، فإن السمة المميزة لليبرالية في رأي كاتب آخر (باريخ) ليست الإيمان بهذه القيم ، وإنما الطريقة التي تمت بها إعادة ترتيبها وتعريفها في إطار المفهوم البرجوازي الفردي للإنسان .تحولت الليبرالية من فلسفة كانت توصف في البداية بأنها أيديولوجية الطبقة الوسطى ، إلى فسلفة مجتمع قومي مثله الأعلى رعاية مصالح الطبقات المالكة ، وفي الوقت الذي عملت فيه على الحفاظ على الحريات السياسية والمدنية التي تضمنها المذهب الفردي ، فإنها حرصت على تعديلها حتى تتمشى مع التغيرات المطردة للنظام الصناعي الحديث .. وستهتم هذه الدراسة اهتماماً خاصاً بالليبرالية في إنجلترا ليس فقط بصفتها مهد هذا التيار والدولة التي شهدت قمة التطور الصناعي في القرن التاسع عشر ، وإنما أيضاً لضعف الليبرالية النسبي في كل من ألمانيا وفرنسا ، ففي ألمانيا انحصرت الفلسفة الليبرالية في الأوساط الأكاديمية ، وسيطرت الرغبة في تحقيق الوحدة القومية على ما عداها لدى أغلبية الألمان خاصة بعد أن حلت فكرة بناء الوطن الأم لديهم محل الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي انهارت ، وفي فرنسا تكونت بروليتاريا صناعية ذات توجه اشتراكي راديكالي أكثر منه ليبرالي ،علاوة على النزعة الاستعلائية التي اتخذتها الليبرالية الفرنسية إزاء الجماهير الشعبية .تعرضت الليبرالية وكذلك المذهب الفردي لتفسيرات متعددة كما سبقت الإشارة نتيجة للتطورات التي مر بها النظام الرأسمالي ، فقد مرت الليبرالية – حتى عام 1920 تقريباً – بمرحلتين متميزتين يمكن إيجاز أهم سماتهما فيما يلي :- المرحلة الأولى : وسادها ما يُعرف بالراديكالية الفلسفية ، أي تلك المفاهيم المبكرة لمذهب المنفعة بقوانينه وسياساته المستمدة من مبدأ "أعظم سعادة لأكبر عدد" الذي وضعه الاقتصادي الإنجليزي جيريمي بنتام في كتابه "نبذة عن الحكم" عام 1776 وقصد به تقديم مبدأ أخلاقي جديد كمعيار للقيمة والتفرقة بين الخير والشر ، أما الجانب الاقتصادي لليبرالية فقد تمثل في نظرية الاقتصاد الكلاسيكي المستمدة من كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث عام 1776 أيضاً ، والتي أعاد شرحها بإسهاب دافيد ريكاردو في كتابه "الاقتصاد السياسي" عام 1817 ، وخلاصتها هي الحرية الاقتصادية غير المقيدة وتعني في التطبيق إضفاء القداسة على الملكية الفردية ، والأخذ بمبدأ "دعه يعمل ، دعه يمر" السابق ذكره ، تفترض تلك المفاهيم سوقاً تسودها المنافسة الحرة ويعمل فيها كل منتج وفقاً لما تمليه عليه مصلحته الشخصية ، لكن سعيه هذا يؤدي بالتبعية إلى خدمة مصالح الآخرين كما لو كان هذا يتم بفعل يد خفية على حد تعبير آدم سميث مما يؤدي إلى تحقيق الانسجام الاجتماعي .