ثمن استئناف المفاوضات مع إسرائيل
مرسل: الاثنين مايو 06, 2013 11:40 am
ثارت زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المنطقة في نهاية مارس/آذار ٢٠١٣ كثيراً من التساؤلات حول أهدافها ونتائجها، والإستراتيجية التي صُمِّمت على أساسها. وبعيداً عن منهج التوقعات، أو منهج التحليل المفتوح المستند إلى مبادئ السياسة الأميركية دون اعتبار كبير للتحولات المصاحبة لهذه التحركات، فقد اقتصرت هذه الزيارة في النهاية على كلّ من إسرائيل، والأردن، والسلطة الفلسطينية.
لكن الزيارة حملت مفاجآت من العيار الثقيل فيما يتعلق بالتحولات في الشرق الأوسط، والإشكالات التي تعاني منها السياسة الأميركية، والوضع الإستراتيجي والأمني لإسرائيل. ولعلّ اقتصار الزيارة على هذه الأطراف الثلاثة -المعنية مباشرة بعملية المفاوضات السياسية حول القضية الفلسطينية، والتي تقف موقفاً سلبياً إزاء المتغيرات في دول ما بعد الربيع العربي، وتشعر بأنها قد خسرت حلفاء كما خسرت محاضن لسياساتها الخارجية، واستشعرت التهديد على صعيد البعد الأيديولوجي من صعود تيار الإسلام السياسي المستنير إلى مربع القوة في معظم بلدان الثورات والإصلاحات، وخاصة في كل من مصر وتونس وليبيا- لعل كل ذلك يؤكد خطورة ما حملته الزيارة وتداعياتها المستقبلية.
كما أن هذه الأطراف الثلاثة لا تزال تترقب التحول في المشهد السوري ما بعد الثورة، سواء كانت النهاية تسوية سياسية بين القوى المتصارعة، المحلية منها أو الإقليمية، أو كانت النهاية ثورة حقيقية تؤسس لواقع سياسي وإستراتيجي جديد في دول المواجهة العربية، يكون التيار الإسلامي الأكثر فاعلية وقوة فيه، حسب التقديرات الأولوية لمجريات الثورة السورية.
وتشير القراءة إلى أنه لا يتوقع من هذين المسارين ومخرجاتهما أن يخدما السياسة الأميركية، من جهة، أو أن يشكل أي منهما وضعاً سياسياً وإستراتيجياً مطمئناً لإسرائيل أفضل مما هي عليه الآن من تخوفات وانتكاسات إقليمية. وفي المقابل، فإن أيّاً منهما قد يشكل حاملاً إستراتيجياً قوياً لتغيرات حقيقية في كل من الأردن والسلطة الفلسطينية، باستعادة زخم الربيع العربي أردنياً، وعبوره الحدود الفلسطينية.
لهذه الاعتبارات وغيرها مما قد يتوصل إليه المحللون السياسيون والإستراتيجيون، فإن التحولات الثلاثة التي رافقت وتبعت الزيارة شكلت بالفعل عملية اعتراضية لإمكانية تغيير إستراتيجي عميق وواسع، كانت الولايات المتحدة تخشى أن يشكل حاملاً قوياً، قد يتمكن من تعديل ميزان القوى مع إسرائيل لصالح المشروع العربي والفلسطيني بالتحرير والعودة، والذي سيعمل (حال تشكله) على تحجيم إسرائيل ومشروعها، إن لم نقل تحقيق تغيير جيو-سياسي ينعكس سلباً على وضع إسرائيل كدولة وكيان سياسي، علماً بأن هذه المفاجآت الثلاث تشكل خطوة واحدة متكاملة، يربط بينها التوجه الإستراتيجي الذي أشارت إليه المقالة آنفاً، وهذه المفاجآت:
١- نقل ملف القدس والمسجد الأقصى إلى ملك الأردن الهاشمي كمسؤولية قانونية وحصرية، وإعفاء المفاوض الفلسطيني من هذا العبء الثقيل، المعيق عن التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد تم هذا التوافق برعاية أميركية خلال زيارة أوباما إلى المنطقة، والذي تبلور فيما عرف بالاتفاق بين الملك عبدالله الثاني ملك الأردن والمؤسسات السياسية الفلسطينية الثلاث (دولة فلسطين، منظمة التحرير، السلطة الفلسطينية)، وقد تم توقيعه في الأردن في يوم الأحد 31 مارس/آذار2013 في عمان، حيث لم يستطع أي من الطرفين تقديم تفسير مقنع للخطوة وتوقيتها، وشكلها، وطرفيها، ومضمونها، وعلاقتها بعمليات أخرى مثل مفاوضات السلام، في الوقت الذي أسهمت التعليقات غير المنطقية لبعض المقربين من الطرفين في إثارة المزيد من التساؤلات، والضبابية إزاء مثل هذه الخطوة، وأهدافها الحقيقية.
