مابين الزلة الخطيرة والمشروع الخطير
مرسل: السبت مايو 11, 2013 5:38 am
ثلاثة قضايا كبرى تواجه الأمة اليوم : "الهوية" ، و"الأخلاق" ، و " طريقة التفكير" ، وكنت قد تنبهت إلى موضوع الأخلاق مبكرا جدا أثناء حواراتي اليومية في دمشق مع الشيخ الطبيب رفيق السباعي ، والذي كان يكرر على مسامعي أن الشريعة أربعة أعمدة ، عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات ، وبقيت قضية الأخلاق والمعاملات تلح على ذهني خمسة وثلاثين عاما نتيجة ماأراه وماأسمعه وماأعيشه من أوضاع مزرية تعانيها المرأة والأطفال في المنطقة العربية وفي تلك المجموعات التي نزحت من هذه المنطقة إلى ديار الغرب ، فالمرأة مطلعة بشكل أعمق على الخلل الأخلاقي في المجتمع ، نتيجة احتكاكها بخلاياه من الداخل ، من الأسرة حيث تبدو وبوضوح معضلة الأمة الأخلاقية والتربوية ، اكتشفت مبكرا أن الأزمة التي نعانيها ليست أزمة سياسية ولااقتصادية ولاحتى فكرية ، إنها أزمة أخلاق ومعاملات ، أزمة عميقة خطيرة متشعبة ، لأن "الأمة" اليوم لاتهتم بفلسفة الأخلاق ، وتمارس مجموعة من السلوكيات العقيمة المتوارثة مما تبقى من عادات الأمم التي تشكل عناصرها الإنسانية اليوم لحمة سكان المنطقة العربية ، والتي انتهت إلى الثقافة الاجتماعية العامة التي نعيشها ونورثها للأجيال ونمنحها اسم "الأخلاق" دون مراجعة ولاإعادة صياغة ولامشروعات نقد وتمحيص،محافظين على العقيدة والعبادات مُفرغة من روح الشريعة ، وقد هدمنا نصف أعمدتها في سلوكياتنا اليومية والانسانية والاجتماعية!.
في الرحلات الصيفية التي يقوم بها بعض تلامذتي إلى بلادهم الأصلية ، يعودون ودائما ليؤكد معظمهم في ملاحظاتهم التي أطلب إليهم تسجيلها: بأن الناس "هناك" مسلمون لاأخلاق لديهم !! يصلون ويصومون ولاتبارح المسابح أيدهم ، ولكنهم قوم غير أخلاقيين!! هؤلاء الفتيان الذين تراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة يعبرون عن أزمة الأمة الاخلاقية بكلمات بسيطة ، فنّدها "نوبو آكي نوتوهارا" الياباني البحاثة الرحالة المستعرب الذي قال عن نفسه أنه يحب العرب ويرجو لهم الخير والنهضة ، إذ ألف لهم كتابا سماه " العرب وجهة نظر يابانية " أهداهم فيه عيوبهم الأخلاقية! ، مما أثار حفيظة البعض ضده ، وبدلا من أن نبحث عن مكامن الصدق ومواضع الحق في مثل هذه الرسائل الفريدة من نوعها في تاريخ الأمم ، فإننا ننبري لأصحابها بالشتيمة باعتبارنا شعب الله "المحتار" !!.
