منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#62524
تجتمع في الكتابة السياسية لأبي الحسن الماوردي صورة الفقيه ومنهجه في المعالجة والتحليل، وصورة المفكر الأشعري وطريقته في النظر والاستدلال . فالماوردي إذن يقدم لنا النموذج الكامل لما يمكن أن ننعته، بحق، الخطاب السياسي الفقهي كما أنه يصور لنا ، في الوقت ذاته ، ما بلغه النظر السياسي في الإسلام عامة وما انتهت إليه النظرية الأشعرية من تطور خاصة . ولكن إذا كانت شخصية "الفقيه " موضوع إجماع وموافقة، من طرف دارسي الماوردي وقارئيه، فإن صورة المفكر " الأشعري" هي مثار جدال واعتراض. فهذا صاحب " تاريخ بغداد "، وهو من تلاميذ الماوردي المباشرين بل وربما أقدم من ترجم له يصفه بأنه " كان من وجوه الفقهاء الشافعيين وله تصانيف [o1] عدة في أصول الفقه وفروعه ، وفي غير ذلك [o2] "( 1) . وهؤلاء فقهاء المالكية في المغرب والأندلس، وهم أكثر ما يكونون ابتعادا عن الشافعية والأخد بها، قد درجوا ، خلال قرون عديدة ، متصلة، على اعتباره أحد كبار الفقهاء بإطلاق وساروا على اعتبار " الأحكام السلطانية " عمدة في القضايا التي تتعلق بأحكام الأرض وقوانينها وكذا بأحكام الحسبة وما يتعلق بها. ولكن صاحب " طبقات الشافعية "، إذ يفرد للماوردي ترجمة مستفيضة ويذكر ما يفيد أنه كان إماما في المذهب الشافعي في عصره يجد في بعض أقوال الفقهية وآرائه حرجا يتعذر عنه، فهو يدعو إلى تبديد " التهمة" التي ألحقها البعض به فيكتب " ثم هو ليس معتزليا مطلقا فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن، كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} وغير ذلك، ويوافقهم في القدر، وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديما "(2) . ومغزى هذا الاعتذار، وكما هوبين،هو القيام بنوع من تبرئة الذمة والدفاع عن شرعية الصدارة للفقيه الشافعي في الدائرة الفقهية السنية - وهذا مالا يستقيم مع ظهور علامات انتساب ما إلى مذهب الاعتزال. والحق أن الرجل كان أبعد ما يكون عن الاعتزال في آرائه التشريعية، على نحو ما سنرى ذلك ، بل [o3] إنه كان أشعري الفكر والعقيدة - وهذه مسألة لها أهميتها القصوى بالنسبة لفهم فكر الماوردي السياسي بقدر ما لها قيمتها بالنسبة لإدراك معنى النظر السياسي السني وتطوره في الإسلام . ولكن، قبل أن نبسط القول في هذه القضية بعض البسط ، لابد لنا من وقفة قصيرة نوضح فيها ما نراه من صلة بين الفقه والسياسة في الإسلام وأخرى عندما نعده خصائص عامة للنظر السياسي الأشعري، وما نرى فيه مفاتيح تمكننا من ولوج فكر الماوردي وعلمه الفسيح في السياسة والأخلاق.

-1 الفقه والسياسة

لأبي حامد الغزالي تمييز شهير بين فن الفقه ونظر الفقيه من جهة أولى، وفن السلوك أو المعاملة وعمل المرشد الروحي من جهة ثانية - ومسائل الدين ، ما تعلق منها بالعبادات والعادات على السواء، تكون موضعا للنظرين ومدعاة لموقف كل من الفقيه والمرشد. فالصلاة مثلا سلوك تعبدي وتعبير عن الصلة التي تقوم بين المؤمن وخالقه فهي تستدعي ، لذلك كله، ما تستدعيه هذه المناجاة من خشوع وذل، وتتطلب ما تتطلبه من حضور قلب وصدق باطن . ولكن الصلاة، مع ذلك، مجموعة حركات وأعمال تضبطها جملة من القواعد والأحكام الدقيقة التي تكون في مراعاتها صحتها وفي الإخلال بها فسادها ولا مدخل في ذلك كله لقب أو باطن . ذلك مجال فن الفقه ونظر الفقيه. والفقيه يفتي بالصحة في صلاة المصلى متى أتى هذا الأخير" بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلا في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولا بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير" . وبالتالي فإن نظر الفقيه ، هو في الأحوال التعبدية كلها، " مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة (...) لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة" (3) فهو، في هذا الحال، يمثل النقيض الموضوعي للمذهب الروحي. الفقيه، بطبيعة فنه، أوثق ما يكون صلة بعالم الدنيا ونظره يتعلق بسلوك الناس وما ينشأ بينهم من نزاع، بحكم ما يحركهم من غرائز وأهواء، وما يقوم بينهم من خصومات، بسبب ما يدفع إليه التنافس والاختلاف في المصالح. وبالجملة فإن الفقيه، عند الغزالي، هو " العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات" مثلما كان "حاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة"(4) . ولو شئنا أن نجد لهذه الصلة التي تقوم بين الفقه والسياسة معنى آخر يعبر عنها، في سياق الفكر السياسي في الإسلام، لقلنا عن تلك الصلة إنها فن التدبير : تدبير شؤون الخلق، وتدبير أمور الرئاسة والسلطة. ذلك ما نجده في كتابات ابن المقفع وابن قتيبة والثعالبي وغيرهم ممن نظروا في الآداب والنصائح السلطانية . ولكن إذا كانت هذه النصوص الشهيرة تشير، هي وغيرها مما لم نذكره، إلى أطور قد مر بها مصطلح " التدبير" فإن توضيح المعنى عند الفقيه يفيدنا فيه أن نقف، وقفة إيجلز واختصار، عند المعنى الذي يفيده " التدبير " عند فلاسفة الإسلام.

لا يحسن " تدبير الأمة" عند أبي نصر الفارابي إلا متى حسن تدبير أمور " الرئاسة": فالرئاسة الفاضلة شرط في الاجتماع الفاضل وفي الأمة الفاضلة. ولذلك فإن الوصول إلى "المدينة الفاضلة " ، أي ذلك الاجتماع البشري الأمثل الذي تعم فيه العدالة وتتحقق السعادة وتهيمن الحكمة والفضيلة، لايحصل إلا لمن أدرك نظام العالم وحسن تدبيره من جهة أولى، ووقع على الكيفية التي قدربها " مدبر العالم" على الحصول على الوحدة وإن بدت الكثرة، وعلى التوافق والانسجام وإن بدا النفور والاختلاف. ذلك أن الاجتماع البشري لا يكون فاضلا حقا إلا إذا كان على غرار نظام العالم وحسنه، وأن الرئيس لايكون فاضلا حقا إلا متى أمكنه أن يتأسى بعمل "مدبر العالم". والنتيجة المنطقية لهذا النحو من النظر إلى الأمور هي، كما يعلم قراء الفاربي، لزوم الاقتران بين الفلسفة والسياسة أو بين الفلسفة والرئاسة: " يلزم أن يكون الرئيس الأول للمدينة الفاضلة قد عرف الفلسفة النظرية على التمام لأنه لا يمكن أن يقف على شيء مما في العالم من تدبير الله تعالى حتى يتأسى به إلا من هناك"(5) الفلسفة شرط ضروري وكافي لاقتدار " مدبر الأمة ( وهو الرئيس الفاضل) على اكتناء سر عمل " مدبر العالم" ( وهو الله) من جهة أولى، ولاستطاعة إقامة تناظر بين " تدبير العالم" ( وهو الكون في تعدده واختلاف موجوداته وكثرتها) و" تدبير الأمة" ( علامة الاجتماع البشري والحاصل عنه) . وهكذا فإن التدبير لا يكون مجرد اقتران بين الفلسفة والسياسة بل هو تداخل وتفاعل ، وحضور قوي حاسم ومهيمن للفلسفة في السياسة.

