صفحة 1 من 1

الحداثة عند الغزالي

مرسل: السبت مايو 11, 2013 5:33 am
بواسطة محمد العمار
يهدف المشروع الحداثوي عند أبي حامد الغزالي إلى إعادة صياغة الشخصية الإنسانية الإسلامية كونها العامل الأساسي في البناء الحضاري، ولذلك أعطى اهتمامًا كبيرًا لتربية الإنسان وتزكية أخلاقه، والاعتناء ببناء المؤسسة الاجتماعية بوصفها الفضاء العقائدي والأخلاقي والمعرفي الذي يحيا به الإنسان والذي يحقق فيه رقيَّه الروحي والأخلاقي الذي يرفعه إلى مقام (الإحسان) والذي ينقسم على قسمين :-
1-الإحسان الإنساني.
2-الإحسان الحضاري.
إن الأساس الذي يقوم عليه الإحسان بجانبيه الإنساني والحضاري، هو الوعي بطبيعة العلاقة بين الشريعة والعقل لما في ذلك من أهمية تكمن في استيعاب الشريعة استيعابًا عميقًا، وضبط العقل بروح الشريعة ونصها أدبًا وعلمًا.
تشير الورقة إلى المسارات الأساسية في مشروع الغزالي الفكري عبر ثلاثة محاور كالآتي:
1-مسار العبادة ومنظومة مفاهيمه الإيمانية، يركّز هذا المسار على وحدة العلم والإيمان من خلال التركيز على إدراك أسرار العبادات، وأنموذج رسالته (الحكمة في مخلوقات الله عزّ وجل):
(يا أخي وفقك الله توفيق العارفين، وجمع لك خير الدنيا والدين، إنه لما كان الطريق إلى معرفة الله سبحانه والتعظيم له في مخلوقاته والتفكير في عجائب مصنوعاته، وفهم الحكمة في أنواع مبتدعاته، وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين، وفيه تقارب درجات المتقين، وضعت هذا الكتاب منبهًا لعقول أرباب الألباب بتعريف وجوه من الحكم والنعم التي يشير إليها معظم آي الكتاب. فإن الله تعالى خلق العقول وكمّل هداها بالوحي وأمر أربابها بالنظر في مخلوقاته والتفكر والاعتبار مما أودعه من العجائب في مصنوعاته، لقوله سبحانه: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) [يونس:101] وقوله: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) [الأنبياء:30] إلى غير ذلك من الآيات البيّنات والدلالات الواضحات التي يفهمها متدبرها، والمترقي في اختلاف معانيها يعظّم المعرفة بالله سبحانه التي هي سبب السعادة، والفوز بما وعد به عباده من الحسنى وزيادة).
وكذلك رسالته (معراج السالكين):