هذا الاهتمام هو ما جذبني لمتابعة انتاج "محمد عابد الجابري" ، الذي تنبه إلى أن إعادة تشكيل العقل العربي أو المسلم المعاصر هو المفتاح لإعادة صياغة الأمة " الهوية" والإنسان والمجتمع "الأخلاق" ، لقد وضع الرجل الفيلسوف الكبير يده على الجرح في عنوان مشروعه الخطير في نقده للعقل العربي ، وخاصة " نقد العقل الأخلاقي العربي" ، كيف تستفيد الأمم من تراثها لتنهض من عثرتها؟ كيف يتحول الإنسان إلى "منهج أخلاقي" يمشي بين الناس؟ ، لقد فكر الرجل في مصيبة الأمة اليوم فوجد أن الخلل ليس في تراثها ، ولكن في طريقتها للاستفادة من هذا التراث ، "المنهج"، وفي الآلة التي يجب عليها أن تستوعب بها هذا التراث ، "العقل" ، وخرج علينا بنتيجة ممتازة ( ان تصحيح الوعي العربي بتاريخه يتطلب" إعادة الأمور إلى نصابها" داخل هذا التاريخ نفسه، وان مايهمنا من عرض القراآت السائدة للتراث في الفكر العربي المعاصر ، ليس الأطروحات التي تقررها أو تتبناها أو تكتشفها هذه القراءة أو تلك ، وإنما يهمنا فيها جميعا طريقة التفكير التي تنتجها) – نحن والذات- ، ويوضح الجابري من أين يجب أن تبدأ هذه المهمة فيقول: ( إن القضية الأساس التي أدافع عنها هي أن التجديد لايمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعا معاصرا لنا ، وفي الوقت ذاته بالحفاظ له على معاصرته لنفسه ولتاريخيته ، حتى نتمكن من الاحتفاظ به " – من نص مقابلة مع عبد الأله بلقزيز/ المستقبل العربي 278).
نقلت هذه النصوص لأنني أريد التأكيد على أمرين ، الأول هو دأب الجابري في مشروعه على العقل "آلة التفكير" ، وحثه على ضرورة مراجعة التراث ، معتبرا أن القرآن الكريم ليس جزءا من التراث ، ولكنه "النص المرجعي للعقل والحضارة الاسلامية"، ولقد جاءت مقالات الجابري عن القرآن في جريدة الاتحاد أواخر 2006 ، في سياق تساؤلات الجابري الفلسفية – راجع رضوان السيد / الحياة 8.5.2010 ، بدر راشد / موقع ثقافة الخميس 12.3.2009، وغيرهم - ، ولم يقل عالمٌ متبحر في الفلسفة أو في الدين أنه كان في سياق إنكار أو كفر!، وعقيدتنا أن القرآن كتاب لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه قطعا يقينا ، بالدليل العلمي التاريخي الوثائقي ، وحتى بالدليل الأدبي السياقي اللغوي ، بل وأكثر وأبعد من ذلك بدليل علوم الرياضيات المجردة، وعلوم الحاسب الآلي الحديثة.. ولانظن أن رجلا بنى مشروعا هائلا للأمة الاسلامية كالجابري تفوته مثل هذه الحقيقة التاريخية الباهرة التي نجدها في كل كتاباته.
لقد أفضى الرجل إلى ربه ، ولايمكننا ولايجب أن نضرب صفحاً عن مشروع الجابري ، بسبب هذه التساؤلات الفلسفية التي وقعت من الأمة موقعاً شديداً ، ولاتُلام الأمة على موقفها ذاك ، لسببين أولهما ضعف القراآت الفلسفية عندنا ضمن ضعف القراءة عموماً ، وثانيهما وهو مااشتكى منه الجابري نفسه ووقف حياته لدراسته ، وهو محنة العقل العربي في طرق تلقيه للعلم والنقد والتشكيك والدرس والتمحيص ، لقد رحل الجابري وأجره وحسابه على خالقه ، ومجموع مانعرف مما كتب ، يدلنا على إنسان عبقري ملتزم ، يدل الأمة على طريق للخلاص لن تجده إلابما في يدها من كنوز معرفية، وعليها مراجعة وتمحيص " تراثها" وإعادة قراءته قراءة معاصرة بعقل ينبغي عليها أن تعيد ابتكاره من خلال عملتي التربية والتعليم.
