عولمتنا وعولمتهم
مرسل: السبت مايو 11, 2013 5:53 am
كثر الحديث عن العولمة، في هذا العقد الأول، من القرن الحادي والعشرين، حتى تاه الناس في مدلولاتها، مع وضوح فحواها.
ويبدو لي الأمر كأنه لا حيلة للضعيف إلا قبول تفسير المصطلحات – ومنها العولمة- كما يفسرها واضعها القوي، وهذه تكاد تكون من السنن التاريخية.
ومهما حاولت البلدان النامية –ومنها بلداننا العربية والإسلامية- أن تجد معاني جميلة للعولمة الغربية، التي يُرادُ فرضها علينا، كي تكسوها بها؛ فإنّ معانيها القبيحة المستترة خلف المعاني المزركشة، تظهر سنة بعد سنة، وشهراً بعد شهر، ويوماً بعد يوم، حتى لم تعُدْ خافية على السذج من الناس، فضلاً عن النابهين.
ومن المعاني الجميلة للعولمة، التي يُروّج لها : أنّ المظاهر الحضارية الحقيقية، كالعدل والمساواة، والتعليم والصحة، ووسائل الرفاهية، وغيرها، ستكون متوفرة لجميع الناس، في جميع بلدان العالم، جنوباً كما في الشمال، وشرقاً كما في الغرب.
ومن المعاني المستحسنة لهذه العولمة: أن تعمّم الدول الصناعية المتقدمة خبراتها ونتائج بحوثها العلمية، على جميع الدول، حتى لا تكاد تميّز بين دولة وأخرى.
* *
أما المعاني القبيحة –وما أكثرها-؛ فيمكن التذكير بأشهرها: أن تعمّم المصطلحات، التي يبتكرها الغرب بمفاهيمها التي يعنيها هو دون أن يصرح بها، إلى جميع دول العالم، كمصطلحات الحرب المقدسة، والأصولية، والإرهاب، والحرية، والمساواة، وغيرها، ومنها: تعميم الأخلاق والعادات السلوكية الشخصية، للعملاق الغربي، الأوروبي والأمريكي، ليتشبّه الأقزام في سائر البلدان، فتصبح عالمية، عابرة للقارات ومخترقة للبيوتات.
فلما تأمّلت فيما تجنيه بلادنا الإسلامية، من المعاني القبيحة المستقذرة للعولمة، مع قلة ما تفيده من المعاني الجميلة المستحسنة؛ سألت نفسي: أليس لدينا عولمة خير من عولمتهم، أليس من الممكن أن تصبح العولمتان نِدّين، فتفيد كل منهما من أفضل ما عند الأخرى؟
وأجبت: إنه ممكن نظرياً، مستبعد عملياً، في الوقت الحاضر، كما سيأتي بيانه.
لكن ما الفرق بين عولمتهم وبين عولمتنا؟
إنّ الفرق الأساس هو من جهة المصدر والمرجعية؛ فعولمتهم مصدرها أرضي بشري، ومرجعيتها عقول البشر وأهواؤهم. وأما عولمتنا؛ فمصدرها سماوي رباني ومرجعيتها الوحي الإلهي، المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة.
أليست عولمتنا أساسها أن رسولنا محمداً r خاتم الرسل، وقد بعثه الله تعالى إلى جميع البشر، } قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً { [الأعراف: 158] وعشرات الآيات يبدأ الخطاب بها، بـ } يَا أَيُّهَا النَّاسُ {؟
وعولمتنا تقوم على مبدأ المساواة بين بني آدم، في الإنسانية، وفي الحقوق والواجبات العامة، كما قال تعالى: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً { [النساء: 1].
وعولمتنا تقوم على وجوب التعارف بين القبائل والشعوب } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ [الحجرات: 13].
ومن التعارف تبادل ثقافات، ونقل المعارف والعلوم، دون منّة وفضل، أو استعلاء واستكبار.
ومن الفروق التفصيلية المهمة، بين العولمتين:
أنّ عولمتهم دوافعها مادية؛ كالتفوق الاقتصادي، والغلبة العسكرية، والسلامة الصحية، ونحو ذلك، وعولمتنا دوافعها أخلاقية إنسانية، تقوم على التعاون والتسامح والتراحم بين شعوب الأرض.
