الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية
مرسل: الأحد مايو 05, 2013 5:24 pm
رغم غموضه ونقاط ضعفه، أصبح كتاب مورغنثو (السياسة بين الأمم) نصا معياريا أثر بالتفكير حول السياسة الدولية لجيل أو أكثر. وفي نفس الوقت، ثمة محاولة لتطوير منهج صارم للتنظير فيما يخص الشؤون الدولية. وفي خمسينيات وستينيات القرن المنصرم دخل عدد كبير من العلماء من مختلف الحقول إلى ميدان العلاقات الدولية وحاولوا أن يستبدلوا "أدبيات الحكمة" للواقعين الكلاسيكيين بمفاهيم علمية وعقلانية (كرس براون: فهم العلاقات الدولية، 2001). استفز هذا بالمقابل هجوما عكسيا من جانب مورغنثو ومفكرين كلاسيكيين ينتمون لما تسمى بالمدرسة الانكليزية خصوصا هيدلي بول الذي دافع عن المنهج التقليدي. مع هذا، أسس العلماء الحديثون حضورا قويا في هذا الحقل خصوصا في منطقة الميثودولوجيا (علم المناهج). وفي منتصف ستينيات القرن العشرين دُرب كثير من الطلبة الأمريكيين في العلاقات الدولية في البحوث الكمية ونظرية اللعبة وتقنيات بحث جديدة أخرى تتعلق بالعلوم الاجتماعية. وكان لهذا، جنبا إلى جنب مع المناخ الدولي المتغير، تأثير عميق على ميدان البحث.
كان الافتراض الواقعي هو أن الدولة هي العامل الرئيسي في السياسة الدولية وأن العلاقات بين الدول هي نواة العلاقات الدولية الحقيقية. لكن ومع تراجع الحرب الباردة خلال سبعينيات القرن العشرين، قد يشهد المرء نموا مهما في المنظمات الدولية وغير الحكومية إضافة إلى الهيئات الدولية المتعددة. وأدى هذا التطور إلى إحياء الفكر المثالي الذي أصبح معروفا بالمذهب الليبرالي الجديد أو المذهب التعددي. وبينما يتم قبول الافتراضات الرئيسية في الواقعية، قدم كل من روبرت كوهن وجوزيف ناي، ابرز القائلين بمذهب التعددية، مفهوم (الاعتماد المتبادل المعقد) ليصفا هذه الصورة الأكثر نخبوية في السياسة العالمية. فهما يؤكدان أن التطور يمكن أن يتحقق في العلاقات الدولية وأن المستقبل لا يحتاج إلى أن يكون مثل الماضي.
النظام الدولي لدى كينيث وولتز
إن الاستجابة الواقعية الأكثر أهمية أتت من كينيث وولتز الذي أعاد صياغة مذهب الواقعية في العلاقات الدولية في شكل جديد ومختلف. ففي كتابه (نظرية السياسة الدولية) الذي نشر لأول مرة في عام 1979 استجاب للتحدي الليبرالي وحاول أن يصحح أخطاء الواقعية الكلاسيكية عند هانز مورغنثو عن طريق منهجه الأكثر علمية والذي أصبح معروفا بالواقعية البنيوية أو النيو واقعية. إذ في حين استمد مورغنثو نظريته في الصراع من اجل السلطة التي ربطها بالطبيعة البشرية، بذل وولتز جهدا ليتجنب أي نقاش فلسفي للطبيعة البشرية ووضع بدلا من هذا نظرية في السياسة الدولية مشابهة للاقتصاد المجهري microeconomics . حيث يؤكد وولتز أن الدول في النظام الدولي كالشركات في الاقتصاد المحلي لديها نفس المصلحة الرئيسية وهي البقاء. "من الناحية الدولية، إن بيئة أفعال الدول أو بنية أنظمتها تعبر عنها الحقيقة القائلة أن بعض الدول تفضل البقاء على نهايات أخرى يمكن اكتسابها على المدى القصير وهي تتصرف باكتفاء نسبي لتحقق تلك النهاية" (وولتز صفحة 93).
ويدعي وولتز أن عبر الاهتمام بالدولة الفردية وبالقضايا الأيدلوجية والأخلاقية والاقتصادية فإن الليبراليين التقليديين والواقعيين الكلاسيكيين يرتكبون نفس الخطأ. فهم يفشلون في تطوير وصف جدي للنظام الدولي—النظام الذي يمكن استخلاصه من الميدان السوسيوسياسي الأوسع. ويعترف وولتز أن استخلاصا كهذا إنما يشوه الواقع ويمحو العديد من العوامل التي كانت مهمة بالنسبة للواقعية الكلاسيكية. انه لا يسمح للتحليل الذي يقول بتطور بعض السياسات الخارجية. ولكنه استخلاصا له فائدته أيضا. فمن الجدير بالملاحظة انه يساعد على فهم المحددات الأولية للسياسة الخارجية. إن نظرية وولتز النيو واقعية لا يمكن تطبيقها على السياسة الوطنية المحلية. فهي لا تستطيع أن تسهم في خدمة تطوير سياسات الدول المتعلقة بشؤونها الدولية والداخلية. وتساعد نظريته فقط في شرح سبب سلوك الدول المتشابه رغم اختلاف أشكال حكوماتها وتنوع أيديولوجياتها السياسية وسبب عدم تغير صورة العلاقات الدولية الشاملة رغم لا مركزية تلك الدول المتنامية.
