- الاثنين مايو 06, 2013 1:20 pm
#63103
عوائق انتصار الثورة
محمد بن المختار الشنقيطي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
واجهت الثورة السورية عوائقَ لم تواجهها أي من ثورات الربيع العربي حتى اليوم، فهي المحكّ الذي سيصقل إرادة الشعوب، ويُعضّد من تصميمها على الحرية، دون تعويل على منقذ خارجي، أو استسلام لهمجية داخلية. وفي الذكرى الثانية للثورة السورية المجيدة نستعرض جملة العوائق التي تقف في وجه انتصارها حتى اليوم، ونستشرف مآلاتها التي بدأت تلوح في الأفق.
أما العائق الأول لنجاح الثورة السورية فهو أنها تواجه نظاما همجيا جمَع مساوئ دولة العصور الوسطى العتيقة، والدولة البوليسية المعاصرة، فهو نظام طائفي الجذور، ستاليني الأسلوب. وقد مكنتْه طائفيته التي شاد عليها سلطته منذ أربعة عقود من جعْل الأقلية التي ينتمي إليها تتماهى معه تماهياً يقارب العبادة، وتربط وجودها بوجوده. ولولا الطبيعة الطائفية للنظام السوري لما تماسكت النواة الصلبة لجيشه حتى الآن، بينما تخلّت الجيوش عن المستبدين كليا أو جزئيا في كل دول الربيع العربي الأخرى.
فما كان للربيع العربي أن يبدأ من تونس بدايته المظفرة لولا أن الجيش التونسي كان جيشا وطنيا مهنيا لم ينخرط في لعبة الحكم السياسي المفسدة للجيوش والدول، فتخلى عن ابن عليّ كليًّا في لحظة الحرج. وما كانت الثورة المصرية لتنجح لولا أن قيادة الجيش انقسمت على نفسها، وانتصر شقُّها المساند للثورة –بقيادة السيسي وفتحي- على الشق الذي يقوده عجائز الجنرالات الموالون لمبارك وأميركا (طنطاوي وعنان). ومثل ذلك يقال عن انشقاق جانب من الجيش اليمني بقيادة اللواء علي محسن الأحمر وانحيازه للثورة، مما ضمن توازنا للقوة الداخلية، وفرض على القوى الإقليمية والدولية أن تأخذ تطلعات الشعب اليمني بالاعتبار.
أما في سوريا فالتركيبية الطائفية للجيش –حيث 90% من الضباط علويون والكتائب النوعية علوية- جعلت التوازن الداخلي الضامن للتغيير أمرا بعيد المنال وغاليَ الثمن. وزاد من صلابة نظام الأسد تداعي البنية الإقليمية الشيعية -الممتدة من لبنان إلى إيران- لاصطفاف خلفه بحميّة جاهلية ذات شعارات إسلامية. ولا تزال إيران في سوريا ترفع راية الحسين وتقاتل في جيش يزيد بكل وقاحة، وقد سحبت إلى هذا الموقف الفاضح الجزء الأعظم من النخب الشيعية العربية في المنطقة.
والعائق الثاني هو الموقف الروسي المساند لهمجية الأسد، وهو موقف يمكن تفسيره ثقافيا وإستراتيجيا. أما ثقافيا فتحسن الإشارة هنا إلى ما تنبأ به المفكر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في القرن التاسع عشر من صعود الأمتين الأميركية والروسية، وإمساكهما بمصائر العالم خلال القرن العشرين.
لكن توكفيل استدرك استدراكا ذا مغزى فكتب: إن طريق الأميركيين إلى هذا المجد هو الحرية، وطريق الروس إليه هو العبودية. فالموقف الروسي من الثورة السورية يمكن تفسيره بثقافة العبودية التي لا تزال سائدة في روسيا، فهي الدولة الأوروبية الكبرى التي لا يزال يحكمها ضابط استخبارات هو فلاديمير بوتين، بعد أن سلَّمها شكليا بضعَ سنين لغلامه ديميتري ميدفيديف. ولا يزال بوتين وزمرته ينظرون إلى انتصار الثورة السورية على أنه توسع لنموذج غير مرغوب فيه، وهتك لثقافة العبودية التي يتشبثون بها.
