النّفط في الولايات المتّحدة الأميركيّة: ثورة في الأفق؟
مرسل: الاثنين مايو 06, 2013 12:31 pm
النّفط في الولايات المتّحدة الأميركيّة: ثورة في الأفق؟
منذ بداية الثّورة الصِّناعية في القرن الثّامن عشر، أصبح الوقود الأحفوري - الذي هو الفحم في مرحلةٍ أولى ثمّ النّفط والغاز في مرحلةٍ لاحقةٍ - يمثّل المصدر الرّئيس للطّاقة ووقود العجلة الاقتصاديّة ودعامة النموّ العالمي. وصارت قضيّة الوصول إلى الطّاقة والتحكّم فيها أمرًا ضروريًّا في معركة البقاء والتقدّم؛ ولذلك، فليس مستغربًا أن يكون إنتاج الطّاقة واستهلاكها من أهمّ أنشطة الحياة البشرية المعاصرة. ولقد ساد الاعتقاد بأنّ الطّاقة هي مفتاح التقدّم الحضاري، وأنّ تطوّر المجتمعات البشريّة يعتمد على التحكّم في تكنولوجيّات إنتاج الطاقة وتقنيّات تحويلها للاستخدام البشري. ولقد عمل الإنسان جاهدًا عبر التّاريخ، على التحكّم في مصادر الطّاقة، علاوةً على تطوير التقنيّات والتّكنولوجيّات المناسبة، من أجل إنتاجها واستغلالها. إذ تطوّرت مصادر الطّاقة وتقنياتها تاريخيًّا، من الاعتماد على قوّة العضلات الإنسانيّة والحيوانيّة، إلى استخدام قوّة الطّبيعة المتمثِّلة في المياه والرّياح في مرحلةٍ أولى. ثمّ تطوّرت التّقنيّات - في مرحلةٍ ثانيةٍ - من استعمال الفحم الذي كان محرِّكًا للثّورة الصِّناعيّة التي بدأت في إنكلترا في القرن الثّامن عشر لإنتاج الطّاقة البخاريّة، إلى استخدام النّفط في بداية القرن العشرين، وانتقال منظومة الطّاقة العالميّة في أقل من ثلاثة عقودٍ إلى منظومةٍ يمثِّل النّفط فيها المصدر الرّئيس للطّاقة ويحظى فيها بدورٍ مركزيٍّ في الاقتصاد العالمي. ولقد أوكِل إلى النّفط هذا الدّور المركزيّ؛ نظرًا إلى تكلفة إنتاجه المنخفضة وطبيعته السّائلة، ممّا يسهِّل عمليّة إنتاجه ونقله. غير أنّ الإنسانيّة لم تعرف قبل إدخال النّفط في منظومة الطّاقة العالميّة، قلقًا حول توفّر المستويات اللّازمة من احتياطيّات الطّاقة؛ من أجل الحفاظ على الطّلب العالمي من النّفط، ولاسيّما منذ صعود الاقتصاديّات النّاشئة مثل الصّين والهند. ويعود هذا القلق بالأساس، إلى الطّبيعة المحدودة للنّفط؛ ذلك أنّه غير متجدِّدٍ، ومستوى الاستهلاك مرتفعٌ جدًّا ويتجاوز بمراحلَ المستوى الطّبيعي لإنتاجه بما أنّه يحتاج إلى ملايين السّنين.
إنّ ما يميِّز صناعة النّفط منذ نشأتها، هو أنّ أكبر احتياطيٍّ من النّفط الخام الذي وقع اكتشافه يوجد بالأساس في مناطق جغرافيّةٍ محدودةٍ؛ الشّرق الأوسط وأميركا اللّاتينيّة. وقد قامت باكتشافه شركاتٌ غربيّةٌ من أوروبّا الغربيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة فقط. وإذا ما أُضيف إلى ذلك الدّور المحوريّ للنّفط في الاقتصاد العالمي، أصبحت قضيّة الوصول إلى مصادر الطّاقة والتحكّم فيها وفي النّفط بالخصوص، قضيّةً إستراتيجيّةً بالنِّسبة إلى الدّول في سياساتها الاقتصاديّة وفي العلاقات الدّوليّة.
