مورتانيا
مرسل: الأحد مايو 05, 2013 10:54 pm
"موريتانية" مؤلفة من كلمتين: "مور"، وهي كلمة إسبانية، تعني الأسمر، و"تانيا" وتعني بلاد. فموريتانية إذن تعني بلاد السمر. و"موريتانية" اسم قديم لمملكة أقامها الرومان في شمالي غرب إفريقية، كانت مقسمة قسمين: قسما سموه موريتانية القيصرية، نسبة إلى عاصمته قيصرية، التي تقع في ولاية الأصنام بالجزائر، وتسمى اليوم شرسل، وقسما سموه موريتانية الطنجية، نسبة إلى مدينة طنجة بالمغرب، وتدخل فيه موريتانية الحالية. وفي القرن الثالث الميلادي أحدثوا قسما ثالثا سموه موريتانية السطيفية، في شرقي الجزائر، ويشمل تونس([1]). فـ"موريتانية" القديمة إذن تشمل تونس، والجزائر، والمغرب، وموريتانية اليوم، وليس هو موريتانية الحالية وحدها. ثم صارت "مور" عند الإسبانيين تعني المغربي([2])، أي المنتمي إلى المغرب الإسلامي، بعُدوتيه الأندلسية والإفريقية؛ ولذلك سموا مسلمي الأندلس "الموريسكيين". ولعل هذه التسمية انتقلت من إسبانية إلى سائر أوروبة، كما يبدو من مسرحية شكسبير "عطيل"، فإن المغرب وموريتانية عنده كانا مترادفين، فهو يقول على لسان ديدمونة: "لقد أحببت هذا المغربي حبا يقضي عليَّ بألا أفارقه في حياتي"([3])، "إن هؤلاء المغاربة لمتقلبون في أهوائهم"، وفي موضع آخر يسمي بلاد المغاربة الذين يتحدث عنهم "موريتانية".
على أن شكسبير ربما كان يعني بالمغرب وموريتانية بلاد شنقيط، سماها باسم الإقليم الذي هي منه؛ فإن بطل مسرحيته الذي سماه (أوتللُّو) كان -في زعم القصاص الذي نقل عنه- بدويا مغربيا أسمر، جلا إلى البندقية، وخدم في جيشها، حتى غدا قائده الأكبر، وعقيده في الملمات([4]). ويرجح هذا أن الأروروبيين في القرن السابع عشر الميلادي كانوا يطلقون (pays des Maures)، على الإقليم الذي يقع شمالي نهر السنغال إلى المحيط الأطلسي وجنوبي المغرب والجزائر إلى نهر النيجر، وهو بلاد الشناقطة قبل أن يتحيفها الاستعمار الفرنسي، ويقطع أوصالها بين مجاوريها من الشرق والغرب، والشمال والجنوب. هذا إلى أن الأوروبيين كانت لهم مرافئ تجارية على شواطئ هذا الإقليم، ولا سيما البرتغاليين، منذ عام 1445 -1633 م، ثم هولندا، ثم فرنسة وألمانية وبريطانية التي هزمتها فرنسة عام 1740 م، وتفردت دونها بالمراكز التجارية([5]).
وإذا كان خليل مطران عرَّب أوتللو بعطيل لأنه لم يجد مغربيا واحدا سمِّي عطاء الله([6])، فاستدل بذلك على أن أهل المغرب لم يكونوا يسمون بهذا الاسم، فذلك لأنه لا يعرف بلاد شنقيط، ولا أن أهلها، ولا سيما السمرِ منهم، يسمون "معطى الله". فـ"أوتللو" إذن شنقيطي الأصل، والأرض التي يتحدث عنها هي موريتانية اليوم.
وقد يكون أول من خصص بلاد شنقيط من الفرنسيين، بـهذا الاسم (موريتانية) هو الضابط الفرنسي فرانسوا كاي (Jean Francois Caille)([7])، ولعله أخذه من التسمية التي كانت شائعة في أوروبة منذ زمن. أما التسمية الرسمية فإنما كانت بمقترح من الضابط الفرنسي كوبولاني، الذي كان يعد العدة لاحتلال فرنسة لهذا الإقليم، فصدر قرار وزاري فرنسي، بتاريخ 27/ 12/ 1899 م بالموافقة على مقترحه.
والاسم الذي عرفت به هذه البلاد في المصادر الإسلامية، هو بلاد صنهاجةِ الرمال، وصحراء الملثمين، وبلاد لمتونة، في عهد المرابطين، وبعد أفول دولة المرابطين وقيام بعض الممالك السودانية المسلمة التي دخل في حكمها بعض الأقاليم الشرقية من بلاد شنقيط، كانت تعرف ببلاد التكرور. و"التكرور" -في الأصل- إمارة صغيرة في أقصى الشمال الغربي لبلاد السودان، غير بعيدة من مصب نهر السنغال([8]). وكانت لها -فيما يبدو- شهرة في المشرق العربي غطت على أسماء الممالك الإسلامية الأخرى في غرب إفريقية، ثم غدت تطلق على الأفارقة المسلمين كلهم، وهي الأصل لكلمة تكروني، أبدلت راؤها الأخيرة نونا.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي عرفت البلاد بشنقيط، مع تزايد قوافل الحجاج القادمة من إفريقية الغربية؛ لأنها كانت تتجمع في مدينة شنقيط، وهي مدينة في شمالي البلاد، ثم تنطلق إلى الحج([9]).