أما إستراتيجيا، فإن زمرة بوتين المستأسرة لعقلية الحرب الباردة تتشبث بآخر جيوبها على ضفاف المتوسط، لجهلها أن الشعوب العربية لم تعد ترضى بتقرير مصيرها بقرار من وراء البحار. وما يقال عن ثقافة العبودية السائدة في روسيا يصدق على الصين أيضا التي لا تزال يحكمها حزب شمولي واحد، بعد أن أصبحت التعددية الحزبية من المعلوم بالضرورة لدى كل الشعوب الحرة أو الطامحة إلى الحرية.
والعائق الثالث الذي زاد ضريبة الدم على الشعب السوري هو ضعف الموقف العربي، فلم تقف من الدول العربية بجدٍّ مع ثورة الشعب السوري سوى دولتين هما ليبيا وقطر، وأغلب الدول العربية وقفت عند حدود الدعم الدبلوماسي البارد، وثلة منها وقفت مع الأسد صراحة أو ضمنا لأسباب مختلفة، فالقيادة الجزائرية تتحفّظ على أي موقف عملي جدي ضد النظام السوري، تشبثا من الجنرالات المتحكمين في نظامها السياسي بإفشال الثورات العربية، وخوفا من أن تصل أنسام الربيع إلى حدود الجزائر في يوم من الأيام، والعراق يدعم الأسد لأسباب طائفية مقيتة، أما لبنان فقد شلَّه الانقسام الطائفي الداخلي، وهو في الواقع معسكران متدابران في موقفهما من الثورة السورية.
وليس أدلّ على ضعف الموقف العربي في سوريا من انتماء المبعوثيْن العربيين إلى سوريا (الدابي والإبراهيمي) إلى دولتين عربيتين (السودان والجزائر) يحكمهما عساكر يكفرون بالربيع العربي ويحتقرونه. وبينما ترجمتْ إيران طائفيتها في سوريا إلى مال وسلاح وموقف سياسي لا يتزعزع، فإن طائفية بعض الدول العربية جاءت كليلةً: فهي قولٌ من غير فعل، وفتاوى فجّة في تكفير الشيعة يَبخل أهلُها بالسلاح والغذاء والدواء. إن هزيمة إيران في سوريا أصبحت اليوم ضرورة إستراتيجية عربية، وشرطا لازما لإعادة تأسيس العلاقات العربية الإيرانية على أساس من الندِّية والاحترام، فلا معنى للتردد والضعف العربي في دعم الشعب المظلوم مع المجاهرة الإيرانية بدعم الحاكم الظالم.
أما العائق الرابع فهو التردد التركي في تسليح الثوار السوريين. لقد وفرت تركيا للشعب السوري الرئة الإنسانية التي يتنفس بها، والمنبر السياسي الذي يتحرك منه -ولولاهما لكانت ضريبة الثورة السورية أفدح، وأمل نجاحها أضعف- لكن تركيا قنعتْ بدور الجمعية الخيرية، بدلا من دور القوة الإستراتيجية الصاعدة.
وليس خفيا أن موقع تركيا الإستراتيجي بين الشرق والغرب يمنحها إمكانا كبيرا، ويفرض عليها قيودا كثيرة. لكن تركيا تراعي القيود أكثر، فهي محافِظة في خياراتها الخارجية، ولا تجرؤ على المخاطرة الإستراتيجية. وقد أنتج هذا المنحى مفارقاتٍ أخلاقيةً وسياسيةً كبيرةً في الموقف التركي من الثورة السورية.
فبينما قدّمتْ تركيا دعما إنسانيا سخيا للشعب السوري، ووفرت منصة سياسية قوية للمعارضة السورية، فإنها لم تخرج على المواقف الغربية المانعة من وصول السلاح النوعي إلى الثوار. فإذا لم تحسم تركيا أمرها، فستبقى سوريا جرحا مفتوحا على حدودها لأمد بعيد، وستفقد تركيا الرأسمال العاطفي الذي تملكه لدى غالبية الشعوب العربية، والمصالح الإستراتيجية الكبرى الكامنة في الربيع العربي.
أما العائق الخامس من عوائق النصر في سوريا فهو الازدواجية المعهودة للنخبة السياسية الغربية حيال قضايا الشعوب العربية والإسلامية. لقد وجدت النخبة الأميركية والأوروبية في تعويق الثورة السورية فرصة لتحجيم ومحاصرة الربيع العربي في حدوده الحالية، والانتقام من الشعوب العربية التي خلعت ربقة العبودية، وأعلنت أنها لن يحكمها بعد اليوم عملاء للقوى الأجنبية.