التربية والتعليم اللتان اشتغل عليهما الجابري في بلده المغرب ، فخرج علينا بعد تجربته الميدانية بقضية على غاية من الأهمية ، لقد تحدث الرجل عن العقل العربي ، وراجعه في ذلك بعض معاصريه ، في أن العقل غير الفكر ، إلا أن مايمكن أن نفهمه هو كلام الجابري عن إعادة تربية العقل ليستوعب غربلة الفكر ويعيد قراءة التراث ،لكن الأكثر لفتاً للنظر مما قام به الجابري كان في حديثه عن "العقل العربي" ، وعن "الأمة العربية" ، وعن "القومية العربية" ، وهو الأمازيغي المعروف !! لقد ارتفع الرجل فوق الخاص ليتحدث عن العام الذي جمع ويوحد ويُخلص من الشروخ في هذا الجسد المريض ، فوجد أن القضية الأمازيغية – كالقضية الكردية- قد تم إحياؤها على أيد غير شريفة ، بالضبط كتلك الأيدي غير الشريفة التي حاولت سحل واجتثاث هذه الأقليات -التي تعتبر مكونات بشرية وثقافية أساسية في هذه الأمة - وبأبشع صورة ممكنة! ، وإذا كان الرجل يبحث عن طريق للخلاص ومشروع للخروج من الأزمة فلابد له من أن يخاطب المجموع ، والشيء الوحيد الذي يميز هذا المجموع هو لغة القرآن ، اللغة العربية في المنطقة العربية ، والتي هي وعاء الهوية ووعاء العقيدة ووعاء الوجود في المرحلة الراهنة على الأقل.
لقد بلغ "الجابري" من الوعي بمشكلات الأمة ، كما بقدرتها الأكيدة على الوقوف على قدميها من جديد أن تجاوز نفسه ذاتها ، وتجاوز تلك القيود التي تكبل الأشخاص العاديين كالانتماآت العرقية والدينية والطائفية والوطنية ، ليتحدث باسم أمة ، من أجلها عمل في مشروعاته الفكرية الفلسفية تلك خمسين عاماً ، تاركا لها ثروة فلسفية معاصرة هائلة ، وبلغةٍ بسيطة تخلو من التعقيد ، جعلت من الفلسفة علماً قريب المتناول من المثقفين العرب الذين تلهفوا على كتبه ، بحيث صدرت من كتابه "نحن والتراث" وحده ثمانية عشرة طبعة خلال خمسة وعشرين عاما دون دعاية ولا تطبيل ولاترويج مجاني! .
ان مشروع الجابري حول نقد العقل العربي يعتبر ثروة قومية وإسلامية لاتقدر بثمن ، ثروة يجب أن تغرينا بالبحث والعمل ، وتمنحنا من السعادة الفكرية والنفسية ماينبغي معه أن نترفع عن تصنيف رجل مثل الجابري بأنه إسلامي أو علماني أو شيوعي أو إلى غير هذه التصنيفات السخيفة ، فهؤلاء رجال تقوم الأمم بهم وعلى أكتافهم ، هم فوق التصنيف وفوق معضلات الانتماء ، ولكنهم ليسوا فوق النقد بحال من الأحوال ، النقد العلمي المعرفي القائم على قراءة دقيقة واعية لما يمكن قراءته وفهمه واستيعابه من أعمالهم الجليلة الخالدة ، التي نرجو أن يتمكن تلامذة الجابري من العمل عليها والاضافة ، وعلى عواتقهم يقع عبء تصويب مايمكن تصويبه فيها ، وتطويرها لتتمكن الأمة من البناء عليها في مثل المرحلة الصعبة التي نعيشها ، والتي وعلى صعوبتها خرّجت لنا رجلا فذاً ، بمشروع فريد يحتاج منا إلى وقفة منصفة ، ليس مع الرجل الذي اجتهد فأخطأ وأصاب وحسابه على الله ، ولكن مع أنفسنا وقدرتنا على أن نكون أو لانكون.
في الرحلات الصيفية التي يقوم بها بعض تلامذتي إلى بلادهم الأصلية ، يعودون ودائما ليؤكد معظمهم في ملاحظاتهم التي أطلب إليهم تسجيلها: بأن الناس "هناك" مسلمون لاأخلاق لديهم !! يصلون ويصومون ولاتبارح المسابح أيدهم ، ولكنهم قوم غير أخلاقيين!! هؤلاء الفتيان الذين تراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة يعبرون عن أزمة الأمة الاخلاقية بكلمات بسيطة ، فنّدها "نوبو آكي نوتوهارا" الياباني البحاثة الرحالة المستعرب الذي قال عن نفسه أنه يحب العرب ويرجو لهم الخير والنهضة ، إذ ألف لهم كتابا سماه " العرب وجهة نظر يابانية " أهداهم فيه عيوبهم الأخلاقية! ، مما أثار حفيظة البعض ضده ، وبدلا من أن نبحث عن مكامن الصدق ومواضع الحق في مثل هذه الرسائل الفريدة من نوعها في تاريخ الأمم ، فإننا ننبري لأصحابها بالشتيمة باعتبارنا شعب الله "المحتار" !!.
