منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By علي الاحمري3333
#62770
مضائق البِسْفُور والدَّرْدنيل حتى عام 1774
اكْتَسَبت المضائقِ المائية، البِسْفُور والدَّردنيل، المعروفة بالمضائقِ التُّركية أهميةً كبيرةً على مرِّ التَّاريخِ. وتَرجعُ هذه الأهميَّة إلى عامِلينِ أساسيَّينِ الأولُ: أنَّها الطَّريقُ المِثالي للمِلاحةِ؛ إذ يَرْبُطانِ البَحر المُتوسِّط بالبحرِ الأسودِ. والثاني: أنهما لا يُشكِّلان الحدود الوَهْمية بين قارةِ أوربا وقارةِ آسيا فحسب بل جُسورًا بين هاتين القارتين إذ يَرْبُطان ((رأس الجِسْر)) الأوربي من الأراضي التُّركية بالأناضولِ([1]) الاسيَويَّة التُّركية. وهكذا كانت المَضائِق التُّركية مَمَرًّا مُهمًّا للملاحةِ وكَطَريقٍ للمُرورِ بَيْنَ الشَرقِ والغَربِ. وبذلك أضْفَتْ الجُغرافية والتَّاريخِ لِتلكَ المِنْطَقة أهميَّةً جَعَلتها مِحْورًا استراتيجيًا عالميًا([2]).

جغرافية المضائق
أعطى المؤرِّخُ اليُونانيُّ هيرودوتس في القِرْنِ الخامِس قَبْلَ الميلادِ وصْفًا للبَحْرِ الأسودِ الذي سَمَّاه بـ ([3])Euxinsوالمضائِق المُتَّصلة به وكما يأتي: ((لا يُمكن أنْ يكونَ بَحرٌ مماثلٌ لبحرِ Euxinsطُولهُ (1380) ميلاً وعَرْضُه في أوسعِ أجْزاءهِ (410) أميال. ويَبْلُغ طولُ البِسفور، المضيقِ الضَيِّق الذي يَصبُّ فيه… (15) ميلاً تقريبًا وعُرضه عندَ البَحرِ الأسودِ نِصفَ ميلٍ. ويَتَوسَّطُ بروبونيتس Propontis[بحر مَرْمَرة] الذي يَبلغُ عرضهُ (60) ميلاً وطُولهُ (170) ميلاً مَضيقَ البِسْفور، ومَضيقَ هيلسبونت Hellespont[الدردنيل] المضيقَ الضَّيقَ الذي يَبلُغ طُولهُ تَقريبًا خمسينَ ميلاً لكنَّ عَرضُه يقلُّ ميلاً واحدًا ويُؤدِّي هيلسبونت إلى بحر إيجة Aegean))([4]).

ولا يَختلفُ هذا الوَصْفُ الجُغرافيُّ القديم عن الوَصفِ في الوَقتِ الحاضِرِ، لكن المَضائِقَ التي تَرْبِطُ بَحر إيجة بالبحرِ الأسودِ تَمتازُ عن جَميعِ المَضائِقِ المائِيَّةِ في العالَمِ كَوْنَها أطْوَلَ وأضْيقَ نِسْبيًا([5]).

وعلى أيِّ حال، فالمَدخلُ الجَنوبيُّ الغَربيُّ أو المَعْروفُ بالدردنيل، كانَ اسمهُ عند اليونانيين (هيلسبونت) ويعني بَحَر هيليس (Sea of Helles) نسبةٍ إلى أسطورةٍ تقولُ أنَّ فتاةً بهذا الاسمِ ألقَتْ بِنَفسِها في مِياهِهِ([6]). وكانَ يُعرَفُ أيضًا بِمَضيقِ أبيدوس (Abydos) نسبةً إلى مَدينَةٍ بهذا الاسمِ، وقد اسْتَخْدَمَ العالِمُ الإسلاميُّ الإدْريسيُّ هذا الاسمَ([7]). وسمي بمضيق الدردنيلز (Dardanelles) في اللغتين الإنكليزية والفرنسية و Dardanellenباللغة الألمانية. وهناك اختلاف في أصل التسمية. فالبعض يرى بأنها ترجع إلى أسطورة يونانية وبالتحديد ((دار دانوس)) ابن الإله الأكبر ((زوس))([8]) مؤسس دولة طروادة([9]). والآخر يرى بأن التسمية ترجع إلى اسم مدينة دار دانوس Dardanusاليونانية([10]). وسَمَّت خرائط الإيطاليين في العصور الوسطى المضيق بمضيق الرومان([11]). وعلى أية حال، فقد أصبح يعرف المضيق باسم الدردنيل منذ العصور الوسطى. وعرفَ عند العثمانيين باسم بوغاز جناق قلعة Canakkale Bogaziنسبة إلى القلعة التي بناها السلطان محمد الثاني (الفاتح) (1451- 1481) عام 1451 التي توسعت واصبحت مدينة بنفس الاسم([12]).