نعتقد أن معنى التدبير في الفقه وعند الفقيه يصبح أكثر وضوحا وجلاء بالمقارنة مع المعنى الذي يتخذه في الفلسفة السياسية وعند الفيلسوف في الإسلام.ولعل الفرق يكون أكثر ما يكون جلاء في المقارنة بين من كان يريد أن يأتسي بالإله ويجري في الأمة ما يجريه في العالم، وبين من كان منشغلا بالمناحي العملية التطبيقية لأحكام الشريعة ومقتضياتها. فحيث كان نظر الفيلسوف يتعلق بالتأمل والتفكير كان نظر الفقيه ينصب على التشريع والتقنين والعمل ، وحيث كان الفيلسوف ، في " المدينة الفاضلة "، لا يرى مكانا في الرئاسة لغيره بل ولا يفهم كيف تفصل الفلسفة عن الرئاسة، "كان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم(6)

-2الفكر السياسي الأشعري

يشير ظهور المذهب الأشعري في القرن الهجري الرابع ، وتطوره في القرن الهجري الموالي على الخصوص، إلى حصول جملة من التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية في بلاد المشرق العربي وهي التحولات التي كانت الأشعرية تعبيرا عنها. وإذا كان الإسهاب في الحديث عن هذه التحولات مما لا يحتمله المقام فإن الإشارة الخفيفة إلى ذلك، على النحو الضروري لفهم الأشعرية، مما يستعيد حسن الفهم مع ذلك. ولعل ما نريد قوله في هذه الإشارة هو أن الأشعرية لا يمكن تحديدها في معارضتها بالأقوال الاعتزالية وأنه لا يكفي في تفسير نشأتها أن نرجع إلى رواية أبي الحسن الأشعري الشهيرة في انفصاله عن مذهب الجبائي، الزعيم المعتزلي، وسعيه لتأسيس قول جديد في الذات والصفات، والإرادة والأفعال البشرية وما إلى ذلك. ذلك أنه مهما يكن من شأن التعارض الموجود بين الأشعرية والاعتزال، ومهما يكن من الاختلاف بينهما في القضايا الكلامية المحورية، أحيانا كثيرة، فإن الاختلاف الحقيقي والعميق أو التناقض الرئيسي، كما يقال في اللغة السياسية اليوم، هو ذلك الذي يقوم بين الأشعرية وبين الشيعة الباطنية . وهذا ما أدركه الغزالي وعبر عنه في جملة من كتبه الشـهيرة مثل "فضائح الباطنية"، و "القسطاس المستقيم"، "فيصل التفرقةبين الإسلام والزندقة "، فضلا عن" الاقتصاد في الاعتقاد" و" مقدمات تهافت الفلاسفة". وذلك ما بينه أبو منصور البغدادي في " الفرق بين الفرق ". فإذا كان القول يصدق بأن الأشياء تتوضح بأضدادها، فإن ذلك يصدق في حق الأشعرية ، متى عارضناها بالأقاويل الباطنية. ولكن هذا التناقض والتصارع الذي قام بين الفريقين ( ولا يزال قائما حتى اليوم ) إنما هو تعبير عن تاريخ طويل وحافل من الصراع بين أهل السنة وخصومهم من جهة أولى وبين الخلافة العباسية وخصومها من جهة ثانية. فالخلفاء العباسيون، ابتداء من المأمون، وانتهاء إلى القادر بالله عمدوا، تحت ضغط الأحداث السياسية، إلى اتخاذ عدد من المواقف السياسية والإعلان عن عدد من العقائد (أو "السياسات الدينية" كما يدعوها أحد المؤرخين المختصين في التاريخ العباسي)- وقد اختلفت تلك المواقف، في زمان قوة الخلافة العباسية، بين تبني الاعتزال مذهبا رسميا للدولة( وتلك هي السياسة التي سار عليها كل من المأمون، والواثق ، والمعتصم)، ثم الأخد بالمذهب المناقض له حقيقة، وهو المذهب الحنبلي (وذلك ما قام به المتوكل بالفعل، فوصف المؤرخون عمله بأنه " انقلاب سني"). وأخيرا عمدت الخلافة العباسية، وقد انتعشت بل وابتعتث بعثا جديدا في اأيام القادر، إلى اعتناق العقيدة التي أعلنها أبو الحسن الأشعري وعمل على تطويرها، بعد ذلك، ثلة من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة الذين تم على يدهم تطوير المذهب الأشعري في شتى مناحية الكلامية، والأصولية، والأخلاقية، والسياسية -( والماوردي في عدادهم بطبيعة الحال) . ظلت الأشعرية، وكما هو طبيعي وضروري في المذاهب السنية جميعا، تأخذ عن الحنبلية والحنابلة بشرط غير يسير، وظل زعماء الحنابلة يعتبرون ما أقره الإمام أحمد في العقائد أساسا في الاعتقاد وعمادا للرأي المختار في القضايا الكلامية، ولكن الأشعرية استطاعت أن تتمثل وتستوعب من "علوم الأوائل" شيئا غير يسير، وأن تقتبس، في مجال الأخلاق والسياسة، ما اغتنت به مما انتهى إلى الثقافة العربية الإسلامية من آداب الفرس، وحكمة الهند، ومنطق اليونان. وبالتالي فقد كانت الأشعرية تعبر عن ثلاثة حقائق. أولاها هي ما انتهى إليه التطور الداخلي للمذهب السني وقد اغتنى وتطور بفعل الصراعات السياسية مع الشيعة الباطنية. فالأشعرية هي التعبير الأمثل عن أهل السنة ابتداء من القرن الهجري الرابع، وذلك بفضل ما اقتدرت على احتوائه من أقوالهم في العقيدة والسلوك. وثانيهما ، وهي صادرة عن الأولى ونتيجة لها ، هي أن الأشعرية كمذهب فكري كان له قول واضح في الكلام ، وآخر في أصول الفقه، وثالث في الأخلاق، ورابع في السياسة، وخامس في التصوف... وهكذا ، إنما هي تعبير عن الثقافة العربية الإسلامية في المنظور السني . وثالث هذه الحقائق ، هي أن الأشعرية أمكنها أن تقدم للخلافة العباسية الصيغة الإديولوجية المناسبة لها، والشكل التعبيري الملائم لطبيعة تطور الدولة في الإسلام وما انتهى إليه البحث عن الصيغة الملائمة في السلطة والحكم . ومن مجمل هذه الحقائق نخلص إلى أن الصلة بين الأشعري والسياسة تمتد لأكثر من سبب وتقوم لأكثر من علة وطريق، وإذ تبين هذا علينا الآن أن نتوقف ، برهة أخرى، فنجمل القول في مبادئ النظر السياسي الأشعري وكلياته.

والمبادئ العامة للفكر السياسي عند الأشاعرة تتقرر في أصول الدين فهو "العلم الكلي من العلوم الدينية" وهو "المتكلف بإقبات العلوم الدينية كلها" كما يقول زعيم الأشاعرة أبو حامد الغزالي في مقدمة "المستصفى" .ووجه الصلة بين الدين والفكر السياسي هو ما تعكسه الصلة بين الفقه والسياسة على نحو ما أشرنا إليه أعلاه، وهو ما يعبر عنه عموم الأشاعرة في قولهم عن الإمامة العظمى (أو الخلافة) إنها خلافة النبوة في أمور الدين والدنيا معا. وأولى الكليات أو المبادئ العامة التي يقررها علم الكلام الأشعري هي أن معرفة الله إذا كانت تحصل، حقيقة، بالفعل إلا أنها لا تجب إلا بالشرع. فمعرفة الله لا تحصل إلا عن طريق النظر والاستلال ولذلك فإن تلك المعرفة تفيد القطع وتنفي كل احتمال وظن ، والأشاعرة يوافقون كلا من المعتولة والحنابلة في القول، بأن " النظر المؤدي إلى معرفو الله هو أول ما أوجبه الله على العاقل ". ولكن الوجوب الشرعي وما يتبعه من عمل وواجبات لا يكون إلا مع ورود الشرائع وعلى النحو الواضح الذي يقره القرآن الكريم{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ( الإسراء: 15) . ولذلك فإن القول بالحسن والقبح العقليين قول لا يتوافق مع العقيدة الأشعرية . والتأويل السياسي لهذا المبدأ الكلي عند الأشاعرة هو أن الإمامة ، وإن كان العقل يقر بوجوبها، إلا أن مدرك وجوبها الحقيقي هو الشرع " قد وردت الشريعة بأحكام لا يتولاها إلا إمام أو حاكم من قبله كإقامة الحدود على الأحرار..." وحقيقة الإمامة أنها " شريعة من الشرائع يعلم جواز ورد التعبد بها بالعقل ويعلم وجوبها بالسمع" (7) وثاني الكليات التي تتقرر في أصول الدين هي اعتبار ان ما يصله إلينا من خبر متواثر يفيد فيها المعرفة القطعية التي لا سبيل إلى التشكك فيها. إذ بالخبر المتواتر يتقرر المنقول وتثبت أحكام الشريعة. وعن طريق الخبر المتواثر والقول بسلطته العملية المطلقة يتقرر، في أصول الفقه وجوب القول بالإجماع والعمل بموجب أحكامه في المرتبة الثالثة مباشرة، بعد الكتابة والسنة- وأما التأويل العملي للقول بأن الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي ويوجب العمل به بالتالي فهو ما نجدع لاحقا من أن القوانين السياسية "والأحكام السلطانية " تقوم كلها في الرجوع إلى سلطة الإجماع.

