منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
By محمد المعجل
#63160
الثورة المصرية لا علاقة لها بالامبريالية!

يمكن القول إنه من السذاجة المفرطة افتراض أن حدوث ثورة ما أمر تتحدد شروطه فقط بالعوامل الداخلية في دولة بعينها. فالثورات تحدث في محيط داخلي وإقليمي ودولي. وتتشابك هذه العوامل لـ "إنجاحها وإفشالها." ولا أتحدث هنا عن حدوث الثورة فقط ولكن عن أهمية العامل الدولي في المسار الثوري ككل. ولذلك فالقول إن مسببات الثورة المصرية مثلاً هي الفقر والفساد والتعذيب وفقط وتجاهل علاقة هذه الأمور بالسياسات النيوليبرالية الجديدة هو جهل وكذب وتدليس! وتجاهل العامل الدولي في فهم الثورة المصرية هو خطأ جسيم. والخطأ الآخر ليس تجاهل العامل الدولي بصفة عامة ولكن تجاهل أهمية العلاقة المصرية الامريكية فيما يتعلق بالثورة المصرية ومساراتها على وجه التحديد.

والجدير بالذكر أن هذا الخطأ الأول الجسيم قد تجاوزه الزمن والمنطق. ودراسات علم الاجتماع السياسي الكلاسيكية عن الثورات تناولت أهمية العامل الدولي في حدوث الثورات. وتطورت هذه الدراسات للتفرقة بين المناخ الدولي المواتي أو المناهض لثورة بعينها. وهناك دراسات تاريخية عن دور القوى العظمي في اجهاض ثورات بعينها. وأنا من بين هؤلاء الذين يرون ضرورة فهم كل حالة على حدة، وأن هذا العامل معقد، فلا يمكن ببساطة أن نقول إن العامل الدولي اما مواتي أو مناهض. ولكن ربما يكون مواتياً ويتغير مع الوقت. وفي عبارة بليغة عبر الأكاديمي الإيرلندي اليساري فريد هاليدي ( في كتابه ”الثورة وسياسة العالم ”المنشور عام 1999، ص، 261) قال فيها إن علاقة السياسة الدولية والقوى الدولية بأي ثورة هي علاقة متناقضة بطبيعتها. وفي بعض الحالات يمكن أن نجد أن القوى الدولية "من جهة تسعى فوراً لتأييد الحالة الثورية وراديكاليتها في المدى القصير، لكنها تحاول أن تخترقها بعد ذلك بحيث تقودها إلى أن تتوافق مع القيم والأعراف السائدة الدولية على المدى البعيد." هذا ينطبق على القوى الدولية بصفة عامة فما بالنا والإمبريالية الأمريكية إذا تعلق الأمر بمصر! وهذا ما حدث بالضبط، أي أن الولايات المتحدة سرعان ما أعلنت تأييدها للثورة المصرية، بعد تردد، وفي ذات الوقت كانت تقوم بالتنسيق مع الركن الركين في علاقتها بمصر، ألا وهو المؤسسة العسكرية. كما لم تتوقف مشاوراتها مع الاخوان المسلمين بوصفهم أكبر قوة تنظيمية معروفة على السطح في مصر.

والليبراليون الامبرياليون يرتكبون كلا من الخطأين السالف الاشارة لهما أو يتصرفون بانتهازية وبراجماتية بحيث يتبنون جزء منالأول ويرتكبون الخطأ الثاني. فمثلا يمكن أن يقول بعضهم إن أموال بعض الدول الخليجية قد ساهمت في علو صوت الاسلاميين بسبب الدعم المالي الذي جاء لهم ولا يتحدثون عن الدعم الأمريكي. أو يتحدثون عن الدعم الامريكي بوصفه دعماً للثورة فحسب وليس بوصفه دعماً لمسار معين للديمقراطية المشروطة. والطريف أنه بينما يلومون الجيش والإخوان والنخبة على المسار الديمقراطي الفاشل، وينكرون أي دور للولايات المتحدة في المسار المتعثر، يقول بعضهم بكل فخر: لقد ساعدنا المصريين في ثورتهم ضد مبارك، ولن نتدخل الآن فهذه مشكلتهم مع ديمقراطيتهم الفاشلة! وكأن المطلوب منهم فقط دائماً هو التدخل للانقاذ! وبينما ينكر بعضهم أهمية ومسؤولية العامل الامبريالي في إجهاض الثورة يتحدثون عن المساعدات، ويقولون يجب أن نظهر لحلفائنا الجدد المزيد من "الحب الصارم" ( tough love). كيف تتحدثون عن مشروطية المساعدات وتنكرون التدخل الامبريالي؟

كيف لهؤلاء أن ينكروا مدى أهمية العلاقات المصرية الأمريكية في الثورة المصرية وكانت مصر في ظل مبارك من أهم الانظمة على الإطلاق في المنطقة للمصالح الامريكية! ولو افترضنا جدلاً أن الثورة المصرية لم يكن من بين اسبابها الثورة ضد عمالة مبارك للولايات المتحدة وكون نظامه ممثلاً لسياسات النيوليبرالية الجديدة، هل يمكن أن ينكر أي منصف أهمية دور الولايات المتحدة في لعب دور رئيسي في المسار ـ العملية السياسية التي اجهضت الثورة ـ الذي أخذته الثورة بعد ذلك؟ كيف يمكن إنكار ذلك خاصة وأن المؤسسة العسكرية التي أدارت المرحلة الانتقالية هي العمود الفقري للعلاقة المصرية الامريكية؟