وإذا كان حديثنا سيقتصر على موريتانية بحدودها السياسية اليوم، فإن هذه الحدود ليست هي حدودها التاريخية، ولا حدودها الثقافية والاجتماعية، وإنما هي حدود رسمتها فرنسة، وفق ما تقتضيه مصالحها، لا ما تقتضيه الحقيقة التاريخية الثقافية والاجتماعية، فقد كانت بلاد شنقيط تمتد على رقعة جغرافية تشمل موريتانية اليوم وبعض مالي، ولا سيما شماليِّها وشماليها الغربي، وتشمل بعض شمالي النيجر، كما تشمل ما يعرف اليوم بصحراء البوليساريو؛ فإنها إقليم معمور بقبائل شنقيطية خالصة، وإن ضُمت إلى المغرب، بعد خروج إسبانية منها عام 1975 م، بعد أن تخلت موريتانية عن نصيبها منها، لما نهكتها الحرب. بالإضافة إلى مناطق من جنوبي الجزائر الغربي، حيث تيندوف وأتوات([10]).
وما فعلت فرنسة بموريتانية هو ما فعل الاستعمار الغربي بكل أرض احتلها، فقد غير معالم البلاد، وتعبث بحقائق التاريخ والجغرافية والاجتماع، وصاغها صياغة جديدة، على ما تقتضيه مصالحه، فأزال بلادا، واصطنع أخر، واستتبع بلادا لبلاد، واقتطع من بلاد لبلاد.
وإذا بدا الآن أن كثيرا من هذه البلاد صحراء قاحلة، ليس فيها معلم من معالم الحياة، فلم تكن كذلك، وإنما هي كصحراء الربع الخالي في جنوبي الجزيرة، ترقد تحتها حضارة عريقة، وعمران عريض، لم يبق من آثاره إلا إشارات قليلة في كتب بعض الرحالة، لا تدل على كثير من حقائق هذا الإقليم التاريخية، ومعالم قليلة يوشك بعضها أن يندثر ويهجر، وكان من قبل عامرا كثير السكان، وافر العلماء، فـ"عادت بسائطها خرابا كلها، بعد أن كان ما بين السودان (غرب إفريقية) والبحر الرومي (المحيط الأطلسي) عمرانا. تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء، وشواهد القرى والمدر"([11]). وما كان ماثلا في عهد ابن خلدون لحق بباطن الأرض؛ فلا يعرف له الآن أثر. ويكفي أن نضرب مثلا لاندثار هذه الحضارة من مدينتين: ولاتة (في شرقي البلاد) فقد كان يسكنها أكثر من 400 ألف نسمة، في العصر الحجري الحديث، وسكانها اليوم لا يزيدون على ألف نسمة. وفي العصور الإسلامية كانت مدينة مأهولة، وافرة العلماء. أما المدينة الأخرى فأودغست، وكانت عاصمة مملكة لمتونة، فقد وصفها البكري في القرن الخامس الهجري، بأنها مدينة آهلة، بها جوامع ومساجد كثيرة، يعمرها معلمو القرآن، وبها مبان حسنة، ومنازل رفيعة، وسوقها عامرة الدهرَ كلَّه، يُتعامل فيها بالقناطير المقنطرة([12]). وذكر ابن حوقل من غنى أهلها ووفرة مواشيهم أن ملكها في القرن الرابع الهجري بلغه أن قبيلة من البربر تعتزم الهجوم عليها بجموع غفيرة، فأمر رعاة إبل أخته أن يرسلوا عليهم إبلها آخر الليل، ففعلوا فداستهم وهم غافلون، فأفنتهم على بكرة أبيهم، فلم يبق لهم أثر. وقدَّر أن الإبل كانت عشرة آلاف، ورعاتها مائة([13]). وكان من صادراتها العنبر الجيد، والذهب الإبريز الخالص، خيوطا مفتولة، وذهبها من أجود الذهب([14])، وهي اليوم أثر بعد عين، لا يعلم لها مكان، إلا ما يظن بعض الباحثين من أنها هي (تاگداوست)، التي عثر على بعض آثارها في شرقي البلاد، وهي موضع يقول أهل المنطقة التي يقع فيها إنهم إذا حفروا لبعض شأنهم ربما وجدوا أوعية من الفخار مملوءة ذهبا وحجارة كريمة!
ونحن نجهل كثيرا من تاريخ هذه البلاد، قبل قيام دولة المرابطين، بل نجهل كثيرا منه بعدها، وإن كنا نجد من الأخبار في عهدها ما لا نجد قبله. فمما يذكر من التاريخ قبل عهد المرابطين أن الفينيقيين اتخذوا في موريتانية الطنجية مراكز تجارية، على سواحل موريتانية اليوم، أشهرها ليكس (LIKS) التي سماها الرومانيون فيما بعد ليكسوس (LIXUS)، وهي (الأعراش) الآن، واستمر الفينيقيون يديرون هذه المراكز، حتى احتل الرومان شمالي إفريقية، وقسموه التقسيمات التي أشير إليها آنفا. وبين عامي 417 و428 م طرد الوندال الرومان وحلوا محلهم، ثم طرد البيزنطيون الوندال وحلوا محلهم، فتركوا موريتانية الطنجية تحت قيادة زعماء من صنهاجة، وظل الوجود البيزنطي ضعيفا، حتى قدم الفاتحون المسلمون([15]).
وأثبتت البحوث الجيولوجية أن منجم أكجوجت الغني بالنحاس والحديد كان يستغل بين عامي 650 و400 ق. م. وعثر في مكانه على بقايا مصانع لتحويل الحديد والنحاس، تعود إلى هذا التاريخ([16]). وإن كنا لا نعرف الأجناس التي كانت تتولى هذا العمل، ولا الدول التي كانت تحكم البلاد في ذلك العهد.