اتخذت هذه المفاهيم منحى آخر عندما استخلص ريكاردو نتائج بالغة الأهمية من قانوني السكان والريع كما أعلنهما مالتس وأتقن هو صياغتهما ، فملك الأرض بالنسبة له هو شخص طفيلي لأن الريع الذي يحصل عليه نتيجة احتكاره للأرض لا يسهم بشيء في الإنتاج ، ومن ثم فإن مصلحة مالك الأرض متعارضة دائماً مع مصلحة كل طبقة أخرى في المجتمع ، ثم أضاف ريكاردو إلى هذه النتائج أن الأجور لا يمكن أن ترتفع فوق حد الكفاف أو تهبط دونه إلا بصورة مؤقتة لأن السعر الطبيعي للعمل أي الأجر هو السعر الذي يمكّن العمال من العيش والتكاثر دون زيادة أو نقصان ، ولما كان الاقتصاد السياسي الإنجليزي أحد المصادر الثلاثة الرئيسية للماركسية اللينينية فقد استفاد ماركس فيما بعد من المفهوم السابق ليثبت تعارض المصالح بين الطبقة العاملة وبين الرأسماليين على أساس أن جزءاً من الإنتاج الذي يؤول إلى ربح الرأسمالي يتم اقتطاعه من أجور العمال ، وإذا كان مالك الأرض ينتزع ملكيته وسيطرته على وسائل الإنتاج يحصل أيضاً على أرباح هي فائض قيمة في رأس ماركس أو ريع اقتصادي كما يقول الفابيون .على الصعيد السياسي ، كانت مفاهيم الراديكالية الفلسفية للمذهب الفردي تعني في التطبيق امتناع الدولة نهائياً عن التدخل في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية ، واقتصار دورها على الدفاع ضد العدوان الخارجي وحفظ الأمن الداخلي وتنفيذ العقود التجارية والصناعية ، أي أنه ليس من صلاحياتها بأي حال دعم التعليم العام أو وضع سياسات للمحافظة على الصحة العامة أو تقديم أية مساعدات اقتصادية أو خيرية من أي نوع كان ، انطلاقاً من موقف المذهب الفردي بأن أي تدخل حكومي هو اعتداء على الحرية ، وقد سجلت هذه المفاهيم الفردية أكبر انتصاراتها التشريعية في إنجلترا قبيل منتصف القرن التاسع عشر وذلك بإلغاء قوانين القمح ، وانتهاج سياسة حرية التجارة عام 1846 ، والوسع الصناعي المتحرر من كل قيد .المرحلة الثانية : وتسمى الليبرالية المحدثة تتسم بأنها كانت بمثابة رد فعل على النتائج الاجتماعية المدمرة لحركة التصنيع غير المنظمة والطليقة من أية رقابة ، ويمكن الوقوف على الحالة التعسة التي عانت منها قطاعات واسعة من الشعب الإنجليزي في ظل الرأسمالية من التقرير السنوي الذي رفعته لجنة ملكية إلى البرلمان عام 1841 ، ووصفت فيه الأوضاع في مجال الصناعة بأنها وحشية غير إنسانية ، وأشارت بصفة خاصة إلى الأوضاع البشعة لعمال المناجم وتشغيل النساء والأطفال لساعات عمل طويلة وانعدام وسائل الأمان داخل المصانع وانهيار المستويين الصحي والخلقي بدرجة تبعث على الاشمئزاز ، وقد استجاب البرلمان للضغوط فبدأ يتدخل تدريجياً بوضع تشريعات تحد من ساعات العمل المرهقة وتخفف من الظروف الصعبة في المصانع وترفع الأجور المتدنية . يمثل تدخل البرلمان بإصداره هذه التشريعات اتجاهاً جديداً يتعارض مع مفاهيم الليبرالية المبكرة ، وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته بإقدام البرلمان الإنجليزي في نهاية الربع الثالث من القرن التاسع عشر على نبذ الاتجاه المغالي فيه للمذهب الفردي ، والأخذ بنوع من المذهب الجماعي وإصدار تشريع عن الرفاهية الاجتماعية .