ولم تغفر القوى الاستعمارية الغربية للشعوب العربية هذا الموقف، فتمالأتْ في وأد الثورة السورية، رغم الخطاب المنافق المعبّر عن الدعم والمساندة، وهو خطاب يراد منه تخدير الشعوب العربية والغربية معاً. لقد قررت القوى الغربية الرفع من الكلفة الدموية لمسعى السوريين إلى الحرية والكرامة، عقوبةً للشعوب العربية التي ثارت على عملاء الغرب في تونس ومصر واليمن، وردعا للشعوب العربية الأخرى المتوثبة للثورة.
ورغم التباين بين الموقف الروسي الفاضح بمجاهرته في دعم الأسد والموقف الأميركي المراوغ، فإن الموقفين متفقان في الجوهر: فأميركا مع سقوط الأسد بشرط تدمير سوريا، وروسيا مع تدمير سوريا بشرط بقاء الأسد، وهكذا يتفق الطرفان على تدمير سوريا في الحالتين، وعلى ألا يخرج الشعب السوري من ثورته إلا وهو مهيض الجناح، ممزق الأشلاء، لتكون الثورة السورية عبرة للشعوب المتوثبة إلى الحرية، المصمِّمة على استقلال القرار.
إن الحظر الغربي للسلاح على الشعب السوري رخصة للقاتل للإثخان في القتل، ومواساة للقتيل بجُملٍ منمَّقة، ومؤتمرات جوفاء، حفظا لماء الوجه، وإمعانا في النفاق والتلوّن. وليس الأمر سوى تكرار للتواطؤ الغربي ضد مسلمي البوسنة، حيث فرض الغرب حظر السلاح ليمنع المسلمين البوسنيين من الدفاع عن أنفسهم، بعد أن استيقن أن لدى الصرب منابع لا تنضب من السلاح الروسي. وهذا ما يحدث اليوم بالضبط: فالروس والإيرانيون يذبحون الشعب السوري، والأميركيون والأوربيون يشدّون وثاق الذبيح حتى لا يقاوم الجزّار، ثم هم يعلنون تعاطفهم معه، فأي صفاقة ونفاق أكبر من هذا؟!
أما العائق السادس فهو الموقف الإسرائيلي، وهو مؤثر في الموقف الغربي بشكل عام، والأميركي بشكل خاص، بل إن المواقف الثلاثة لتتماهى، بحكم الخلفية الاستعمارية المؤطِّرة لها.. وقد بيّن تقرير لصحيفة (كريستيان سايس مونيتور) الأميركية أن موقف الدولة الصهيونية من الثورة السورية يتلخص في اعتبار الأسد أقل الضررين وأهون الشرين. فالأسد وإن كان جزءا من الحلف الإيراني المعادي لإسرائيل، فإن عداوته لإسرائيل منضبطة في حدود المسموح به إسرائيليا، وهي لا تشكّل خطرا جدِّيا على مستقبل الدولة اليهودية.
ويكفي أن نظام الأسديْن (حافظ وبشار) لم يحرّك ساكنا على الحدود السورية خلال أربعين عاما من الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري. وليس هذا الموقف الإسرائيلي الحاني على الأسد بجديد، بل هو موقف كان موجودا قبل اندلاع الثورة السورية بأمد بعيد. حيث تروي الصحيفة الأميركية ذاتها أن غيورا إيلاندْ -مستشار أرييل شارون للأمن القومي- تحدث لشارون يوم كان رئيس وزراء إسرائيل عن تغيير نظام الحكم في سوريا، فرد عليه شارون غاضبا: "هل أنت أحمق؟ إن أحسن الخيارات في ظروفنا هي وجود رئيس مثل بشار الأسد يحارب من أجل شرعيته".
وتُلخِّص ردة فعل شارون الغاضبة فلسفة إسرائيل والغرب في نظرتهما للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدول العربية: فالحاكم العربي غير الشرعي ضعيف السند داخليا، منكشفٌ في مواجهة التأثير الأجنبي، لذلك فهو المفضَّل -عدوا كان أو صديقا- في النظرة الاستعمارية الغربية والإسرائيلية، بينما الحاكم العربي الشرعي ذو سند داخلي صلب، فهو لا يخضع لابتزاز القوى الأجنبية، ولذلك فهو غير مرغوب فيه عند الغربيين والإسرائيليين، سواء كان عدوا لهم أو صديقا، وهذا هو المنطق الذي جعل الإسرائيليين يفضلون سلطة الأسد غير الشرعية على أي سلطة شرعية تنبثق من الثورة السورية.