فالأشعرية تحكم سلطة الخبر المتواتر وتقول، تبعا لذلك، بقوة الإجماع وحجيته حين تذهب إلى القول بأن نصبة الإمام تكون بالاختيار الذي يحصل عن طريق الإجماع . وكل الحجج التي تسعى بها إلى إبطال آراء الشيعة ( الباطنية خصوصا) في القول بالعهد أو الوصية، عهد الإمام إلى شخص آخر من بعده( وبالتالي إبطال القول بالاختيار) ، وكذا آراؤها في القول بعصمة الإمام، هي في الواقع حجج يؤسسها، من الناحية المنطقية، ما يفيده العمل بموجب مبدأ الإجماع. والأشعرية عندما تعرض لآرائها في باقي العناصر التي تتكون منها نظرية الإمامة ( جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، منع قيام أكثر من إمام واحد في الوقت الواحد، القول بصحة خلافة الخلفاء بعد النبي حسب الترتيب الذي وردوا فيه) فهي تقوم في الواقع بقراءة لتاريخ الإسلام قراءة يحكمها مبدأ الاجماع وسلطته من جهة أولى كما أنها تمارس، في المستوى النظري الكلي، مستوى " العلوم أن الأعلى في الرتبة" أو علم أصول الدين. ولذلك فإنه لأمر طبيعي أن يجد الدارس اليوم أن كبار من عرضوا للمسألة السياسية في المذهب الأشعري، بل في المذاهب السنية إجمالا، كانوا من كبار المتكلمين ( الأشعري، الباقلاني، البغدادي).

نعم، كان من ذكرنا من كبار المتكلمين حقا ولكن هذا الأمر كانت له نتيجته الحتمية وهي أن معالجة المسألة لم تمكن من مجاوزة دائرة الكلام والجدل، تقرير المبادئ والكليات العامة التي تلزم الفكرة السياسية، على نحو ما نبهنا عليه في الفقرة السابقة. اعتبار مبحث الإمامة قسما من أقسام علوم الدين، على نحو ما فعله أبو منصور البغدادي إذ اعتبرها أصلا من أصول الدين، وعلى نحو ما صنعه أبو بكر الباقلاني حيث جعل من القول في الإمامة خاتمة لكتابه الشهير " التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة"

وأخيرا فإن القول في الإمامة ، عن طريق إبطال أقوال الباطنية وإظهار فساد حججها، هو السبيل لا إلى الإعلان عن المعتقد السياسي الأشعري بل إنه الإبانة عن العقيدة الأشعرية برمتها من حيث هي تتحدد في صور الضد والخصم المطلق على نحو ما سيحسن الغزالي الإبانة عنه زمانا بعد ذلك . ولهذه الأسباب كلها فإن التفكير السياسي الأشعري لم يتمكن من مجاوزة دائرة الكلام وما يستلزمه من جدل وخصومة من جهة أولى، وما يقف به عند حدود المطلقات والكليات من جهة ثانية وبالتالي فقد ظل يدور حول نفسه ولم يقدر على تحقيق قفزة نوعية أو الخطو خطوة إيجابية إلى الأمام . ولكي يخلص من إسار الخصومة والجدل كلن لابد له من أن يخوض مغامرة التشريع والتقنين. كان لابد للنظر السياسي المجرد أن يلتقي مع عمل الفقه والتشريع، وكان لابد للمفكر السياسي أن يزاوج ، في الشخص الواحد، بين الفقيه الشرع والمفكر. وهذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الفكر الأشعري السياسي، لابل من تاريخ النظر السياسي في الإسلام هي التي يعبر عنها فقيهنا الشافعي : أبو الحسن الماوردي . ولكن هذا القول لا يفيد، بالضرورة ، انتساب صاحب" الأحكامالسلطانية" إلى المذهب الأشعري ولذلك فإنه لابد لنا من وقفة أخرى نفحص فيها بحسب ما التزمنا، ما يكشف أشعرية الفقيه الشافعي وكل ذلك في الواقع مزيد من التأهب والاستيعداد لمعرفة الرجل وقراءة فكره.

نقرأ في كتاب " أدب الدنيا والدين"، على وجه الخصوص، أقوال وشهادات عدة تفيد كلها صدور الفقيه الشافعي عن المبادئ الكلية للمذهب الأشعري. منها، أولا قوله في العقل إنه " هو المدرك للأشياء على ماهي عليه من حقائقب المعنى "، وهو ما تقول به الأشعرية جميعا وما يدعم رأيها في أن العلم هو انكشاف المعلوم بحسب ما هو عليه. وكذا قوله، من بين أقوال عديدة في الواقع، بأن " العقل هو العلم بالمدركات الضرورية". وقد لا تكون لنا حاجة إلى الوقوف عند تمييزه في العقل بين " العقل الغريزي"، واعتباره هو العقل الحقيقي والأساسي، و "العقل المكتسب"، واعتباره نتيجة للأول وثمرة له لمزيد من تبين ذلك في حين أننا نورد له قولة نعتبرها حاسمة، حيث يوضح مغزى العلاقات بين المعقول والمنقول أو العقل والشرع: "فالعقل متبوع فيما لا يمنع منه الشرع، والشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل، لأن الشرع لا يرد بما يمنع منه القل، والعقل لا يتبع فيما يمنع منه الشرع،(8) ولربما كان هذا القول من أفضل ما يعبر عن الموقف الأشعري في الصلة بين العقل والنقل . ولو شئنا أن نتوسع في المسألة لعرضنا لرأيه في النبوة ولدللنا على مطابقةه لرأي الأشعرية ومخالفته البنية لقول المعتزلة، ولكننا نكتفي بإحالة القارئ إلى كتابه" أعلام النبوة" وشروحه، على وجه الخصوص، للوجوه التي يثبت بها إعجاز القرآن. ثم إننا نذكر له رأيا آخر يبعده عن دائرة الاعتزال والأخذ بما يعد من مبادئه الكبرى وهو إفتاؤه، عند التشريع لولاته القضاء، بمنع هذه الولاية عن من لم يقل بخبر الآحاد . والحق أن أقوى الأدلة على أشعرية الماوردي أولا، ثم على إسهامه الخصب في تطور النظرية الأشعرية والدفع بها نحو ما حقق لها وفيها نقلة نوعية كبرى ثانيا، هو ما ينهى إليه من اقتناع كامل بذلك حين التعرف على الماوردي معلم السلطان، ثم الماوردي الفقيه المشرع.

-3 الماوردي معلم السلطان

قول الغزالي إن " الفقيه هو العالم بقانون السياسة" يسلمه، ضرورة إلى الاستنتاج بأن " الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم في الدنيا"، لما كان الماوردي قد سبق إلى تقنينه في مؤلفاته التي تدور على قواعد السياسة والعمران وآداب الرئاسة ونذكر ثلاثة منها هي: "نصيحة الملوك"، " تسهيل النظر وتعجيل الظفر" وقد تم تحقيقهما ونشرهما في السنوات الأخيرة فقط)، وأخيرا كتاب " أدب الدنيا والدين" ( وقد ظفر بنشرة محققة منذ الشطر الأخير من الخمسينات). وأول ما يستلفت نظر القارئ هو أن أبا الحسن لا يعتبر ما يكتبه في هذا الباب من كتب النصائح والآداب التي يكون الغرض منها خدمة مصالح الدنيا، أو مجرد هذه الخدمة فحسب. وإنما النصيحة للملوك واجب ديني لأن صلاح العالم، وصلاح الأمة دينها ودنياها، يكون في صلاح الملوك. فهو يكتب : "أردنا أن نجعل كتابنا هذا كتابا دينيا، نريهم فيه مصالح معادهم ومعاشهم ونظام ممالكهم وأحوالهم، بكتاب الله رب العالمين، وسنن الرسول، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، والملوك الأولين، ونحذرهم سوء المصرع ولؤم الميتة وقبح الأحدوثة واستحقاق العقوبة عاجلا وآجلا(9) . والكتاب المقصود بهذا القول هو كتاب " نصيحة الملوك". وأنت عندما تتفحص فهرست الكتاب فإنك تجد فيه بابا يعرض فيه صاحبه للأسباب التي يكون من جهتها الفساد في الملك والممالك، وتجد آخر يتعلق بسياسة الخاصة من الأهل والوالد والخدم والجند، وآخر ينصب على توضيح قوانين سياسة العالمة وتدبير المملكة، وغيره يتعلق بتدبير الأموال، وغيره بتدبير الأعداء، فضلا عن فصول في الحديث عن سياسة النفس ورياضها. فإذا تأملت ما تقرؤه في تلك الفصول، أو في بعضها، فإنك لتجد ذكرا للفرس، ولليونان، وحديثا عن " عهد أردشير" وكتاب" كليلة ودمنة"، وبالتالي فأنت تجد التماسا للحكمة والنوعضة في تواريخ الأمم والشعوب المختلفة، من ملة الإسلام حينا، ومن خارج تلك الملة أحيانا كثيرة. وبالتالي فإنك تجد ذكرا واستعادة لما يمكن أن تقرأه في " مرايا الأمراء" وكتب النصيحة دون أن يعدها أصحابها كتبا في الدين، ومصنفات في غير ما وضعت لهمن أهداف للسلطان المسلم أن ينتفع بها كما لغيره من ملوك وحكام أهل الملل المختلفة أن يستفيدا منه، فعلى أي نحو يكون الكتاب هذا كتابا دينيا؟