٢- استئناف العلاقات التركية مع إسرائيل لتخفيف حدة الاضطراب في البيئة الإستراتيجية المحيطة بإسرائيل، خاصة بعد التحول السياسي في مصر بعد الثورة، ووقوف مصر الى جانب المقاومة الفلسطينية في حرب نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠١٢ على قطاع غزة، الأمر الذي قد يوفر جزءاً من شبكة الأمان اللازم لإسرائيل، ولو بثمن متواضع وغير سياسي، بالاعتذار، ودفع التعويضات التي سيتم التفاوض حولها، وتخفيف الإغلاق للمعابر الإسرائيلية على قطاع غزة، عوضاً عن رفع الحصار السياسي والاقتصادي، الذي فهم سابقاً من الشرط التركي عند بدء توتر العلاقات بمقتل الأتراك على السفينة مرمرة على يد القوات الإسرائيلية، وتستعيد إسرائيل بذلك مبدئياً حليفاً إستراتيجاً جاء فقدانه قبيل اندلاع الثورات العربية، وفقدان إسرائيل لنظام حسني مبارك، الذي كان يتولى تدجين الموقف الفلسطيني وتحقيق الشروط الإسرائيلية على الفلسطينيين في مختلف محطات عملية السلام، لعقدين من الزمان تقريباً، الأمر الذي كان قد تسبب بارتباك إستراتيجي إسرائيلي، حيث ثار النقاش إزاء التهديدات الوجودية لإسرائيل في هذه البيئة الإستراتيجية، التي تقع بين المعادية، وغير الصديقة في أحس الأحوال.
ولذلك فإن حلم شمعون بيريز (رئيس إسرائيل الحالي) بالمحافظة على علاقات وطيدة مع تركيا قد توفرت له فرصة تحقق جديدة، لم ينجح هو في تحقيقها في مؤتمر دافوس عام 2009 (عندما انسحب رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا، احتجاجاً على ما تناوله بيريز من تحريف للرواية حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام ٢٠٠٨/٢٠٠٩)، وبالتالي فإن نجاح الإدارة الأميركية باستعادة روح العلاقة بين حليفيها في المنطقة -كل من تركيا وإسرائيل- يساعد في دعم جهودها في تخفيف حدة الخسائر الناجمة عن الربيع العربي عليها وعلى إسرائيل.