يَبلُغ طُولُ الدردنيل([13]) (36) ميلاً بَحْريًا([14]) ويُطلَقُ على (15) ميلاً من المَدْخلِ بـ ((المَمَرَّات الضَّيِّقةِ)) The Narrowsإذ يكون عَرْضُها من ميلٍ إلى ميلين. ويُصْبحُ العَرضُ عند مَدينةِ جناق قلعة التي تَقَعُ على الشَّاطئ الآسيويِّ ثَلاثة أرْباع الميلِ. وعِنْدَ مدينةِ غاليبولي Gallipoli(الواقعة في الجزء الأوربي) يَضيقُ المَجرى أيضًا لِيَصِلَ إلى ثَلاثةِ أرباعِ الميلِ، ويُطْلقُ عليه بِمَضيقِ غاليبولي. وبَعدَها بقليلٍ يَتَّصل المَضيقُ بِبَحْرِ مَرْمَرة([15]).

أما بَحرُ مَرمَرةَ فكان يُطْلقُ عليه بـ بروبونيتس Propontis([16]) والكلمةُ يونانِيَّةٌ تَعني ((مُقدَّمةُ البَحْرِ)) أي البَحْر الذي يَسْبِقُ البَحْرَ الأسودَ. وأصبحَ يُطْلَقُ عليه بحر مَرْمَرة مُنْذ العُصُور الوسطى([17]).

يربط بحرُ مَرمرة مَضيقَ الدَّرْدَنيل بمضيقِ البِسْفور ويبلغ طُولُ بَحْر مَرمرة (150) ميلاً تقريبًا، أما عَرضُهُ في أوسعِ جزءٍ منه فَيَبلغُ (40) ميلاً. أما عُمْقُ البَحْر، فهو عَميقٌ نِسبيًا، والسَّاحِلُ الشَّمالي (الأَوربي) لهذا البَحْرَ غَيرُ عَميقٍ لذلك لا تُوجَدُ مَوانئُ عليه. على عَكْسِ ساحِلهِ الجَنوبيِّ (الآسيويِّ) إذ يُوجدُ خَليجُ أردك Erdekوإلى الشَّرقِ خَليجُ مودانيا Mudanyaالعَميقُ وإلى أقْصى الشَّرْقِ خَليجُ أزمت Ismitالذي يَبْلُغُ طُولُهُ (26) ميلاً وعَرْضُ مَدْخَلهِ (3.5) ميل. ويُوجَدُ على هذا السَّاحِلِ عِدَّةُ مَوانِئ جَيِّدةٌ. وتُوجَدُ عِدَّةُ جُزُرٍ في هذا البَحْرِ أشْهَرها جَزِيرَةُ مرمرة المَشهُورةُ برخامها الذي بدأ استخراجه منذ القدم، ولهذا السبب سُمي هذا البحر باسم ((مرمرة))؛ وجُزُرُ الأُمراءِ Princes Islandsالقَريبةُ من مَدْخَلِ مضيقِ البِسْفور([18]).

أمَّا مضيقُ البِسْفور فَيَربطُ بَحْرَ مَرْمَرة بالبحر الأسودِ كما لاحَظْنا، فإنَّ تسمِية البِسْفور يُونانيةُ الأصلِ وتعني ((معبر الثَّوْر Oxen ferry([19]))).