في الوقت الرّاهن، ولعدّة سنواتٍ قادمةٍ، لا توجد أيّ أسبابٍ موضوعيّةٍ تدعو إلى القلق بشأن توفّر موارد الطّاقة الضّرورية؛ من أجل تلبية الطّلب العالمي للطّاقة في السّنوات المقبلة. وهو ما يؤكِّده التّقرير السّنوي حول مستقبل الطّاقة في العالم، الصّادر عن الوكالة الدّولية للطّاقة لعام 2012؛ إذ جاء فيه أنّ الموارد العالميّة من الطّاقة متوفِّرةٌ وكافيةٌ من أجل تلبية الطّلب العالميّ المتوقَّع من الطّاقة إلى غاية عام 2035 وإلى ما بعد ذلك. هذا مع مراعاة فرضيّات التّقرير في ما يخصّ سعر الطّاقة، والتوقّعات في مجال تطوّر التّكنولوجيا وتقنيات الاستخراج[1].
ما زالت احتياطيّات الوقود الأحفوري من النّفط والغاز والفحم، متوفِّرةً وقادرةً على تلبية الطّلب العالمي من الطّاقة لعقودٍ قادمةٍ، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بالفحم. إذ أنّ احتياطه المؤكَّد يفوق الاحتياطيّ المؤكَّد للنّفط والغاز مجتمعيْن، وهو كافٍ لتزويد الإنتاج العالمي من الطاقة لمدة 132 سنةً قادمةً بمعدّلات الإنتاج عام 2011[2]. إنّ الاحتياطيّ العالميّ المؤكَّد من الغاز - ذاك الذي يقع نصفه تقريبًا في ثلاث دولٍ فقط: هي روسيا وإيران وقطر - متوفِّرٌ بما فيه الكفاية لتلبية الطّلب العالميّ المتوقَّع من الغاز؛ إذ يصل مجموع الاحتياطي المؤكَّد إلى 232 تريليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي[3]. أمّا الاحتياطي العالمي من النّفط، فيستطيع أن يلبّي الطّلب العالميّ على النّفط لمدّة 55 سنةً بمعدّلات إنتاج عام 2011، علمًا أنّ دول أوبك تمثِّل وحدها 71% من الاحتياطي المؤكَّد من النّفط في العالم[4]. وتؤكّد جميع البيانات المتوفِّرة حول مستويات الاحتياطي المؤكَّد من النّفط التّقليدي، أنّه لا توجد أسبابٌ موضوعيّةٌ تدعو إلى القلق. وفي هذا المجال، الجدير بالذِّكر أنّ أكثر من 70% من الزِّيادات في بيانات الاحتياطي المؤكَّد العالمي للنّفط منذ عام 2000، كان مصدرها مراجعاتٌ في بيانات الحقول المكتَشَفة، والتي تُعرف بالنموّ في الاحتياطي[5]، مع إضافة 30% فقط من البيانات مصدرها الاكتشافات الجديدة[6].
علاوةً على ذلك، فقد عرف قطاع النّفط في العالم مستوى غير مسبوقٍ من الاستثمارات في مجالات استكشاف النّفط وإنتاجه منذ عام 2003، وصل إلى غاية 1.5 تريليون دولار أميركيٍّ في ما بين 2010 و2012 فقط. وهو ما من شأنه أن يعزِّز الطّاقة الإنتاجيّة في معظم الدّول المنتجة للنّفط في العالم في السّنوات المقبلة[7]. وفي نهاية المطاف، تُعدّ الموارد القابلة للاسترداد من الوقود الأحفوري، على المدى المتوسِّط والبعيد، أكبر بكثيرٍ من الاحتياطيّات المؤكَّدة. علمًا وأنّه بفِعل تغيّر ظروف السّوق العالميّ للطّاقة والتقدّم في تكنولوجيّات الاستكشاف والإنتاج، بدأ انتقال جزءٍ كبيرٍ من الموارد إلى فئة الاحتياطي المؤكَّد (نعني على وجه الخصوص كميّاتٍ هامّةٍ من النّفط والغاز غير التّقليديّين، تلك المتوفِّرة في عدّة أنحاء من العالم)، كما برهنت على ذلك التّجربة الأميركيّة في مجال الغاز الصّخري Shale gas.