٣- تراجع رئيس حركة فتح ورئيس السلطة الفلسطينية عن التزامات اتفاقات القاهرة السابقة والمتكررة، والذهاب بدلاً من ذلك إلى الدعوة إلى تشكيل حكومة برئاسته للإشراف على انتخابات رئاسية وتشريعية مباشرة، خلال ثلاثة شهور من تشكيل الحكومة على الأكثر، ويُعتقد بأنها تصمم كي تؤدي إلى إضعاف قوة ونفوذ حركة حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني بأشكال مختلفة، وبالطبع منعها من أن تنجح في انتخابات الرئاسة عبر التحكم بالانتخابات في الضفة الغربية بشكل أو بآخر، وبتعاون إسرائيلي من خلال اعتقال بعض قياديي حركة حماس ومرشحيها خلال فترة الانتخابات، أو مضايقتهم، وشلّ حركتهم الانتخابية بين جموع الناخبين، مما يعني تحقيق تراجع شعبي عبر الصناديق لحركة حماس وبرنامج المقاومة من جهة، ولبرنامج حركة من حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، لتعويض التراجعات التي مُنيت بها القوى العلمانية أمام هذا التيار في دول الثورات العربية، وخاصة في كل من مصر وتونس وليبيا، من جهة أخرى، وما سيوفره ذلك من فرصة لاستعادة قيادة الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، ومرجعيتها الفتحاوية الملتزمة بعملية التسوية ومفاوضاتها.
الأمر الذي قد يعني إعادة محاصرة المقاومة وبرامجها بصورة ربما أصعب مما تم تنفيذه ضدها في الضفة الغربية منذ العام ٢٠٠٧، وذلك تماهيا مع الموقف الأميركي الرافض لمصالحة مفتوحة بين فتح وحماس، دون أن تلتزم الأخيرة بشروط الرباعية، ويعتبر هذا التوجه عند السيد محمود عباس هو عملية إخراج تنفيذي لالتزام الشرط الأميركي، الذي لا يجعل حماس في موضع القيادة السياسية للسلطة لتفرض عليها شروط الرباعية.
إذن هذا هو الثمن الذي قبضه نتنياهو سلفاً -وبرعاية حليفه الأميركي- لاستئناف المفاوضات، ولعله يقتنع لاحقاً بإطلاق سراح عدد من الأسرى لدعم موقف رئيس السلطة، وربما يقوم ثانية بوقف جزئي لفترة محددة لعمليات التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ومؤكد أنه لا يقبل أن يشمل ذلك التوسعَ الاستيطاني في القدس كما حصل سابقاً.
السؤال الكبير الذي يفرض نفسه على المحلل هو ماذا قبض الفلسطينيون من ثمن مقابل ما دفعوه بالاتفاق مع الأردن، الذي يقضي بتخليصهم من الوصاية الدينية والقانونية على الأماكن المقدسة والمسجد الأقصى لصالح ملك الأردن الهاشمي، ومقابل تعليق عملية المصالحة الشاملة مع حماس وبقية الفصائل، التي كانت تهدف إلى إنهاء الانقسام، وليس إلى إجراء انتخابات مبكرة قد تزيد الانقسام الفلسطيني وتحوله إلى خسارة محققة لحماس، بدل أن يحقق بعض المكاسب لها ولفتح وبقية الفصائل، كما تفترض الأوراق الموقعة بين الطرفين وبرعاية مصرية سابقاً.
على الصعيد السياسي، يمكن أن يتبين من المعطيات القائمة وسياساتها للسنوات القادمة أن ما يمكن أن يأمله الفلسطينيون المفاوضون هو دولة مؤقتة الحدود في الضفة الغربية، داخل السور الأمني وقطاع غزة، وبدون القدس، مع إبقاء ما اصطلح عليه بالكتل الاستيطانية (المستوطنات الأمنية على حد تعبير إسحاق رابين) تابعة لإسرائيل، عبر ضمها الرسمي لدولة الكيان، فيما عرف مؤخراً بتبادل الأراضي، على أن تكون الدولة الفلسطينية هذه منزوعة السلاح، وترتبط اقتصاديا بإسرائيل، وأن تحظى مستقبلاً باعتراف دولي مشروط، وبالطبع بدون تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وذلك في حال استؤنفت المفاوضات بجدية إسرائيلية وأميركية، بعد كل هذه التنازلات.