لا يكفي ، في الإجابة عن هذا السؤال، أن يقول المرء إن الداعي إلى ذلك هو ما يدعو إليه الدين نفسه من وجوب إسداء النصح للملك أو الحاكم فقد لا تعدو النصيحة الدينية التذكر بأوامر الشريعة ونواحيها والتنمية على الأحداث النبوية التي تحث على العدل والإشارة إلى مواطن الأحاديث الأخرى التي تعلن ما يحق للسلطان العادل أن يطمح فيه من حسن ثواب. بل إن النصيحة، على النحو الذي هي فيه أن بأتي لدرس البشرية السابقة والأمم الخالية والإفادة من تجاربها، ليس من الشرط فيها أن تأتي على لسان الفقيه أو البصير بأمور الدين، إذ لاربما أجادها المؤرخون والفلاسفة والأدباء على وجه لا يقدر عليه الفقهاء، بل هذه أحاديث الفقهاء في النصيحة تفيض بروايات التاريخ والشعر والحكم. وإذن فلابد من التماس الجواب الملائم في أسباب أخرى قد تكون أقل ظهورا. فلننظر في الأمر عن قرب ولننقب ونفحص فيما يمكن أن يكون ثاويا وراء آداب السلوك والنصائح، ومتخفيا وراء الموعظ والعبر.

يقوم الفقيه بقراءة للتاريخ يستعرض فيها " تجارب الأمم" وينصت إلى أخبار الحكماء والزهاد والملوك الكبار، ولكنه يقرأبعين الفقيه بطبيعة الأمر وينصت بأذن تعودت أن تتصيد من الأخبار والحكايات ما كان ذا فائدة عملية ومباشرة عنده، كما أن قراءة الفقيه تحركها ضوابط الفقه وقوانينه، وتوجهها الغائية التي يرومها فنه. وإن تكن الغائية في الفقه هي، على حد تعبير الغزالي، " معرفة طرق السياسة والحراسة" فإن الآلية التي توجه عمل الفقيه هي ما اعتاد سمعه أن يلتقطه وما ألفت عينه أن تلحظه ، وهي العمل بموجب مبدأ "القياس" : قياس الأشباه والنظائر، قياس ما كان مجهولا على ما كان مألوفا معروفا، والقياس هنا يعمل، بطبيعة الحال، في مجال معلوم هو عالم السياسة والأمور المصلحية. والماوردي يعبر عن معنى" القياس" وممارسته في هذا المجال أفضل تعبير إذ يقول : " علم الدين أصله وطريقه الاستدلال بالشاهد على الغائب، وبالمتفق علسيه على المختلف فيه، وجهه استخراج الرأي هو ما كان علم السياسة على الحقيقة"(10) . القياس هو " استخراج الرأي"، هو ما كان نتيجة نظر وتدبر فهو الثمرة التي يجنيها الناظر وله أن يعمل بها. وللنظر منهج معلوم وقواعدمحددة يضبطها المبدأ الكلي العام مبدأ" الاستدلال بالمشاهد على الغائب": والمستدل عليه، هنا، هو ما كان يعتبر واقعة جديدة أو " نازلة" في لغة الفقعاء مما لم يرد فيه نص صريح من كتاب أو سنة أو يقم عليه إجماع، والمستدل به، هنا بطبيعة الحال، هو ما كان يعتبر قديما مألوفا " جرت العادة" ( والعادة مفهوم أصولي أشعري) عليه فكان " متفقا عليه" أو " مجمعا عليه" . والشاهد ( أو عالم الشهادة، أو " العالم المعلوم" ، أو الواقع " المتفق عليه"، أو التي أجرى الله العادة بها- فهذه المسميات تفيد كلها المعنى الواحد)، في مجال النصيحة والبحث عن الموعضة والعبرة، هو ما يمكن أن ندعوه ب" التاريخ الوعظي" أي التاريخ والبحث البشري وقد أصبح مجالا للنظر وموضوعا للعبرة. هو إذن ما قام به الملوك الكبار، الذين كان لحكمهم شأن ولدولتهم تمكين وقوة ، فهم إذن أفضل القدوة وأحسن المثل. والغائب(أو " النازلة"، أو المختلف فيه...) هو ما يعاينه الأمير والحاكم من جديد مستمر في شؤون الرياسة وتدبير أمور الخلق. وحيث كان "استخراج الرأي" على هذا النحو هو مما يطيقه الفقيه وحده، متى أمكنه أن بفحص "تجارب الأمم" ويطلع على حدوث الدول وزوالها ، فإن ما نصير إليه مع الماوردي هو القول بأن " نصيحة الملوك " كتاب ديني ( من حيث هو ممارسة للفقه في إرشاد عملي إلى مكامن " المصلحة " ومواطنها، ولكنه إرشاد لا يملكه إلا من أخذ بناصية القياس وملك زمام أمره كاملا.

إذا كنا، بهذه الإشارات إلى " القياس " واستخراج الرأي و بهذا الشرح المقتضب لمبدأ " الاستدلال بالمشاهد على الغائب" قد تبينا بعض التبين مغزى القراءة التي يقوم بها الفقيه الشافعي ولما قلنا عنه أعلاه إنه " التاريخ الوعظي" فإن علينا، أن نتبين نتيجة تلك القراءة. وإذا شئنا فلنقل في تعبير أخر: الآن وقد وفهمنا " كيف القراءة" فإنه يلزمنا أن نقطف " الثمرة" التي نخرج بها من تلك القراءة .

ينتهي الماوردي من قراءته للتاريخ الوعظي إلى استخلاص مايرىأنه "قواعد الملك" . وهذه القواعد هي على وجهين أو إنها تنشطر إلى شقين متلازمين: شق أول يتعلق بقيام الملك وتأسيسه، وشق ثان يرجه إلى أمور تدبيره أو سياسته: " إن قواعد الملك مستقرة على أمرين: تأسيس وسياسة. فأما تأسيس الملك فيكون في تثبيت أوائله ومبادئه، وإرساء قواعده ومبانيه" . وإذا كان الإرشاد العملي إلى سبل السياسة الحميدة التي بها يكون استقرار الملك واتصاله هي ما يطلبه السلطان من الفقيه، وكانت معرفة "قواعد الملك" هي ما ينتجه الفقه من نصائح، فإن معرفة الأسباب التي كان بها الملك ملكا وبها قام في أول أمره له ما تلزم معرفته وذلك ما يفرد له الماوردي فصلا مستقلا في كتابه " في أخلاق الملك وسياسة الملك" . نقرأ له : "فأما تأسيس الملك فيكون في تثبيت أوائله ومبادئه وإرساء قواعده ومبانيه وتنقسم ثلاثة أقسام: تأسيس دين، وتأسيس قوة، وتأسيس مال وثروة(11) . فأما تأسيس المال والثروة " فهو أن يكثر المال في قومه فيحدث لهم بعلو الهمة طمعا في الملك وقل أن يكون هذا الأمر إلا فيمن له بالسلطة اختلاط وبأعوان الملك امتزاج فيبعث مطامع الراغبين فيه على طاعته وتسليم الأمر إلى زعامته" . وأما تأسيس الملك على القوة " فهو أن يحل نظام الملك إما بالإهمال والعجز وإما بالظلم والجور، فينتدب لطلب الملك أولو القوة ويتوثب عليه ذوو القدوة، إما طمعا في الملك حين يضعف وإما دفعا للظلم حين استمر". ولكلا التأسيسين، كما يذكر، عيوب ومساوئ وكلاهما أدى إلى دوال الدولة وزوال الملك، لأن كلا منهما يحمل في ثناياه وأحشائه ما ستكون به السياسة التي سيسار عليه لاحقا . فلتأسيس القوة طبيعته ومنطقه ولعله، في تصور الماوردي، يعادل ما وصفه الفاربي قبله بأنه " اجتماع التغلب" ولقب المدينة التي يكون فيها بمدينة " التغلب" ولكنه يذكر ، في شرح معنى هذا التأسيس، أنه ذلك الذي يقوم على قوة الجيش وهيمنة الجند والأمر فيه يخرج من يد الملك كلية وإن بدا غير ذلك : فإن هم عدلوا مع الرعية فإنما تكون حقيقة حكم الملك أن ملكه "ملك تفويض وطاعة"، وإن جاروا وعسفوا فإنما هي " دولة تغلب يبيدها الظلم ويزيرها البغي" . ولتأيس المال والثروة طبيعته التي لا يملك أن يحيد عنها ومنطقه الذي لا يقدر عن الزوال عنه أو الخروج عن ضوابطه ومقتضياته- وقد يكون هذا التأسيس، متى رجعنا إلى تنصيفات الفاربي المعروفة، هو ما يقول عنه أبو نصر إنه " اجتماع أهل النذالة " وعن المدينة التي يكون فيها أنها " مدينة النذالة " - والفساد عند الماوردي أسرع ما يكون لحوقا بهذا التأسيس وأشد ما يكون فتكا به.