ولاشكّ في أنّ تكلفة إنتاج هذه النّوعية الجديدة من النّفط والغاز ستكون أعلى من إنتاج المصادر التّقليديّة؛ إذ أنّ استنزاف الاحتياطيّات التقليديّة، سيجبر الشّركات على البحث عن مصادر للطّاقة تكون أكثر تعقيدًا من جهة الاستكشاف والإنتاج. ولكن، في الوقت نفسه، سوف تنخفض التّكلفة مع الوقت وبتوسّع المشاريع، كما هي الحال بالنِّسبة إلى كلّ الاستثمارات في المجالات الجديدة أو التّكنولوجيات المحدثة؛ تلك التي تمرّ بالضّرورة بمنحنى تعليميٍّ، تكون فيه التّكلفة عاليةً جدًّا في البداية، قبل أن تبدأ بالانخفاض تدريجيًّا. ومع ذلك، فإنّ تكلفة إنتاج النّوعيّة الجديدة، لن تصل إلى مستوى تكلفة المصادر التّقليدية من النّفط والغاز.
وفي هذا المجال، تبرز تجربة الولايات المتّحدة في مجال تطوير قدراتها الإنتاجيّة من النّفط والغاز الصّخري. فهي تجربةٌ فريدةٌ من نوعها، تستطيع أن تعيد تشكيل الخارطة العالميّة للطاقة، ولاسيّما إذا توسّع مجالها إلى مناطق أخرى من العالم. والفضل في ذلك يعود إلى اختراقٍ تكنولوجيٍّ في تقنيّات إنتاج أنواعٍ جديدةٍ من النّفط والغاز، تصنَّف على أنّها غير تقليديّة؛ كالغاز الصّخري Shale gas، والنّفط الصّخري shale oil، علاوةً على الصّخر الزّيتي Oil shale الذي سيمثِّل وحده نقلةً نوعيّةً أخرى في قدرات إنتاج النّفط في الولايات المتّحدة الأميركيّة على المدى البعيد.
تهتمّ هذه الورقة بهذا التوجّه الجديد نحو مزيج الطّاقة العالمي، وتنظر في تأثيره في سعر النّفط في الأسواق العالميّة، علاوةً على تداعياته الاقتصاديّة والسّياسيّة والجيوستراتيجيّة على دول مجلس التّعاون الخليجي على المدى البعيد. وتكمن أهميّة هذه الدِّراسة في كونها الأولى من نوعها أكاديميًّا - على حدّ علمي - التي تقوم بدراسة التّداعيات المستقبليّة المحتَمَلة لتغيّر الخارطة العالميّة للطّاقة - بعد ثورة النّفط في الولايات المتّحدة الأميركية وفي العالم - على اقتصادات الدّول العربيّة المصدِّرة للنّفط عامّةً؛ وذلك بالتّركيز على دول مجلس التّعاون الخليجي باعتبارها عيِّنةً. وفي ما يخصّ سعر النّفط، سنقوم بشرح سيناريو انهياره نتيجةً لثورة النّفط في الولايات المتّحدة الأميركيّة وللدّور المتنامي للطّاقات غير التّقليديّة عالميًّا؛ وذلك انطلاقًا من قياسه بنموذج انهيار سعر النّفط الذي وقع في منتصف الثّمانينيّات من القرن الماضي. ذلك أنّنا نرجِّح أنّ أسباب وقوع هذا السّيناريو، هي نفسها التي أدّت إلى الانهيار الجديد لسعر النّفط، وهو ما سنتولّى شرحه في هذه الورقة.