ولن نحرص على تتبع تاريخ موريتانية القديم، والأجناس التي يظن أنها عمرتها؛ فليس في ذلك، لو عرفناه، ما يمس ما نحرص على تجليته من معالم ثقافة هذا البلد، فضلا عن أن بعضه لا تطمئن النفس إلى صحته، لكونه مستنبطا من رسوم وآثار، يذهب العاثرون بها في تفسيرها مذهبا، للخيال والظن فيه مجال كبير؛ وإنما نقتصر على التاريخ الذي كان له تأثير ما في تكوين هذه الثقافة وصياغتها، ونخص منه ما نرى أنه يعين على تبينها.
إن سكان موريتانية قبل الإسلام، الذين ما يزال لهم وجود معروف، هم قبائل صنهاجة الجنوبية، وهي قبيلة كبيرة، قال المؤرخون إنها تعدل ثلث أهل المغرب العربي، ولها في بلاد شنقيط ثلاثة فروع رئيسة: لمتونة، وگدالة، ومسُّوفة، وبعض القبائل الإفريقية في الجنوب الغربي من البلاد. أما قبائل صنهاجة فيقيم بعضها في الشمال، وبعضها في الشرق، ويقيم بعض في الجنوب الغربي، بمحاذاة ساحل المحيط الأطلسي. وكانت قبائل صنهاجة الثلاث موغلة في البداوة، منبتة عن الحضارة، كما يبدو من وصف ابن حوقل لها([17]). وكانت تدين بالمجوسية، التي يبدو أن كثيرا من أهل الشمال الإفريقي كان يدين بها، وليس في تاريخها ما يدل على أنها تأثرت بالنصرانية أو اليهودية، اللتين كانتا منتشرتين في المغرب الأقصى([18]).
أما تاريخ دخول الإسلام في بلاد شنقيط فيلفه الغموض، وتروى فيه روايات مختلفة، قد يكون أصحَّها أن دخوله كان عام 114 هـ، إذ أرسل عبيد الله بن الحبحاب والي هشام بن عبد الملك على إفريقية حملة بقيادة حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع للقضاء على ثورة قام بها بربر السوس، فواصلت هذه الحملة سيرها حتى بلغت تخوم السودان عام 116 هـ، فرسخت من الإسلام ما استطاعت بين البربر والزنوج([19]). ثم لا نعرف شيئا كثيرا بعد هذا إلى ما قبل قيام دولة المرابطين، إلا أننا نجد عبارة لصاحب (الاستقصا) ([20]): "وكانت الرياسة فيهم (صنهاجة) للمتونة، واستوسق لهم ملك ضخم عند دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس ... ودوخوا تلك البلاد الصحراوية، وجاهدوا من بها من أمم السودان، وحملوهم على الإسلام، فدان به كثير منهم، واتقاهم آخرون بالجزية، فقبلوها منهم، ثم افترق أمرهم من بعد ذلك وصار ملكهم طوائف، ورياستهم شيعا، واستمروا على ذلك مائة وعشرين سنة، إلى أن قام فيهم الأمير أبو عبد الله محمد بن تيفاوت المعروف بتاسرت اللمتوني، فاجتمعوا عليه وأحبوه وبايعوه، وكان من أهل الفضل والدين والجهاد والحج، فلبث فيهم ثلاث سنين، ثم استشهد في بعض غزواته". ووصف بلاد صنهاجة وصفا يدل على ما بلغ ملكهم، فقال إنها بين بلاد البربر وبلاد السودان، ومساحة أرضهم نحو سبعة أشهر طولا، في أربعة عرضا([21]). وثم أخبار تروى عن أحد ملوك صنهاجة، يقال له تيُّولوتان بن تيكلان، أنه ملك الصحراء بأسرها، وأن دولته كانت مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها، عامرةٌ كلها، وأنه دان له أكثر من عشرين ملكا من ملوك السودان، كانوا يؤدون إليه الجزية. وكان معاصرا لعبد الرحمن الداخل، وتوفي عام 222 هـ. إلا أن هذه الأوصاف بعينها تروى عن ملوك آخرين من صنهاجة، كانوا معاصرين لعبد الرحمن الناصر([22])، في القرن الرابع الهجري. وبغض النظر عن المقصود بهذه الأوصاف فإنها إذا أضيفت إلى الكلام السابق، وأضيف إليها ما وصفت به أودغُست عاصمة دولة لمتونة أمكن أن يؤكد بعضها بعضا أن صنهاجة قامت لها دولة عظيمة في صحراء شنقيط، قبل قيام دولة المرابطين التي هي طور من أطوارها، وكان آخر ملوك هذه الدولة، قبل المرابطين، هو محمد بن تيفاوت ثم انتقل الملك من بعده إلى صهره يحيى بن إبراهيم الگدالي([23]). وكان هذا الانتقال بداية لقيام دولة المرابطين التي نحت منحى جديدا: فقد خرج الحكم الصنهاجي من طور الإمارات القبلية إلى طور الدولة الموحدة التي تقوم على الإسلام، وترعاه وتقف عند حدوده، ويستمد منه زعماؤها شرعيتهم، وخرجت من أقصى شرقي صحراء شنقيط لتضم المغرب الأقصى والأوسط، والأندلس، ثم انضمت إلى منظومة الخلافة العباسية، عن طواعية ورغبة، بعد أن كانت دولة إقليمية، غير ذات شأن كبير في العالم الإسلامي، وكان جهاد ملوكها قبل ذلك وعنايتهم بنشر الإسلام متجهين إلى بلاد السودان (إفريقية الغربية). ثم خرجت عاصمتها من الصحراء لتكون في المغرب (مُرَّاكِش)، وعبرت إفريقية إلى الأندلس، لتحل محل دويلات الطائف المتنازعة، وتتولى جهاد الإسبان الزاحفين على الأندلس بمساعدة من ملوك الطوائف المتنازعين على الحكم، فتؤمن ثغر الدولة الإسلامية من جهة أوروبة. ومن الناحية الحضارية غدت دولة عالمة داعية، تتكفل بتنقية معتقدات أهل المغرب -ولا سيما قبائل البربر- من ديانتهم القديمة، وبعض أخلاقهم المنافية للإسلام، بسبب الجهل الذي لم يجدوا من يعنى بإزالته ممن تولى فتح بلادهم، ثم تركها على دين لم يتعمقها، ولم تجد من يعلمها إياه. بالإضافة إلى إزالة ما اتسمت به من التوحش الذي يطبع حياة كل أمة بدائية غير متعلمة، على ما يذكر من تدين بعض أمرائها وحجهم وجهادهم. ويدل على ذلك قول يحيى بن إبراهيم لأبي عمران الفاسي، وقد اختبره في فروض دينه، فلم يجده يعرف منها شيئا، على حرصه على التعلم، وحسن نيته وصحة معتقده، فإنه قال له: "ليس في بلادي من يقرأ القرآن فضلا عن العلم، ومع ذلك فأهل أرضي يحبون الخير، ويرغبون فيه"([24]).