ومع كل هذه العوائق المتراكمة، لم يستكن الشعب السوري ولم يستسلم، بل هو يتقدم إلى النصر بثبات كل يوم. وقد برهن هذا الشعب العظيم على صلابة أمام همجية الأسد التي لا مثيل لها في تاريخنا المعاصر، وصمد في وجه البنية الإقليمية الطائفية المساندة للأسد، ورفض الخنوع للتواطؤ الدولي الصريح من روسيا والصين، أو للممالأة الضمنية من الولايات المتحدة وأوروبا، إنه شعب قرر كسر باب الحرية الحمراء بأيديه المضرجة، دون أن يكون لأحد عليه مِنَّة. ولذلك فإن الثورة السورية ستكون البرهان الساطع على إرادة الحرية في وجدان شعوبنا، وإصرارها على استرداد قرارها واختيارها بيدها مهما تكن التضحيات.
إن الثورة السورية اليوم أصبحت صراع وجود لا مجال فيه لأنصاف الحلول، ولم تعد صراع حدود يمكن حله بإعادة تعريف العلاقة بين الخصمين. وما تسعى إليه الدول الغربية وروسيا من حلول وسط تلفيقية تئد الثورة وتسوّي بين الجزار والضحية قد فات أوانه، بعد أن قدّم الشعب السوري عشرات الآلاف من الشهداء، وتشرَّد في البلدان، وضحى بماله وثروته وبنيته التحتية في سبيل الحرية.
وقد تنفتح في هذا الصراع ثغراتٌ غير متوقعة، في شكل دعم خارجي نوعي، أملا في التأثير في خلفاء الأسد، أو خوفا على إسرائيل من شظايا الصراع داخل سوريا، أو في شكل تصدّعٍ في البنية الطائفية للنظام السوري يحفظ بها العلويون باب المستقبل لأنفسهم، ويخرجون من النفَق المظلم الذي دفعهم إليه الأسد بوضعهم وجها لوجه مع شعبهم.
لكن ليس من مصلحة الشعب الثائر أن يحسب حسابا لأي تطورات عرَضية اعتباطية من هذا النمط.. لقد قرر الشعب السوري اقتحام باب الحرية الحمراء، ولم يعدْ أمامه إلا أن يستكمل طريق العزة والحرية ضد الظلامية والهمجية، مهما يكن الثمن. لقد تواطأت أطرافٌ عديدة على وأد ثورة الشعب السوري بالفعل وبالتَّرك، تنفيرا للشعوب من الثورة على الظلم والسعيِ إلى الحرية، لكن هيهات أن تذبل جذوة الأمل بعد اشتعالها، أو يعود الأحرار إلى قيد الجلاد بعد أن كسروه بأيديهم المضمَّخة بدماء الشهداء.
إن الشهداء ضرورة لتسوية النتوءات القبيحة في حياة الأمم، وفتح الثغرات في الطريق المسدود أمام ميلاد حضارتها، ويدل استقراء تاريخ الحضارات أن روح البطولة والشهادة مؤشر على ميلاد حضارة جديدة، فإذا رأيتَ أمة تبذل الشهداء بسخاء فاعلم أنها في فجر حضارتها، وإذا رأيت أمة تبخل بالشهداء فاعلم أن حضارتها في إدبار.
وهذا الذي يبشر حول الربيع العربي المجيد. ولنا أمةَ القرآن نظرتنا الكونية الخاصة في هذا المضمار، حيث نؤمن بأن الله تعالى يتخذ منا الشهداء إكراما لهم ولنا، لا محبة للظالمين: (ويتّخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).
وتحتاج بعض الدول العربية إلى الغَسْل من الاستبداد والفساد سبع مراتٍ سابعتُها بالتراب، لكي تسترد شيئا من إنسانيتها، بعد الهمجية السياسية التي سلطها عليها حكامها ردحا من الزمان، والشام أعظم من أن تبقى في أيدي الطغام. وحينما يتلفّع الربيع العربي بالدم، فذلك دليل على أنه يحمل معنى التصميم والتغيير المصيري، وليس مجرد مهرجان سياسي مخمليٍّ.