لسنا في هذه الورقة بصدد التنبّؤ بالمستقبل، ولكنّنا بصدد محاولة استشرافه، بالاعتماد على "منهجيّة السّيناريو" عند التّفكير في المستقبل. وللعلم، فإنّنا لم نطبِّق منهجيّة بناء السّيناريوهات بالكامل، ولكن اعتمدنا طريقتها في التّفكير؛ من خلال دراسة أهمّ العوامل التي ستؤثِّر في منظومة الطّاقة وفي أسعار النّفط في المستقبل. وفي هذا السِّياق، لابدّ لنا من أن نشير إلى وجود محاولاتٍ متعدِّدة ومستمرّةٍ لدى مؤسّساتٍ حكوميّةٍ وخاصّةٍ؛ من أجل التنبّؤ بمستقبل سوق الطّاقة، وذلك من خلال نماذج اقتصاديّة دقيقةٍ ومعقَّدةٍ. ولكنْ، يرى الخبير العالمي في مجال الطّاقة جان ماري شوفاليي Jean-Marie Chevalier، أنّه على الرّغم من دقّة الأدوات المستعمَلَة، فإنّ ممارسة التّنبؤ في مجال الطّاقة قد بقيت ممارسةً مستحيلةً. واتّضح له أنّ جميع تنبّؤات الماضي قد أخطأت[8]؛ بخصوص مستوى الاحتياطي من النّفط والغاز، وتكلفة استخراجهما، أو تطوّر الأسعار، أو مستوى الطّلب العالمي من الطّاقة... وإلى غير ذلك من القضايا المتعلّقة بالطّاقة عامّةً وبالنّفط والغاز خاصّةً. ولهذا السّبب، يرى الكاتب أنّ هناك ميلًا للاعتماد على تقنية السّيناريوهات، تلك التي استُعمِلت بنجاحٍ في مجال الطّاقة منذ أوائل السّبعينيّات من القرن الماضي من جهة شركة شل[9]. ويُعدّ "السّيناريو" من أبرز الوسائل المستخدَمة في تنفيذ دراساتٍ استشرافيّةٍ على المدى المتوسِّط أو البعيد؛ من أجل التّخطيط الإستراتيجي في مؤسّسات القطاع العامّ أو الخاصّ أو على مستوى الحكومات. إنّ "السيناريو" هو عبارةٌ عن رؤى مختلفة عن الاحتمالات المستقبليّة الممكنة أو المرجوَّة. والهدف من استعمال هذه التقنية، هو تسليط الضّوء على القوّة الدّافعة والمؤشِّرات الأوّلية لنقاط التحوّل في بيئة المنظومة التي هي تحت الدّراسة. وليس التنبّؤ بالمستقبل هو الهدف من "السّيناريو"، بقدر ما هو محاولة تسليط الضّوء على ذلك المستقبل والاستعداد لما هو غير متوقَّعٍ. وبعبارةٍ أخرى، هو وسيلةٌ تفتح طرقًا متعدِّدةً نحو المستقبل، وتتكوّن من تمازج ما هو محتومٌ وضروريٌّ مع ما لا يمكن التنبّؤ به وما يخضع للاختيار. وتكمن أهميّة تقنية "السّيناريو" في قدرتها على تجاوز القيود العقليّة والثّقافية والسِّياسية والتّنظيمية، إضافةً إلى القيود التي تعيق التّفكير الإبداعي؛ وذلك من خلال تطوير التّفكير النّقدي. وفي هذا الصّدد، تُعدّ تقنية السّيناريو أداةً متميِّزةً لإبراز المؤشِّرات المبكِّرة للتّغيير وتداعياتها على المنظومة؛ وهو ما يسمح باتّخاذ تدابير استباقيّة، وبالتكيّف مع التّغيير في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان. يعتمد بناء السّيناريوهات على مجهودٍ جماعيٍّ للتّفكير؛ من أجل إبراز المسائل التي يدور حولها شكٌّ أو تحيط بها المخاطر، وإظهار الفرص المحتَمَلة التي قد تواجه مؤسّسةً أو دولةً أو مجموعةً من الدّول. وتعتمد منظّماتٌ حكوميّةٌ وخاصّةٌ منهجيّة السّيناريوهات في التّفكير بشأن المستقبل، كما هي الحال بالنِّسبة إلى الوكالة الدّولية للطّاقة International Energy Agency (IEA) التي يصدر عنها تقريرٌ سنويٌّ حول مستقبل الطّاقة في العالم.
تحتمل جميع السّيناريوهات هامشًا كبيرًا من الخطإ؛ لأنّها تُبنى على عيِّنةٍ من أهمّ العوامل ذات الصِّلة، كالبيانات التّقنية الخاصّة بالاحتياطي، والإنتاج، والتّكنولوجيا، وحجم البنية التّحتية ونوعيّتها، والتّكلفة، علاوةً على العوامل السِّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة. ولكن، مهما كانت قائمة هذه العوامل طويلةً ودقيقةً، فهناك دائمًا إمكانيّة بروز عاملٍ / أو عوامل جديدة لم تُأخذ بعين الاعتبار.
