صفحة 1 من 1

السودان: فرص ومخاطر المعركة الدستورية

مرسل: الاثنين مايو 06, 2013 10:56 am
بواسطة عبدالرحمن آل ثنيان33
يعد إعلان الرئيس السوداني عمر البشير، في خطابه أمام البرلمان مطلع شهر إبريل/نيسان الجاري (2013)، إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، تلبية لأحد شروط المعارضة الأساسية لكي تتراجع عن مقاطعة الحوار حول دستور جديد للبلاد دعت اليه الحكومة السودانية عقب انفصال جنوب السودان. لكن في الوقت نفسه، أتت إشارات من الحكومة السودانية تتعارض مع هذه الدعوة إلى الحوار والانفتاح، مثل التضييق على الحريات؛ كإغلاق الصحف وتعقب منظمات المجتمع المدني، علاوة على أن عدد الذين أطلقت السلطة السودانية سراحهم من المعتقلين السياسيين هم حوالي سبعة أشخاص.

مركز الجزيرة للدراسات


وعلى كل حال، فإن الوقائع السابقة تدل على أن الحكومة السودانية تضع مسألة إعداد دستور جديد على رأس أولوياتها في المرحلة المقبلة وتسعى إلى تحقيق توافق داخلي حوله.

ضغط الوقت

يدفع نحو التعجيل بإعداد دستور جديد، عاملان يؤثران في توازنات السلطة بالسودان:

العامل الأول: كون الدستور الحالي تمت صياغته في سياق تنفيذ اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2005؛ حيث كانت السلطات والصلاحيات فيه موزعة بين شمال السودان وجنوبه، لعل الصراع يُحل سياسيًا بتقاسم السلطة، فمثلاً كان نائب الرئيس السوداني من الجنوب، أما بعد انفصال الجنوب، فلم تعد التوازنات السياسية الواردة في الدستور تعبّر عن الأوضاع الجديدة، علاوة على أن الدستور الحالي ينص على سقوط كل الفقرات المتعلقة بالجنوب في حالة الانفصال.
العامل الثاني: ويبدو أنه الأهم في الوقت الراهن: تحديد الدستور الحالي لولاية الرئيس بعهدتين غير قابلتين للتجديد، وبذلك ستنتهي عهدة الرئيس السوداني الثانية في 2015، وهذا يطرح سؤالاً ملحًا يتعلق بمستقبل النظام الحاكم بتوازناته المكرسة مند نهاية التسعينيات بعد الانقسام الشهير في الحركة الإسلامية السودانية.
ولعل الإجابة على الأسئلة المتعلقة بمضمون الدستور الجديد وطريقة إعداده والمصادقة عليه، قد تحدد مسار التطورات السياسية في السودان خلال السنوات القادمة:

فهل سيكون دستورًا يكرّس الوضع الراهن؟ أم سيكون دستورًا يتضمن إصلاحات متدرجة للنظام؟ أم سيفقد النظام المبادرة ويدخل السودان مرحلة تقطع مع الوضع القائم فيعيد صياغة توازناته بطريقة جديدة؟

السودان: ثلاثة طرق

سيناريو الحفاظ على الوضع الراهن: يكون بإعداد دستور يفتح المجال أمام التجديد للرئيس عمر البشير حتى ولو بتوافق شكلي، وإذا تعذر ذلك فيمكن أن يستمر الرئيس البشير في الحكم من خلال التمديد بافتعال وضع استثنائي مثل تصعيد المواجهات مع الجماعات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وربما تفجير الوضع مع دولة الجنوب مجددًا أو زيادة وتيرة الاحتقان السياسي الداخلي بالضغط على المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني مما سيتيح للسلطة الاستناد إلى شرعية الاستثناء.