هم يريدون أن (يُعولِموا) قوانين التجارة والاقتصاد، لتنتقل صناعاتهم ومنتجاتهم، عبر حدود البلدان، بكل يسر، ليزدادوا غنى فوق غناهم، ويزدادوا سيطرة وتحكماً بمصائر الشعوب.
ويريدون عولمة ثقافتهم، القائمة على الحرية الشخصية المطلقة، وإباحة الشهوات بلا حدود، وفرض الديمقراطية بلا قيود، وسحق الطبقات الفقيرة بلا شهود.
أليس هذا ما شهدناه حتى الآن من عولمتهم؟
هل أنقذوا كوكب الأرض مما يهدده من المخاطر الجويّة والبيئية، أم هم الذين يسهمون في وجود هذه المخاطر، ويطلبون من الدول الضعيفة والفقيرة أن تطبق ما يُطلب منها تجاه البيئة، والانبعاث الحراري، واقتلاع الغابات؟
أليست مصانعهم السبب الرئيس في اتساع ثقب الأوزون، أليست بلادهم مصادر للأمراض المستشرية، والأدواء المعدية، كالإيدز، والجمرة الخبيثة، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، وغيرها كثير؟
من الذين يتاجرون بأعضاء البشر؛ نحن، أم هم؟
من الذي صنع أسلحة الدمار الشامل، واستخدمها أحياناً، نحن، أم هم؟
من الذي يتفنّن في صناعة المخدرات ونشرها وترويجها، نحن، أم هم؟ وإن كانت تزرع في بعض بلا د المسلمين.
من الذي يؤيد الظلم والظالمين في العالم، وموازين العدالة لديهم ذات مكاييل، لا مكيالين؟ نحن، أم هم؟
من الذي سبب الأزمات المالية والاقتصادية العالمية، وآخرها وأكبرها ما نشهده في هذه السنوات؟ نحن، أم هم؟ أليست عولمة التجارة القائمة على الربا والاحتكار والقمار، لاستغلال الآخرين؟
ومع هذا كله، فإنّ لبلادهم مزايا كثيرة، أرادوها لأنفسهم، وإن وصلت إلينا، فعن طريق الشراء منهم، لأجل ثرائهم، مثل جميع وسائل النقل والاتصال، والآلات والأدوات، ولولا حاجتهم إلى التسويق وجني الأرباح، ما وصلنا منها شيء؛ لأن أنانيَّتهم، واستكبارهم، واستعلاءهم، بادية دون التباس.
ومن مزاياهم التي ابتدعوها لأنفسهم، ونحن بحاجة إليها، ويجب أن (تعولم): أنظمتهم الإدارية والحياتية، وصدقهم في التعامل، وإتقانهم للعمل، وتقدير قيمة الوقت، والبحث العلمي، وحرصهم على صحة الإنسان، وعلى كرامته، وعلى حقوقه.
وأما عولمتنا الإسلامية، النابعة من تعاليم ديننا الحنيف، والتي كانت مطبقة قروناً عدة، بدءاً من عصر الرسول r، ولست أعني عولمة واقعنا المتخلف المتردّي، المتهالك، في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة، والعلاقات الاجتماعية، وسائر جوانب الحياة.
ولكني أعني عالمية الإسلام، القائمة على مبادئ الحق والعدل، وحب الخير لجميع بني الإنسان، في كل زمان وكل مكان.
فالحق في العقائد والشرائع، الذي اخترناه لأنفسنا، نريده لكل البشر، وهو ليس من عند أنفسنا، بل من عند خالق الناس، إله الناس.
والعدل –هو إعطاء كل ذي حق حقه- نريده لأنفسنا ولغيرنا، ونطبقه على أنفسنا وعلى غيرنا. ألم يأمرنا قرآننا بذلك بقوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... { [النساء: 135].
وبقوله: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ... { [المائدة: 8].
فالعدل عندنا واجب علينا، وفرض محكم لا عدول عنه، حتى مع الأعداء، ومع الذين نبغضهم، ولا مِنة في ذلك عليهم؛ لأنه أقرب للتقوى التي ننشدها.
وعدل الإسلام وسماحته، ورحمة المسلمين الفاتحين، بالشعوب التي فتحوا بلادها، قد شهد به الأعداء والأصدقاء، والعبارات في ذلك أصبحت مشهورة كالأمثال، كقول إحدى المستشرقات: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب (أي المسلمين).