(إخواني نصحت لكم فهل تحبون الناصحين وتحريت رشدكم فهل عليّ إلا البلاغ المبين وما تغني النصيحة. وقد عمّ الداء ومرض الأطباء واستشفى بغير الشفاء واعتيض من البصر بالعمى وخبثت القلوب ورين عليها وعطلت البصائر ونبّ التقصير إليها. واتخذت آيات الله هزوا ولعبا. وصيرت أغراض الآجلة إلى العاجلة سببَا فلا موقظ من غفلة، ولا زاجر عن زلة:
مرضى عن الخيرات في بحر الردى
غرقى فلا داع لنهج أقوام
شغفوا بكل رذيلة مذمومة
صرفت وجوههم لوجه الدرهم
ناموا عن المقصود لم يستيقظوا
ستكون يقظتهم لخطب أعظم
فنعوذ بالله أن نكون ممن رغب عن طريق هو لها سالك، وقال هلك الناس وهو في جملتهم هالك.
اعلم أيها الأخ أنّ الباعث على إسعافك في مطلوبك غرضان مهمان، ولما اقتصرت في طلبك على موافقتهما ودارت رغبتك على تحصيل حقيقة مقصودهما، واقتصرت همتك من بين العلوم على العلوم الإلهية وزعمت أنّ مقصودك طلب الخلاص من شر الاعتقادات الفاسدة، والهرب من الآراء المجانية للحق المعاندة، رأيت تقديم التنبيه على الغرضين المذكورين لنستوجب العذر فيما انتدبنا إليه، وليكون ذلك المهم الأكبر الذي نبهنا عليه.
الغرض الأول: أيها الأخ ما شاهدناه من فساد الزمان وأخذه في الازدياد وكثرة الآراء وفساد الاعتقاد، وعدم ذاب يبذل فيها الاجتهاد، ويمرها على كف الانتقاد، ولو سياسة الملوك لعمت الخافقين ظلمها، ولرسخ في كل الأقطار قدمها ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. ويبقى رسمًا كان إبقاؤه عليه وعدًا مسئولًا، ولكن تعاقب الزمان وطرو الحوادث وكثرة الصوارف وفتور الهمم داعية إلى الفساد، والداء يزداد كل يوم أغذية السوء كالذنوب فرأيت إبراز هذه النبذ لتكون مغنية للسائلين ومعينة للسالكين ومنفعة باقية في الآخرين.
والأهم من هذا الغرض التنبيه على غوائل الآراء البشعة التي استهوت عقول أكثر الناس وهم في ازدياد من هذا الفن، وهو سبب فتور الشرائع وهو عند الأنبياء على مر الأيام والنفوس مولعة بكل غريب لم تألفه وغامض لم تعهده فلا يسلم الغمز الجاهل من الوقوع فيه والقطن المتباطئ عن الاغترار بما يظهر من مبادئه.
الغرض الثاني: إن الحق لا يعرف قدره وحده ما لم يعرف نقيضه وضده، فبضدها تتميز الأشياء ومقصدها التنبيه على الطريق الأسلم، والصراط الأقوم، ولابد من ذكر الطريق المنحطة عنه لينصف في ذلك الناظر في هذا الكتاب فيعلم أنّا لم ننتدب لضئيل ولا أضربنا عن سيرة الأوائل في سكوتهم إلا لخطب جليل، ولنضيف ذلك إلى الغرض الثاني فيتضح لديه العذر وليعرف مقدار النعمة فيطلبها بالشكر).
2-مسار السيادة ومنظومة مفاهيمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يركّز هذا المسار على البعد الاقتصادي وأثره في البناء الإنساني والحضاري وكذلك على البعد الاجتماعي ومكوناته المؤسسية والقيمية، وموقع الإنسان فيه، وكذلك معالجة الجانب السياسي من حيث قدرته على تحقيق العدل، وأنموذج رسالته الموسومة بـ (سر العالمين وكشف ما في الدارين):-
(فما رأيت أهل الزمان هممهم قاصرة على نيل المقاصد الباطنة والظاهرة، وسألني جماعة من ملوك الأرض أن أضع لهم كتابًا معدوم المثل لنيل مقاصدهم واقتناص الممالك وما يعينهم على ذلك، استخرت الله فوضعت لهم كتابًا، وسميته بكتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) وبوبته أبوابًا، ومقالاتٍ وأحزابًا، وذكرت فيه مراتب صوابًا، وجعلته دالًّا على طلب المملكة وحثًّا عليها، وواضعًا لتحصيلها أساسًا جامعًا لمعانيها، وذكرت كيفية ترتيبها وتدبيرها، فهو يصلح للعالم الزاهد، وشريك شرك المالك بتطييب قلوب الجند وجذبهم إليه بالمواعظ، فأول من استحسنه وقرأه عليّ بالمدرسة النظامية سرًّا من الناس في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر، رجل من أرض المغرب يقال له محمد بن تومرت من أهل سليمة، وتوسمت منه الملك. وهو كتاب عزيز لا يجوز بذله، لأن تحته أسرارًا تفتقر إلى الكشف، إذ أنّ طباع العالم نافرة عنها، وتحته علوم عزيزة وإشارات كثيرة دالة على غوامض أسرار لا يعرفها إلا فحول الحكماء، فوفقك الله للعمل به فإنه دال على كل ما تريد من الله تعالى).