هل يمكن أن ينكر أحد أن كلاً من المؤسسة العسكرية المصرية وجماعة الإخوان المسلمين والإدارة الامريكية كان لديهم مفهوم معين لديمقراطية مشروطة ـ على أحسن تقدير ـ في مصر؟ فالمؤسسة العسكرية أرادت ديمقراطية بشرط ألا تهدد مصالحها الاقتصادية، وجماعة الاخوان بدا أنه لديها وهم حول مشروع الاخوان لأستاذية العالم واستعادة الخلافة الاسلامية، أما الولايات المتحدة فارادت ديمقراطية لا تهدد العلاقات المصرية الامريكية والمصالح الامريكية في المنطقة. باختصار يمكن القول إنه كان هناك تلاقي مصالح حول التحكم في مسار الثورة المصرية (إن لم يكن إجهاضها لصالح ديمقراطية شكلية!). وفي هذا السياق لماذا لم نر تحليلاً نقدياً لمفهوم التحول المنظم (orderly transition) الذي نادت به الإدارة الأمريكية في مصر والذي جاء على لسان وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون أكثر من مرة في الأيام الأولى لما بعد تنحي مبارك! ولا أقول هنا إنه كان هناك تطابق تام بين مصالح المؤسسة العسكرية المصرية وجماعة الإخوان المسلمين والإدارة الأمريكية طوال الوقت. فهذا أمر يخلو من أي منطق. بالعكس لقد حدثت توترات وخلافات في الطريق حول الكثير من الأمور، ومن أهمها مثلاً موقع المؤسسة العسكرية في الدستور الجديد، أو الخلافات التي حدثت في الطريق حول تسليم السلطة للرئيس المنتخب. ولا أقول إن عامل العلاقة بالإمبريالية الأمريكية هو العامل الوحيد أو الحاسم والذي تحكم في المسار المتعثر للثورة المصرية. فهذا بالضبط المقابل الساذج لتفكير الإمبرياليين الذين ينكرون وجوده تماماً. لكن هذا عامل هام لا يمكن إنكاره. والطريف أن معظم الاسلاميين والليبراليين في مصر يشتركون مع هؤلاء الكتاب في استبعاد العامل الامبريالي في فهم الثورة المصرية.

لم نر أياً من المحللين الليبراليين الإمبرياليين يناقش بجدية مسألة لقاءات الإخوان بالادارة الامريكية في واشنطن وفي مصر وتعهدات الإخوان لها، وخاصة تعهدهم مثلاً بعدم طرح تعديل اتفاقية كامب ديفيد للاستفتاء على الشعب المصري! اليست المحددات الأمريكية الثلاث للعلاقة مع مصر، والتي تعلنها الإدارة الامريكية ليل نهار، مسألة جوهرية في العلاقة مع الطرفين الأساسيين الذين استهدفا الثورة والديمقراطية في مصر: أي الجيش والإخوان. هذه المحددات هي: عدم المساس باتفاقية كامب ديفيد، الاحتفاظ بالعلاقة الوثيقة مع المؤسسة العسكرية المصرية، والاستمرار في انتهاج سياسات السوق الحر!

وأذكر أنني دخلت في حوار على تويتر مع أحد الباحثين المعروفين في العلوم السياسية من المختصين بشؤون الشرق الاوسط. وبدأ الحوار بتهكمه من النشطاء المصريين. وكان ذلك في سياق أزمة قضية المنظمات غير الحكومية أيام حكم المجلس العسكري. وقال متهكماً ما دليل هؤلاء المدونون المصريون المؤمنون بنظرية المؤامرة على أن هذه القضية لعبة بين المجلس العسكري والولايات المتحدة. وقلت له إن كونهم متشكيين في أبعاد القضية لا يعني أنهم كلهم يؤمنون بالمؤامرة. وفي وقت لاحق بعد تهريب النشطاء الأمريكان بطائرة عسكرية أمريكية قلت له ما رأيك، ألم يكن لدى النشطاء المصريين حق في تشككهم؟ ولم يرد علي. والمسألة هنا ليست فقط في تفصيلية هذه القصة وموضوعها، ولكن الأمر الذي قصدته هو إصرار الكثير من الباحثين على تجاهل تورط حكومتهم في إجهاض الثورة. فيقول هؤلاء إن كل من السلطة والمعارضة فشلتا في خلق مناخ ديمقراطي صحي وفعال، لكنهم يتجاهلون الدعم الدولي المادي والمعنوي الذي قدمته حكوماتهم لهذا المسار الفاشل، يتجاهلون شحن أسلحة القمع في وقت قصير وفي أيام المعارك بين الأجهزة القمعية والمتظاهرين. صحيح أن الولايات المتحدة بدأت تتململ من فشل السلطة الاخوانية في كبح جماح الثورة وصنع استقرار. لكن هذا التململ فقط بسبب عدم قدرتهم على السيطرة أكثر من كل شيء وليس بسبب خيانتهم للثورة وغدرهم بالديمقراطية. يقول بعض هؤلاء هل تلوموننا على اختياركم؟ لقد جاء الاخوان بالديمقراطية؟ ويتجاهل هؤلاء أسلحة القمع والدعم المعنوي لنظام الإخوان من قبل الادارة الامريكية. ومرة أخرى أنا لا اقول هنا أبداً أن هذا العامل الامبريالي عامل جوهري وحاسم في التحكم في المسار الثوري. ولا أنكر أبداً أن هناك الكثير من الأخطاء التي ارتبكها ثوار مصر في كافة مراحل الثورة. لكن إنكار العامل الامبريالي في الثورة ليس سوى جهل أو تواطؤ! أقول لليبراليين الامبرياليين اخرسوا قليلاً. اتركونا لوحدنا ولثورتنا، ولعدم عقلانيتنا. ولكن توقفوا عن دعم وتأييد وتبرير من يقتلوننا ويقتلون ثورتنا!