ويُعْرَفُ هذا المَضيقُ أيضًا باسمِ مَضيقِ إسطنبول، نِسبَةً إلى مَدينةِ إسطنبول التي تُشْرِفُ عليه. أمَّا اسمُهُ التُّرْكيُّ فهو بوغازجيBogazici ، ويَبلُغُ طُولُ المَضيقِ (17) ميلاً، ويكون عَرْضُهُ من ميلٍ إلى أربعةِ أميال ونصف الميل، ويَبْلُغُ عَرْضُهُ في أضْيقِ جُزْءٍ مِنْهُ ثَلاثةُ أرباعِ الميلِ. وتَقَعُ مَدينةُ إسطنبول على الجانِبِ الغَربيِّ (الأوربيِّ) مِنهُ، ويَشْطِرُ المدينَةَ خَليجٌ صَغيرٌ عَميقٌ يُعْرَفُ بالقَرْن الذَّهبي Golden Hornالذي يُشَكِّلُ ميناءاً للمَدينةِ، وبِذلكَ اكْتَسَبَتِ المدينَةُ أهميَّةً كبيرةً بِفَضلِ هذا المَوقِع المهم. وعلى الجانِبِ الآسيويِّ وبِمُقابِل القَرْنِ الذَّهبيِّ يَقَعُ ميناءُ حَيْدَر باشا. ومَضِيقُ البِسْفور([20]) يَصْلحُ للرِّسوِّ في مُعْظَم أجْزائِهِ([21]).

ولا تُوجَدُ جُزُرٌ في البَحْر الأسودِ مُقابِلَةٌ لمَنْفَذ البِسفور، بَيْنَما تُوجَدُ جَزيرتانِ تَقَعُ بالقُربِ من مَدْخَلِ مَضيقِ الدَّرْدنيل في بَحْرِ إيجة، ففي الشَّمال من طَرَفِ شِبهِ جَزيرةِ غاليبولي تَقَعُ جَزيرَةُ أمبروس Imbros(وتسمى بالتُّركيةِ Imroz)، وفي الجنوبِ من مَدْخلِ الدَّرْدنيل بالقُرْبِ من السَّاحِلِ الآسيويِّ تَقَعُ جَزيرةُ تينيدوس Tenedos(وتُسمى بالتُّركية بوزجادا Bozcada) المَشْهورةُ في دَورِها في حَرْبِ طِرْوادة([22]).

ومن الجدير بالذكر ان جريان مياه مضائق البِسْفور والدَّردنيل من الأعلى من جهة البحر الأسود وبصورة مستمرة ويعود ذلك الى ارتفاع مستوى سطح البحر الأسود بـ (50) سم عن مستوى سطح البحر المتوسط وهذا ناتج عن وجود الأنهار الكبيرة التي تصب مياهها في البحر الأسود، وكثرة تساقط الأمطار، وفضلاً عن قلة التبخر بسبب انخفاض درجات الحرارة([23])، وبذلك اصبحت مضائق البِسْفور والدَّردنيل بمثابة نهر سريع الجريان، يصعب على السفن والمراكب المرور فيه من جهة البحر المتوسط إلى البحر الأسود، مما أعطى قيمة أمنية للمدن المشرفة على مضائق البِسْفور والدَّرْدنيل، من هجمات السفن، وقد بقيت هذه القيمة حتى عام 1830، حين دخلت السفن البخارية الخدمة الفعلية، فأصبح من السهل مرورها بعد ان كانت تنتظر الرياح المناسبة([24]).