منذ بداية الثّورة الصِّناعية في القرن الثّامن عشر، أصبح الوقود الأحفوري - الذي هو الفحم في مرحلةٍ أولى ثمّ النّفط والغاز في مرحلةٍ لاحقةٍ - يمثّل المصدر الرّئيس للطّاقة ووقود العجلة الاقتصاديّة ودعامة النموّ العالمي. وصارت قضيّة الوصول إلى الطّاقة والتحكّم فيها أمرًا ضروريًّا في معركة البقاء والتقدّم؛ ولذلك، فليس مستغربًا أن يكون إنتاج الطّاقة واستهلاكها من أهمّ أنشطة الحياة البشرية المعاصرة. ولقد ساد الاعتقاد بأنّ الطّاقة هي مفتاح التقدّم الحضاري، وأنّ تطوّر المجتمعات البشريّة يعتمد على التحكّم في تكنولوجيّات إنتاج الطاقة وتقنيّات تحويلها للاستخدام البشري. ولقد عمل الإنسان جاهدًا عبر التّاريخ، على التحكّم في مصادر الطّاقة، علاوةً على تطوير التقنيّات والتّكنولوجيّات المناسبة، من أجل إنتاجها واستغلالها. إذ تطوّرت مصادر الطّاقة وتقنياتها تاريخيًّا، من الاعتماد على قوّة العضلات الإنسانيّة والحيوانيّة، إلى استخدام قوّة الطّبيعة المتمثِّلة في المياه والرّياح في مرحلةٍ أولى. ثمّ تطوّرت التّقنيّات - في مرحلةٍ ثانيةٍ - من استعمال الفحم الذي كان محرِّكًا للثّورة الصِّناعيّة التي بدأت في إنكلترا في القرن الثّامن عشر لإنتاج الطّاقة البخاريّة، إلى استخدام النّفط في بداية القرن العشرين، وانتقال منظومة الطّاقة العالميّة في أقل من ثلاثة عقودٍ إلى منظومةٍ يمثِّل النّفط فيها المصدر الرّئيس للطّاقة ويحظى فيها بدورٍ مركزيٍّ في الاقتصاد العالمي. ولقد أوكِل إلى النّفط هذا الدّور المركزيّ؛ نظرًا إلى تكلفة إنتاجه المنخفضة وطبيعته السّائلة، ممّا يسهِّل عمليّة إنتاجه ونقله. غير أنّ الإنسانيّة لم تعرف قبل إدخال النّفط في منظومة الطّاقة العالميّة، قلقًا حول توفّر المستويات اللّازمة من احتياطيّات الطّاقة؛ من أجل الحفاظ على الطّلب العالمي من النّفط، ولاسيّما منذ صعود الاقتصاديّات النّاشئة مثل الصّين والهند. ويعود هذا القلق بالأساس، إلى الطّبيعة المحدودة للنّفط؛ ذلك أنّه غير متجدِّدٍ، ومستوى الاستهلاك مرتفعٌ جدًّا ويتجاوز بمراحلَ المستوى الطّبيعي لإنتاجه بما أنّه يحتاج إلى ملايين السّنين.
إنّ ما يميِّز صناعة النّفط منذ نشأتها، هو أنّ أكبر احتياطيٍّ من النّفط الخام الذي وقع اكتشافه يوجد بالأساس في مناطق جغرافيّةٍ محدودةٍ؛ الشّرق الأوسط وأميركا اللّاتينيّة. وقد قامت باكتشافه شركاتٌ غربيّةٌ من أوروبّا الغربيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة فقط. وإذا ما أُضيف إلى ذلك الدّور المحوريّ للنّفط في الاقتصاد العالمي، أصبحت قضيّة الوصول إلى مصادر الطّاقة والتحكّم فيها وفي النّفط بالخصوص، قضيّةً إستراتيجيّةً بالنِّسبة إلى الدّول في سياساتها الاقتصاديّة وفي العلاقات الدّوليّة.