هنالك عدة مؤشرات تصب في هذا الاتجاه؛ فبعد مرور أكثر من أسبوع على إعلان الرئيس البشير إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، لم تطلق السلطات سوى سبعة أشخاص فقط، في حين تتحدث المعارضة عن عشرات المعتقلين والمحكومين على ذمة قضايا سياسية، منهم من قضى في السجن عشر سنوات ولم يُطلق سراحهم بعد. كما أن السلطات الأمنية في البلاد قد واصلت التضييق على الحريات الصحفية بشكل عام، كإجبار صحيفة كبرى على تغيير رئيس تحريرها وكذلك اعتقال مدير مكتب قناة الجزيرة بالخرطوم على خلفية حديث عن وجود معتقلين وسجناء سياسيين لم يفرج عنهم بعد قرار الرئيس، والاستدعاءات الأمنية المتكررة له، إضافة إلى وجود مؤشرات قوية على إحكام التيار المتشدد داخل الحزب الحاكم سيطرته على مقاليد الأمور من خلال إزاحة الدكتور غازي صلاح الدين من موقعه كرئيس للشعبة البرلمانية لحزب المؤتمر الوطني على خلفية تصريحاته بأن الدستور الحالي لا يجيز للرئيس البشير الترشح لعهدة جديدة، وكذلك إقالة الناطق الرسمي باسم الحزب الدكتور بدر الدين أحمد ابراهيم، وكلاهما محسوب على التيار المعتدل في الحزب.

وربما يقوي احتمال حدوث هذا السيناريو، تحكم المؤسسة العسكرية في مفاصل الدولة مند الانقلاب في بداية التسعينيات من القرن السابق؛ ولذلك ستعمل على أن تظل متحكمة في قلب السلطة التنفيذية لأن قيادتها مشتركة في إدارة السودان كل تلك الفترة السابقة، بامتيازات الحكم وتكاليفه التي بلغت مع بعض القيادات إمكانية المثول أمام محكمة الجنايات الدولية.

على أن تكلفة سيناريو استمرارية الوضع الراهن تبدو كبيرة جدًا قد لا يستطيع النظام تحملها؛ فمن جهة فشل النظام في الحفاظ على وحدة السودان الإقليمية، وظل يخوض حروبًا أهلية متشعبة. ومن جهة أخرى أدت سياساته المتبعة إلى التضييق على حركة السودان الخارجية، فجعلته في غالب الأحيان مشلولاً أمام المخاطر والفرص.

كذلك قد يعني استمرار هذا السيناريو التخلي عن الحل السياسي والرهان على الحل العسكري والأمني، لكن النظام لم يعد يمتلك الموارد الاقتصادية الكافية التي تموِّل عملياته العسكرية بعد أن أخذ الجنوب نحو ثلاثة أرباع الموارد البترولية.

كما يفترض سيناريو الحفاظ على الوضع رفع شعار أيديولوجي جامع يعوض النظام عن شرعية الانتخابات الحقيقية، وقد كان هذا الشعار هو الإسلام والعروبة، ولكن سياسة الحكومة أفقدته كثيرًا من هيبته وتأثيره بعد أن كان من نتائجه انفصال الجنوب والحرب في دارفور. فلم يعد للنظام شعار أيديولوجي في رصيده يبرر به بقاءه في السلطة.

سيناريو الإصلاح المتدرج: ويمكن أن يتحقق بتوافق وطني شامل على دستور يوسع قاعدة المشاركة السياسية من خلال فتح باب المنافسة على المسؤوليات بالدولة، وجعل الانتخابات المصدر الرئيسي للشرعية.

ويعزز فرص تحقق هذا السيناريو التحولات التي يشهدها عدد من الدول العربية، خاصة المجاورة للسودان مثل مصر وليبيا، وهي التي تعيش انتقالاً في السلطة نحو نظام ديمقراطي، يطوي صفحة النظم الاستبدادية والعسكرية، وقد تشجع مصر، بثقلها، النظام السوداني على الإصلاح حتى يواكب روح التحولات الجارية في المنطقة، ويتفادى التمزقات التي تعاني منها دول عربية.