وبحسب وولتز، فإن سلوك الدول المتشابه عبر القرون يمكن شرحه من خلال التقييدات على سلوكها التي تفرضها بنية النظام الدولي. وتُعرف بنية النظام أولا بالمبدأ التي تنظم به ثم بتمييز وحداتها وأخيرا بتوزيع السلطة عبر الوحدات. إن اللا مركزية anarchy أو غياب السلطة المركزية هي بالنسبة لوولتز المبدأ المنظم للنظام الدولي. فوحدات النظام الدولي هي الدول. ويعترف وولتز بوجود ممثلين لا دوليين لكنه يبعدهم كونهم غير مهمين نسبيا. لأن كل الدول تريد البقاء، واللا مركزية تفترض نظام الاعتماد على النفس (المساعدة الذاتية) الذي بموجبه كل دولة عليها أن تعتني بنفسها إذ لا يوجد تقسيم للعمل أو تمييز وظيفي بينها. وبما إن وظائفها متشابهة فهي تتميز رغم ذلك بقدراتها النسبية (السلطة التي تمثلها كل دولة) لأداء نفس الوظيفة.
نتيجة لهذا، ينظر وولتز إلى سلوك السلطة والدولة بشكل يختلف عن الواقعيين الكلاسيكيين. فبالنسبة لمورغنثو، كانت السلطة وسيلة وغاية وكان سلوك الدولة العقلانية مفهوما ببساطة كسياق للفعل الذي سيقوم بمراكمة المزيد من السلطة. على العكس من ذلك، يعتقد الواقعيون الجدد أن المصلحة الرئيسية لكل دولة هي الأمن ولذلك هم سيركزون على توزيع السلطة. وكذلك إن ما يضع الواقعية الجديدة بعيدا عن الواقعية الكلاسيكية هو المفهوم الذاتي الصارم منهجيا وعلميا. ويصر وولتز على الاختبارية التجريبية للمعرفة وعلى منهج التكذيب كأداة منهجية التي، كما يعترف هو نفسه، تحظى فقط بتطبيق محدود في العلاقات الدولية.
إن توزيع القدرات بين الدول يمكن أن يتغير لكن اللا مركزية—المبدأ المنظم للعلاقات الدولية تبقى ثابتة. ولدى هذا تأثير دائم على سلوك الدول الذي يصبح اجتماعيا في منطق المساعدة الذاتية. وفي محاولة لتفنيد الأفكار الليبرالية الجديدة المتعلقة بتأثيرات الاعتماد المتبادل يعطي وولتز سببين وراء تقييد النظام الدولي المركزي للتعاون وهما: انعدام الأمن والمكتسبات المتفاوتة. وفي سياق اللا مركزية، كل دولة غير متأكدة من نوايا الدول الأخرى وخائفة من أن المكتسبات الممكنة التي تنتج عن التعاون قد تصب في مصلحة دول أخرى أكثر من مصلحتها الخاصة وهذا بالنتيجة يؤدي بها إلى أن تتكل على الدول الأخرى. "إن الدول لا ترغب في أن تضع نفسها في أوضاع من الاعتماد المتزايد. وفي نظام المساعدة الذاتية (الاعتماد على النفس) تقوم اعتبارات الأمن بإخضاع المكسب الاقتصادي إلى المصلحة السياسية". (وولتز صفحة 107).
وبسبب رشاقتها النظرية وصرامتها المنهجية، أصبحت الواقعية الجديدة مؤثرة جدا داخل حقل العلاقات الدولية. لكنها استفزت أيضا نقودات عنيفة على عدد من الجبهات.
الاعتراضات على الواقعية الجديدة
كتب وولتز في عام 1979 إن في العصر النووي لم يكن النظام الدولي ثنائي القطبين، المبني على دولتين عظميين—الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي—مستقرا فقط بل من المحتمل أن يستمر(صفحة 7—176). ومع سقوط جدار برلين والتفكك اللاحق للاتحاد السوفيتي اثبت هذا التنبؤ خطأه. وتحول العالم الثنائي (ذو القطبين الأوحدين) ليغدو أكثر خطورةً مما توقع اغلب المحللين الواقعيين. فنهايته فتحت إمكانيات وتحديات جديدة تتعلق بالعولمة. لقد قاد هذا الأمر بالعديد من النقاد ليقولوا أن الواقعية الجديدة مثلها مثل الكلاسيكية لا يمكنها أن تصف التغيرات في السياسة العالمية بشكل وافي.