في الوقت الرّاهن، ولعدّة سنواتٍ قادمةٍ، لا توجد أيّ أسبابٍ موضوعيّةٍ تدعو إلى القلق بشأن توفّر موارد الطّاقة الضّرورية؛ من أجل تلبية الطّلب العالمي للطّاقة في السّنوات المقبلة. وهو ما يؤكِّده التّقرير السّنوي حول مستقبل الطّاقة في العالم، الصّادر عن الوكالة الدّولية للطّاقة لعام 2012؛ إذ جاء فيه أنّ الموارد العالميّة من الطّاقة متوفِّرةٌ وكافيةٌ من أجل تلبية الطّلب العالميّ المتوقَّع من الطّاقة إلى غاية عام 2035 وإلى ما بعد ذلك. هذا مع مراعاة فرضيّات التّقرير في ما يخصّ سعر الطّاقة، والتوقّعات في مجال تطوّر التّكنولوجيا وتقنيات الاستخراج[1].
ما زالت احتياطيّات الوقود الأحفوري من النّفط والغاز والفحم، متوفِّرةً وقادرةً على تلبية الطّلب العالمي من الطّاقة لعقودٍ قادمةٍ، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بالفحم. إذ أنّ احتياطه المؤكَّد يفوق الاحتياطيّ المؤكَّد للنّفط والغاز مجتمعيْن، وهو كافٍ لتزويد الإنتاج العالمي من الطاقة لمدة 132 سنةً قادمةً بمعدّلات الإنتاج عام 2011[2]. إنّ الاحتياطيّ العالميّ المؤكَّد من الغاز - ذاك الذي يقع نصفه تقريبًا في ثلاث دولٍ فقط: هي روسيا وإيران وقطر - متوفِّرٌ بما فيه الكفاية لتلبية الطّلب العالميّ المتوقَّع من الغاز؛ إذ يصل مجموع الاحتياطي المؤكَّد إلى 232 تريليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي[3]. أمّا الاحتياطي العالمي من النّفط، فيستطيع أن يلبّي الطّلب العالميّ على النّفط لمدّة 55 سنةً بمعدّلات إنتاج عام 2011، علمًا أنّ دول أوبك تمثِّل وحدها 71% من الاحتياطي المؤكَّد من النّفط في العالم[4]. وتؤكّد جميع البيانات المتوفِّرة حول مستويات الاحتياطي المؤكَّد من النّفط التّقليدي، أنّه لا توجد أسبابٌ موضوعيّةٌ تدعو إلى القلق. وفي هذا المجال، الجدير بالذِّكر أنّ أكثر من 70% من الزِّيادات في بيانات الاحتياطي المؤكَّد العالمي للنّفط منذ عام 2000، كان مصدرها مراجعاتٌ في بيانات الحقول المكتَشَفة، والتي تُعرف بالنموّ في الاحتياطي[5]، مع إضافة 30% فقط من البيانات مصدرها الاكتشافات الجديدة[6].
علاوةً على ذلك، فقد عرف قطاع النّفط في العالم مستوى غير مسبوقٍ من الاستثمارات في مجالات استكشاف النّفط وإنتاجه منذ عام 2003، وصل إلى غاية 1.5 تريليون دولار أميركيٍّ في ما بين 2010 و2012 فقط. وهو ما من شأنه أن يعزِّز الطّاقة الإنتاجيّة في معظم الدّول المنتجة للنّفط في العالم في السّنوات المقبلة[7]. وفي نهاية المطاف، تُعدّ الموارد القابلة للاسترداد من الوقود الأحفوري، على المدى المتوسِّط والبعيد، أكبر بكثيرٍ من الاحتياطيّات المؤكَّدة. علمًا وأنّه بفِعل تغيّر ظروف السّوق العالميّ للطّاقة والتقدّم في تكنولوجيّات الاستكشاف والإنتاج، بدأ انتقال جزءٍ كبيرٍ من الموارد إلى فئة الاحتياطي المؤكَّد (نعني على وجه الخصوص كميّاتٍ هامّةٍ من النّفط والغاز غير التّقليديّين، تلك المتوفِّرة في عدّة أنحاء من العالم)، كما برهنت على ذلك التّجربة الأميركيّة في مجال الغاز الصّخري Shale gas.