مهاد تاريخي عن مضائق البِسفور والدَّرْدنيل حتى العهد العثماني
تتَمتَّعَ مضائق البِسْفور والدَّردنيل عِبْرَ التاريخ بأهميةٍ مُتميِّزةٍ، ومثلوا دورًا مُهمًا في التَّطوُّر التَّاريخي لهذه المِنْطقةِ من العالَمِ. فالتَّشكيلُ الخاصُّ للمَضائِقِ، وتفردهم كمَمرَّاتٍ مائِيَّةٍ إلى البَحْر الأسودِ، قد جَذَبَ انتباهَ الملاَّحينَ مِنذُ زَمنٍ بعيد جدًا. ولقَد زَيَّنَت الميثولوجيا اليُونانية المَضائقِ بالأساطِيرِ الَّتي رَمَزَتْ إلى مَخاطِرِهما البَحريةِ واغراءاتِ التَّحدِّي. وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ التِّجارةَ بين بَحْرِ إيجةَ والبَحْرِ الأسودِ تَرجِعُ إلى العُصور المُبكِّرةِ، فالمُسْتَوطناتُ التي تأسَّسَتْ، والمَوانئُ التي أُنْشِأتْ، مثل Lompsakos(الآن Lapeski) و Heliopolis (الآن غاليبولي) و Chalcedon(الآن Kadikoy) تَدُلُّ على أهميَّةِ طَريقِ التِّجارةِ هذا([25]). وتَقَعُ بالقُرْبِ من مَدْخَلِ مَضيقِ الدَّردنيل من بَحْر إيجة مَدينةُ طِروادة Troy، التي كان لتأسيسِها تأثيرٌ كبيرٌ على أهميَّةِ المَضائِقِ والتِّجارةِ التي تَمُرُّ فيه([26]). ويَرجِعُ سَبَبُ حُروبِ طِرْوادةَ التي حَدَثَتْ في حُدودِ عام 1200 ق.م إلى النِّزاع للسَّيْطَرةِ على مَضيقِ الدردنيل وعلى حُرِّيةِ طَريقِ التِّجارةِ إلى البَحْرِ الأسودِ([27]). وتعد هذه الحُروبُ الأولى في تاريخِ النِّزاعِ للسَّيطرةِ على المَضائقِ([28]). وفي القِرْنِ السَّابِعِ قبل الميلاد قامَ مُسْتَوطِنونَ من مَدينةِ Megaraاليونانية بتأسيسِ مَدينةِ Chalcedonالواقِعَةِ على السَّاحِلِ الآسيويِّ عِنْدَ نُقطةِ دُخولِ البِسْفور للبحر الأسودِ، وبَعْدَ عِدَّةِ سَنَواتٍ قامَ بازاس Byzasبانشاءِ مَدينة بيزنطة عام 685 ق.م مُقابل المدينة اليُونانيَّة القديمة([29]).

ولأنَّ المضائِقَ مثلت دورًا مُزْدوجًا في تاريخها القَديمِ كَممرٍّ مائيٍّ يَرْبِطُ البَحْرَ الأسودِ بالبَحْرِ المُتوسطِ، وكنُقاطِ اتِّصالٍ للمُرورِ من آسيا إلى أوربا وبالعَكْسِ، فقد أصبَحَت مِنْطقةُ المضائِقِ هذه مَيدانًا للصِّراعِ الفارسي- اليوناني، فَقادَ المَلِكُ الفارِسيُّ دارا الأول([30]) في حُدودِ عام 512 ق.م حَملةً عسكَريَّةً ضِدَّ اليونان فَعَبَر هو وجَيْشُهُ مَضيقَ البِسْفور بِواسِطَةِ جِسرٍ من السفن ثم اتجه نحو شَمالِ البحرِ الأسوَدِ، وقادَ ولَدُهُ Xerxes485- 465 ق.م الحَملَةَ الفارِسيَّة الثَّانيَّة ضِدَّ اليونانيينَ.

ففي عام 480 ق.م أقام جِسرًا من السفن على مَضيقِ الدَّردنيل إذ عَبَرَ هو وجَيشُهُ لاحتلالِ بلادِ اليُونانِ([31])، لكنَّ الفُرسَ هُزِمُوا وتَمَكَّنَ اليُونانيون عام 479 ق.م. من السَّيطرةِ على المَضائِقِ وطَرْدِ الفُرْسِ منها([32]).

وأصْبَحت المَضائِقُ ولاسيما مَضيقَ الدَّردنيل مَيْدانًا للصِّراعِ البَحريِّ في الحُروبِ البلوبوينزية التي دارت بين أثينا واسبارطة. واكْتَسَبَ هذا المَضِيقُ أهميَّةً خاصَّةً بالنسبةِ إلى أثينا، فالحُبوبُ والمُنتَجاتُ الأُخرى لِمْنطقة البَحْرِ الأسْوَدِ والتي لا غِنى عنها للاثينيين، كانت تُشحَنُ عِبر المَضائِقِ. وشَهِدَ مَدْخلُ مَضيقِ الدَّردنيل مَعركةً بحريةً حاسِمةً بين أُسطولي أثينا واسبارطة عام 405 ق.م، تلك المَعركةُ التي مَهَّدَتْ لِسُقوط اثينا في العام التالي([33]).