ولكن الأمر آخر مع القسم الأول من الأقسام الثلاثة المذكورة. ذلك أن تأسيس الدين هو " أثبتها قاعدة وأدومها مدة وأخلصها طاعة" ولا يتسرب إليه الخور أو يدب فيه الضعف إلا متى كان الملك ، في هذا التأسيس، مستهينا بالدين مهينا لأهله، أو كان " قد أحدث بدعة في الدين شنعه"، أو كان قد خرج عن الدين كلية . والحق أن الماوردي قد انشغل بأمر هذا التأسيس القائم على الدين انشغالا شديدا فبسط القول فيه في " نصيحة الملوك" لا بل كتب فيه كلاما نعتبره من أجمل وأهم ما خطه يراعه في موضوع النظر السياسي. وهو الباب الثالث المعنون هكذا " الأسباب التي من جهتها يعرض الاختلال والفساد في الممالك وفي أحوال الملوك".وأول ما يطالعنا في هذا الباب، بعد ذكر حديث نبوي يؤيد به قوله " إن أحوال الأمم متقاربة"، هو إيراده لهذه الملاحظة التي يخرج به من قراءته للتاريخ البشري " الوعظي" : "وكان مما جرت عليه أمور العالم، واستمرت عليه عادات الأمم أنه لم تكن مملكة إلا كان أسسها ديانة من الديانات وأصلها ملة من المال عليها بنيت شرائطها وفروضها، وجرت أحكامها وحدودها "(12) .

أستأذن القارئ الكريم في استطراد قصير أنبه فيه على اشعرية الماوردي، حيث تحمل لنا قولته هذه دليلا جديدا آخر على ذلك : هي ذكره ل" العادة" وجريانها واستمرارها . فالأشاعرة، إذ يتحدثون عن استمرار العادة وجريانها ويتكلمون عن " إجراء العادة " على النحو الذي يقرره الله، فهم في الواقع يدلون على عنوان مذهبهم ويشيرون إلى أخص ما يميزهم عن المعتزلة والفلاسفة معا . فأما عنوان مذهبهم فهو مبدأ" التجويز" : فليس كل ما لا يقدر على البرهنة على وجوده مستحيلا في ذاته أو ممتنع وجوده وإنما هو جائز وذلك الجواز هو ما يفسر إمكان الرؤية، رؤية الله بالأبصار يوم القيامة ، كما أنه يحل عددا من الإشكالات الأخرى التي تتعلق بالحرية والمسؤولية في عالمنا الأرضي. وأما تميزهم عن المعتزلة، وعن الفلاسفة خاصة، فهو نفيهم القول بالسببية ( أي وجود العلاقة المباشرة بين أمر ندعوه سببا وآخر مسببا)، وشرحهم لتلك العلاقة بأنها مجرد " اقتران " أو " تساوق وأنه "عادة" أجراها الله. ولكن " العادة" هذه لا تكون، في تعابيرنا اليوم، شيئا آخر غير " القانون" : فكما أننا نحصل على القانون المفسر من إدراك العلاقات الثابتة في الظواهر المطردة، فكذلك نحن نتبين ما أجراه الله من العادة من استقراء الأحداث والظواهر . وإذن فالماوردي عندما يقول إن " مما جرت عليه أمور العالم" ، ويكتب، مضيفا، وأستمرت عليه عادات الأمم" . فهو يقول بممارسة طبيعية لمقتضيات المذهب الأشعري، ويعلن، بالتالي، عن تشبعه بالمبدأ الأشعري الكلي والعمل بموجب آلياته وموجهاته.

إذا كانت العادة قد جرت بأن الدين أساس الممالك الكبرى، أي أن " تأسيس الدين" أكثرها شبوعا وأشدها رسوخا وقوة، فإن في الأمر ما يدعو إلى التأمل حقا واستخراج العبرة فعلا. فأول شيء هو حدوث " النوازل" التي تقضي إعمال العقل الفقهي بغية إيجاد الحلول الناجعة والوصول إلى الأجوبة الصحيحة والدقيقة على الأسئلة المقلقة والأوضاع المحرجة: " لابد في الدين من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها"، وثاني شيء هو أن مما جرت عله العادة كذلك هو أنه " لا يخلو دين من الأديان ولا ملة من الملل من منافقين فيها ومعادين لها". ثم إن هؤلاء يظهرون ويكثرون في عصور ملوك ضعفاء، وهم كذلك لأنهم " خالدن من علوم الدنيا، معرضون عن أصول الشريعة" . وعند ذلك تنشأ ساسلة طويلة متصلة من الوقائع السلبية وتتلاحق الأحداث التي تؤدي كلها إلى سقوط الدولة وزوال الملك . ولكن المتأمل لأسبابالقوة في الممالك التي يكون أولها ومنشئها " تأسيس الدين"، يجد أن مكمن القوة القيقي وفعلها السحري يكمنان في مراقبة الدين وأصله. ذلك ما كان من أمر الخلفاء الراشدين إذ " كانوا لا يرون الخلافة إلا لإحياء الدين"، وذلك ما كان من أمر عمر بن عبد العزيز ويزيد ابن الوليد وإن كانا" من بني مروان، الذين عاثوا في الأرض وغيروا السنن وأظهروا البدع". وذلك ما كان من خلفاء بني العباس، والماوردي إذ يستعرض أسملاء البعض منهم فهو يلحقها دائما بنعت يفيد الحفاظ على الدين، فأبو العباس والسفاح " ظاهر الزهد" ، والمنصور " شديد الاعتقاد في الدين "، والرشيد " شديد التعصب للإسلام والديانة" والمأمون " وهو لو باهت به هذه الأمة سائر الأمم في ملوكها لكان ذلك أهلا ولوجد لها عليهم به فضلا علما وعقلا(...) وتعصبا للتوحيد". وكذلم كان الشأن في المعتصم والوثائق، وكذلك كان حال ملوك سامان والأمراء الظاهرية من ولاة خراسان . وبالتالي فإن مفتاح النجاح وسر التقدم والقوة في الممالك والأمم يملكه كل من أدرك، مع الحكماء والعظماء، أن " الدين والملك أخوان توأمان " وآمن بأن الدين " أس الملك"، كما أدرك أن " الملك حارس الدين".

ما الشأن بعد ذلك في الشق الثاني من " قواعد الملك " عند الماوردي؟ ما القول في التدبير أو السياسة؟ يقول في " تسهيل النظر وتعجيل الظفر": " وأما سياسة الملك بعد تأسيسه واستقراره فتشتمل على أربع قواعد هي : عمارة البلدان، وحراسة الرعية، وتدبير الجند، وتقدير الأموال" . ثم إنه يفصل بعض التفصيل في كل واحدة من هذه القواعد ويمدد ما يتفرع عنها من أنواع وأقسام بيد أن هذا التعداد لا يفي بغرض الإحاطة يفكر الماوردي في الموضوع. فهو لا يغني عن قراءة "نصيحة الملوك" في جانب، ولا يعفي من كان يروم معرفة جوانب هامة أخرى من فكر أبي الحسن من قراءة "أدب الدين والدين"، مثلما لم يكن في فحص هذين الكتابين الأخيرين ما يجعل قراءة " تسهيل النظر" غير ذات جدوى وإنما نظر المفكر السياسي مبثوت في هذه الكتب الثلاث . وهو ينشغل في مرة من المرات الثلاث بما لم ينشغل به ، كلا وتفصيلا، في الكتابين الآخرين. فهو في " تسهيل النظر" منشغل بالملك كشخص وبالملك كرئاسة، وهذا الانشغال يجعله، في القسم الأول من الكتاب، يبسط القول في الفضائل ويتسع فيها، ثم إنه يدير الباب الثاني (في سياسة الملك) على الكلام في قواعد الملك، ( على نحو ما رأينا بعضه) . ثم إنه في " نصيحة الملوك" يرتب الكلام، مفصلا وفي السياسات العديدة : سياسة النفس، و سياسة الخاصة، وسياسة العامة أو تدبير المملكة، وسياسة الأموال ثم سياسة الأموال ( أو تدبيرها) فسياسة الأعداء (أو تدبيرهم) فضلا عما عرضنا لغيره بالذكر أو الإشلرة سلفا.