بالطبع تمثل هذه التوقعات السيناريو الأكثر تفاؤلاً فلسطينياً، أما الأسوأ فهو أن تستأنف المفاوضات دون التوصل إلى مزيد من الاتفاقات السياسية، في مقابل توسيع دائرة ومتطلبات الواجبات الأمنية التي تلقى على كاهل السلطة لحماية أمن إسرائيل، خاصة في قطاع غزة بعد تسليم أمره لرئيس السلطة، وربما تشمل هذه التنازلات مزيداً من التراجع بمفهوم حق العودة، والمركز القانوني للاجئين الفلسطينيين.
لذلك فإن التحليل لهذه المتغيرات يفتح الفرصة لقبول فكرة أن التحرك الأميركي الأخير كان يستهدف استعادة إسرائيل لوضعها الإستراتيجي ما قبل الثورات العربية، وفتح الفرصة من جديد لفكرة التسوية السياسية، التي وجَّهت لها الثورات العربية ضربة قوية، وفي نفس الوقت إحداث ثقب مهم في جدار التقدم المتنامي لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة، لحساب التيارات العلمانية المرغوبة أميركيا بكل اتجاهاتها.
وفي حال نجاح جهود استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وإحياء المبادرة العربية للسلام -التي اجتمعت لجنتها في الدوحة 8 أبريل/نيسان2013 وقررت التحرك من جديد في مسار سبق فشله مرارا، لإقناع الجانب الأميركي بصلاحيتها كأساس لبناء سلام شامل في المنطقة مع إسرائيل- فإن الجهد الفلسطيني، والأردني، والعربي، سوف يعمل ليوفر شبكة أمان فكرية وسياسية لإسرائيل من مخاطر الربيع العربي الأمنية والوجودية، خاصة في ظل استمرار السياسات العربية الرسمية السابقة في حكم مسار التفكير بالصراع مع إسرائيل، والتي اعتبرت نظرية الاعتراف بإسرائيل والتعايش معها، وبالتالي إطالة عمرها، أساساً إستراتيجياً من أسسه فيما عرف بخيار السلام الإستراتيجي عربياً.
وبذلك، فإن تعويل قوى المقاومة الفلسطينية على دول الربيع العربي كحاضنة وإطار لمشروع التحرير يصبح محلّ شك، حيث أن ما كان تحقيقه ممكناً بجهود معقولة يصبح تحقيقه أصعب، ويتطلب جهوداً جبارة محفوفة بالعديد من الإخفاقات والعقبات العربية، حتى من دول الثورات، نظراً إلى أن الوضع الفلسطيني شكل تاريخياً -ولا يزال- الحامل والسقف الذي يعمل في إطاره الموقف العربي، الرسمي خاصة.
من جهة أخرى، أظهرت التحركات الأميركية الأخيرة -بزيارة الرئيس أوباما ونجاحاته الثلاثة التي ذكرنا آنفاً، وزيارات وزير الخارجية جون كيري اللاحقة لتنفيذ التزامات هذه المسارات، واجتماع اللجنة العربية للسلام في الدوحة على أصداء هذه الإنجازات الأميركية- أن قدرة الولايات المتحدة على استعادة زمام المبادرة ما زالت قوية، في مقابل العجز الذي تبديه قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، من جهة، والقوى الثورية الحاكمة في دول الثورات العربية عن استثمار المتغير لصالح تعديل المسار السياسي العربي، المحبط سابقاً في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، من جهة أخرى.
ويبدو أن الفرصة والمطلب أصبح ناضجاً عربيا وفلسطينيا، للبحث عن سبيل لإعادة رسم وبلورة الرؤية الإستراتيجية العربية الشعبية والرسمية وسياساتهما في التعامل مع الصراع والقضية، وقد تشكل المبادرة التي يسعى مركز دراسات الشرق الأوسط لبلورتها من خلال عقد مؤتمر عربي أكاديمي سياسي لتحقيق هذه الغاية، خطوة جادة، تحتاج إلى تبنيها بشكل جاد من قيادات الثورات، ودول ما بعد الثورات، إضافة إلى القيادات الفلسطينية المعنية، وتحتاج مسبقاً إلى التخفف من أعباء وأثقال سياسات ومواقف ضعيفة ومهزومة، موروثة من الحالة العربية ما قبل الثورات والربيع.