وكان مبدأ هذا التغير على يد يحيى بن إبراهيم الگدالي خليفة محمد بن تيفاوت، فإنه بعد رجوعه من الحج استقدم عبد الله بن ياسين من السوس إلى بلاده، وكان رجلا صالحا ورعا، يصوم الدهر([25]). ففرح الناس بمقدمه، ثم ما لبثوا أن ضاقوا به ذرعا، لصرامته في أحكامه، وشدته في بعض اجتهاداته، بالإضافة إلى ما كان متفشيا في الإقليم من الجهل، وضعف الديانة، وامتزاج ما تعلموا من الإسلام بديانتهم القديمة، وعاداتهم؛ فسألته قبيلة گدالة أن يرتحل عنها، فلجأ إلى جزيرة بالمحيط الأطلسي، وخرج معه يحيى بن إبراهيم وفئة من رجال صنهاجة، بايعوه على الرباط في البحر، وكانوا يزدادون بمن ينضم إليهم من الراغبين عما عليه قومهم، فلما بلغوا ألفا ندبهم للجهاد وحضهم عليه، فبدأ بقتال گدالة، فانتصر عليها، ثم زناته في شمالي موريتانية، وأودغست، في الجنوب، ففتك بها وكسر شوكتها([26]). وتوفي يحيى في تلك الأثناء، فخلفه يحيى بن عمر اللمتوني، فاندفع في جهاده إلى الشمال، بعد أن وطد أركان الدولة في الجنوب، واستقامت السبل، وقرئ القرآن، وأقيمت الصلاة، وأديت الزكاة، ففتح بعض مدن المغرب الأقصى. ثم آل الأمر بعد وفاة يحيى بن عمر إلى أخيه أبي بكر، واستشهد عبد الله بن ياسين في قتال برغواطة عام 451 هـ، وكانت تدين بديانة مشوبة بالمجوسية، وظهر فيهم متنبئون، ألف بعضهم كتبا يضاهئون بها القرآن باللغة البربرية([27])، وفتح بلاد المغرب، وشرع في بناء مراكش، ثم إنه قصد الصحراء للقضاء على فتنة ذرت بها، واستخلف ابن عمه يوسف بن تاشفين على ما فتح من المغرب، فاستأثر بالحكم من دونه، فلما رجع أبو بكر وجد أمره قد استفحل، وقويت شوكته، فلم ينازعه تورعا عن سفك دماء المسلمين ، وإنما رجع إلى الصحراء، واستصحب معه الإمام أبا بكر محمد بن الحسن الحضرمي، الذي يعد معلم موريتانية الثاني بعد عبد الله بن ياسين، واشتغل أبو بكر بالجهاد في بلاد السودان، ففتح غانة، وظل ذلك دأبه حتى استشهد عام 480 هـ.
وأتم يوسف بن تاشفين بناء مراكش وتوسع في الفتوح، فاحتل بعض المغرب الأوسط (الجزائر)، ثم عبر إلى الأندلس. وفي مدة وجيزة تمكنت حركة المرابطين من توحيد المغرب الإسلامي من الناحية السياسية، وتوحيده على المذهب السني المالكي، وقضت على ما وجدت قبلها من البدع والضلالات التي كانت تخالط عقائد البربر. وشبه بعض الباحثين ما فعل المرابطون في الغرب الإسلامي بما فعل السلاجقة في المشرق، من القضاء على كل مذهب مخالف لمذهب أهل السنة، ولا سيما المذهب الإسماعيلي، وتوحيد المسلمين على العقيدة الأشعرية([28]). وامتد سلطانها السياسي والثقافي والعسكري والاقتصادي من شمالي الأندلس إلى بلاد السودان([29]).
ولكن دولة المرابطين لم تعمر طويلا، وإنما أزالها الموحدون، فرجع الصنهاجيون إلى الصحراء، وافترقت كلمتهم، ودخل بعضهم في طاعة ممالك السودان المسلمة([30]). وقد بنيت في هذا العهد وما تلاه إلى بداية القرن الثامن الهجري أهم المراكز الثقافية والدينية، وأقدمها في هذا الإقليم، كتنيگي، وشنقيط، وودان، وتيشيت، وولاته([31]).