لم يعد الجدل الجديد بين النيو ليبراليين والنيو واقعيين الدوليين معنيا بأسئلة الأخلاق والطبيعة البشرية بل معنيا بدرجة تأثر سلوك الدولة بالبنية اللا مركزية أكثر من تأثرها بالمؤسسات والتعليم وعوامل أخرى توصل إلى التعاون. ففي كتابه الصادر عام 1989 (المؤسسات الدولية وسلطة الدولة) يقبل روبرت كوهين بتأكيد وولتز على نظرية النظام المتساوي وافتراضه العام بأن الدول هي ممثلة مصالحها الخاصة التي تسعى عقلانيا وراء أهدافها. لكن وبإعماله لنظرية اللعبة فهو يُظهر أن الدول يمكنها توسيع فهم مصالحها الخاصة من خلال التعاون الاقتصادي والانخراط في المؤسسات الدولية. كذلك يمكن لنماذج التعاون المتبادل من أن تؤثر بسياسة العالم. ويدعو كوهين إلى نظريات نسقية تكون لديها القدرة على التعامل بطريقة أفضل مع عوامل تؤثر بتفاعل الدولة ومع التغيير.
ويركز كذلك منظرون نقديون أمثال روبرت كوكس على عجز الواقعية الجديدة بالتعامل مع التغير. ففي نظرهم، يأخذ الواقعيون الكلاسيكيون وكذا الجدد ببنيةً خاصة للعلاقات الدولية محددة تاريخيا ومتمركزة حول الدولة ويفترضونها كبنية صالحة للعالم اجمع. على عكس ذلك، يعتقد المنظرون النقديون أن من خلال تحليل تفاعل الأفكار والعوامل المادية والقوى الاجتماعية يستطيع المرء أن يفهم كيف تكونت تلك البنية وكيف ستتغير في النهاية. وهم يؤكدون أن الواقعية الجديدة تهمل كل من السيرورة التاريخية التي من خلالها تتشكل الهويات والمصالح والإمكانيات المنهجية المختلفة. إنها تشرعن الوضع الراهن في العلاقات الستراتيجية بين الدول وتعتبر المنهج العلمي على انه الطريقة الوحيدة للحصول على المعرفة. فهي تمثل ممارسة حصرية ومصلحة في السيطرة والهيمنة.
وبينما يهتم الواقعيون بالعلاقات بين الدول يركز المنظرون النقديون على التحرر الاجتماعي. فرغم الاختلافات تسلم النظرية النقدية وما بعد الحداثة والحركة النسوية جميعها بفكرة سيادة الدولة وتصور مجتمعات سياسية جديدة تكون اقل إقصاءً مقارنة مع مجموعات هامشية ومحرومة. وتؤكد النظرية النقدية ضد تركز الدولة (حصرية الدولة) وتنكر أن مصالح مواطني بلد ما تأخذ الأسبقية على أولئك الذين لا ينتمون إلى ذلك البلد (الأجانب). وهي تصر أن السياسيين يجب أن يعيروا اهتماما اكبر لمصالح الأجانب بقدر اهتمامهم بمصالح رعاياهم ويتصورون بنى سياسية تتجاوز الدولة القومية المحصنة. وتشكك ما بعد الحداثة بزعم الدولة في أن تكون الأخيرة هي البؤرة الشرعية للولاءات الإنسانية وحقها في أن تفرض حدود اجتماعية وسياسية. فهي تدعم تنوع الثقافات وتشدد على مصالح الأقليات. أما الحركة النسوية فهي تؤكد أن النظرية الواقعية تبدي انحيازا ذكوريا وتدعو إلى تضمين المرأة والقيم البديلة في الحياة العامة.