لكن الزيارة حملت مفاجآت من العيار الثقيل فيما يتعلق بالتحولات في الشرق الأوسط، والإشكالات التي تعاني منها السياسة الأميركية، والوضع الإستراتيجي والأمني لإسرائيل. ولعلّ اقتصار الزيارة على هذه الأطراف الثلاثة -المعنية مباشرة بعملية المفاوضات السياسية حول القضية الفلسطينية، والتي تقف موقفاً سلبياً إزاء المتغيرات في دول ما بعد الربيع العربي، وتشعر بأنها قد خسرت حلفاء كما خسرت محاضن لسياساتها الخارجية، واستشعرت التهديد على صعيد البعد الأيديولوجي من صعود تيار الإسلام السياسي المستنير إلى مربع القوة في معظم بلدان الثورات والإصلاحات، وخاصة في كل من مصر وتونس وليبيا- لعل كل ذلك يؤكد خطورة ما حملته الزيارة وتداعياتها المستقبلية.
كما أن هذه الأطراف الثلاثة لا تزال تترقب التحول في المشهد السوري ما بعد الثورة، سواء كانت النهاية تسوية سياسية بين القوى المتصارعة، المحلية منها أو الإقليمية، أو كانت النهاية ثورة حقيقية تؤسس لواقع سياسي وإستراتيجي جديد في دول المواجهة العربية، يكون التيار الإسلامي الأكثر فاعلية وقوة فيه، حسب التقديرات الأولوية لمجريات الثورة السورية.
وتشير القراءة إلى أنه لا يتوقع من هذين المسارين ومخرجاتهما أن يخدما السياسة الأميركية، من جهة، أو أن يشكل أي منهما وضعاً سياسياً وإستراتيجياً مطمئناً لإسرائيل أفضل مما هي عليه الآن من تخوفات وانتكاسات إقليمية. وفي المقابل، فإن أيّاً منهما قد يشكل حاملاً إستراتيجياً قوياً لتغيرات حقيقية في كل من الأردن والسلطة الفلسطينية، باستعادة زخم الربيع العربي أردنياً، وعبوره الحدود الفلسطينية.
لهذه الاعتبارات وغيرها مما قد يتوصل إليه المحللون السياسيون والإستراتيجيون، فإن التحولات الثلاثة التي رافقت وتبعت الزيارة شكلت بالفعل عملية اعتراضية لإمكانية تغيير إستراتيجي عميق وواسع، كانت الولايات المتحدة تخشى أن يشكل حاملاً قوياً، قد يتمكن من تعديل ميزان القوى مع إسرائيل لصالح المشروع العربي والفلسطيني بالتحرير والعودة، والذي سيعمل (حال تشكله) على تحجيم إسرائيل ومشروعها، إن لم نقل تحقيق تغيير جيو-سياسي ينعكس سلباً على وضع إسرائيل كدولة وكيان سياسي، علماً بأن هذه المفاجآت الثلاث تشكل خطوة واحدة متكاملة، يربط بينها التوجه الإستراتيجي الذي أشارت إليه المقالة آنفاً، وهذه المفاجآت:
١- نقل ملف القدس والمسجد الأقصى إلى ملك الأردن الهاشمي كمسؤولية قانونية وحصرية، وإعفاء المفاوض الفلسطيني من هذا العبء الثقيل، المعيق عن التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد تم هذا التوافق برعاية أميركية خلال زيارة أوباما إلى المنطقة، والذي تبلور فيما عرف بالاتفاق بين الملك عبدالله الثاني ملك الأردن والمؤسسات السياسية الفلسطينية الثلاث (دولة فلسطين، منظمة التحرير، السلطة الفلسطينية)، وقد تم توقيعه في الأردن في يوم الأحد 31 مارس/آذار2013 في عمان، حيث لم يستطع أي من الطرفين تقديم تفسير مقنع للخطوة وتوقيتها، وشكلها، وطرفيها، ومضمونها، وعلاقتها بعمليات أخرى مثل مفاوضات السلام، في الوقت الذي أسهمت التعليقات غير المنطقية لبعض المقربين من الطرفين في إثارة المزيد من التساؤلات، والضبابية إزاء مثل هذه الخطوة، وأهدافها الحقيقية.