3-مسار السعادة ومنظومة مفاهيمه النفسية وبيان موقع الحب في تحقيق السعادة الإنسانية، وكذلك بيان أفعال النجاة التي تأخذ بالإنسان إلى سعادة الدارين وأفعال المهلكات التي تحرمه سعادة الدارين، وأنموذج كتاب (آداب النكاح) و (كسر الشهوتين).
(أما بعد: فإن النكاح معين على الدين، ومهين للشياطين، وحصن دون عدو الله حصين، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين، فما أحراه بأن تتحرى أسبابه، وتحفظ سننه وآدابه، وتشرح مقاصده وآرابه، وتفصّل فصوله وأبوابه، والقدر المهم من أحكامه ينكشف في ثلاثة أبواب:-
الباب الأول: في الترغيب فيه وعنه.
الباب الثاني: في الآداب المرعية في العقد والعاقدين.
الباب الثالث: في آداب المعاشرة بعد العقد إلى الفراق.
وكذلك قوله في (كسر الشهوتين):
(أما بعد: فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها إخراج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار، إلى دار الذل والافتقار إذ نُهيا عن الشجرة، فغلبتهما شهوتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما، والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات، ومنبت الأدواء والآفات إذ يتبعها شهوة الفرج، وشدة الشبق إلى المنكوحات، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال، اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات، ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات، وضروب المنافسات والمحاسدات. ثم يتولد بينهما آفة الرياء، وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم العقبى يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد، والعداوة والبغضاء. ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة، وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء. ولو ذلل العبد نفسه بالجوع، وضيق مجاري الشيطان، لأذعنت لطاعة الله عز وجل، ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجر به ذلك الى الانهماك في الدنيا، وإيثار العاجلة على، ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا.

وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد، وجب شرح غوائلها وآفاتها، تحذيرًا منها ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها، والتنبيه على فضلها، ترغيبًا فيها. وكذلك شرح شهوة الفرج، فإنها تابعة لها، ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها بيان فضيلة الجوع، ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن، بالتقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته، باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله، ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين).
يقوم منهجنا في هذه المشروع الفكري على تأصيل مفهوم الحداثة عند الغزالي، والتأصيل هنا هو دراسة مفاهيمه ومنهجه الذي جعله أحد أكبر رواد الحداثة والتجديد في عصره.
إن إعادة تثمير فكر الغزالي، ومواصلة مشروعه الحضاري الحداثوي / التجديدي من شأنه الإسهام في دفع المسيرة الحضارية للأمة الإسلامية بخطى أسرع في إطار المكانة المهمة للفكر في التهيئة للنهضة، والعمل على تسريع خطى التجاوز التاريخي لسكون المرحلة.
وإعادة تثمير هذا الفكر الحداثوي يبدأ بإعادة صياغة جهازه المفاهيمي وبيان كيفية تشغيلها في الواقع لتفعيل التجاوز، وذلك من خلال قراءة معاصرة تعيد فهم مفاهيم الغزالي الإيمانية والإجتماعية والنفسية والصوفية وربطها بالواقع المعاصر وحاجاته لتصحيح انحرافاته العقائدية والتشريعية والأخلاقية.
إن الحداثة عند الغزالي لا تقطع التواصل مع المرجعيات المعرفية الإسلامية، ولا تعيد تكرارها، بل تعيد إنتاجها في ضوء حاجات العصر كما فعل مع أبي طالب المكي في كتابه (قوت القلوب) الذي أعاد تصنيفه وقراءته برؤية منهجية ناضجة جدًّا جعله أقرب إلى الواقع وحاجاته مما سيوفر للحداثة أهم اشتراطاتها الموضوعية التي يتآزر فيها الارتباط بالجذور الحية والمتوهجة في فكر الأمة، مع الاشتغال الحميم في صميم الراهن المعاصر ومعايشة إشكالياته الجمة من أجل إنهاء الوجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والارتقاء بالإنسان في ظل حُبّـيْـنِ مهمين حبّ الله وحبّ الإنسان .