وكان لابد من هذه الإصلاحات لحماية أمن النظام الرأسمالي وضمان الاستقرار السياسي الذي تعرضت أسسه للاهتزاز نتيجة لفوضى الإنتاج التي تصاحب النظام الفردي الحر وعدم توافر الضمانات المتعددة اللازمة لحركة التصنيع الواسعة ، وقد تجلت مظاهر الخلل المبكرة للنظام في أول أزمة اقتصادية كبرى عام 1825 ، ثم أول انتفاضة عمالية منظمة يف مدينة لايدن بهولندا فيما بين أعوام 1838-1842 ، ولجوء عمال باريس إلى الصراع المسلح ضد البرجوازية عام 1838 ثم في عام 1871 ، وكذلك الثورات العارمة خلال أعوام 1830 ، 1848 ، وكلها مؤشرات اقتضت التحرك السريع لتخفيف الاستغلال الواقع على قطاعات واسعة من الشعب وامتصاص موجات الغضب والسخط بالإصلاحات الاجتماعية والسياسية المشار إليها ، ويمكن تلخيص الاعتبارات السابقة التي أفرزت الليبرالية المحدثة في النقاط التالية : نمو الوعي السياسي والاقتصادي بين العمال وتعاظم وجودهم طبقة مميزة فزاد الاهتمام بالأجور وساعات العمل وشروط العمالة وهي مشكلات يتطلب حلها تدخل البرلمان بالتشريع .سخط المزارعين بسبب سياسة حرية التجارة وما ترتب عليها من تضحية بمصالحهم في سبيل انتعاش التجارة والصناعة فاضطر البرلمان إلى التدخل لإعادة نوع من الحماية لحاصلاتهم .تصاعد أهمية الاعتبار الأخلاقي إذ تولدت مشاعر الاشمئزاز والنفور بعد كشف الفظائع والظروف المعيشية غير الإنسانية التي يعاني منها عمال الصناعة في النظام الرأسمالي .إفلاس القيم المبكرة للمذهب الفردي وسقوط مصداقيته ومفاهيمه القائمة على حجج المصلحة الذاتية والمنفعة والحرية الاقتصادية المطلقة .هكذا كان على الليبرالية أن تجدد ثوبها حتى تستطيع البقاء وتحتم على مفكريها إعادة تقويم واسعة لطبيعة الدولة ووظائفها ، ومفهوم الحرية ، والعلاقة بين الحقوق والالتزام القانوني ، أي إعادة تقويم كبيرة لعلاقة الفرد بالمجتمع والسلط السياسية بحثاً عن مفاهيم أكثر عدالة وإنسانية تتفق مع التيار السائد في علوم الاجتماع والأخلاق ، وقد اتخذت محاولات تحديث الليبرالية شكل موجتين عبرت عن الأولى الفلسفة السياسية لكل من جون ستيوارث مِل وهيربرت سبنسر رغم تعارضهما في بعض النواحي ، بينما عرفت الثانية باسم فلسفة المثاليين من رجال مدرسة أكسفورد التي عبرت عنها بصفة خاصة الفلسفة السياسية لتوماس غرين الذي ظلت آراؤه تحتفظ بتأثير كبير في الفترة ما بين عامي 1882 ، 1920 ، وخلافاً للشك التقليدي في الدولة الذي عبرت الليبرالية المبكرة المتطرفة في محاصرتها لصلاحيات الدولة ، فإن ليبرالية غرين أو الليبرالية المحدثة المتأثرة بهيغل والمدرسة المثالية الألمانية كانت قبولاً صريحاً بالدولة كمؤسسة إيجابية تضع التشريعات لدعم الحرية بمفهومها الليبرالي وخاصة حرية الملكية الفردية لكن مع وضع بعض القيود على التصرفات الرأسمالية التي أشاعت الغضب وعدم الاستقرار في المرحلة السابقة وهددت أمن واستقرار النظام ، ولهذا اعتبر غرين أن تفهم الحرية بأسلوب أوسع أفقاً وأكثر أخلاقية يبرر هذه القيود .