صفحة 1 من 1

الدولة القومية

مرسل: الاثنين مايو 06, 2013 6:06 pm
بواسطة احمد المالكي1
ظهرت الدولة القومية مع بداية عصر النهضة في أوربا وكذلك الحمائية كعقيدتان مسيطرتان حالتا دون ظهور مساحة اقتصادية عالمية موحدة. وفقط كان يوجد ائتلاف بين ميادين اقتصادية تعبر عن التفاوت واللامساواة التي تحكم العلاقات الدولية. وكانت نتائج الحرب العالمية الأولى قد دفعت بالولايات المتحدة لتتقدم بخطى حثيثة إلى مصاف الدول العظمى بعد أن أصبحت ألمانيا المهزومة غارقة في التضخم وإعادة الاعمار، وفرنسا مشغولة بتضميد جراحها، وبريطانيا في تخبطها النقدي الذي قضى على عصر البرجوازية الريعية. بدأت الرأسمالية الأمريكية بالانفتاح على آفاق رحبة و جديدة دون أن تحل محل اللاعبين الأوربيين تماما.

وكان لثورة أكتوبر العظمى في روسيا الأثر الأكبر في زعزعة إمكانية وجود مساحة اقتصادية دولية متضافرة، أضف إلى ذلك التداعيات والانتكاسات التي حصلت للدولة العثمانية وهنغاريا والنمسا، وكلها جاءت كمقدمة للركود العالمي الخطير بإسقاطاته وتداعياته على العالم عام 1929م.

وأخيرا فإن أشياء جديدة ذات أهمية قد طرأت على ظاهرة العولمة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين منها:

1. انهيار أسوار عالية كانت تحتمي بها أمم ومجتمعات من تيار العولمة، ومن ثم اكتسح تيار العولمة مناطق مهمة من العالم كانت معزولة بدرجة أو بأخرى عنها. وبانسحاب المعسكر الاشتراكي من المنافسة بعد أن تم تحطيم سور برلين واشتعل فتيل الثورات الشعبية في دول المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفيتي قد جعل الولايات المتحدة تعتنق رأسمالية هجومية تبدو صاحبة الرؤية المنتصرة لعالم يعاني من أزمة هوية ولنظام دولي لا توجد له ملامح واضحة.

إن ما يسمى بالنظام العالمي الجديد قد بدأ هجمته الجديدة باستعمال القوة العسكرية لردع كل من تخول له نفسه من الدول الكبيرة والصغيرة معارضة الهيمنة الأمريكية العسكرية والاقتصادية.

إن العالم ككل ومن ضمنه الوطن العربي بالطبع قد دفعته هجمته ما يسمى بالنظام الدولي الدولي الجديد إلى النوع من الخوف والذهول. ولا شك أن سرعة الأحداث التي عرفتها أوربا الشرقية وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بسلطة القرار أدت إلى تهميش المنظمات الجهوية و الدبلوماسية الأوربية، وجاءت سلوكيات الغطرسة واستعمال الأسلحة الفتاكة المتطورة أثناء حرب الخليج الثانية لنذهل وترعب الجميع، ولتخلق مناخا ملائما للحماية والانطواء على الذات في الدول الكولونيالية، وحذت حذوها الدول التوتاليتارية الناشئة بالانكفاء الاقتصادي استعدادا لحرب باتت أكثر من ممكنة.

وبعد انقطاع في مسار عولمة ما بين الحربين العالميتين فإنه عاد ليلتقط أنفاسه بعد الحرب العالمية الثانية رغم انقسام العالم إلى منظومتين أيديولوجيتين متناحرتين يجعل قيام اقتصاديات عالمية موحدة من أكبر المستحيلات، إلا أن المعسكر الغربي ذهب ليفصل اقتصاديات عالمية عالمي على قياسه، وكان أن بدأ في عام 1944م في برتين وودز Breton Woods بإنشاء النظام النقدي العالمي المتمثل في البنك وصندوق النقد الدوليين SUI واتفاقات التعريفة الجمركية والتجارة GATT التي تلعب دورا مهما في الاقتصاد العالمي تحت النفوذ الأمريكي صاحب الدعوة إلى إنشاء هاتين المؤسستين النقديتين الدوليتين.

وظهرت فيما بعد مطالب الدول النامية ونشوء المجموعة الإقتصادية الأوربية إضافة إلى بروز ألمانيا واليابان ومن بعدهما بلدان آسيا وآسيا الجنوبية الشرقية لتصبح عامل مضاف إلى المعسكر الشيوعي لتمنع سيطرة الرؤية والمفهوم الأمريكي أحادي الجانب الذي نشهده اليوم، بعد أن أصبح مبدأ السيادة يقدم من طرف الإدارة الأمريكية والدول الغربية التابعة لها خصوصا فرنسا وبريطانيا الأمر الذي جعل الحديث الآن ينصب على استكشاف فرص بقاء أو زوال النظام العلمي الجديد بوصفه الإطار السياسي لدعوة العولمة (11).