هذا الاهتمام هو ما جذبني لمتابعة انتاج "محمد عابد الجابري" ، الذي تنبه إلى أن إعادة تشكيل العقل العربي أو المسلم المعاصر هو المفتاح لإعادة صياغة الأمة " الهوية" والإنسان والمجتمع "الأخلاق" ، لقد وضع الرجل الفيلسوف الكبير يده على الجرح في عنوان مشروعه الخطير في نقده للعقل العربي ، وخاصة " نقد العقل الأخلاقي العربي" ، كيف تستفيد الأمم من تراثها لتنهض من عثرتها؟ كيف يتحول الإنسان إلى "منهج أخلاقي" يمشي بين الناس؟ ، لقد فكر الرجل في مصيبة الأمة اليوم فوجد أن الخلل ليس في تراثها ، ولكن في طريقتها للاستفادة من هذا التراث ، "المنهج"، وفي الآلة التي يجب عليها أن تستوعب بها هذا التراث ، "العقل" ، وخرج علينا بنتيجة ممتازة ( ان تصحيح الوعي العربي بتاريخه يتطلب" إعادة الأمور إلى نصابها" داخل هذا التاريخ نفسه، وان مايهمنا من عرض القراآت السائدة للتراث في الفكر العربي المعاصر ، ليس الأطروحات التي تقررها أو تتبناها أو تكتشفها هذه القراءة أو تلك ، وإنما يهمنا فيها جميعا طريقة التفكير التي تنتجها) – نحن والذات- ، ويوضح الجابري من أين يجب أن تبدأ هذه المهمة فيقول: ( إن القضية الأساس التي أدافع عنها هي أن التجديد لايمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعا معاصرا لنا ، وفي الوقت ذاته بالحفاظ له على معاصرته لنفسه ولتاريخيته ، حتى نتمكن من الاحتفاظ به " – من نص مقابلة مع عبد الأله بلقزيز/ المستقبل العربي 278).
نقلت هذه النصوص لأنني أريد التأكيد على أمرين ، الأول هو دأب الجابري في مشروعه على العقل "آلة التفكير" ، وحثه على ضرورة مراجعة التراث ، معتبرا أن القرآن الكريم ليس جزءا من التراث ، ولكنه "النص المرجعي للعقل والحضارة الاسلامية"، ولقد جاءت مقالات الجابري عن القرآن في جريدة الاتحاد أواخر 2006 ، في سياق تساؤلات الجابري الفلسفية – راجع رضوان السيد / الحياة 8.5.2010 ، بدر راشد / موقع ثقافة الخميس 12.3.2009، وغيرهم - ، ولم يقل عالمٌ متبحر في الفلسفة أو في الدين أنه كان في سياق إنكار أو كفر!، وعقيدتنا أن القرآن كتاب لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه قطعا يقينا ، بالدليل العلمي التاريخي الوثائقي ، وحتى بالدليل الأدبي السياقي اللغوي ، بل وأكثر وأبعد من ذلك بدليل علوم الرياضيات المجردة، وعلوم الحاسب الآلي الحديثة.. ولانظن أن رجلا بنى مشروعا هائلا للأمة الاسلامية كالجابري تفوته مثل هذه الحقيقة التاريخية الباهرة التي نجدها في كل كتاباته.
لقد أفضى الرجل إلى ربه ، ولايمكننا ولايجب أن نضرب صفحاً عن مشروع الجابري ، بسبب هذه التساؤلات الفلسفية التي وقعت من الأمة موقعاً شديداً ، ولاتُلام الأمة على موقفها ذاك ، لسببين أولهما ضعف القراآت الفلسفية عندنا ضمن ضعف القراءة عموماً ، وثانيهما وهو مااشتكى منه الجابري نفسه ووقف حياته لدراسته ، وهو محنة العقل العربي في طرق تلقيه للعلم والنقد والتشكيك والدرس والتمحيص ، لقد رحل الجابري وأجره وحسابه على خالقه ، ومجموع مانعرف مما كتب ، يدلنا على إنسان عبقري ملتزم ، يدل الأمة على طريق للخلاص لن تجده إلابما في يدها من كنوز معرفية، وعليها مراجعة وتمحيص " تراثها" وإعادة قراءته قراءة معاصرة بعقل ينبغي عليها أن تعيد ابتكاره من خلال عملتي التربية والتعليم.