وإذا كانت الشعوب أرادت ربيعها ثوراتٍ مخملية، فإن الله أراده في بلاد الشام جهاداً مُطهِّرا لأمتنا من أدواء الوهَن، والسكوت المزمن على الظلم، والرضا بالدون بين الأمم: (كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
محمد بن المختار الشنقيطي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
واجهت الثورة السورية عوائقَ لم تواجهها أي من ثورات الربيع العربي حتى اليوم، فهي المحكّ الذي سيصقل إرادة الشعوب، ويُعضّد من تصميمها على الحرية، دون تعويل على منقذ خارجي، أو استسلام لهمجية داخلية. وفي الذكرى الثانية للثورة السورية المجيدة نستعرض جملة العوائق التي تقف في وجه انتصارها حتى اليوم، ونستشرف مآلاتها التي بدأت تلوح في الأفق.
أما العائق الأول لنجاح الثورة السورية فهو أنها تواجه نظاما همجيا جمَع مساوئ دولة العصور الوسطى العتيقة، والدولة البوليسية المعاصرة، فهو نظام طائفي الجذور، ستاليني الأسلوب. وقد مكنتْه طائفيته التي شاد عليها سلطته منذ أربعة عقود من جعْل الأقلية التي ينتمي إليها تتماهى معه تماهياً يقارب العبادة، وتربط وجودها بوجوده. ولولا الطبيعة الطائفية للنظام السوري لما تماسكت النواة الصلبة لجيشه حتى الآن، بينما تخلّت الجيوش عن المستبدين كليا أو جزئيا في كل دول الربيع العربي الأخرى.
فما كان للربيع العربي أن يبدأ من تونس بدايته المظفرة لولا أن الجيش التونسي كان جيشا وطنيا مهنيا لم ينخرط في لعبة الحكم السياسي المفسدة للجيوش والدول، فتخلى عن ابن عليّ كليًّا في لحظة الحرج. وما كانت الثورة المصرية لتنجح لولا أن قيادة الجيش انقسمت على نفسها، وانتصر شقُّها المساند للثورة –بقيادة السيسي وفتحي- على الشق الذي يقوده عجائز الجنرالات الموالون لمبارك وأميركا (طنطاوي وعنان). ومثل ذلك يقال عن انشقاق جانب من الجيش اليمني بقيادة اللواء علي محسن الأحمر وانحيازه للثورة، مما ضمن توازنا للقوة الداخلية، وفرض على القوى الإقليمية والدولية أن تأخذ تطلعات الشعب اليمني بالاعتبار.
أما في سوريا فالتركيبية الطائفية للجيش –حيث 90% من الضباط علويون والكتائب النوعية علوية- جعلت التوازن الداخلي الضامن للتغيير أمرا بعيد المنال وغاليَ الثمن. وزاد من صلابة نظام الأسد تداعي البنية الإقليمية الشيعية -الممتدة من لبنان إلى إيران- لاصطفاف خلفه بحميّة جاهلية ذات شعارات إسلامية. ولا تزال إيران في سوريا ترفع راية الحسين وتقاتل في جيش يزيد بكل وقاحة، وقد سحبت إلى هذا الموقف الفاضح الجزء الأعظم من النخب الشيعية العربية في المنطقة.
والعائق الثاني هو الموقف الروسي المساند لهمجية الأسد، وهو موقف يمكن تفسيره ثقافيا وإستراتيجيا. أما ثقافيا فتحسن الإشارة هنا إلى ما تنبأ به المفكر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في القرن التاسع عشر من صعود الأمتين الأميركية والروسية، وإمساكهما بمصائر العالم خلال القرن العشرين.
لكن توكفيل استدرك استدراكا ذا مغزى فكتب: إن طريق الأميركيين إلى هذا المجد هو الحرية، وطريق الروس إليه هو العبودية. فالموقف الروسي من الثورة السورية يمكن تفسيره بثقافة العبودية التي لا تزال سائدة في روسيا، فهي الدولة الأوروبية الكبرى التي لا يزال يحكمها ضابط استخبارات هو فلاديمير بوتين، بعد أن سلَّمها شكليا بضعَ سنين لغلامه ديميتري ميدفيديف. ولا يزال بوتين وزمرته ينظرون إلى انتصار الثورة السورية على أنه توسع لنموذج غير مرغوب فيه، وهتك لثقافة العبودية التي يتشبثون بها.