ولاشكّ في أنّ تكلفة إنتاج هذه النّوعية الجديدة من النّفط والغاز ستكون أعلى من إنتاج المصادر التّقليديّة؛ إذ أنّ استنزاف الاحتياطيّات التقليديّة، سيجبر الشّركات على البحث عن مصادر للطّاقة تكون أكثر تعقيدًا من جهة الاستكشاف والإنتاج. ولكن، في الوقت نفسه، سوف تنخفض التّكلفة مع الوقت وبتوسّع المشاريع، كما هي الحال بالنِّسبة إلى كلّ الاستثمارات في المجالات الجديدة أو التّكنولوجيات المحدثة؛ تلك التي تمرّ بالضّرورة بمنحنى تعليميٍّ، تكون فيه التّكلفة عاليةً جدًّا في البداية، قبل أن تبدأ بالانخفاض تدريجيًّا. ومع ذلك، فإنّ تكلفة إنتاج النّوعيّة الجديدة، لن تصل إلى مستوى تكلفة المصادر التّقليدية من النّفط والغاز.
وفي هذا المجال، تبرز تجربة الولايات المتّحدة في مجال تطوير قدراتها الإنتاجيّة من النّفط والغاز الصّخري. فهي تجربةٌ فريدةٌ من نوعها، تستطيع أن تعيد تشكيل الخارطة العالميّة للطاقة، ولاسيّما إذا توسّع مجالها إلى مناطق أخرى من العالم. والفضل في ذلك يعود إلى اختراقٍ تكنولوجيٍّ في تقنيّات إنتاج أنواعٍ جديدةٍ من النّفط والغاز، تصنَّف على أنّها غير تقليديّة؛ كالغاز الصّخري Shale gas، والنّفط الصّخري shale oil، علاوةً على الصّخر الزّيتي Oil shale الذي سيمثِّل وحده نقلةً نوعيّةً أخرى في قدرات إنتاج النّفط في الولايات المتّحدة الأميركيّة على المدى البعيد.
تهتمّ هذه الورقة بهذا التوجّه الجديد نحو مزيج الطّاقة العالمي، وتنظر في تأثيره في سعر النّفط في الأسواق العالميّة، علاوةً على تداعياته الاقتصاديّة والسّياسيّة والجيوستراتيجيّة على دول مجلس التّعاون الخليجي على المدى البعيد. وتكمن أهميّة هذه الدِّراسة في كونها الأولى من نوعها أكاديميًّا - على حدّ علمي - التي تقوم بدراسة التّداعيات المستقبليّة المحتَمَلة لتغيّر الخارطة العالميّة للطّاقة - بعد ثورة النّفط في الولايات المتّحدة الأميركية وفي العالم - على اقتصادات الدّول العربيّة المصدِّرة للنّفط عامّةً؛ وذلك بالتّركيز على دول مجلس التّعاون الخليجي باعتبارها عيِّنةً. وفي ما يخصّ سعر النّفط، سنقوم بشرح سيناريو انهياره نتيجةً لثورة النّفط في الولايات المتّحدة الأميركيّة وللدّور المتنامي للطّاقات غير التّقليديّة عالميًّا؛ وذلك انطلاقًا من قياسه بنموذج انهيار سعر النّفط الذي وقع في منتصف الثّمانينيّات من القرن الماضي. ذلك أنّنا نرجِّح أنّ أسباب وقوع هذا السّيناريو، هي نفسها التي أدّت إلى الانهيار الجديد لسعر النّفط، وهو ما سنتولّى شرحه في هذه الورقة.