وبَرَزَتْ أهميَّةُ المَضائقِ من خِلالِ حَمْلَةِ الإسكَنْدرِ المَقدونيِّ ضِدَّ الفُرْسِ ففي عام 334ق.م عَبَرَ الإسْكَنْدر وجَيشُهُ مَضيقَ الدَّردنيل([34]). واتَّسمَتْ أهميتهُ خلال حكم الاسكندر وخلفاءهِ بكونها الطريق الرئيس لعبور القوات من مقدونيا واليونان إلى آسيا الصغرى وما وراءها([35]).

وعِندما تمكَّنَ الرُّومانُ من إخضاعِ مِنْطَقةِ شَرْقِ البَحْر المتوسِّط بأكمَلِها، ومَدُّوا حُكْمَهم على المنْطَقةِ المُحيطةِ بمضائق الدَّردنيل والبِسْفور اللَّذين أصبحا ((جِسْرين)) يَربُطانِ أُوربا بآسيا، إذ استَخْدمَتْهما الجُيوشُ الرُّومانيَّةُ كأفضَلِ الطُّرقِ البَرِّيةِ بينَ المُمْتَلكاتِ الرُّومانيَّة في البَلقانِ وتِلكَ الَّتي في آسيا الصُّغْرى([36]).

وازدادَتْ أهميَّةُ المَضائقِ خِلالِ القِرنِ الرَّابعِ الميلاديِّ عِنْدما قَرَّرَ الإمبراطور الرُّومانيُّ قسطنطين الكبير (324- 337م) نَقْلَ عاصِمَتِهِ من رُوما إلى الشَرْقِ، فكان بنِيَّتهِ بناءَ عاصِمةٍ جَديدةٍ على أنقاضِ مَدينةِ طِرْوادة التي كانت تُهَيْمنُ على مَضيقِ الدَّردنيل([37]). ولكن لأسبابٍ عَسكَريَّةٍ واقتِصاديَّةٍ وسياسيَّةٍ([38])، اختارَ خَرائِبَ مَدينةِ بيزنطة لِبناءِ عاصِمَةِ الإمبرطورية التي اكتَمَلَ بناؤها في 11 مايس عام 330م([39]). وأطْلَقَ عليه اسم ((القسطنطينية)) نِسْبةً إلى اسمهِ، وأصبحت ((روما الثَّانية))([40]) وبذلك اكتَسَبتِ المضائِقُ التي تَربِطُ بينَ البَحرِ المُتوسط والبحر الأسودِ أهميَّةً استِثنائِيَّةً.

وحاوَلتْ أقوامٌ عديدةٌ احتِلالَ القُسْطنطينية؛ فحاولَ الهُونُ والأفار والسُّلاف احتِلالها، ولكن دُونَ جَدوى([41]). ولم تكُن مِنطقَةُ المضائِقِ بمَنْأًى عن مُحاولاتِ العَرب المُسلمين الذينَ حاولوا فَتْحَ القُسْطنطينية غير مرَّة، فقد حاصَرَها المُسلِمونَ اثنتا عَشْرة مَرَّة سَبعةٌ منها في القِرْنينِ الأوَّلين للإسلامِ([42])، ومن أهمِّ هذه المُحاولاتِ المُحاولةُ الَّتي ضُرِبَت الحصارَ في خِلافةِ عُثمان بن عفَّان tإذ هاجمَ جيش المُسلمين مضيقَ البِسفور، ولكن دُونَ جَدوى([43]). وكانت أُولى المُحاولاتِ الجادَّةِ لِفَتْحِ القُسطنطينية عام 48هـ، 668م في خِلافةِ مُعاوية بن أبي سُفيان عن طَريقِ البَرِّ والبَحْرِ، ولم يَتَمَكَّن المُسلمونَ من فَتْحِها، وهكذا باءَتْ هذه المُحاولةُ بالفَشَلِ([44]). ثم أمدَّ الخَليفةُ الأُمويُّ سُليمان بن عَبدِ الملكِ حَملةً عَسكريةً في عام 98هـ/ 718م([45]) تُعَدُّ الأقوى والأبرزَ، إذ ضَرَبَ الحِصارَ على القُسطنطينية برًّا وبحرًا([46]). وعلى الرُّغمِ من احتلال ساحِلَي المَضيقِ، وتشديد الحِصارِ لمُدَّةِ عامٍ([47])، إلاّ أنَّ الحَمْلةَ فَشِلت في فَتحِ القُسطنطينية، ويَعودُ سَبَبُ اخفاقِ هذه الأقوامِ في احتلالِ القُسطنطينية إلى مَوقِعها المُتَمَيِّزِ الذي اكتَسَبَتْهُ من مَضيقِ البِسْفور، وإلى جانب متانَةِ أسْوارِها ومَنعةِ قِلاعِها([48]).