إن النظرية النقدية والآراء البديلة، التي تدعى أحيانا "بالانعكاسية"، تمثل قطيعة راديكالية مع نظريات العلاقات الدولية "العقلانية" لكل من الواقعيين الجدد والليبراليين الجدد. وبالنسبة للتركيبيين أمثال الكساندر فيندت فهم يحاولون تجسير العلاقة بين وجهتي النظر تلك من جهة آخذين نظام الدولة الحالي واللا مركزية بجدية، وتركيزهم على تشكيل الهويات والمصالح من جهة أخرى. وبخلاف الأفكار النيو واقعية يؤكد فيندت أن مفهوم المساعدة الذاتية لا يلزم منطقيا أو عرضيا من مبدأ اللا مركزية لأنه يُركب (من التركيبية) بشكل اجتماعي. إن فكرة فيندت القائلة أن هويات ومصالح الدول تُركب اجتماعيا قد ساهمت في أن تسمى أفكاره بالتركيبية (أو البنائية constructivism). نتيجة لهذا، ومن وجهة نظره، فإن المساعدة الذاتية وسياسة السلطة هما مؤسستان وليستا خاصيتين أساسيتين لغياب المركزية (اللا مركزية) لأن هذه الأخيرة هي ما تصنعها الدولة. إذ لا يوجد هناك منطق محدد واحد للا مركزية بل هناك عدة مناطيق، اعتمادا على الأدوار التي من خلالها تتعرف الدول على أنفسها وتتعرف بعضها على البعض. وتتأسس السلطة والمصالح عن طريق الأفكار والمعايير. حيث يدعي فيندت أن الواقعية الجديدة لا يمكنها أن تصف التغير في سياسة العالم أما معياره التركيبي فيمكنه فعل ذلك.
يأتي استنتاج مماثل، رغم كونه مشتقا من طريقة تقليدية، من منظري المدرسة الانكليزية (مفهوم المجتمع الدولي) الذين يركزون على كل من التقييدات النسقية والمعيارية على سلوك الدول. وبالإشارة إلى النظرة الكلاسيكية للإنسان باعتباره فردا اجتماعيا وعقلانيا بصورة رئيسية وقادرا على التعاون والتعلم من تجارب الماضي، يؤكد هؤلاء المنظرون على أن الدول كالأفراد، لهم مصالح مشروعة ينبغي على الآخرين الاعتراف بها واحترامها وعلى الآخرين كذلك الاعتراف بالفوائد العامة لمراقبة مبدأ التبادلية reciprocity في علاقاتهم المتبادلة. لذلك، يمكن للدول أن تربط أنفسها بدول أخرى من خلال معاهدات وأن تطور بعض القيم المشتركة مع دول أخرى. من هنا، فإن بنية النظام الدولي ليست ثابتة كما يزعم الواقعيون الجدد. إنها ليست لا مركزية هوبزية (نسبة إلى توماس هوبز) تامة يتخللها خطر الحرب، لأن يمكن للنظام الدولي غير المركزي القائم على علاقات السلطة المحضة بين الممثلين أن يتطور إلى مجتمع دولي أكثر تعاونا وسلما يتشكل فيه سلوك الدولة عبر قيم ومعايير مشتركة. حيث يكون التعبير العملي عن المجتمع الدولي هو المنظمات الدولية التي تدعم سيادة القانون في العلاقات الدولية خصوصا الأمم المتحدة.
خاتمة: السمة التحذيرية والايجابية للواقعية
إن نتيجة الجدل العرضية وغير المناسبة التي تتعلق بالواقعية الجديدة هي أن الأخيرة وقسم كبير من نقادها (استثناء مميز متمثل بالمدرسة الانكليزية)، معبرا عنها بمصطلحات علمية وفلسفية مجردة، قد جعلت نظرية السياسة الدولية نظريةً تكاد تكون مغلقة بالنسبة إلى الإنسان العادي وقد قسمت حقل العلاقات الدولية إلى أجزاء غير منسجمة. وفي حين كانت الواقعية الكلاسيكية نظرية تهدف إلى تدعيم الممارسة الدبلوماسية وتقدم دليلا يتبعه أولئك الذين يبحثون عن فهم وعن تعامل مع التهديدات المحتملة، فإن نظريات اليوم، المعنية بصور ومشاريع كبيرة ومتنوعة، هي نظريات غير ملائمة لتقوم بتلك المهمة.
لكن أياً كانت نقاط ضعفه—بما فيها تلك التي اشرنا إليها في النص—فالتقليد الواقعي في العلاقات الدولية يستمر بانجاز دور مهم. حيث تحذرنا الواقعية من النزعة التطورية والأخلاقية والقانونية وتوجهات أخرى تفقد ملامستها لواقع المصلحة الخاصة والسلطة. أما انبعاث الواقعية الجديدة في سبعينيات القرن المنصرم فكان لها أيضا من أن تُفسر كتصحيح ضروري للاعتقاد الليبرالي البالغ التفاؤل في التعاون الدولي والتغير الذي ينتج عن مبدأ الاعتماد المتبادل. لكن، وكما لاحظ جاك دونيلي بصواب، حالما تم انجاز ذلك التصحيح فإن زمن الواقعية كطريقة مهيمنة وناجعة قد ولى. وبنكران أي تطور في علاقات الدولة المتداخلة، تحولت الواقعية إلى أيدلوجيا. فتأكيدها على سياسة السلطة والمصلحة الوطنية يمكن له أن يُساء استخدامه لتبرير العدوان. فينبغي أن تُستبدل الواقعية بنظريات تكون أفضل في وصفها للتعاون والصورة المتغيرة في السياسة العالمية. وكما بالنسبة إلى وظيفتها السلبية والتحذيرية، فيجب لمعاييرها الايجابية من أن تذكر. تلك المعايير التي تمتد من العقلانية والحذر التي شدد عليهما الواقعيون الكلاسيكيون إلى التعددية الدولية multilateralism فالقانون الدولي ثم مجتمع دولي يؤكده ليبراليون وأعضاء المدرسة الانكليزية وصولا إلى الكوزموبوليتانية (العالمية) والتكافل العالمي الذي يدعو إليه كتّاب اليوم.