لسنا في هذه الورقة بصدد التنبّؤ بالمستقبل، ولكنّنا بصدد محاولة استشرافه، بالاعتماد على "منهجيّة السّيناريو" عند التّفكير في المستقبل. وللعلم، فإنّنا لم نطبِّق منهجيّة بناء السّيناريوهات بالكامل، ولكن اعتمدنا طريقتها في التّفكير؛ من خلال دراسة أهمّ العوامل التي ستؤثِّر في منظومة الطّاقة وفي أسعار النّفط في المستقبل. وفي هذا السِّياق، لابدّ لنا من أن نشير إلى وجود محاولاتٍ متعدِّدة ومستمرّةٍ لدى مؤسّساتٍ حكوميّةٍ وخاصّةٍ؛ من أجل التنبّؤ بمستقبل سوق الطّاقة، وذلك من خلال نماذج اقتصاديّة دقيقةٍ ومعقَّدةٍ. ولكنْ، يرى الخبير العالمي في مجال الطّاقة جان ماري شوفاليي Jean-Marie Chevalier، أنّه على الرّغم من دقّة الأدوات المستعمَلَة، فإنّ ممارسة التّنبؤ في مجال الطّاقة قد بقيت ممارسةً مستحيلةً. واتّضح له أنّ جميع تنبّؤات الماضي قد أخطأت[8]؛ بخصوص مستوى الاحتياطي من النّفط والغاز، وتكلفة استخراجهما، أو تطوّر الأسعار، أو مستوى الطّلب العالمي من الطّاقة... وإلى غير ذلك من القضايا المتعلّقة بالطّاقة عامّةً وبالنّفط والغاز خاصّةً. ولهذا السّبب، يرى الكاتب أنّ هناك ميلًا للاعتماد على تقنية السّيناريوهات، تلك التي استُعمِلت بنجاحٍ في مجال الطّاقة منذ أوائل السّبعينيّات من القرن الماضي من جهة شركة شل[9]. ويُعدّ "السّيناريو" من أبرز الوسائل المستخدَمة في تنفيذ دراساتٍ استشرافيّةٍ على المدى المتوسِّط أو البعيد؛ من أجل التّخطيط الإستراتيجي في مؤسّسات القطاع العامّ أو الخاصّ أو على مستوى الحكومات. إنّ "السيناريو" هو عبارةٌ عن رؤى مختلفة عن الاحتمالات المستقبليّة الممكنة أو المرجوَّة. والهدف من استعمال هذه التقنية، هو تسليط الضّوء على القوّة الدّافعة والمؤشِّرات الأوّلية لنقاط التحوّل في بيئة المنظومة التي هي تحت الدّراسة. وليس التنبّؤ بالمستقبل هو الهدف من "السّيناريو"، بقدر ما هو محاولة تسليط الضّوء على ذلك المستقبل والاستعداد لما هو غير متوقَّعٍ. وبعبارةٍ أخرى، هو وسيلةٌ تفتح طرقًا متعدِّدةً نحو المستقبل، وتتكوّن من تمازج ما هو محتومٌ وضروريٌّ مع ما لا يمكن التنبّؤ به وما يخضع للاختيار. وتكمن أهميّة تقنية "السّيناريو" في قدرتها على تجاوز القيود العقليّة والثّقافية والسِّياسية والتّنظيمية، إضافةً إلى القيود التي تعيق التّفكير الإبداعي؛ وذلك من خلال تطوير التّفكير النّقدي. وفي هذا الصّدد، تُعدّ تقنية السّيناريو أداةً متميِّزةً لإبراز المؤشِّرات المبكِّرة للتّغيير وتداعياتها على المنظومة؛ وهو ما يسمح باتّخاذ تدابير استباقيّة، وبالتكيّف مع التّغيير في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان. يعتمد بناء السّيناريوهات على مجهودٍ جماعيٍّ للتّفكير؛ من أجل إبراز المسائل التي يدور حولها شكٌّ أو تحيط بها المخاطر، وإظهار الفرص المحتَمَلة التي قد تواجه مؤسّسةً أو دولةً أو مجموعةً من الدّول. وتعتمد منظّماتٌ حكوميّةٌ وخاصّةٌ منهجيّة السّيناريوهات في التّفكير بشأن المستقبل، كما هي الحال بالنِّسبة إلى الوكالة الدّولية للطّاقة International Energy Agency (IEA) التي يصدر عنها تقريرٌ سنويٌّ حول مستقبل الطّاقة في العالم.
تحتمل جميع السّيناريوهات هامشًا كبيرًا من الخطإ؛ لأنّها تُبنى على عيِّنةٍ من أهمّ العوامل ذات الصِّلة، كالبيانات التّقنية الخاصّة بالاحتياطي، والإنتاج، والتّكنولوجيا، وحجم البنية التّحتية ونوعيّتها، والتّكلفة، علاوةً على العوامل السِّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة. ولكن، مهما كانت قائمة هذه العوامل طويلةً ودقيقةً، فهناك دائمًا إمكانيّة بروز عاملٍ / أو عوامل جديدة لم تُأخذ بعين الاعتبار.