2. الزيادة الكبيرة في درجة تنوع السلع والخدمات التي يجري تبادلها على مستوى العالم، وتنوع مجالات الاستثمار التي تتجه إليها رؤوس الأموال المتنقلة من بلد إلى آخر، فلم تعد صادرات دولة أقل نموا تنحصر في مادة أولية واحدة ولا وارداتها في عدد محدد من السلع كما كانت الحال في ظل الاستعمار التقليدي، يبل تعددت هذه الصادرات وتنوعت الواردات وكذلك المجالات التي ينتقل إليها رأس المال الأجنبي بحثا عن فرص الربح.

3. تبادل المعلومات والأفكار بحيث أصبحت هي العنصر الغالب مع بقاء تبادل السلع ورؤوس الأموال عنصر مسيطر على العلاقات بين الدول والتي أصبحت فيها الشركات متعددة الجنسيات هي الوسيلة الأكثر فعالية ونشاطا في تحقيق هذا الانتقال للسلع ورأس المال والمعلومات والأفكار، بل وهي المهيمن على هذا الانتقال. وكما حلت الدولة محل الإقطاعية تدريجيا منذ خمسة قرون، تحل اليوم الشركات متعددة الجنسيات تدريجيا محل الدولة، والسبب في الحالين واحد: هو التقدم التقاني وزيادة الانتاجية والحاجة إلى أسواق أكثر رحابة فحدود الدولة القومية لم تعد هي حدود السوق الجديدة، بل أصبح العالم كله مجالا للتسوق والتسويق سواء كان تسويقا لسلع تامة الصنع، أو تسويقا لمعلومات وأفكار.

لقد أصبحت الشركات المنتجة تقفز فوق أسوار الدولة المنيعة والتي أصبحت من وقت إلى آخر أسواق شكلية سواء تمثلت في حواجز جمركية، أو حدود ممارسة السياسات النقدية والمالية، أو حدود السلطة السياسية أو حدود ممارسة السياسات النقدية والمالية، أو حدود السلطة السياسية أو حدود بث المعلومات والأفكار، أو حدود الولاء والخضوع.

أما كيف تتم هذه القفزات فوق ما كان يعتبر محرمات فيتم بالآتي:

الحواجز الجمركية

تتخطاها هذه الشركات، إما بالاستثمار المباشر داخل البلد المطلوب غزوه أو عن طريق اتفاقيات من نوع اتفاقية الجات وجولة أورجواي، وحدود ممارسة السياسة النقدية والمالية: وتتخطاها هذه الشركات بقدرتها على التهرب مما تفرضه الدولة من سياسات نقدية ومالية، أو بقدرتها على فرض ما تشاء ن سياسات على الدولة نفسها عن طريق ما يسمى ببرامج التثبيت الاقتصادي والتصحيح الهيكلي.

حدود السلطة السياسية

و يتم تخطيها باستبدال الرئيس أو ذلك (الزعيم) بآخر، أو بقاء هذا الزعيم نفسه وإجباره بطرق شتى على إتباع المسلك المطلوب.

بث المعلومات والأفكار

و قد تكفلت بتحطيمها أطباق التلفزيون وشاشات الكمبيوتر.

حدود الولاء والخضوع

ويتم بنشر أفكار تساعد على تحطيم موضوع الولاء القديم، وهو الوطن والأمة، وإحلال ولاءات جديدة محله، وأفكار من نوع (نهاية الأيديولوجيا) و (نهاية التاريخ) و (القرية العالمية)...الخ مما يصلح استخدامه مع جميع الأمم، أو من نوع (الشرق أوسطية) والقول بأننا لسنا عربا فقط بل أيضا شرق أوسطيين.

ولا تقوم الشركات متعددة الجنسية بأحداث هذه التغيرات بمفردها بل تعاونها مؤسسات أخرى، منها المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين ووكالات الأمم المتحدة المختلفة العاملة في ميادين التنمية الثقافية ومنها أجهزة المخابرات في الدول الكبرى ومنها وسائل الإعلام والمؤسسات المانحة للجوائز الدولية المهمة، وكل هذه المؤسسات لا تدخر وسعا في تجنيد مفكرين وكتاب يرجون للعولمة والكونية، ويؤكدون أن الشعور بالولاء لأمة أو وطن قد أصبح من مخلفات الماضي التي يجب إهمالها ونسيانها (12).

هذه هي الصورة العامة لتراجع دور الدولة وانحسار نفوذها، وتخليها عن مكانتها شيئا فشيئا لمؤسسات أخرى تتعاظم قوتها يوما بعد يوم وتصبح الشركات متعددة الجنسية والعملاقة هي مصدر السلطة الحقيقية