إن لم نكن نملك، في حدود هذه المقالة، أن نستقصي فكرة فقيهنا الشافعي ومفكرنا الأشعري في كافة انتدادتها في الوؤلفات الثلاث فإنه لا مندوحة لنا من التريث برهة عند النحو الذي يشرح بها قواعد السياسة تلك حين حديثه عن " أدب الدنيا"، في الكتاب الذي كان هذا الأدب أحد شطريه، إذ يقول:

أعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة،ستة أشياء في قواعدها وإن تفرعت وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح"(13)

لنلاحظ أننا بإزاء بناء هرمي هو هذه السلسلة المتصلة من الأسباب والنتائج، فمتى كان الدين متبعا (على نحو ما أحسن شرحه في " نصيحة الملوك" -وكما رأينا سابقا) كانت الحصيلة الأخيرة والنتيجة العملية هي " الأمل الفسيح" ، الذي يعني حصول الاطمئنان والانصراف إلى االبناء والتشييد والتوفر على ما يكفي من الإيجاب، والإرادة، والتصميم (والماوردي صاحب هذه الحدود الثلاث). بين أساس البناء القوي ( الدين المتبع) ، ىوقمته ( الأمل الفسيح) . تقوم تلك الشروط الخمس التي يسلم بعضها إلى بعض بشكل تنازلي من جهة أولى، وفي صورة استلزام منطقي من جهة ثانية ( السلطان القاهر، العدل، الأمن، الخطب) . فإذا أخدنا أول هذه الشروط، ورأسها بالتالي، وهو السلطان القاهر نجد أبا الحسن يقول عنه إنه " تتألف برهنته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكف بسطوته الأيدي المتعالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية"(14) . ومتى دققنا النظر في شلأن هذه الأسباب فإننا نجدها ترتد ، بكيفية وبأخرى، إلى ما يفيد الاجتماع والائتلاف في الرأي الواحد وهو ما يعني حصول أمر خطير ما فتئ الماوردي يردده في كتابته السياسية ةكلها ويراه شرطا أساسيا وعنصرا محوريا في قيام الدولة واستمرارها - وذلك هو وحدة الرأي أو المذهب . فلا رأي لملك سمح بىبتعداد المذاهب المختلفة من حوله، إذ لا نتيجة لتفرق الكلمة سوى " اختلاف السيوف "، ولا مندوحة للملك عن الزوال، حين هذا الاختلف، ولا مناجاة للملكة من الدمار والفساد عند حلول تلك الحال.

على أن ما سلف لا يشكل، وإن اجتمع، سوى أحد شرطين لصلاح الدنيا واستقامة السياسة: " وأعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين: أولها ما ينتظم به أمور جملتها، والثاني ما يصلح به حال كل واحد من أهلها"(15) . وما يصلح به كل واحد هو، متى نظر إليه من حيث إن الإنسان لا يكون إلا بغيره اجتماع ثلاثة أشياء لابد منها وهي " نفس مطيعة إلى رشدها منتهية عن غيها، وألفة جامعة تنعطفالقلوب عليها ويندفع المكروه بها. ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها"(16) . وصلاح كل واحد، متى اعتبرنا أن " الإنسان دنيا نفسه" ، هو العمل على تحلي النفس بالفضائل وتعويدها أو ما درج المفكرون الإسلاميون على القول فيه إنه " تهذيب الأخلاق" . والماوردي يصدر في هذه المسألة عما يصدر عنه كل أولئك المفكرين ( بما فيهم الفلاسفة بطبيعة الحال) فهو يستهل حديثه في " أخلاق الملك" بالقول بأن " الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار وتقهر بالاضطرار"(17) . ثم إنه يعرض بعد ذلك للفضائل، على نحو ما ذكره أرسطو وفصل فيه، فيبسط القول فيها واحد فواحدة ( وهذا هو الشأن في " تسهيل النظر" ) ويجمل ويوجز ويحمل كبير همة أن يكسبا ثوبا إسلاميا وصيغة عربية مألوفة (وهذا هو الشأن في " أدب الدنيا والدين" ) . فيكون من ثم قوله الغزير في " المروءة" " كل كتابنا هذا من شروطها وما اتصل بحقوقها" ( والإشارة إلى الكتاب الأخير) .

الحق أن الإحاطة بصورة " الماوردي المفكر الأخلاقي"، في كامل جوانبها وكافة أبعادها، لأمر كثير الأهمية : بالنظر أولا لما كان، في الثقافة العربية الإسلامية وفي العصر الوسيط المتشبع بالتراث اليوناني جملة، من صلة وطيدة بين الأخلاق والسياسة - وبالنظر ثانيا لما يكتسبه قول الماوردي في الفضائل، وفي " المروءة" (18) على وجه الخصوص من قينة فائقة الأهمية في نظره السياسي- ولكننا نرى في هذه الإشارات والتنبيهات، ماكان فيه غنى عن التوسع والإطالة . ويبدو أننا قد استكملنا العدة واستجمعنا العناصر راللازمة من أجل الوقوف عند الصورة الشهيرة والمألوفة لأبي الحسن الماوردي: صورة الفقيه المشرع.

4- الماوردي الفقيه المشرع

يقول الأستاذ المرحوم هنري لاوست، في دراسة قيمة له في " فكر الماوردي وعمله السياسيين" " إننا وإن كنا نجعل التاريخ الذي كتب فيه أبو الحسن" الأحكام السلطانية" إلا أننا نستطيع الجزم بأن هذا المؤلف، من حيث إحكام بنائه ودقة تعابيره، هو ثمرة تجربة وحنكة لا يبلغهما صاحبهما إلا في مرحلة من العمر جد متقدمة "(19) . والحق أن هذا المؤلف، الذي اقترن باسم الماوردي أكثر من غيره من مؤلفاته الأخرى، هو كما ذكر "لاوست" فلولا أنه كان عصارة تفكير عميق، وحصيلة نظر طويل في السياسة والأخلاق، وثمرة فكر ثاقب في الفقه ( أصولا وفروعا معا) لما أمكنه أن يكون على الصورة التي هو عليها الآن، ولما أمكنه أن يكون النموذج الأمثل للخطاب السياسي الفقعي. وبديهي أنه ليس لنا أن نعرض لمضا مين أبوابه العشرين، في الإمامة، والوزارة ( بنوعيها : التفويض والتنفيذ) : وفي الإمارة، بأنواعها المختلفة ( البلاد، الجهاد، الجيش، ... )، وفي الولاية، بأشكالها ( القضاء، المظالم، النقابة، ...)، وفي الأرض وأحكامها ( الخراج، الإقطاع، الأحياء، ...)، ثم في أحكام الجرائم، وأمور الحسبة... ففضلا عما يستدعيه ذلك كله من تطويل يعني ولوج أبواب الفقه والدخول في دروب الخلافة بين المذاهب والأئمة، وفضلا عما يسلم إليهمن تطويل يبلغ خروج الحدود عن القصد فإنه يبعدنا عن غرض استخلاص مظاهر المفكر السياسي إذ " يسجننا " في محيط الفقه ويغلنا بمنطقه وآلياته. وإذن فلا سبيل لنا آخر سوى سبوك الإختيار والأنتقاء :اختيار الأمثلة والشواهد، وانتقاء الأدلة والصور التي تمكننا من المكوث في حال اليقضة والحذر . فأما اليقضة فهي الانتباه إلى الكيفية التي يعمل بها الفقيه المشرع عقله الفقهي، وانتباه الأشعري، في الوقائع التاريخية فيصير منها إلى " قواعد سياسية " وأحكام " سلطانية "، وأما الحذر، فهو مما يخشى منه من وقوع في مخالب هذا المعجم التقني في أحكام الحكومة، وقوانين الأرض، وواجبات الإدارة (إدارة شؤون المدينة الإسلامية) .وحقوق الأمة والجماعة. وإذن فلابد، في " الأحكام السلطانية" من قراءة تنظر في الأحكام والتشريعات بغية الوقوع على الفكرة السياسية الموجهة، والخلفية العقائدية المذهبية الحاكمة والمرشدة معا. وهذه المحاولة العسيرة هي ما ندعو القارئ الكريم إلى الخوض فيه في الفقرات اللاحقة.