أما إستراتيجيا، فإن زمرة بوتين المستأسرة لعقلية الحرب الباردة تتشبث بآخر جيوبها على ضفاف المتوسط، لجهلها أن الشعوب العربية لم تعد ترضى بتقرير مصيرها بقرار من وراء البحار. وما يقال عن ثقافة العبودية السائدة في روسيا يصدق على الصين أيضا التي لا تزال يحكمها حزب شمولي واحد، بعد أن أصبحت التعددية الحزبية من المعلوم بالضرورة لدى كل الشعوب الحرة أو الطامحة إلى الحرية.
والعائق الثالث الذي زاد ضريبة الدم على الشعب السوري هو ضعف الموقف العربي، فلم تقف من الدول العربية بجدٍّ مع ثورة الشعب السوري سوى دولتين هما ليبيا وقطر، وأغلب الدول العربية وقفت عند حدود الدعم الدبلوماسي البارد، وثلة منها وقفت مع الأسد صراحة أو ضمنا لأسباب مختلفة، فالقيادة الجزائرية تتحفّظ على أي موقف عملي جدي ضد النظام السوري، تشبثا من الجنرالات المتحكمين في نظامها السياسي بإفشال الثورات العربية، وخوفا من أن تصل أنسام الربيع إلى حدود الجزائر في يوم من الأيام، والعراق يدعم الأسد لأسباب طائفية مقيتة، أما لبنان فقد شلَّه الانقسام الطائفي الداخلي، وهو في الواقع معسكران متدابران في موقفهما من الثورة السورية.
وليس أدلّ على ضعف الموقف العربي في سوريا من انتماء المبعوثيْن العربيين إلى سوريا (الدابي والإبراهيمي) إلى دولتين عربيتين (السودان والجزائر) يحكمهما عساكر يكفرون بالربيع العربي ويحتقرونه. وبينما ترجمتْ إيران طائفيتها في سوريا إلى مال وسلاح وموقف سياسي لا يتزعزع، فإن طائفية بعض الدول العربية جاءت كليلةً: فهي قولٌ من غير فعل، وفتاوى فجّة في تكفير الشيعة يَبخل أهلُها بالسلاح والغذاء والدواء. إن هزيمة إيران في سوريا أصبحت اليوم ضرورة إستراتيجية عربية، وشرطا لازما لإعادة تأسيس العلاقات العربية الإيرانية على أساس من الندِّية والاحترام، فلا معنى للتردد والضعف العربي في دعم الشعب المظلوم مع المجاهرة الإيرانية بدعم الحاكم الظالم.
أما العائق الرابع فهو التردد التركي في تسليح الثوار السوريين. لقد وفرت تركيا للشعب السوري الرئة الإنسانية التي يتنفس بها، والمنبر السياسي الذي يتحرك منه -ولولاهما لكانت ضريبة الثورة السورية أفدح، وأمل نجاحها أضعف- لكن تركيا قنعتْ بدور الجمعية الخيرية، بدلا من دور القوة الإستراتيجية الصاعدة.
وليس خفيا أن موقع تركيا الإستراتيجي بين الشرق والغرب يمنحها إمكانا كبيرا، ويفرض عليها قيودا كثيرة. لكن تركيا تراعي القيود أكثر، فهي محافِظة في خياراتها الخارجية، ولا تجرؤ على المخاطرة الإستراتيجية. وقد أنتج هذا المنحى مفارقاتٍ أخلاقيةً وسياسيةً كبيرةً في الموقف التركي من الثورة السورية.
فبينما قدّمتْ تركيا دعما إنسانيا سخيا للشعب السوري، ووفرت منصة سياسية قوية للمعارضة السورية، فإنها لم تخرج على المواقف الغربية المانعة من وصول السلاح النوعي إلى الثوار. فإذا لم تحسم تركيا أمرها، فستبقى سوريا جرحا مفتوحا على حدودها لأمد بعيد، وستفقد تركيا الرأسمال العاطفي الذي تملكه لدى غالبية الشعوب العربية، والمصالح الإستراتيجية الكبرى الكامنة في الربيع العربي.
أما العائق الخامس من عوائق النصر في سوريا فهو الازدواجية المعهودة للنخبة السياسية الغربية حيال قضايا الشعوب العربية والإسلامية. لقد وجدت النخبة الأميركية والأوروبية في تعويق الثورة السورية فرصة لتحجيم ومحاصرة الربيع العربي في حدوده الحالية، والانتقام من الشعوب العربية التي خلعت ربقة العبودية، وأعلنت أنها لن يحكمها بعد اليوم عملاء للقوى الأجنبية.