وفي هذا السياق، يرى بعض المراقبين أن توقيت الرئيس السوداني في الإعلان عن تسريح جميع المعتقلين السياسيين، كان عشية زيارة الرئيس المصري محمد مرسي للخرطوم. فهناك مصلحة مشتركة للنظامين، تتمثل للرئيس السوداني في الاعتماد على حليف يخفف عزلته الخارجية. أما بالنسبة للقيادة المصرية الجديدة، فإن السودان يعتبر ضرورة وفرصة وعبئًا في نفس الوقت. أما إنه ضرورة فلأن أمن مصر مكشوف من هذا البعد. وأما إنه فرصة؛ فلأن السودان هو المنطقة الأكثر قبولاً لقوة مصر الناعمة، لأن السلطتين بالبلدين تستندان إلى خلفية إسلامية، تجعل مرسي يستغل هذه القرابة الأيديولوجية للتأثير في النظام السوداني. وأما إنه عبء، فلأن النظام السوداني يستند في بقائه على الأجهزة الأمنية والتضييق على الحريات، وهذه ميزات تخالف المشروعية التي يستند اليها الرئيس مرسي. ولعل ما يشير إلى أن الرئيس مرسي يريد تحولاً في سلوك النظام السوداني نحو مزيد من الانفتاح هو إصراره على أن يتضمن برنامجه لقاءات مع المعارضة.

وهناك عوامل داخلية، قد تجعل النظام يحتاج إلى توسيع قاعدة السلطة، فهو يعاني من تآكل في الشرعية والقدرة بعد مرور نحو عشرين سنة من السلطة، جعلته لم يعد يمتلك الطاقة ليحكم البلاد بمفرده، ولعل تعامله مع الجماعات المسلحة بينت حدود قدرته على الحكم، فلا يزال لحد الآن لم يفرض سلطته على كامل الإقليم السوداني، ولا يمكنه أن ينجح مستقبلاً فيما فشل فيه في الماضي حين كانت موارده أكبر.

لكن ما يقلل من حظوظ هذا السيناريو هو أنه سيجبر النظام على إبعاد المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية من مفاصل السلطة، وهذا ليس سهلاً، خاصة أن أهمية تلك المؤسسات تعاظمت نتيجة دورها في الصراعات الأهلية التي عانى ويعاني منها السودان.

علاوة على أن النظام سيضطر في هذا السيناريو إلى الاحتكام للانتخابات، ولكن وقائع كثيرة تدل على أنه غير واثق من كسبها، كالتضييق على الحريات، ولو كان واثقًا من كسبها لخاضها لأن كسبها يعطيه شرعية تقلّل تكاليف بقائه في السلطة.

سيناريو القطع مع الوضع القائم: وهو سيناريو يتفرع عن سيناريو بقاء الوضع بعد إعداد الدستور، بحيث يتزايد عدد المتضررين من بقاء النظام والراغين في الخروج منه، وقد يتخذ هذا القطع مع النظام القائم أحد الأشكال الثلاثة:

إما أن يحدث تقطع من داخل المؤسسة العسكرية، وتعد المحاولة الانقلابية الأخيرة مؤشرًا من مؤشراته، ويعزز هذا المسار أن الانقلابات العسكرية تعد تقليدًا معهودًا في التاريخ السوداني، لكن لا يعني هذا القطع مع النظام بواسطة المؤسسة العسكرية أنه سيكون بالضرورة خطوة نحو دولة القانون بل قد يكون في سياق التغيير للحفاظ على الوضع.

وقد يحدث قطع مع الوضع القائم نتيجة استيلاء المتمردين على السلطة بالخرطوم، وتعد محاولة الهجوم على الخرطوم السابقة في 2008، مؤشرًا على أن هذا السيناريو ليس مستبعدًا، خاصة بعد توحد فصائل المسلحين وعزمها على إسقاط النظام بالقوة، ويقوي من احتمال تحقق هذا المسار أن جوار السودان مضطرب، فليبيا لا تتحكم في حركة المقاتلين والسلاح، وهي مجاورة لدارفور؛ وفي إفريقيا الوسطى استولى المتمردون على السلطة؛ والخلافات ما زالت مشتعلة بين دولتي السودان؛ وهذه كلها أوضاع قد توفر للجماعات المسلحة الملاذ والسلاح والخبرة في مسعى استيلائها على السلطة بالخرطوم.