كان الافتراض الواقعي هو أن الدولة هي العامل الرئيسي في السياسة الدولية وأن العلاقات بين الدول هي نواة العلاقات الدولية الحقيقية. لكن ومع تراجع الحرب الباردة خلال سبعينيات القرن العشرين، قد يشهد المرء نموا مهما في المنظمات الدولية وغير الحكومية إضافة إلى الهيئات الدولية المتعددة. وأدى هذا التطور إلى إحياء الفكر المثالي الذي أصبح معروفا بالمذهب الليبرالي الجديد أو المذهب التعددي. وبينما يتم قبول الافتراضات الرئيسية في الواقعية، قدم كل من روبرت كوهن وجوزيف ناي، ابرز القائلين بمذهب التعددية، مفهوم (الاعتماد المتبادل المعقد) ليصفا هذه الصورة الأكثر نخبوية في السياسة العالمية. فهما يؤكدان أن التطور يمكن أن يتحقق في العلاقات الدولية وأن المستقبل لا يحتاج إلى أن يكون مثل الماضي.
النظام الدولي لدى كينيث وولتز
إن الاستجابة الواقعية الأكثر أهمية أتت من كينيث وولتز الذي أعاد صياغة مذهب الواقعية في العلاقات الدولية في شكل جديد ومختلف. ففي كتابه (نظرية السياسة الدولية) الذي نشر لأول مرة في عام 1979 استجاب للتحدي الليبرالي وحاول أن يصحح أخطاء الواقعية الكلاسيكية عند هانز مورغنثو عن طريق منهجه الأكثر علمية والذي أصبح معروفا بالواقعية البنيوية أو النيو واقعية. إذ في حين استمد مورغنثو نظريته في الصراع من اجل السلطة التي ربطها بالطبيعة البشرية، بذل وولتز جهدا ليتجنب أي نقاش فلسفي للطبيعة البشرية ووضع بدلا من هذا نظرية في السياسة الدولية مشابهة للاقتصاد المجهري microeconomics . حيث يؤكد وولتز أن الدول في النظام الدولي كالشركات في الاقتصاد المحلي لديها نفس المصلحة الرئيسية وهي البقاء. "من الناحية الدولية، إن بيئة أفعال الدول أو بنية أنظمتها تعبر عنها الحقيقة القائلة أن بعض الدول تفضل البقاء على نهايات أخرى يمكن اكتسابها على المدى القصير وهي تتصرف باكتفاء نسبي لتحقق تلك النهاية" (وولتز صفحة 93).
ويدعي وولتز أن عبر الاهتمام بالدولة الفردية وبالقضايا الأيدلوجية والأخلاقية والاقتصادية فإن الليبراليين التقليديين والواقعيين الكلاسيكيين يرتكبون نفس الخطأ. فهم يفشلون في تطوير وصف جدي للنظام الدولي—النظام الذي يمكن استخلاصه من الميدان السوسيوسياسي الأوسع. ويعترف وولتز أن استخلاصا كهذا إنما يشوه الواقع ويمحو العديد من العوامل التي كانت مهمة بالنسبة للواقعية الكلاسيكية. انه لا يسمح للتحليل الذي يقول بتطور بعض السياسات الخارجية. ولكنه استخلاصا له فائدته أيضا. فمن الجدير بالملاحظة انه يساعد على فهم المحددات الأولية للسياسة الخارجية. إن نظرية وولتز النيو واقعية لا يمكن تطبيقها على السياسة الوطنية المحلية. فهي لا تستطيع أن تسهم في خدمة تطوير سياسات الدول المتعلقة بشؤونها الدولية والداخلية. وتساعد نظريته فقط في شرح سبب سلوك الدول المتشابه رغم اختلاف أشكال حكوماتها وتنوع أيديولوجياتها السياسية وسبب عدم تغير صورة العلاقات الدولية الشاملة رغم لا مركزية تلك الدول المتنامية.