تحكم الرؤية الأشعرية عمل الفقيه المشرع في كتاب " الأحكام السلطانية " على نحو يتوضح به هذا الأمر منذ الفقرات الأولى من الكتاب، بل ابتداء من مستهل الحديث في " الإمام"، الباب الأول من الكتاب. فإذا تقرر أن عقد الإمامة واجب الإجماع، إلا ما كان من شذوذ " الأصم" من المعتزلة، فإن مدرك الوجوب يكون هو الشرع إذ الإمام " يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزا في العقل أو لا يرد التعبد بها فلم يكن العقل موجبا لها" والقول بتقدم المنقول، ( أي ما قضت به الشريه) على المعقول ( أي ما تقرر عند الحكماء في العقل) قول أشعري شأنه في ذلك شأن القول بمبدأ " التجويز" كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك. ثم إنه يثبت بعد ذلك أنه يكون في الإمامة فريقان أو طرفان اثنان يعنيهما أمرها، على نحو متغاير. الطرف الأول هم " اهل الاختيار" أو " أهل العقد الحل"، أي أولئك الذين يكونون لهم، بل يلزمهم، أن يختاروا للأنة إماما. والفريق الثاني هم " أهل الإمامة" الذين يكون الإمام، بالضرورة، أحدهم فهو يقدم ويختار لذلك ، وفي كلا الطرفين لابد من اجتماع شروط معلومة . والحق أن هذا التقنين الفقهي لا يفهم على وجهه الكامل إلا نتى استحضر القارئما أسلفنا الإشارة إليه من الاختلاف الجوهري بين الشيعة الباطنية والسنة الأشاعرة في مسألة نصبة الإمام، وما نتج عنه من قول بالعهد والوصية عند الأولين، وذهاب إلى الأخد بالاختيار والإجماع، عند الآخرين. وفي هذه المسألة المبدئية الأولى لا ينحط الماوردي، في الجدل أبدا بل إنه يصدر عن موقف فكري، ضمني، قوانه أن ما ينتهي إليه عموم المتكلفين الأشاعرة عن قول في الإمامة هو عنده بمثابة المقدمات التي تلزم عنها نتائج جديدة هي تلك التي يملك الفقيه أن يصوفها في صور الأحكام أو القوانين. وإلى هذين الموقفين الأشعريين، المتضمنين في كلام الماوردي الفقيه المشرع، يلزم أن نذكر موقفا أشعريا ثالثا وأخيرا من بين المواقف الأشعرية الضمنية التي يمكن استخلاصها والتدليل عليها. ذلك هو صدور الماوردي عن قراءة أشعرية لتاريخ الإسلام، وللمسار الذي سلكه حكم الخلفاء المتقدمين وترتيبهم على النحو الجي ظهروا به . وخلاصة هذه الرؤية هي أن ذلك الحكم والترتيب معا إنما هما تعبير عما انعقد الإجماع عليه فهو سلسلة متصلة الحلقات ،وكل حلقة إنما يكفلها من الشرعية حظ عظيم. وإذن فإن كل ما فعله السابقون من خلفاء بني أمية وبني العباس (على السواء ) يصلح اعتماده مصدرا في التشريع ومادة في القياس، ومرجعا في المماثلة فهو، بالتالي، شاهد يصح الاستدلال به على غائب هو الحاضر الذي يشرع له .

يشرع الفقيه المجتهد في إعمال العقل الفقهي في " نوازل" السياسة ومقتضيات التدبير والسلطان وقد تشبع إذن بمستلزمات العقيدة الأشعرية، وتشرب مقتضياتها في الحكم والسياسة كاملة . وعمل المجتهد هو، كما هو معلوم، إعمال للرأي والنظر وممارسة للقياس وآلياته. وليس القياس، عند الفقيه رالشافعي سوى تجريب وتطبيق لمبدأ " الاِستدلال بالشاهد على الغائب".

يختلف الأئمة على وجه المثال، في عدد من تنعقد بهم الإمامة فيلجأ الماوردي إلى البحث عن " مقيس عليه" فيجده في التاريخ، تاريخ الخلفاء المتقدمين، من جهة أولى ويجده في عقد شرعي هو عقد النكاح، من جهة ثانية. والمشرع، في الجهة الأولى، مخير بين القياس على ما حصل في بيعة أبي بكر، وهذه " انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها". أو اعتبار ما ارتاآه عمر من مجلس الشورى السداسي مقيسا عليه، فيكون ستة هو العدد المعتبر في عدد من تنعقد بهم الإمامة. كما أن له أن يقيس على ما فعله العباس عم النبي عليه السلام، إذ قال لعلي " أمدد يدك أبايعك" . وللمشرع، في الجهة الثانية، أن يغتبر أن العدد الازم في انعقاد الإمامة هو ثلاثة قياسات على عقد النكاح ( شاهدان وولي ) - وذلك ما قالت به طائفة من " علماء الكوفة".

وعلى ممارسة القياس نجد أدلة أخرى في نفس القول في الإمامة، فبعد أن يعلن الفقيه أنه " لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد" وأن بيعة أحدهما لابد ساقطة إن عقد لهما معا، ىيتساءل الفقيه : أي البيعتين يكون على شروط الصحة من الناحية الشرعية ؟ والجواب يكون، مرة أخرى، قياسا على ما يتم في عقد النكاح " والصحيح في ذلك وما عليه الفقهاء المحققون أن الإمامة لأسبقهما بيعة وعقدا كالوليين في نكاح المرأة إذا زوجها باثنين كان النكاح لأسبقهما عقدا " . ويتساءل الفقيه عما يحدث في الحالة التي ينتهي فيها " أهل العقد والحل" إلى الإجماع على اختيار شخص بعينه إماما للأمة ولكن هذا الشخص لا يجيب لرأي القوم المجمعين وجوابه أن إجماع "أهل الاختيار" لا يلزم من كان موضوعا للاختيار، والمقيس عليه في هذه الحال هو ما يحدث في فقه المعاملات بالجملة، من حيث أحد شروط صحة العقود : " وإن امتنع من الإمامة ولم يجد إليها لم يحبس عليها لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ول إجبار وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها ". ودليل وجوب مراعاة ما به تكون صحة العقود . يرد كذلك في الشروط اللازمة في وزارة التفويض : " فصحة التقليد فيها معتبرة بلفظ الخلفية المستوزية لأنها ولاية تفتقر إلى عقد والعقود لا تصح إلا بالقول الصريح".

وكما يقيس الفقيه على ما يحصل في فقه المعاملات من جهة أولى، وعلى ما " جرت عليه العادة" في التاريخ الإسلامي من جهة ثانية، فإنه يقيس على ما أخبر الشارع عنه أنه كان في تاريخ الأنبياء المتقدمين. وقد نكتفي في ذلك بإيراد مثالين اثنين، يتعلق أولهما بالإمامة ويرجع ثانيهما إلى الوزارة، فالإمام يخرج عن الإمامة إما لجرح في عدالته وما لنقص في بدنه. وأحد أحوال النقص في البدن هي " تمتمة اللسان وثقل السمع مع إدراك الصوت إذا كان عاليا"، والحكم فيهما أنه لا يخرج عن الإمامة " وقيل لا يمنع [ من عقد الإمامة له] لأن نبي الله موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه عن النبوة فأولى أن لا يمنع عن الإمامة". ومن أحوال النقص في البدن أيضا فقد الأنثيين أو قطع الذكر، فقد كان نبي الله تعالى، يحبي بن زكريا، كذلك حسب ما ورد في " شرح المفسرين" لقوله في القرآن الكريم { وسيدا وحصورا ونبيأ من الصالحين } ( آل عمران : 39 ) . والقياس عند الماوردي يكون على هذا جواز الوزارة في النبوة { واجعل لي من أهلي هرون أخي أشدد به أزري أشركه في أمري } ( طه: 31) " كان في الإمامة أجوز".

إن هذه القدرة على التنويع في طرق القياس ومجالات تطبيقه، مع التقيد بقوانين إجرائه وشروط صحته، هي ما يكسب عمل المجتهد قيمه فقهية كبيرة وما يضفي على الأحكام التشريعية قوة تستحيل بها إلى " سلطة رابعة" بعد سلطات الكتاب والسنة والإجماع . وبموجب امتلاك هذه السلطة الرابعة يكون للمجتهد المشرع في الفقه السياسي أو يسلك في القياس طريقا آخر يكون المقيس عليه فيه هو " التاريخ الوعضي"، أي تاريخ الشعوب والملل المتقدم . فكما صح كونه، عند الفقيه، مادة للاعتبار والاتعاظ فإنه يصح اتخاذه مقياسا في التشريع، في الأحوال التي لا يسعف فيها التاريخ الإسلامي " المشرع" بشيء، ذلك ما فعله السلف الصالح نفسه : فالخليفة عمر بن الخطاب لم يتردد في الاقتاس عن الفرس والأخذ منهم في وضع " الدين"، وبالتالي فإن " أحكام الديوان"، في الإسلام، لم تتقرر في حقيقتها إلا باعتبار ما سلكه الفرس، في هذا الصدد، " مقيسا عليه" متى تثبت المشرع المجتهد من مراعاة أحكام الشريعة واطمأن إلى توفر شروط الصحة في ذلك.

وأبو الحسن الماوردي استحق من كبار الفقهاء اللاحقين عليه لقب " العمدة" حينا ولقب " المجتهد" أحيانا عديدة لتوفره على تلك البراعة الكبيرة في إعمال القياس وفي إجادة " الاستدلال بالشاهد على الغائب" . ولكن إن كان الماوردي فقيها مجتهدا في فقه المعاملات وكان كتابه الأشهر " الأحكام السلطانية" يستدعي " قراءة الفقيه" الذي يعرف مواطن الاجتهاد في الكتاب ويدرك دلالتها ومداها فإن مما يطيقهالكتاب أيضا، ويحمله الرجل كذلك هو القيام بقراءة مؤرخ الفكر السياسي المنشغل برصد الآليات الفكريةوالأسباب السياسية التي تحكم اجهاد الفقيه في " الأحكام السلطانية" . ذلك ما نأمل أن نكون قد وقفنا، في الصفحات السابقة، إلى تهييء القارئ إلى الانتباه إليه في شرحنا لوجه ارتباط الفقه بالسياسة من جانب أول، ولموجهات الفكر الأشعري ودواعي نشأته من جانب ثان، وأخيرا لمغزى بلوغ النظر السياسي الأشعري طور التشريع الفقهي عند الماوردي . وبالجملة فإننا نخرج من قراءة الماوردي، على جهة النظر التأريخي الفكري، من ملاحظات ثلاث محورية يبدو أنها، من وجهة نظر مؤرخ الفكر هذه، هي ما كان يحكم عمل المشرع السياسي ( الفقيه الشافعي والمفكر الأشعري معا(20) .