وكذلك جميع الأخلاق الكريمة، والآداب السامية، التي أمرنا بهم ربنا عزّ وجل، وعمل بها رسولنا الكريم وحثنا عليها، من الرحمة بالضعفاء والمساكين، والرفق واللين في الدعوة والتعامل، والإخلاص في العمل، وإتقانه، وبذل السلام على من عرفنا ومن لم نعرف، والحرص على أمن المجتمع، والبعد عن النزاع والشقاق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وغير ذلك مما لا يحصى من الأخلاق والآداب.
كل هذا الخير، نحبه ونسعى به لأنفسنا، أي للمؤمنين، ولغيرنا، أي للكافرين، ولا نعادي إلا من يبدأ بعدائنا، بل ننشد الأمن والسلام للعالم كله.
* *
وهنا يأتي السؤال: أي العولمتين أولى بالانتشار؟ إنها -بلا شك- عولمتنا، وإن كنا بحاجة إلى بعض عولمتهم كما مرّ في ذكر مزاياهم.
لكن هل الغربيون مستعدون في الجملة لقبول عولمتنا؟
والجواب: إن ذلك مستبعدٌ حاليا، ولذلك أسباب عدة. والسبب الرئيس هو المسلمون أنفسهم؛ بأحوالهم السيئة وواقعهم الرديء، الذي لا يعكس ما لديهم من جواهر المبادئ والأخلاق العالمية، التي لا تتقيد بقيود الزمان والمكان والبيئة.
* *
وختاماً أقول: على المسلمين أن يثوبوا إلى رشدهم، ويدركوا حقيقة ما يملكون من الثروات المعنوية والمادية، ويتجهوا إلى النهضة الشاملة -وإن كانت الصحوة الإسلامية قد بدأت من نصف قرن تقريباً- التي تمثل مبادئ الإسلام وأخلاقه وقوانينه السمحة العامة، ويُقدموها للآخرين، على أنها حقائق علمية، ونتائج تجارب حياتية، أثبت الواقع صدقها وجدواها، إنْ لم يقبلوها كونها ديناً يغاير أديانهم وديمقراطياتهم.
وقد سمعنا من الأستاذ المفكر الإسلامي جودت سعيد حكمته التي يكررها: إنّ الشيء أو الأمر كلما صار علماً صار عالمياً، كما نأخذ الدواء وسائر المبتكرات العلمية، دون أن نسأل عن مكتشفها أو مخترعها أو صانعها، أهو نصرانيّ أو يهوديّ أو بوذيّ؟.
ويبدو لي الأمر كأنه لا حيلة للضعيف إلا قبول تفسير المصطلحات – ومنها العولمة- كما يفسرها واضعها القوي، وهذه تكاد تكون من السنن التاريخية.
ومهما حاولت البلدان النامية –ومنها بلداننا العربية والإسلامية- أن تجد معاني جميلة للعولمة الغربية، التي يُرادُ فرضها علينا، كي تكسوها بها؛ فإنّ معانيها القبيحة المستترة خلف المعاني المزركشة، تظهر سنة بعد سنة، وشهراً بعد شهر، ويوماً بعد يوم، حتى لم تعُدْ خافية على السذج من الناس، فضلاً عن النابهين.
ومن المعاني الجميلة للعولمة، التي يُروّج لها : أنّ المظاهر الحضارية الحقيقية، كالعدل والمساواة، والتعليم والصحة، ووسائل الرفاهية، وغيرها، ستكون متوفرة لجميع الناس، في جميع بلدان العالم، جنوباً كما في الشمال، وشرقاً كما في الغرب.
ومن المعاني المستحسنة لهذه العولمة: أن تعمّم الدول الصناعية المتقدمة خبراتها ونتائج بحوثها العلمية، على جميع الدول، حتى لا تكاد تميّز بين دولة وأخرى.
* *
أما المعاني القبيحة –وما أكثرها-؛ فيمكن التذكير بأشهرها: أن تعمّم المصطلحات، التي يبتكرها الغرب بمفاهيمها التي يعنيها هو دون أن يصرح بها، إلى جميع دول العالم، كمصطلحات الحرب المقدسة، والأصولية، والإرهاب، والحرية، والمساواة، وغيرها، ومنها: تعميم الأخلاق والعادات السلوكية الشخصية، للعملاق الغربي، الأوروبي والأمريكي، ليتشبّه الأقزام في سائر البلدان، فتصبح عالمية، عابرة للقارات ومخترقة للبيوتات.