وما بعد المرابطين من تاريخ بلاد شنقيط غير واضح، إلا أن من المتوقع أنه كان موزعا بين قبائل تحكمه.
وفي مطلع القرن الثامن الهجري دخل بنو حسان بلاد شنقيط، بعد جلائهم من جنوبي المغرب، فاستولوا على البلاد، وأقاموا إمارات في بعض المناطق، وفرضوا المغارم على بعض قبائل صنهاجة، وكانت لهم حروب وأيام طوال معها، وفيما بينهم، أهلكت الحرث والنسل. ثم اندمج بنو حسان وصنهاجة بطول المجاورة، وترك بعضهم ما كان يشتغل به من السطو والنهب، ونزع إلى العلم والصلاح([32]).
على أن شكسبير ربما كان يعني بالمغرب وموريتانية بلاد شنقيط، سماها باسم الإقليم الذي هي منه؛ فإن بطل مسرحيته الذي سماه (أوتللُّو) كان -في زعم القصاص الذي نقل عنه- بدويا مغربيا أسمر، جلا إلى البندقية، وخدم في جيشها، حتى غدا قائده الأكبر، وعقيده في الملمات([4]). ويرجح هذا أن الأروروبيين في القرن السابع عشر الميلادي كانوا يطلقون (pays des Maures)، على الإقليم الذي يقع شمالي نهر السنغال إلى المحيط الأطلسي وجنوبي المغرب والجزائر إلى نهر النيجر، وهو بلاد الشناقطة قبل أن يتحيفها الاستعمار الفرنسي، ويقطع أوصالها بين مجاوريها من الشرق والغرب، والشمال والجنوب. هذا إلى أن الأوروبيين كانت لهم مرافئ تجارية على شواطئ هذا الإقليم، ولا سيما البرتغاليين، منذ عام 1445 -1633 م، ثم هولندا، ثم فرنسة وألمانية وبريطانية التي هزمتها فرنسة عام 1740 م، وتفردت دونها بالمراكز التجارية([5]).
وإذا كان خليل مطران عرَّب أوتللو بعطيل لأنه لم يجد مغربيا واحدا سمِّي عطاء الله([6])، فاستدل بذلك على أن أهل المغرب لم يكونوا يسمون بهذا الاسم، فذلك لأنه لا يعرف بلاد شنقيط، ولا أن أهلها، ولا سيما السمرِ منهم، يسمون "معطى الله". فـ"أوتللو" إذن شنقيطي الأصل، والأرض التي يتحدث عنها هي موريتانية اليوم.
وقد يكون أول من خصص بلاد شنقيط من الفرنسيين، بـهذا الاسم (موريتانية) هو الضابط الفرنسي فرانسوا كاي (Jean Francois Caille)([7])، ولعله أخذه من التسمية التي كانت شائعة في أوروبة منذ زمن. أما التسمية الرسمية فإنما كانت بمقترح من الضابط الفرنسي كوبولاني، الذي كان يعد العدة لاحتلال فرنسة لهذا الإقليم، فصدر قرار وزاري فرنسي، بتاريخ 27/ 12/ 1899 م بالموافقة على مقترحه.
والاسم الذي عرفت به هذه البلاد في المصادر الإسلامية، هو بلاد صنهاجةِ الرمال، وصحراء الملثمين، وبلاد لمتونة، في عهد المرابطين، وبعد أفول دولة المرابطين وقيام بعض الممالك السودانية المسلمة التي دخل في حكمها بعض الأقاليم الشرقية من بلاد شنقيط، كانت تعرف ببلاد التكرور. و"التكرور" -في الأصل- إمارة صغيرة في أقصى الشمال الغربي لبلاد السودان، غير بعيدة من مصب نهر السنغال([8]). وكانت لها -فيما يبدو- شهرة في المشرق العربي غطت على أسماء الممالك الإسلامية الأخرى في غرب إفريقية، ثم غدت تطلق على الأفارقة المسلمين كلهم، وهي الأصل لكلمة تكروني، أبدلت راؤها الأخيرة نونا.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي عرفت البلاد بشنقيط، مع تزايد قوافل الحجاج القادمة من إفريقية الغربية؛ لأنها كانت تتجمع في مدينة شنقيط، وهي مدينة في شمالي البلاد، ثم تنطلق إلى الحج([9]).
وإذا كان حديثنا سيقتصر على موريتانية بحدودها السياسية اليوم، فإن هذه الحدود ليست هي حدودها التاريخية، ولا حدودها الثقافية والاجتماعية، وإنما هي حدود رسمتها فرنسة، وفق ما تقتضيه مصالحها، لا ما تقتضيه الحقيقة التاريخية الثقافية والاجتماعية، فقد كانت بلاد شنقيط تمتد على رقعة جغرافية تشمل موريتانية اليوم وبعض مالي، ولا سيما شماليِّها وشماليها الغربي، وتشمل بعض شمالي النيجر، كما تشمل ما يعرف اليوم بصحراء البوليساريو؛ فإنها إقليم معمور بقبائل شنقيطية خالصة، وإن ضُمت إلى المغرب، بعد خروج إسبانية منها عام 1975 م، بعد أن تخلت موريتانية عن نصيبها منها، لما نهكتها الحرب. بالإضافة إلى مناطق من جنوبي الجزائر الغربي، حيث تيندوف وأتوات([10]).