ولأهميَّةِ مِنطقةِ المَضائِقِ بَقيتْ مَسرحًا للحُروبِ الأهليَّةِ التي شَهِدَتْها الإمبراطورية البيزنطية([49])، وبسَبَبِ ضَعفِ هذه الإمبراطورية تَدَخَّلت قُوى خارجيَّة تَمَثَّلتْ بِجُمْهورياتِ المُدنِ الإيطالية، البُنْدقية وجَنَوة وبيزا. فقد حَصَلت هذه الجُمهوريات ولاسيما البُنْدقية وجَنوة، على امتيازاتٍ تِجاريَّةٍ في الإمبراطورية البيزنطية([50]) وشَهِدَت منطقتا المضائِقِِ والبَحْرِ الأسودِ مُنافسةً تجاريَّةً بين هاتَيْن الجُمهوريتين([51])، قادَتْ في بَعضِ الأحيانِ إلى إعلانِ الحَرْبِ بَينهما كالَّذي حَدَثَ في عام 1294م([52])، فمِن أجلِ طَرْدِ النُّفوذ السِّياسيِّ والتِّجاريِّ للبَنادِقة في مِنْطقةِ البَحْرِ الأسودِ استَولى الجنويون على أضْيقِ منطقةٍ في مَضيقِ البِسفور وأقامُوا لهم قاعِدةً بَحريَّةً مَنَعُوا سُفُنَ البنادقةِ من المُرورِ إلى البَحْرِ الأسودِ. وشَهِدَ القَرْنُ الرَّابع عَشَر حُروبًا عَديدةً بين البنادقةِ والجَنويين، كانَتْ المَضائِقُ مَيدانها، وكانت الإمبراطورية البيزنطية في وضْعٍ لا تُحْسَدُ عَليه، فضَعْفُها جَعَلها تَميلُ مَرةً إلى جانِبِ البنادقة ومَرَّةً أُخرى إلى جانبِ الجنويين تبعًا لأهواءِ ومَصالحِ أباطِرَتِها، فَفي عام 1328م أرسل البنادقة اسْطُولَهُم عِبْرَ مَضيقِ الدَّرْدنيل فأغْلَقُوه، وأسَّروا سُفُنًا تَعُودُ للجَنويين. ودارتْ بين الطَّرفين في عام 1352م رَحَا مَعْركةٍ كانَ مَضيقُ البِسْفور مَسْرحًا لها، إذ اجْتَمَعَتْ نحو ((140)) سَفينةً. ولم تكن المَعْركةُ حاسمةً، فانتَهَت بالصُّلحِ بين الطَّرَفين في عام 1355م الذي لم يَسْتَمِرْ طويلاً. فانْدَلَعَ القِتالُ مَرَّةً أُخرى، وكانَ النَّصْرُ حَلِيفَ البَنادِقةِ الذين نَجَحوا في انتِزاعِ مِيناءِ تينيدوس الذي يَتَحَكَّمُ بمَدْخَلِ مَضيقِ الدَّردنيل من الإمبراطور البيزنطي(