٢- استئناف العلاقات التركية مع إسرائيل لتخفيف حدة الاضطراب في البيئة الإستراتيجية المحيطة بإسرائيل، خاصة بعد التحول السياسي في مصر بعد الثورة، ووقوف مصر الى جانب المقاومة الفلسطينية في حرب نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠١٢ على قطاع غزة، الأمر الذي قد يوفر جزءاً من شبكة الأمان اللازم لإسرائيل، ولو بثمن متواضع وغير سياسي، بالاعتذار، ودفع التعويضات التي سيتم التفاوض حولها، وتخفيف الإغلاق للمعابر الإسرائيلية على قطاع غزة، عوضاً عن رفع الحصار السياسي والاقتصادي، الذي فهم سابقاً من الشرط التركي عند بدء توتر العلاقات بمقتل الأتراك على السفينة مرمرة على يد القوات الإسرائيلية، وتستعيد إسرائيل بذلك مبدئياً حليفاً إستراتيجاً جاء فقدانه قبيل اندلاع الثورات العربية، وفقدان إسرائيل لنظام حسني مبارك، الذي كان يتولى تدجين الموقف الفلسطيني وتحقيق الشروط الإسرائيلية على الفلسطينيين في مختلف محطات عملية السلام، لعقدين من الزمان تقريباً، الأمر الذي كان قد تسبب بارتباك إستراتيجي إسرائيلي، حيث ثار النقاش إزاء التهديدات الوجودية لإسرائيل في هذه البيئة الإستراتيجية، التي تقع بين المعادية، وغير الصديقة في أحس الأحوال.
ولذلك فإن حلم شمعون بيريز (رئيس إسرائيل الحالي) بالمحافظة على علاقات وطيدة مع تركيا قد توفرت له فرصة تحقق جديدة، لم ينجح هو في تحقيقها في مؤتمر دافوس عام 2009 (عندما انسحب رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا، احتجاجاً على ما تناوله بيريز من تحريف للرواية حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام ٢٠٠٨/٢٠٠٩)، وبالتالي فإن نجاح الإدارة الأميركية باستعادة روح العلاقة بين حليفيها في المنطقة -كل من تركيا وإسرائيل- يساعد في دعم جهودها في تخفيف حدة الخسائر الناجمة عن الربيع العربي عليها وعلى إسرائيل.
٣- تراجع رئيس حركة فتح ورئيس السلطة الفلسطينية عن التزامات اتفاقات القاهرة السابقة والمتكررة، والذهاب بدلاً من ذلك إلى الدعوة إلى تشكيل حكومة برئاسته للإشراف على انتخابات رئاسية وتشريعية مباشرة، خلال ثلاثة شهور من تشكيل الحكومة على الأكثر، ويُعتقد بأنها تصمم كي تؤدي إلى إضعاف قوة ونفوذ حركة حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني بأشكال مختلفة، وبالطبع منعها من أن تنجح في انتخابات الرئاسة عبر التحكم بالانتخابات في الضفة الغربية بشكل أو بآخر، وبتعاون إسرائيلي من خلال اعتقال بعض قياديي حركة حماس ومرشحيها خلال فترة الانتخابات، أو مضايقتهم، وشلّ حركتهم الانتخابية بين جموع الناخبين، مما يعني تحقيق تراجع شعبي عبر الصناديق لحركة حماس وبرنامج المقاومة من جهة، ولبرنامج حركة من حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، لتعويض التراجعات التي مُنيت بها القوى العلمانية أمام هذا التيار في دول الثورات العربية، وخاصة في كل من مصر وتونس وليبيا، من جهة أخرى، وما سيوفره ذلك من فرصة لاستعادة قيادة الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، ومرجعيتها الفتحاوية الملتزمة بعملية التسوية ومفاوضاتها.