وبحسب وولتز، فإن سلوك الدول المتشابه عبر القرون يمكن شرحه من خلال التقييدات على سلوكها التي تفرضها بنية النظام الدولي. وتُعرف بنية النظام أولا بالمبدأ التي تنظم به ثم بتمييز وحداتها وأخيرا بتوزيع السلطة عبر الوحدات. إن اللا مركزية anarchy أو غياب السلطة المركزية هي بالنسبة لوولتز المبدأ المنظم للنظام الدولي. فوحدات النظام الدولي هي الدول. ويعترف وولتز بوجود ممثلين لا دوليين لكنه يبعدهم كونهم غير مهمين نسبيا. لأن كل الدول تريد البقاء، واللا مركزية تفترض نظام الاعتماد على النفس (المساعدة الذاتية) الذي بموجبه كل دولة عليها أن تعتني بنفسها إذ لا يوجد تقسيم للعمل أو تمييز وظيفي بينها. وبما إن وظائفها متشابهة فهي تتميز رغم ذلك بقدراتها النسبية (السلطة التي تمثلها كل دولة) لأداء نفس الوظيفة.
نتيجة لهذا، ينظر وولتز إلى سلوك السلطة والدولة بشكل يختلف عن الواقعيين الكلاسيكيين. فبالنسبة لمورغنثو، كانت السلطة وسيلة وغاية وكان سلوك الدولة العقلانية مفهوما ببساطة كسياق للفعل الذي سيقوم بمراكمة المزيد من السلطة. على العكس من ذلك، يعتقد الواقعيون الجدد أن المصلحة الرئيسية لكل دولة هي الأمن ولذلك هم سيركزون على توزيع السلطة. وكذلك إن ما يضع الواقعية الجديدة بعيدا عن الواقعية الكلاسيكية هو المفهوم الذاتي الصارم منهجيا وعلميا. ويصر وولتز على الاختبارية التجريبية للمعرفة وعلى منهج التكذيب كأداة منهجية التي، كما يعترف هو نفسه، تحظى فقط بتطبيق محدود في العلاقات الدولية.
إن توزيع القدرات بين الدول يمكن أن يتغير لكن اللا مركزية—المبدأ المنظم للعلاقات الدولية تبقى ثابتة. ولدى هذا تأثير دائم على سلوك الدول الذي يصبح اجتماعيا في منطق المساعدة الذاتية. وفي محاولة لتفنيد الأفكار الليبرالية الجديدة المتعلقة بتأثيرات الاعتماد المتبادل يعطي وولتز سببين وراء تقييد النظام الدولي المركزي للتعاون وهما: انعدام الأمن والمكتسبات المتفاوتة. وفي سياق اللا مركزية، كل دولة غير متأكدة من نوايا الدول الأخرى وخائفة من أن المكتسبات الممكنة التي تنتج عن التعاون قد تصب في مصلحة دول أخرى أكثر من مصلحتها الخاصة وهذا بالنتيجة يؤدي بها إلى أن تتكل على الدول الأخرى. "إن الدول لا ترغب في أن تضع نفسها في أوضاع من الاعتماد المتزايد. وفي نظام المساعدة الذاتية (الاعتماد على النفس) تقوم اعتبارات الأمن بإخضاع المكسب الاقتصادي إلى المصلحة السياسية". (وولتز صفحة 107).
وبسبب رشاقتها النظرية وصرامتها المنهجية، أصبحت الواقعية الجديدة مؤثرة جدا داخل حقل العلاقات الدولية. لكنها استفزت أيضا نقودات عنيفة على عدد من الجبهات.
الاعتراضات على الواقعية الجديدة
كتب وولتز في عام 1979 إن في العصر النووي لم يكن النظام الدولي ثنائي القطبين، المبني على دولتين عظميين—الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي—مستقرا فقط بل من المحتمل أن يستمر(صفحة 7—176). ومع سقوط جدار برلين والتفكك اللاحق للاتحاد السوفيتي اثبت هذا التنبؤ خطأه. وتحول العالم الثنائي (ذو القطبين الأوحدين) ليغدو أكثر خطورةً مما توقع اغلب المحللين الواقعيين. فنهايته فتحت إمكانيات وتحديات جديدة تتعلق بالعولمة. لقد قاد هذا الأمر بالعديد من النقاد ليقولوا أن الواقعية الجديدة مثلها مثل الكلاسيكية لا يمكنها أن تصف التغيرات في السياسة العالمية بشكل وافي.