فلما تأمّلت فيما تجنيه بلادنا الإسلامية، من المعاني القبيحة المستقذرة للعولمة، مع قلة ما تفيده من المعاني الجميلة المستحسنة؛ سألت نفسي: أليس لدينا عولمة خير من عولمتهم، أليس من الممكن أن تصبح العولمتان نِدّين، فتفيد كل منهما من أفضل ما عند الأخرى؟
وأجبت: إنه ممكن نظرياً، مستبعد عملياً، في الوقت الحاضر، كما سيأتي بيانه.
لكن ما الفرق بين عولمتهم وبين عولمتنا؟
إنّ الفرق الأساس هو من جهة المصدر والمرجعية؛ فعولمتهم مصدرها أرضي بشري، ومرجعيتها عقول البشر وأهواؤهم. وأما عولمتنا؛ فمصدرها سماوي رباني ومرجعيتها الوحي الإلهي، المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة.
أليست عولمتنا أساسها أن رسولنا محمداً r خاتم الرسل، وقد بعثه الله تعالى إلى جميع البشر، } قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً { [الأعراف: 158] وعشرات الآيات يبدأ الخطاب بها، بـ } يَا أَيُّهَا النَّاسُ {؟
وعولمتنا تقوم على مبدأ المساواة بين بني آدم، في الإنسانية، وفي الحقوق والواجبات العامة، كما قال تعالى: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً { [النساء: 1].
وعولمتنا تقوم على وجوب التعارف بين القبائل والشعوب } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ [الحجرات: 13].
ومن التعارف تبادل ثقافات، ونقل المعارف والعلوم، دون منّة وفضل، أو استعلاء واستكبار.
ومن الفروق التفصيلية المهمة، بين العولمتين:
أنّ عولمتهم دوافعها مادية؛ كالتفوق الاقتصادي، والغلبة العسكرية، والسلامة الصحية، ونحو ذلك، وعولمتنا دوافعها أخلاقية إنسانية، تقوم على التعاون والتسامح والتراحم بين شعوب الأرض.
هم يريدون أن (يُعولِموا) قوانين التجارة والاقتصاد، لتنتقل صناعاتهم ومنتجاتهم، عبر حدود البلدان، بكل يسر، ليزدادوا غنى فوق غناهم، ويزدادوا سيطرة وتحكماً بمصائر الشعوب.
ويريدون عولمة ثقافتهم، القائمة على الحرية الشخصية المطلقة، وإباحة الشهوات بلا حدود، وفرض الديمقراطية بلا قيود، وسحق الطبقات الفقيرة بلا شهود.
أليس هذا ما شهدناه حتى الآن من عولمتهم؟
هل أنقذوا كوكب الأرض مما يهدده من المخاطر الجويّة والبيئية، أم هم الذين يسهمون في وجود هذه المخاطر، ويطلبون من الدول الضعيفة والفقيرة أن تطبق ما يُطلب منها تجاه البيئة، والانبعاث الحراري، واقتلاع الغابات؟
أليست مصانعهم السبب الرئيس في اتساع ثقب الأوزون، أليست بلادهم مصادر للأمراض المستشرية، والأدواء المعدية، كالإيدز، والجمرة الخبيثة، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، وغيرها كثير؟
من الذين يتاجرون بأعضاء البشر؛ نحن، أم هم؟
من الذي صنع أسلحة الدمار الشامل، واستخدمها أحياناً، نحن، أم هم؟
من الذي يتفنّن في صناعة المخدرات ونشرها وترويجها، نحن، أم هم؟ وإن كانت تزرع في بعض بلا د المسلمين.
من الذي يؤيد الظلم والظالمين في العالم، وموازين العدالة لديهم ذات مكاييل، لا مكيالين؟ نحن، أم هم؟
من الذي سبب الأزمات المالية والاقتصادية العالمية، وآخرها وأكبرها ما نشهده في هذه السنوات؟ نحن، أم هم؟ أليست عولمة التجارة القائمة على الربا والاحتكار والقمار، لاستغلال الآخرين؟
ومع هذا كله، فإنّ لبلادهم مزايا كثيرة، أرادوها لأنفسهم، وإن وصلت إلينا، فعن طريق الشراء منهم، لأجل ثرائهم، مثل جميع وسائل النقل والاتصال، والآلات والأدوات، ولولا حاجتهم إلى التسويق وجني الأرباح، ما وصلنا منها شيء؛ لأن أنانيَّتهم، واستكبارهم، واستعلاءهم، بادية دون التباس.