ويقوي تحقق هذا الاحتمال عوامل جيوبوليتكية؛ فالسودان شاسع ولا يمكن للسلطة الحالية أن تفرض حكمها عليه بالقوة، وهذا يجعل الجماعات المسلحة قادرة على التحرك والمناورة، ثم إن طبيعة السودان سهلية فلا توجد موانع طبيعية تحمي العاصمة الخرطوم، وهذه كلها عوامل تساعد التمردات المسلحة.

إلا أن هناك عوامل تقلل حظوظ هذا السيناريو، كغياب تعاون من داخل القوات المسلحة؛ ذلك أن الفصائل المسلحة لا تمتلك الإمكانيات لمواجهة قدرات الجيش السوداني داخل العاصمة، كما أن الاستيلاء على العاصمة من قبل قوى لا تمتلك سندًا سياسيًا عريضًا لا يعني نهاية المطاف؛ فقطاعات الجيش المتمركزة خارج العاصمة لن تقبل الخضوع للنظام الجديد، كما أن نظام الإنقاذ يمتلك ميليشيات مؤدلجة قد تواصل القتال حتى بعد سقوط العاصمة.

وهناك احتمال ثالث بأن يحدث القطع مع النظام القائم نتيجة هَبّة شعبية، يرجح حدوثها الثقافة السياسية للسودان، حيث أسقطت الانتفاضات الشعبية حكومة الفريق إبراهيم عبود عام 1964، وأسقطت جعفر النميري عام 1985، وهي شبيهة لحد ما بالهبات التي عرفها بعض دول الربيع العربي، ويقوي هذ الاحتمال حاليًا حدوث احتجاجات واسعة على الحكومة السودانية منذ عدة أشهر، انطلقت من الجامعة، وليس من المستبعد أن تتكرر نتيجة السخط على الأوضاع المعيشية الصعبة والتقييد على الحريات.
عامان حاسمان

سيكون العامان القادمان حاسمين في مستقبل السودان، فهناك قوى تريد الحفاظ على الوضع القائم، وترسل إشارات على ذلك، مثل صعود الأجنحة المتشددة في السلطة، والتضييق على الحريات، ولكن هناك دلائل أخرى على أن النظام السوداني لا يزال يتلمس طريقه نحو التأقلم مع موازين القوى الجديدة لأنه يشعر بأن الأوضاع داخله وخارجه تغيرت.

داخليًا: قواعده منهكة وموارده متناقصة وتماسكه يتراخى، إضافة إلى تزايد عدد اللاعبين الذين ينازعونه المبادرة كالجماعات المسلحة.

خارجيًا: جواره العربي يعيش أجواء الانفتاح الديمقراطي، ومحيطه الإفريقي مضطرب أو معادي.

كل ذلك يجعل السودان مفتوحًا على الاحتمالات الواردة في السيناريوهات الثلاثة السابقة، فحتى وإن غلبت إشارات الحفاظ على الوضع القائم في الوقت الراهن فإن احتمالات الاصلاح أو القطع مع الوضع القائم تظل واردة لأن النظام السوداني ليس اللاعب السياسي الوحيد، بل هناك لاعبون آخرون داخليون وخارجيون قد يضغطون على جناحه المتشدد كي يقتنع بأن مشاركة السلطة تكون أقل تكلفة له من خسارتها كليًا، أو قد يأخذونها منه كلية، كما أثبتت التجربة السودانية نفسها والتجربة العربية الشبيهة بها، سواء تجارب الهبات الشعبية أو تجارب الانقلابات العسكرية، أو تجارب التمردات المسلحة التي تعد إفريقيا الوسطي المجاورة للسودان آخر أمثلتها.