لم يعد الجدل الجديد بين النيو ليبراليين والنيو واقعيين الدوليين معنيا بأسئلة الأخلاق والطبيعة البشرية بل معنيا بدرجة تأثر سلوك الدولة بالبنية اللا مركزية أكثر من تأثرها بالمؤسسات والتعليم وعوامل أخرى توصل إلى التعاون. ففي كتابه الصادر عام 1989 (المؤسسات الدولية وسلطة الدولة) يقبل روبرت كوهين بتأكيد وولتز على نظرية النظام المتساوي وافتراضه العام بأن الدول هي ممثلة مصالحها الخاصة التي تسعى عقلانيا وراء أهدافها. لكن وبإعماله لنظرية اللعبة فهو يُظهر أن الدول يمكنها توسيع فهم مصالحها الخاصة من خلال التعاون الاقتصادي والانخراط في المؤسسات الدولية. كذلك يمكن لنماذج التعاون المتبادل من أن تؤثر بسياسة العالم. ويدعو كوهين إلى نظريات نسقية تكون لديها القدرة على التعامل بطريقة أفضل مع عوامل تؤثر بتفاعل الدولة ومع التغيير.
ويركز كذلك منظرون نقديون أمثال روبرت كوكس على عجز الواقعية الجديدة بالتعامل مع التغير. ففي نظرهم، يأخذ الواقعيون الكلاسيكيون وكذا الجدد ببنيةً خاصة للعلاقات الدولية محددة تاريخيا ومتمركزة حول الدولة ويفترضونها كبنية صالحة للعالم اجمع. على عكس ذلك، يعتقد المنظرون النقديون أن من خلال تحليل تفاعل الأفكار والعوامل المادية والقوى الاجتماعية يستطيع المرء أن يفهم كيف تكونت تلك البنية وكيف ستتغير في النهاية. وهم يؤكدون أن الواقعية الجديدة تهمل كل من السيرورة التاريخية التي من خلالها تتشكل الهويات والمصالح والإمكانيات المنهجية المختلفة. إنها تشرعن الوضع الراهن في العلاقات الستراتيجية بين الدول وتعتبر المنهج العلمي على انه الطريقة الوحيدة للحصول على المعرفة. فهي تمثل ممارسة حصرية ومصلحة في السيطرة والهيمنة.
وبينما يهتم الواقعيون بالعلاقات بين الدول يركز المنظرون النقديون على التحرر الاجتماعي. فرغم الاختلافات تسلم النظرية النقدية وما بعد الحداثة والحركة النسوية جميعها بفكرة سيادة الدولة وتصور مجتمعات سياسية جديدة تكون اقل إقصاءً مقارنة مع مجموعات هامشية ومحرومة. وتؤكد النظرية النقدية ضد تركز الدولة (حصرية الدولة) وتنكر أن مصالح مواطني بلد ما تأخذ الأسبقية على أولئك الذين لا ينتمون إلى ذلك البلد (الأجانب). وهي تصر أن السياسيين يجب أن يعيروا اهتماما اكبر لمصالح الأجانب بقدر اهتمامهم بمصالح رعاياهم ويتصورون بنى سياسية تتجاوز الدولة القومية المحصنة. وتشكك ما بعد الحداثة بزعم الدولة في أن تكون الأخيرة هي البؤرة الشرعية للولاءات الإنسانية وحقها في أن تفرض حدود اجتماعية وسياسية. فهي تدعم تنوع الثقافات وتشدد على مصالح الأقليات. أما الحركة النسوية فهي تؤكد أن النظرية الواقعية تبدي انحيازا ذكوريا وتدعو إلى تضمين المرأة والقيم البديلة في الحياة العامة.
إن النظرية النقدية والآراء البديلة، التي تدعى أحيانا "بالانعكاسية"، تمثل قطيعة راديكالية مع نظريات العلاقات الدولية "العقلانية" لكل من الواقعيين الجدد والليبراليين الجدد. وبالنسبة للتركيبيين أمثال الكساندر فيندت فهم يحاولون تجسير العلاقة بين وجهتي النظر تلك من جهة آخذين نظام الدولة الحالي واللا مركزية بجدية، وتركيزهم على تشكيل الهويات والمصالح من جهة أخرى. وبخلاف الأفكار النيو واقعية يؤكد فيندت أن مفهوم المساعدة الذاتية لا يلزم منطقيا أو عرضيا من مبدأ اللا مركزية لأنه يُركب (من التركيبية) بشكل اجتماعي. إن فكرة فيندت القائلة أن هويات ومصالح الدول تُركب اجتماعيا قد ساهمت في أن تسمى أفكاره بالتركيبية (أو البنائية constructivism). نتيجة لهذا، ومن وجهة نظره، فإن المساعدة الذاتية وسياسة السلطة هما مؤسستان وليستا خاصيتين أساسيتين لغياب المركزية (اللا مركزية) لأن هذه الأخيرة هي ما تصنعها الدولة. إذ لا يوجد هناك منطق محدد واحد للا مركزية بل هناك عدة مناطيق، اعتمادا على الأدوار التي من خلالها تتعرف الدول على أنفسها وتتعرف بعضها على البعض. وتتأسس السلطة والمصالح عن طريق الأفكار والمعايير. حيث يدعي فيندت أن الواقعية الجديدة لا يمكنها أن تصف التغير في سياسة العالم أما معياره التركيبي فيمكنه فعل ذلك.