وما فعلت فرنسة بموريتانية هو ما فعل الاستعمار الغربي بكل أرض احتلها، فقد غير معالم البلاد، وتعبث بحقائق التاريخ والجغرافية والاجتماع، وصاغها صياغة جديدة، على ما تقتضيه مصالحه، فأزال بلادا، واصطنع أخر، واستتبع بلادا لبلاد، واقتطع من بلاد لبلاد.
وإذا بدا الآن أن كثيرا من هذه البلاد صحراء قاحلة، ليس فيها معلم من معالم الحياة، فلم تكن كذلك، وإنما هي كصحراء الربع الخالي في جنوبي الجزيرة، ترقد تحتها حضارة عريقة، وعمران عريض، لم يبق من آثاره إلا إشارات قليلة في كتب بعض الرحالة، لا تدل على كثير من حقائق هذا الإقليم التاريخية، ومعالم قليلة يوشك بعضها أن يندثر ويهجر، وكان من قبل عامرا كثير السكان، وافر العلماء، فـ"عادت بسائطها خرابا كلها، بعد أن كان ما بين السودان (غرب إفريقية) والبحر الرومي (المحيط الأطلسي) عمرانا. تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء، وشواهد القرى والمدر"([11]). وما كان ماثلا في عهد ابن خلدون لحق بباطن الأرض؛ فلا يعرف له الآن أثر. ويكفي أن نضرب مثلا لاندثار هذه الحضارة من مدينتين: ولاتة (في شرقي البلاد) فقد كان يسكنها أكثر من 400 ألف نسمة، في العصر الحجري الحديث، وسكانها اليوم لا يزيدون على ألف نسمة. وفي العصور الإسلامية كانت مدينة مأهولة، وافرة العلماء. أما المدينة الأخرى فأودغست، وكانت عاصمة مملكة لمتونة، فقد وصفها البكري في القرن الخامس الهجري، بأنها مدينة آهلة، بها جوامع ومساجد كثيرة، يعمرها معلمو القرآن، وبها مبان حسنة، ومنازل رفيعة، وسوقها عامرة الدهرَ كلَّه، يُتعامل فيها بالقناطير المقنطرة([12]). وذكر ابن حوقل من غنى أهلها ووفرة مواشيهم أن ملكها في القرن الرابع الهجري بلغه أن قبيلة من البربر تعتزم الهجوم عليها بجموع غفيرة، فأمر رعاة إبل أخته أن يرسلوا عليهم إبلها آخر الليل، ففعلوا فداستهم وهم غافلون، فأفنتهم على بكرة أبيهم، فلم يبق لهم أثر. وقدَّر أن الإبل كانت عشرة آلاف، ورعاتها مائة([13]). وكان من صادراتها العنبر الجيد، والذهب الإبريز الخالص، خيوطا مفتولة، وذهبها من أجود الذهب([14])، وهي اليوم أثر بعد عين، لا يعلم لها مكان، إلا ما يظن بعض الباحثين من أنها هي (تاگداوست)، التي عثر على بعض آثارها في شرقي البلاد، وهي موضع يقول أهل المنطقة التي يقع فيها إنهم إذا حفروا لبعض شأنهم ربما وجدوا أوعية من الفخار مملوءة ذهبا وحجارة كريمة!
ونحن نجهل كثيرا من تاريخ هذه البلاد، قبل قيام دولة المرابطين، بل نجهل كثيرا منه بعدها، وإن كنا نجد من الأخبار في عهدها ما لا نجد قبله. فمما يذكر من التاريخ قبل عهد المرابطين أن الفينيقيين اتخذوا في موريتانية الطنجية مراكز تجارية، على سواحل موريتانية اليوم، أشهرها ليكس (LIKS) التي سماها الرومانيون فيما بعد ليكسوس (LIXUS)، وهي (الأعراش) الآن، واستمر الفينيقيون يديرون هذه المراكز، حتى احتل الرومان شمالي إفريقية، وقسموه التقسيمات التي أشير إليها آنفا. وبين عامي 417 و428 م طرد الوندال الرومان وحلوا محلهم، ثم طرد البيزنطيون الوندال وحلوا محلهم، فتركوا موريتانية الطنجية تحت قيادة زعماء من صنهاجة، وظل الوجود البيزنطي ضعيفا، حتى قدم الفاتحون المسلمون([15]).
وأثبتت البحوث الجيولوجية أن منجم أكجوجت الغني بالنحاس والحديد كان يستغل بين عامي 650 و400 ق. م. وعثر في مكانه على بقايا مصانع لتحويل الحديد والنحاس، تعود إلى هذا التاريخ([16]). وإن كنا لا نعرف الأجناس التي كانت تتولى هذا العمل، ولا الدول التي كانت تحكم البلاد في ذلك العهد.
ولن نحرص على تتبع تاريخ موريتانية القديم، والأجناس التي يظن أنها عمرتها؛ فليس في ذلك، لو عرفناه، ما يمس ما نحرص على تجليته من معالم ثقافة هذا البلد، فضلا عن أن بعضه لا تطمئن النفس إلى صحته، لكونه مستنبطا من رسوم وآثار، يذهب العاثرون بها في تفسيرها مذهبا، للخيال والظن فيه مجال كبير؛ وإنما نقتصر على التاريخ الذي كان له تأثير ما في تكوين هذه الثقافة وصياغتها، ونخص منه ما نرى أنه يعين على تبينها.