لقد اتخذت فلسفة غرين السياسية المعبرة عن الليبرالية المحدثة منحى جديداً يختلف عن الليبرالية المبكرة في بعض الموضوعات الهامة وخاصة بالنسبة للفرد والمجتمع والحرية والحقوق ، فمن أقواله الهامة في هذا الشأن أنه "بدون المجتمع لا أفراد" ، وبنفس القدر من الصحة فإنه بدون أفراد .. لا يمكن أن يكون هناك هذا المجتمع الذي نعرفه" ، وقد وضعه هذا مباشرة في مواجهة مع الآراء السابقة لمدرسة الحقوق الطبيعية حيث عارض الفكرة التي سبق تناولها عند دراسة هوبز ولوك ، وهي أن الفرد يأتي إلى الحياة ومعه حقوق معينة لا يستمدها من المجتمع ، بينما يرى غرين ألاّ وجود للحقوق بمعزل عن المجتمع ، يقول في ذلك " لا يمكن أن يكون هناك حق بدون وعي أعضاء المجتمع بوجود مصلحة مشتركة" .لإيجاز ما سبق ، وخاصة من المنظور السياسي منذ ثورة 1688 ، فإن الملكية الدستورية التي ظهرت في إنجلترا أولاً بعد إصدار وثيقة الحقوق عام 1689 كانت حلاً وسطاً مع النظام الإقطاعي القديم وما تخلف عنه من ممارسات وامتيازات ، وفي ظل هذا الشكل من الحكم ، لم يكن يستطيع أن يدخل الانتخابات إلا كبار الملاك الذين يمتلكون حداً أدنى من زمام الأراضي أو يمكنهم دفع ضرائب معينة ، ثم ظهر تدريجياً نمط جمهورية دافعي الضرائب في أوروبا الذي كان ملائماً لتطور النظام الرأسمالي حيث تمت تصفية البقايا الشكلية الموروثة من الإقطاع والمتمثلة في النظام الملكي والطقوس والمفاهيم المرتبطة به ، علاوة على تمشي هذا الشكل مع الأساس الاقتصادي لتلك المرحلة ، واستجابة لردود الفعل القوية بعد الثورات التي اجتاحت القارة ، برزت الجمهورية الديمقراطية على أنقاض القيود المكبلة لحقوق الترشيح والانتخاب وتم الاعتراف بحق الاقتراع العام الشامل ، وقد دعت الضرورة إلى هذا الشكل من الحكم بن أن تفاقم الاستقطاب الاجتماعي ، وتهدئة خواطر وغضب الطبقات الكادحة وخاصة العمال كما سبقت إليه الإشارة أعلاه ، وقد نال هذا الشكل الأخير تأييد المدافعين عن المفهوم الليبرالي للنظام الرأسمالي بصفته أفضل تعبير آنذاك عن تقدم الوعي والمدنية والنزعة الإنسانية .لكن الأزمات المتعددة التي واجهها النظام الرأسمالي أدت مرة أخرى إلى تخلخل الأسس الفلسفية والاقتصادية السياسية التي تقوم عليها الليبرالية ، وإلى تعرضها للتفنيد سواء من منتقدي الرأسمالية أو المدافعين عنها تحت واجهات متباينة ، فمن الخارج ، تعرضت الليبرالية لتحديات قوية متتابعة من الأيديولوجيات الاشتراكية منذ منتصف القرن الماضي ، بينما تعرضت من الداخل ومن بين صفوفها ، لتمرد تيارات متعددة من اليمين الرأسمالي المتطرف الذي اتخذ أشكالاً متعددة بدأت بالفاشية والنازية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية ثم من جانب الليبرتالية للعودة إلى المفاهيم المبكرة للرأسمالية من حيث الحد من تدخل الحكومة لصالح جماهير الشعب ، وإطلاق المبادرة الفردية لرأس المال من كل قيد ، وإلغاء الملكيات العامة ووضعها تحت تصرف رأس المال الخاص فيما سمي بالتخصيص ، ويعرف هذا التيار المعاصر في التطبيق باسم الريغانية في الولايات المتحدة وبالتاتشرية في أوروبا والعالم الثالث .