الأمر الذي قد يعني إعادة محاصرة المقاومة وبرامجها بصورة ربما أصعب مما تم تنفيذه ضدها في الضفة الغربية منذ العام ٢٠٠٧، وذلك تماهيا مع الموقف الأميركي الرافض لمصالحة مفتوحة بين فتح وحماس، دون أن تلتزم الأخيرة بشروط الرباعية، ويعتبر هذا التوجه عند السيد محمود عباس هو عملية إخراج تنفيذي لالتزام الشرط الأميركي، الذي لا يجعل حماس في موضع القيادة السياسية للسلطة لتفرض عليها شروط الرباعية.
إذن هذا هو الثمن الذي قبضه نتنياهو سلفاً -وبرعاية حليفه الأميركي- لاستئناف المفاوضات، ولعله يقتنع لاحقاً بإطلاق سراح عدد من الأسرى لدعم موقف رئيس السلطة، وربما يقوم ثانية بوقف جزئي لفترة محددة لعمليات التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ومؤكد أنه لا يقبل أن يشمل ذلك التوسعَ الاستيطاني في القدس كما حصل سابقاً.
السؤال الكبير الذي يفرض نفسه على المحلل هو ماذا قبض الفلسطينيون من ثمن مقابل ما دفعوه بالاتفاق مع الأردن، الذي يقضي بتخليصهم من الوصاية الدينية والقانونية على الأماكن المقدسة والمسجد الأقصى لصالح ملك الأردن الهاشمي، ومقابل تعليق عملية المصالحة الشاملة مع حماس وبقية الفصائل، التي كانت تهدف إلى إنهاء الانقسام، وليس إلى إجراء انتخابات مبكرة قد تزيد الانقسام الفلسطيني وتحوله إلى خسارة محققة لحماس، بدل أن يحقق بعض المكاسب لها ولفتح وبقية الفصائل، كما تفترض الأوراق الموقعة بين الطرفين وبرعاية مصرية سابقاً.
على الصعيد السياسي، يمكن أن يتبين من المعطيات القائمة وسياساتها للسنوات القادمة أن ما يمكن أن يأمله الفلسطينيون المفاوضون هو دولة مؤقتة الحدود في الضفة الغربية، داخل السور الأمني وقطاع غزة، وبدون القدس، مع إبقاء ما اصطلح عليه بالكتل الاستيطانية (المستوطنات الأمنية على حد تعبير إسحاق رابين) تابعة لإسرائيل، عبر ضمها الرسمي لدولة الكيان، فيما عرف مؤخراً بتبادل الأراضي، على أن تكون الدولة الفلسطينية هذه منزوعة السلاح، وترتبط اقتصاديا بإسرائيل، وأن تحظى مستقبلاً باعتراف دولي مشروط، وبالطبع بدون تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وذلك في حال استؤنفت المفاوضات بجدية إسرائيلية وأميركية، بعد كل هذه التنازلات.
بالطبع تمثل هذه التوقعات السيناريو الأكثر تفاؤلاً فلسطينياً، أما الأسوأ فهو أن تستأنف المفاوضات دون التوصل إلى مزيد من الاتفاقات السياسية، في مقابل توسيع دائرة ومتطلبات الواجبات الأمنية التي تلقى على كاهل السلطة لحماية أمن إسرائيل، خاصة في قطاع غزة بعد تسليم أمره لرئيس السلطة، وربما تشمل هذه التنازلات مزيداً من التراجع بمفهوم حق العودة، والمركز القانوني للاجئين الفلسطينيين.