إن سكان موريتانية قبل الإسلام، الذين ما يزال لهم وجود معروف، هم قبائل صنهاجة الجنوبية، وهي قبيلة كبيرة، قال المؤرخون إنها تعدل ثلث أهل المغرب العربي، ولها في بلاد شنقيط ثلاثة فروع رئيسة: لمتونة، وگدالة، ومسُّوفة، وبعض القبائل الإفريقية في الجنوب الغربي من البلاد. أما قبائل صنهاجة فيقيم بعضها في الشمال، وبعضها في الشرق، ويقيم بعض في الجنوب الغربي، بمحاذاة ساحل المحيط الأطلسي. وكانت قبائل صنهاجة الثلاث موغلة في البداوة، منبتة عن الحضارة، كما يبدو من وصف ابن حوقل لها([17]). وكانت تدين بالمجوسية، التي يبدو أن كثيرا من أهل الشمال الإفريقي كان يدين بها، وليس في تاريخها ما يدل على أنها تأثرت بالنصرانية أو اليهودية، اللتين كانتا منتشرتين في المغرب الأقصى([18]).
أما تاريخ دخول الإسلام في بلاد شنقيط فيلفه الغموض، وتروى فيه روايات مختلفة، قد يكون أصحَّها أن دخوله كان عام 114 هـ، إذ أرسل عبيد الله بن الحبحاب والي هشام بن عبد الملك على إفريقية حملة بقيادة حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع للقضاء على ثورة قام بها بربر السوس، فواصلت هذه الحملة سيرها حتى بلغت تخوم السودان عام 116 هـ، فرسخت من الإسلام ما استطاعت بين البربر والزنوج([19]). ثم لا نعرف شيئا كثيرا بعد هذا إلى ما قبل قيام دولة المرابطين، إلا أننا نجد عبارة لصاحب (الاستقصا) ([20]): "وكانت الرياسة فيهم (صنهاجة) للمتونة، واستوسق لهم ملك ضخم عند دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس ... ودوخوا تلك البلاد الصحراوية، وجاهدوا من بها من أمم السودان، وحملوهم على الإسلام، فدان به كثير منهم، واتقاهم آخرون بالجزية، فقبلوها منهم، ثم افترق أمرهم من بعد ذلك وصار ملكهم طوائف، ورياستهم شيعا، واستمروا على ذلك مائة وعشرين سنة، إلى أن قام فيهم الأمير أبو عبد الله محمد بن تيفاوت المعروف بتاسرت اللمتوني، فاجتمعوا عليه وأحبوه وبايعوه، وكان من أهل الفضل والدين والجهاد والحج، فلبث فيهم ثلاث سنين، ثم استشهد في بعض غزواته". ووصف بلاد صنهاجة وصفا يدل على ما بلغ ملكهم، فقال إنها بين بلاد البربر وبلاد السودان، ومساحة أرضهم نحو سبعة أشهر طولا، في أربعة عرضا([21]). وثم أخبار تروى عن أحد ملوك صنهاجة، يقال له تيُّولوتان بن تيكلان، أنه ملك الصحراء بأسرها، وأن دولته كانت مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها، عامرةٌ كلها، وأنه دان له أكثر من عشرين ملكا من ملوك السودان، كانوا يؤدون إليه الجزية. وكان معاصرا لعبد الرحمن الداخل، وتوفي عام 222 هـ. إلا أن هذه الأوصاف بعينها تروى عن ملوك آخرين من صنهاجة، كانوا معاصرين لعبد الرحمن الناصر([22])، في القرن الرابع الهجري. وبغض النظر عن المقصود بهذه الأوصاف فإنها إذا أضيفت إلى الكلام السابق، وأضيف إليها ما وصفت به أودغُست عاصمة دولة لمتونة أمكن أن يؤكد بعضها بعضا أن صنهاجة قامت لها دولة عظيمة في صحراء شنقيط، قبل قيام دولة المرابطين التي هي طور من أطوارها، وكان آخر ملوك هذه الدولة، قبل المرابطين، هو محمد بن تيفاوت ثم انتقل الملك من بعده إلى صهره يحيى بن إبراهيم الگدالي([23]). وكان هذا الانتقال بداية لقيام دولة المرابطين التي نحت منحى جديدا: فقد خرج الحكم الصنهاجي من طور الإمارات القبلية إلى طور الدولة الموحدة التي تقوم على الإسلام، وترعاه وتقف عند حدوده، ويستمد منه زعماؤها شرعيتهم، وخرجت من أقصى شرقي صحراء شنقيط لتضم المغرب الأقصى والأوسط، والأندلس، ثم انضمت إلى منظومة الخلافة العباسية، عن طواعية ورغبة، بعد أن كانت دولة إقليمية، غير ذات شأن كبير في العالم الإسلامي، وكان جهاد ملوكها قبل ذلك وعنايتهم بنشر الإسلام متجهين إلى بلاد السودان (إفريقية الغربية). ثم خرجت عاصمتها من الصحراء لتكون في المغرب (مُرَّاكِش)، وعبرت إفريقية إلى الأندلس، لتحل محل دويلات الطائف المتنازعة، وتتولى جهاد الإسبان الزاحفين على الأندلس بمساعدة من ملوك الطوائف المتنازعين على الحكم، فتؤمن ثغر الدولة الإسلامية من جهة أوروبة. ومن الناحية الحضارية غدت دولة عالمة داعية، تتكفل بتنقية معتقدات أهل المغرب -ولا سيما قبائل البربر- من ديانتهم القديمة، وبعض أخلاقهم المنافية للإسلام، بسبب الجهل الذي لم يجدوا من يعنى بإزالته ممن تولى فتح بلادهم، ثم تركها على دين لم يتعمقها، ولم تجد من يعلمها إياه. بالإضافة إلى إزالة ما اتسمت به من التوحش الذي يطبع حياة كل أمة بدائية غير متعلمة، على ما يذكر من تدين بعض أمرائها وحجهم وجهادهم. ويدل على ذلك قول يحيى بن إبراهيم لأبي عمران الفاسي، وقد اختبره في فروض دينه، فلم يجده يعرف منها شيئا، على حرصه على التعلم، وحسن نيته وصحة معتقده، فإنه قال له: "ليس في بلادي من يقرأ القرآن فضلا عن العلم، ومع ذلك فأهل أرضي يحبون الخير، ويرغبون فيه"([24]).