العمل التبريري للماوردي:

1- الملاحظة الأولى أن أبا الحسن كان يحرص على الوحدة السياسبية، وحدة الدولة، بكل وجه وطريق. فالإمامة لا تكون إلا واحدة في الزمان الواحد، والإمام لا يكون واحدا بالتالي ، وإمامة من عداه ساقطة شرعا. وتلك الوحدة تنسحب على المؤسسات التشريعية الكبرى ( وهذا هو الشأن في وزارة التفويض : فهي واحدة بالضرورة )، وهي تسري على كل مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية كما هو الشأن في الصلاة الجامعة: " لا يجوز أن يقام في المساجد السلطانية جماعتان في الصلاة واحدة" - بل وإن الماوردي ليحرص على تحقق تلك الوحدة حتى في المظاهر والرموز التي تعبر عنها : " ولبس السواد مختص بالأئمة في الصلوات التي تقام فيها دعوة السلطان اتباعا لشعاره الآن، وتكره مخالفته فيه وإن لم يرد به شرع تحرزا من مباينته"(21) ). ولكن الماوردي، الفقيه الممارس لشؤون الحياة العملية والمفكر السياسي الراجح الرأي، كان يرى. ويعلم أن " الوحدة" لم تكن كذلك إلا في علياء النظر والتأمل، فأما في حقيقة الواقع فقد كانت فرقة وتعددا، تزاحم بها سلطةالخليفة بل وتطرد وتقصي في أحوال عديدة. وما يعلمنا تاريخ الفكر السياسي أن المفكر يلتجأ إليه فيفلح أن يخطئ في القيام به فهو التبرير: تبرير الواقع وتفسيره على نحو يحفظ للفكرة الحد الضروري من الاتساق والانسجام، وتفريع النظرية إلى نقتضيات وأحوال تنفيذ " الوحدة " من شر " التعدد " ولهيبه.

-2 الملاحظة الثانية إذن هي أن التشريع السياسي، في عمل الفقيه الماوردي، يخضع لضرورة التبرير ويعمل بما يمليه منطقه وضرورته معا. فما تقتضيه أحكام الإمامة، على النحو الذي تكون السلطة فيه واحدة ووحيدة، هو أن الولايات أو النيابات عن الخليفة تكون أربعة أقسام : فإما ولابة عامة في أعمال عامة، كما هو الشأن في الوزراء. وإما ولاية عامة في أمور خاصة، وذلك شأن أمراء الأقاليم والبلدان . أو ولاية عامة خاصة في أعمال عامة " وهم كقاضي القضاة ونقيب الجيوش...". والقسم الرابع والأخير هو الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة " كقاضي بلد أو إقليم أو مستوفى خراجه...". ولكن الواقع الفعلي هو أن الولاة كانوا يستبدون بالأمر حينا ، بل وإن الاستبداد ليصل درجة الاستقلال بالسلطة والحكم أو أنه يبلغ مرتبة من القوة يصبح فيها الوالي هو الحاكم الفعلي الحقيقي الذي لم يتحرج، في أوقات من تاريخ الإسلام، من الحجر على الخليفة والتضييق عليه. وإذن فإن الولاية كانت " ولاية قوة واستيلاء" لا تنعقد عن اختيار الخليفة ورضاه فهي تتمايز، جملة وتفصبلا، عن الشكل الآخر الذي يشبه أحد الشكلين، الأول أو الثاني، من الوليات المذكورةأعلاه.. وبالتالي فقد وجب أن يشرع لها من الأحكام ما يحفظ على الخلافة ماء الوجه، وأن يضفي عليها من أشكال التبرير ما يحيل التعدد والتشتت في الدولة إلى الحدة والاجتماع. والماوردي يبلغ في أحكام " ولاية الاستيلاء" مبلغا عظيما من التشريع التبريري وأول ما يقوله، في أحكام هذه الإمارة، هوأن الأمر فيها "وإن خرجعن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلا مدخولا ولا فاسدا معلولا فجاز فيه، مع الاستيلاء والاضطرار، ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز" (22) - فالتبرير يجد في المبدأالأصولي الذي يقضي بأن الضرورات تبيح المحظورات يجد متنفسا ومجالا للتشريع لأحكام هذه " الولاية" الغريبة من وقوعها فعلا. والتشريع، في هذا المجال، يقتضي النظر إلى المستولى من حيث استيفاؤه أو عدم استيفائه لشروط تراعى بها قوانين الشرع وتحفظ حرمته. فأما إن كملت في المسنولى " شروط الاختيار" فإن تقليده يكون " حتما استدعاء لطاعنه ودفعا لمشاقته ومخالفته وصار، بالإذن له ، نافذ التصرف فب حقوق الملة وأحكام الأمة (...) وجاز له أن يستوزر وزير تفويض ووزير تنفيذ". وأما إن لم تكمل تلك الشروط في المستولى فإنه يجوز " الخلافة إظهار تقليده استدعاء لطاعته وحسما لمخالفته ومعاندته" وبالجملة فإنه، بالنظر إلى ما تقتضيه المصلحة العامة وما يستوجبه الإقرار الضمني بالمبدأ الأصولي الآخر الذي يقضي بأن درأ المفاسد مقدم على جلب المنافع، أمام " التبربر" باب فسيح لا ينسد أبدا.

-3 والملاحظة الثالثة هي، في الواقع، استخلاص طبيعي مما تفيده الملاحظتان السابقتان جملة وما تفيده الأخيرة ومنهما خاصة وهي المتعلقة بما يمليه على الماوردي (الشافعي والأشعري معا ) فهمه الشخص لمعنى " المصلحة " وإدراكه لمكامن وجودها . ولعلي أرصد هذا الفهم في مثالين أكتفي بهما وآخذ أولهما من الباب الأول ( في عقد الإمامة ) وثانيهما من الباب العشرين ( في أحكام الحسبة) . فعندما يعرض الفقيسه الشافعي للأحوال التي يتكافأ فيها شخصان اثنان في شروط الإمامة فإن ما يتعين اعتباره في الخلاف حاسما هو " ما يوجبه حكم الوقت" : ولا شأن لنا إلى التنبيه إلى ما يمكن أن يقود إليه الاجهاد في الوجوب وفي حكم الوقت معا ولربما غدت الإشارة، في ضوء ما سلف من تنبيهات، كافية بذاتها ومغنية عن التوضيح والتفصيل. وعندما يشرع الفقيه لأحكام الحسبة فإنه ينتهي إلى الحديث عن اجتهاد المحتسب فيما كان قد تقرر عن طريق العرف لا الشرع " والفرق بين الاجتهادين أن الاجتهاد الشرعي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالمعرفة". ولا نظن أننا في حاجة إلى التذكير بأن كل أصل ينتج عنه فرع بل وفروع، ولا نحسب أننا في حاجة إلى عود على بدء نذكر فيه بالعلاقة الوطيدة التي تقوم بين الاجتهاد والقياس من جهة وما يقوم بين الاجتهاد وتوخي المصلحة من جهة أخرى.

وبعد، فنحن في عمل أبي الحسن الماوردي التشريعي في مجال السياسة (أو فقه المعاملات في معناهما الواسع ) أمام مقدرة هائلة على إعمال الفقهي في حل إشكالات الواقع المعقد والسيء معا، ولعل أفضل ترجمان لتلك المقدرة هو ما رأيناه، في الفقرة السابقة فقط، من تمكن من إدراك معنى المصلحة وقدرة على تطويع المفهوم على نحو يتقاطع فيه الأصل الأول الذي يثبت بالشرع، مع الأصل الثاني الذي يتقرر بالعرف . ونحن في عمل الماوردي، الناظر في أحوال الأمم والباحث في قواعد الملك وطبائع السياسة، أمام المفكر السني وقد أمكنه أن يستوعب حظا من " علوم الأوائل" وجانبا غير يسير من " كتب الحكمة" وآداب الإنسانية التي تقع خارج دائرة الاعتقاد الإسلامي. وبالجملة، فنحن مع أبي الحسن الماوردي نقف عند لحظة من أشد لحظات النظر السياسي خصوبة في الإسلام، ونقف عند صورة بهية مشرقة من صور الحظارة الإسلامية في بعدها الذكي الخلاق وفي جانبها الأكثر انفتاحا على رحاب الفكر البشري الشمولي.