يأتي استنتاج مماثل، رغم كونه مشتقا من طريقة تقليدية، من منظري المدرسة الانكليزية (مفهوم المجتمع الدولي) الذين يركزون على كل من التقييدات النسقية والمعيارية على سلوك الدول. وبالإشارة إلى النظرة الكلاسيكية للإنسان باعتباره فردا اجتماعيا وعقلانيا بصورة رئيسية وقادرا على التعاون والتعلم من تجارب الماضي، يؤكد هؤلاء المنظرون على أن الدول كالأفراد، لهم مصالح مشروعة ينبغي على الآخرين الاعتراف بها واحترامها وعلى الآخرين كذلك الاعتراف بالفوائد العامة لمراقبة مبدأ التبادلية reciprocity في علاقاتهم المتبادلة. لذلك، يمكن للدول أن تربط أنفسها بدول أخرى من خلال معاهدات وأن تطور بعض القيم المشتركة مع دول أخرى. من هنا، فإن بنية النظام الدولي ليست ثابتة كما يزعم الواقعيون الجدد. إنها ليست لا مركزية هوبزية (نسبة إلى توماس هوبز) تامة يتخللها خطر الحرب، لأن يمكن للنظام الدولي غير المركزي القائم على علاقات السلطة المحضة بين الممثلين أن يتطور إلى مجتمع دولي أكثر تعاونا وسلما يتشكل فيه سلوك الدولة عبر قيم ومعايير مشتركة. حيث يكون التعبير العملي عن المجتمع الدولي هو المنظمات الدولية التي تدعم سيادة القانون في العلاقات الدولية خصوصا الأمم المتحدة.
خاتمة: السمة التحذيرية والايجابية للواقعية
إن نتيجة الجدل العرضية وغير المناسبة التي تتعلق بالواقعية الجديدة هي أن الأخيرة وقسم كبير من نقادها (استثناء مميز متمثل بالمدرسة الانكليزية)، معبرا عنها بمصطلحات علمية وفلسفية مجردة، قد جعلت نظرية السياسة الدولية نظريةً تكاد تكون مغلقة بالنسبة إلى الإنسان العادي وقد قسمت حقل العلاقات الدولية إلى أجزاء غير منسجمة. وفي حين كانت الواقعية الكلاسيكية نظرية تهدف إلى تدعيم الممارسة الدبلوماسية وتقدم دليلا يتبعه أولئك الذين يبحثون عن فهم وعن تعامل مع التهديدات المحتملة، فإن نظريات اليوم، المعنية بصور ومشاريع كبيرة ومتنوعة، هي نظريات غير ملائمة لتقوم بتلك المهمة.
لكن أياً كانت نقاط ضعفه—بما فيها تلك التي اشرنا إليها في النص—فالتقليد الواقعي في العلاقات الدولية يستمر بانجاز دور مهم. حيث تحذرنا الواقعية من النزعة التطورية والأخلاقية والقانونية وتوجهات أخرى تفقد ملامستها لواقع المصلحة الخاصة والسلطة. أما انبعاث الواقعية الجديدة في سبعينيات القرن المنصرم فكان لها أيضا من أن تُفسر كتصحيح ضروري للاعتقاد الليبرالي البالغ التفاؤل في التعاون الدولي والتغير الذي ينتج عن مبدأ الاعتماد المتبادل. لكن، وكما لاحظ جاك دونيلي بصواب، حالما تم انجاز ذلك التصحيح فإن زمن الواقعية كطريقة مهيمنة وناجعة قد ولى. وبنكران أي تطور في علاقات الدولة المتداخلة، تحولت الواقعية إلى أيدلوجيا. فتأكيدها على سياسة السلطة والمصلحة الوطنية يمكن له أن يُساء استخدامه لتبرير العدوان. فينبغي أن تُستبدل الواقعية بنظريات تكون أفضل في وصفها للتعاون والصورة المتغيرة في السياسة العالمية. وكما بالنسبة إلى وظيفتها السلبية والتحذيرية، فيجب لمعاييرها الايجابية من أن تذكر. تلك المعايير التي تمتد من العقلانية والحذر التي شدد عليهما الواقعيون الكلاسيكيون إلى التعددية الدولية multilateralism فالقانون الدولي ثم مجتمع دولي يؤكده ليبراليون وأعضاء المدرسة الانكليزية وصولا إلى الكوزموبوليتانية (العالمية) والتكافل العالمي الذي يدعو إليه كتّاب اليوم.