وكان مبدأ هذا التغير على يد يحيى بن إبراهيم الگدالي خليفة محمد بن تيفاوت، فإنه بعد رجوعه من الحج استقدم عبد الله بن ياسين من السوس إلى بلاده، وكان رجلا صالحا ورعا، يصوم الدهر([25]). ففرح الناس بمقدمه، ثم ما لبثوا أن ضاقوا به ذرعا، لصرامته في أحكامه، وشدته في بعض اجتهاداته، بالإضافة إلى ما كان متفشيا في الإقليم من الجهل، وضعف الديانة، وامتزاج ما تعلموا من الإسلام بديانتهم القديمة، وعاداتهم؛ فسألته قبيلة گدالة أن يرتحل عنها، فلجأ إلى جزيرة بالمحيط الأطلسي، وخرج معه يحيى بن إبراهيم وفئة من رجال صنهاجة، بايعوه على الرباط في البحر، وكانوا يزدادون بمن ينضم إليهم من الراغبين عما عليه قومهم، فلما بلغوا ألفا ندبهم للجهاد وحضهم عليه، فبدأ بقتال گدالة، فانتصر عليها، ثم زناته في شمالي موريتانية، وأودغست، في الجنوب، ففتك بها وكسر شوكتها([26]). وتوفي يحيى في تلك الأثناء، فخلفه يحيى بن عمر اللمتوني، فاندفع في جهاده إلى الشمال، بعد أن وطد أركان الدولة في الجنوب، واستقامت السبل، وقرئ القرآن، وأقيمت الصلاة، وأديت الزكاة، ففتح بعض مدن المغرب الأقصى. ثم آل الأمر بعد وفاة يحيى بن عمر إلى أخيه أبي بكر، واستشهد عبد الله بن ياسين في قتال برغواطة عام 451 هـ، وكانت تدين بديانة مشوبة بالمجوسية، وظهر فيهم متنبئون، ألف بعضهم كتبا يضاهئون بها القرآن باللغة البربرية([27])، وفتح بلاد المغرب، وشرع في بناء مراكش، ثم إنه قصد الصحراء للقضاء على فتنة ذرت بها، واستخلف ابن عمه يوسف بن تاشفين على ما فتح من المغرب، فاستأثر بالحكم من دونه، فلما رجع أبو بكر وجد أمره قد استفحل، وقويت شوكته، فلم ينازعه تورعا عن سفك دماء المسلمين ، وإنما رجع إلى الصحراء، واستصحب معه الإمام أبا بكر محمد بن الحسن الحضرمي، الذي يعد معلم موريتانية الثاني بعد عبد الله بن ياسين، واشتغل أبو بكر بالجهاد في بلاد السودان، ففتح غانة، وظل ذلك دأبه حتى استشهد عام 480 هـ.
وأتم يوسف بن تاشفين بناء مراكش وتوسع في الفتوح، فاحتل بعض المغرب الأوسط (الجزائر)، ثم عبر إلى الأندلس. وفي مدة وجيزة تمكنت حركة المرابطين من توحيد المغرب الإسلامي من الناحية السياسية، وتوحيده على المذهب السني المالكي، وقضت على ما وجدت قبلها من البدع والضلالات التي كانت تخالط عقائد البربر. وشبه بعض الباحثين ما فعل المرابطون في الغرب الإسلامي بما فعل السلاجقة في المشرق، من القضاء على كل مذهب مخالف لمذهب أهل السنة، ولا سيما المذهب الإسماعيلي، وتوحيد المسلمين على العقيدة الأشعرية([28]). وامتد سلطانها السياسي والثقافي والعسكري والاقتصادي من شمالي الأندلس إلى بلاد السودان([29]).
ولكن دولة المرابطين لم تعمر طويلا، وإنما أزالها الموحدون، فرجع الصنهاجيون إلى الصحراء، وافترقت كلمتهم، ودخل بعضهم في طاعة ممالك السودان المسلمة([30]). وقد بنيت في هذا العهد وما تلاه إلى بداية القرن الثامن الهجري أهم المراكز الثقافية والدينية، وأقدمها في هذا الإقليم، كتنيگي، وشنقيط، وودان، وتيشيت، وولاته([31]).
وما بعد المرابطين من تاريخ بلاد شنقيط غير واضح، إلا أن من المتوقع أنه كان موزعا بين قبائل تحكمه.
وفي مطلع القرن الثامن الهجري دخل بنو حسان بلاد شنقيط، بعد جلائهم من جنوبي المغرب، فاستولوا على البلاد، وأقاموا إمارات في بعض المناطق، وفرضوا المغارم على بعض قبائل صنهاجة، وكانت لهم حروب وأيام طوال معها، وفيما بينهم، أهلكت الحرث والنسل. ثم اندمج بنو حسان وصنهاجة بطول المجاورة، وترك بعضهم ما كان يشتغل به من السطو والنهب، ونزع إلى العلم والصلاح([32]).