التربية والتعليم اللتان اشتغل عليهما الجابري في بلده المغرب ، فخرج علينا بعد تجربته الميدانية بقضية على غاية من الأهمية ، لقد تحدث الرجل عن العقل العربي ، وراجعه في ذلك بعض معاصريه ، في أن العقل غير الفكر ، إلا أن مايمكن أن نفهمه هو كلام الجابري عن إعادة تربية العقل ليستوعب غربلة الفكر ويعيد قراءة التراث ،لكن الأكثر لفتاً للنظر مما قام به الجابري كان في حديثه عن "العقل العربي" ، وعن "الأمة العربية" ، وعن "القومية العربية" ، وهو الأمازيغي المعروف !! لقد ارتفع الرجل فوق الخاص ليتحدث عن العام الذي جمع ويوحد ويُخلص من الشروخ في هذا الجسد المريض ، فوجد أن القضية الأمازيغية – كالقضية الكردية- قد تم إحياؤها على أيد غير شريفة ، بالضبط كتلك الأيدي غير الشريفة التي حاولت سحل واجتثاث هذه الأقليات -التي تعتبر مكونات بشرية وثقافية أساسية في هذه الأمة - وبأبشع صورة ممكنة! ، وإذا كان الرجل يبحث عن طريق للخلاص ومشروع للخروج من الأزمة فلابد له من أن يخاطب المجموع ، والشيء الوحيد الذي يميز هذا المجموع هو لغة القرآن ، اللغة العربية في المنطقة العربية ، والتي هي وعاء الهوية ووعاء العقيدة ووعاء الوجود في المرحلة الراهنة على الأقل.
لقد بلغ "الجابري" من الوعي بمشكلات الأمة ، كما بقدرتها الأكيدة على الوقوف على قدميها من جديد أن تجاوز نفسه ذاتها ، وتجاوز تلك القيود التي تكبل الأشخاص العاديين كالانتماآت العرقية والدينية والطائفية والوطنية ، ليتحدث باسم أمة ، من أجلها عمل في مشروعاته الفكرية الفلسفية تلك خمسين عاماً ، تاركا لها ثروة فلسفية معاصرة هائلة ، وبلغةٍ بسيطة تخلو من التعقيد ، جعلت من الفلسفة علماً قريب المتناول من المثقفين العرب الذين تلهفوا على كتبه ، بحيث صدرت من كتابه "نحن والتراث" وحده ثمانية عشرة طبعة خلال خمسة وعشرين عاما دون دعاية ولا تطبيل ولاترويج مجاني! .
ان مشروع الجابري حول نقد العقل العربي يعتبر ثروة قومية وإسلامية لاتقدر بثمن ، ثروة يجب أن تغرينا بالبحث والعمل ، وتمنحنا من السعادة الفكرية والنفسية ماينبغي معه أن نترفع عن تصنيف رجل مثل الجابري بأنه إسلامي أو علماني أو شيوعي أو إلى غير هذه التصنيفات السخيفة ، فهؤلاء رجال تقوم الأمم بهم وعلى أكتافهم ، هم فوق التصنيف وفوق معضلات الانتماء ، ولكنهم ليسوا فوق النقد بحال من الأحوال ، النقد العلمي المعرفي القائم على قراءة دقيقة واعية لما يمكن قراءته وفهمه واستيعابه من أعمالهم الجليلة الخالدة ، التي نرجو أن يتمكن تلامذة الجابري من العمل عليها والاضافة ، وعلى عواتقهم يقع عبء تصويب مايمكن تصويبه فيها ، وتطويرها لتتمكن الأمة من البناء عليها في مثل المرحلة الصعبة التي نعيشها ، والتي وعلى صعوبتها خرّجت لنا رجلا فذاً ، بمشروع فريد يحتاج منا إلى وقفة منصفة ، ليس مع الرجل الذي اجتهد فأخطأ وأصاب وحسابه على الله ، ولكن مع أنفسنا وقدرتنا على أن نكون أو لانكون.