ولم تغفر القوى الاستعمارية الغربية للشعوب العربية هذا الموقف، فتمالأتْ في وأد الثورة السورية، رغم الخطاب المنافق المعبّر عن الدعم والمساندة، وهو خطاب يراد منه تخدير الشعوب العربية والغربية معاً. لقد قررت القوى الغربية الرفع من الكلفة الدموية لمسعى السوريين إلى الحرية والكرامة، عقوبةً للشعوب العربية التي ثارت على عملاء الغرب في تونس ومصر واليمن، وردعا للشعوب العربية الأخرى المتوثبة للثورة.
ورغم التباين بين الموقف الروسي الفاضح بمجاهرته في دعم الأسد والموقف الأميركي المراوغ، فإن الموقفين متفقان في الجوهر: فأميركا مع سقوط الأسد بشرط تدمير سوريا، وروسيا مع تدمير سوريا بشرط بقاء الأسد، وهكذا يتفق الطرفان على تدمير سوريا في الحالتين، وعلى ألا يخرج الشعب السوري من ثورته إلا وهو مهيض الجناح، ممزق الأشلاء، لتكون الثورة السورية عبرة للشعوب المتوثبة إلى الحرية، المصمِّمة على استقلال القرار.
إن الحظر الغربي للسلاح على الشعب السوري رخصة للقاتل للإثخان في القتل، ومواساة للقتيل بجُملٍ منمَّقة، ومؤتمرات جوفاء، حفظا لماء الوجه، وإمعانا في النفاق والتلوّن. وليس الأمر سوى تكرار للتواطؤ الغربي ضد مسلمي البوسنة، حيث فرض الغرب حظر السلاح ليمنع المسلمين البوسنيين من الدفاع عن أنفسهم، بعد أن استيقن أن لدى الصرب منابع لا تنضب من السلاح الروسي. وهذا ما يحدث اليوم بالضبط: فالروس والإيرانيون يذبحون الشعب السوري، والأميركيون والأوربيون يشدّون وثاق الذبيح حتى لا يقاوم الجزّار، ثم هم يعلنون تعاطفهم معه، فأي صفاقة ونفاق أكبر من هذا؟!
أما العائق السادس فهو الموقف الإسرائيلي، وهو مؤثر في الموقف الغربي بشكل عام، والأميركي بشكل خاص، بل إن المواقف الثلاثة لتتماهى، بحكم الخلفية الاستعمارية المؤطِّرة لها.. وقد بيّن تقرير لصحيفة (كريستيان سايس مونيتور) الأميركية أن موقف الدولة الصهيونية من الثورة السورية يتلخص في اعتبار الأسد أقل الضررين وأهون الشرين. فالأسد وإن كان جزءا من الحلف الإيراني المعادي لإسرائيل، فإن عداوته لإسرائيل منضبطة في حدود المسموح به إسرائيليا، وهي لا تشكّل خطرا جدِّيا على مستقبل الدولة اليهودية.
ويكفي أن نظام الأسديْن (حافظ وبشار) لم يحرّك ساكنا على الحدود السورية خلال أربعين عاما من الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري. وليس هذا الموقف الإسرائيلي الحاني على الأسد بجديد، بل هو موقف كان موجودا قبل اندلاع الثورة السورية بأمد بعيد. حيث تروي الصحيفة الأميركية ذاتها أن غيورا إيلاندْ -مستشار أرييل شارون للأمن القومي- تحدث لشارون يوم كان رئيس وزراء إسرائيل عن تغيير نظام الحكم في سوريا، فرد عليه شارون غاضبا: "هل أنت أحمق؟ إن أحسن الخيارات في ظروفنا هي وجود رئيس مثل بشار الأسد يحارب من أجل شرعيته".
وتُلخِّص ردة فعل شارون الغاضبة فلسفة إسرائيل والغرب في نظرتهما للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدول العربية: فالحاكم العربي غير الشرعي ضعيف السند داخليا، منكشفٌ في مواجهة التأثير الأجنبي، لذلك فهو المفضَّل -عدوا كان أو صديقا- في النظرة الاستعمارية الغربية والإسرائيلية، بينما الحاكم العربي الشرعي ذو سند داخلي صلب، فهو لا يخضع لابتزاز القوى الأجنبية، ولذلك فهو غير مرغوب فيه عند الغربيين والإسرائيليين، سواء كان عدوا لهم أو صديقا، وهذا هو المنطق الذي جعل الإسرائيليين يفضلون سلطة الأسد غير الشرعية على أي سلطة شرعية تنبثق من الثورة السورية.