ومن مزاياهم التي ابتدعوها لأنفسهم، ونحن بحاجة إليها، ويجب أن (تعولم): أنظمتهم الإدارية والحياتية، وصدقهم في التعامل، وإتقانهم للعمل، وتقدير قيمة الوقت، والبحث العلمي، وحرصهم على صحة الإنسان، وعلى كرامته، وعلى حقوقه.
وأما عولمتنا الإسلامية، النابعة من تعاليم ديننا الحنيف، والتي كانت مطبقة قروناً عدة، بدءاً من عصر الرسول r، ولست أعني عولمة واقعنا المتخلف المتردّي، المتهالك، في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة، والعلاقات الاجتماعية، وسائر جوانب الحياة.
ولكني أعني عالمية الإسلام، القائمة على مبادئ الحق والعدل، وحب الخير لجميع بني الإنسان، في كل زمان وكل مكان.
فالحق في العقائد والشرائع، الذي اخترناه لأنفسنا، نريده لكل البشر، وهو ليس من عند أنفسنا، بل من عند خالق الناس، إله الناس.
والعدل –هو إعطاء كل ذي حق حقه- نريده لأنفسنا ولغيرنا، ونطبقه على أنفسنا وعلى غيرنا. ألم يأمرنا قرآننا بذلك بقوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... { [النساء: 135].
وبقوله: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ... { [المائدة: 8].
فالعدل عندنا واجب علينا، وفرض محكم لا عدول عنه، حتى مع الأعداء، ومع الذين نبغضهم، ولا مِنة في ذلك عليهم؛ لأنه أقرب للتقوى التي ننشدها.
وعدل الإسلام وسماحته، ورحمة المسلمين الفاتحين، بالشعوب التي فتحوا بلادها، قد شهد به الأعداء والأصدقاء، والعبارات في ذلك أصبحت مشهورة كالأمثال، كقول إحدى المستشرقات: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب (أي المسلمين).
وكذلك جميع الأخلاق الكريمة، والآداب السامية، التي أمرنا بهم ربنا عزّ وجل، وعمل بها رسولنا الكريم وحثنا عليها، من الرحمة بالضعفاء والمساكين، والرفق واللين في الدعوة والتعامل، والإخلاص في العمل، وإتقانه، وبذل السلام على من عرفنا ومن لم نعرف، والحرص على أمن المجتمع، والبعد عن النزاع والشقاق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وغير ذلك مما لا يحصى من الأخلاق والآداب.
كل هذا الخير، نحبه ونسعى به لأنفسنا، أي للمؤمنين، ولغيرنا، أي للكافرين، ولا نعادي إلا من يبدأ بعدائنا، بل ننشد الأمن والسلام للعالم كله.
* *
وهنا يأتي السؤال: أي العولمتين أولى بالانتشار؟ إنها -بلا شك- عولمتنا، وإن كنا بحاجة إلى بعض عولمتهم كما مرّ في ذكر مزاياهم.
لكن هل الغربيون مستعدون في الجملة لقبول عولمتنا؟
والجواب: إن ذلك مستبعدٌ حاليا، ولذلك أسباب عدة. والسبب الرئيس هو المسلمون أنفسهم؛ بأحوالهم السيئة وواقعهم الرديء، الذي لا يعكس ما لديهم من جواهر المبادئ والأخلاق العالمية، التي لا تتقيد بقيود الزمان والمكان والبيئة.
* *
وختاماً أقول: على المسلمين أن يثوبوا إلى رشدهم، ويدركوا حقيقة ما يملكون من الثروات المعنوية والمادية، ويتجهوا إلى النهضة الشاملة -وإن كانت الصحوة الإسلامية قد بدأت من نصف قرن تقريباً- التي تمثل مبادئ الإسلام وأخلاقه وقوانينه السمحة العامة، ويُقدموها للآخرين، على أنها حقائق علمية، ونتائج تجارب حياتية، أثبت الواقع صدقها وجدواها، إنْ لم يقبلوها كونها ديناً يغاير أديانهم وديمقراطياتهم.
وقد سمعنا من الأستاذ المفكر الإسلامي جودت سعيد حكمته التي يكررها: إنّ الشيء أو الأمر كلما صار علماً صار عالمياً، كما نأخذ الدواء وسائر المبتكرات العلمية، دون أن نسأل عن مكتشفها أو مخترعها أو صانعها، أهو نصرانيّ أو يهوديّ أو بوذيّ؟.