لذلك فإن التحليل لهذه المتغيرات يفتح الفرصة لقبول فكرة أن التحرك الأميركي الأخير كان يستهدف استعادة إسرائيل لوضعها الإستراتيجي ما قبل الثورات العربية، وفتح الفرصة من جديد لفكرة التسوية السياسية، التي وجَّهت لها الثورات العربية ضربة قوية، وفي نفس الوقت إحداث ثقب مهم في جدار التقدم المتنامي لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة، لحساب التيارات العلمانية المرغوبة أميركيا بكل اتجاهاتها.
وفي حال نجاح جهود استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وإحياء المبادرة العربية للسلام -التي اجتمعت لجنتها في الدوحة 8 أبريل/نيسان2013 وقررت التحرك من جديد في مسار سبق فشله مرارا، لإقناع الجانب الأميركي بصلاحيتها كأساس لبناء سلام شامل في المنطقة مع إسرائيل- فإن الجهد الفلسطيني، والأردني، والعربي، سوف يعمل ليوفر شبكة أمان فكرية وسياسية لإسرائيل من مخاطر الربيع العربي الأمنية والوجودية، خاصة في ظل استمرار السياسات العربية الرسمية السابقة في حكم مسار التفكير بالصراع مع إسرائيل، والتي اعتبرت نظرية الاعتراف بإسرائيل والتعايش معها، وبالتالي إطالة عمرها، أساساً إستراتيجياً من أسسه فيما عرف بخيار السلام الإستراتيجي عربياً.
وبذلك، فإن تعويل قوى المقاومة الفلسطينية على دول الربيع العربي كحاضنة وإطار لمشروع التحرير يصبح محلّ شك، حيث أن ما كان تحقيقه ممكناً بجهود معقولة يصبح تحقيقه أصعب، ويتطلب جهوداً جبارة محفوفة بالعديد من الإخفاقات والعقبات العربية، حتى من دول الثورات، نظراً إلى أن الوضع الفلسطيني شكل تاريخياً -ولا يزال- الحامل والسقف الذي يعمل في إطاره الموقف العربي، الرسمي خاصة.
من جهة أخرى، أظهرت التحركات الأميركية الأخيرة -بزيارة الرئيس أوباما ونجاحاته الثلاثة التي ذكرنا آنفاً، وزيارات وزير الخارجية جون كيري اللاحقة لتنفيذ التزامات هذه المسارات، واجتماع اللجنة العربية للسلام في الدوحة على أصداء هذه الإنجازات الأميركية- أن قدرة الولايات المتحدة على استعادة زمام المبادرة ما زالت قوية، في مقابل العجز الذي تبديه قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، من جهة، والقوى الثورية الحاكمة في دول الثورات العربية عن استثمار المتغير لصالح تعديل المسار السياسي العربي، المحبط سابقاً في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، من جهة أخرى.
ويبدو أن الفرصة والمطلب أصبح ناضجاً عربيا وفلسطينيا، للبحث عن سبيل لإعادة رسم وبلورة الرؤية الإستراتيجية العربية الشعبية والرسمية وسياساتهما في التعامل مع الصراع والقضية، وقد تشكل المبادرة التي يسعى مركز دراسات الشرق الأوسط لبلورتها من خلال عقد مؤتمر عربي أكاديمي سياسي لتحقيق هذه الغاية، خطوة جادة، تحتاج إلى تبنيها بشكل جاد من قيادات الثورات، ودول ما بعد الثورات، إضافة إلى القيادات الفلسطينية المعنية، وتحتاج مسبقاً إلى التخفف من أعباء وأثقال سياسات ومواقف ضعيفة ومهزومة، موروثة من الحالة العربية ما قبل الثورات والربيع.