ومع كل هذه العوائق المتراكمة، لم يستكن الشعب السوري ولم يستسلم، بل هو يتقدم إلى النصر بثبات كل يوم. وقد برهن هذا الشعب العظيم على صلابة أمام همجية الأسد التي لا مثيل لها في تاريخنا المعاصر، وصمد في وجه البنية الإقليمية الطائفية المساندة للأسد، ورفض الخنوع للتواطؤ الدولي الصريح من روسيا والصين، أو للممالأة الضمنية من الولايات المتحدة وأوروبا، إنه شعب قرر كسر باب الحرية الحمراء بأيديه المضرجة، دون أن يكون لأحد عليه مِنَّة. ولذلك فإن الثورة السورية ستكون البرهان الساطع على إرادة الحرية في وجدان شعوبنا، وإصرارها على استرداد قرارها واختيارها بيدها مهما تكن التضحيات.
إن الثورة السورية اليوم أصبحت صراع وجود لا مجال فيه لأنصاف الحلول، ولم تعد صراع حدود يمكن حله بإعادة تعريف العلاقة بين الخصمين. وما تسعى إليه الدول الغربية وروسيا من حلول وسط تلفيقية تئد الثورة وتسوّي بين الجزار والضحية قد فات أوانه، بعد أن قدّم الشعب السوري عشرات الآلاف من الشهداء، وتشرَّد في البلدان، وضحى بماله وثروته وبنيته التحتية في سبيل الحرية.
وقد تنفتح في هذا الصراع ثغراتٌ غير متوقعة، في شكل دعم خارجي نوعي، أملا في التأثير في خلفاء الأسد، أو خوفا على إسرائيل من شظايا الصراع داخل سوريا، أو في شكل تصدّعٍ في البنية الطائفية للنظام السوري يحفظ بها العلويون باب المستقبل لأنفسهم، ويخرجون من النفَق المظلم الذي دفعهم إليه الأسد بوضعهم وجها لوجه مع شعبهم.
لكن ليس من مصلحة الشعب الثائر أن يحسب حسابا لأي تطورات عرَضية اعتباطية من هذا النمط.. لقد قرر الشعب السوري اقتحام باب الحرية الحمراء، ولم يعدْ أمامه إلا أن يستكمل طريق العزة والحرية ضد الظلامية والهمجية، مهما يكن الثمن. لقد تواطأت أطرافٌ عديدة على وأد ثورة الشعب السوري بالفعل وبالتَّرك، تنفيرا للشعوب من الثورة على الظلم والسعيِ إلى الحرية، لكن هيهات أن تذبل جذوة الأمل بعد اشتعالها، أو يعود الأحرار إلى قيد الجلاد بعد أن كسروه بأيديهم المضمَّخة بدماء الشهداء.
إن الشهداء ضرورة لتسوية النتوءات القبيحة في حياة الأمم، وفتح الثغرات في الطريق المسدود أمام ميلاد حضارتها، ويدل استقراء تاريخ الحضارات أن روح البطولة والشهادة مؤشر على ميلاد حضارة جديدة، فإذا رأيتَ أمة تبذل الشهداء بسخاء فاعلم أنها في فجر حضارتها، وإذا رأيت أمة تبخل بالشهداء فاعلم أن حضارتها في إدبار.
وهذا الذي يبشر حول الربيع العربي المجيد. ولنا أمةَ القرآن نظرتنا الكونية الخاصة في هذا المضمار، حيث نؤمن بأن الله تعالى يتخذ منا الشهداء إكراما لهم ولنا، لا محبة للظالمين: (ويتّخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).
وتحتاج بعض الدول العربية إلى الغَسْل من الاستبداد والفساد سبع مراتٍ سابعتُها بالتراب، لكي تسترد شيئا من إنسانيتها، بعد الهمجية السياسية التي سلطها عليها حكامها ردحا من الزمان، والشام أعظم من أن تبقى في أيدي الطغام. وحينما يتلفّع الربيع العربي بالدم، فذلك دليل على أنه يحمل معنى التصميم والتغيير المصيري، وليس مجرد مهرجان سياسي مخمليٍّ.
وإذا كانت الشعوب أرادت ربيعها ثوراتٍ مخملية، فإن الله أراده في بلاد الشام جهاداً مُطهِّرا لأمتنا من أدواء الوهَن، والسكوت المزمن على الظلم، والرضا بالدون بين الأمم: (كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).