منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#63429
تعاني الولايات المتحدة منذ غزو أفغانستان في 2001، ومن ثم العراق في 2003، حالة من التراجع والانكفاء على الصعيد العالمي. وقد جاءت الأزمة المالية العالمية نهاية عام 2008 لتعمّق من أزمتها؛ ولذلك تقوم سياسة أوباما منذ مجيئه إلى البيت الأبيض على إعادة هيكلة الانتشار الأميركي في الخارج عسكريًا وماليًا وسياسيًا بما يخدم المصالح الأميركية في الداخل ويعيد إطلاق عجلة الاقتصاد والنهوض بالولايات المتحدة من جديد؛ كما تقوم على التعاون مع حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين(1).

لقد حاول الأميركيون التغطية على الوهن العام الذي أصاب الولايات المتحدة على الساحة الدولية والتراجع في القوة على صعيد الشرق الأوسط(2) من خلال نظرية "القيادة من الخلف"(3)، لكن هذه المقاربة باءت بالفشل(4)؛ وقد كشفت الثورة السورية مدى التراجع الأميركي(5)، وفشل هذه السياسة(6).

لكن الملاحظ أن ورشة إعادة تأهيل الداخل الأميركي تواكبها إعادة تركيز قدرات الولايات المتحدة الاستراتيجية بعيدة المدى على صعود الشرق الأقصى عالميًا؛ حيث تفرض الصين تحديات مستقبلية على الولايات المتحدة نتيجة ما تبدو وكأنها عملية انتقال للقوة، بدأت تتضح بشكل جلي في العقد الأخير، من الغرب إلى الشرق، وهو الأمر الذي بدا واضحًا مع تقرير وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في فورين بوليسي "قرن الهادئ الأميركي"(7). ترافق ذلك مع تقارير تؤكد اكتشافات غازية ونفطية ضخمة في الولايات المتحدة، لا تكفي استهلاك أميركا فقط وتغنيها عن الاعتماد على نفط الخارج وخاصة منطقة الشرق الأوسط، وإنما أيضًا لقلب موازين السوق النفطية مستقبلاً(8).

هذه المؤشرات مصحوبة بالانسحاب الأميركي من أفغانستان والعراق نتيجة هزيمتها هناك وعدم قدرتها على تحمل تكاليف ما تفرضه من أعباء(9) دفعت منطقة الشرق الأوسط إلى أن تحتل موقعًا أقل أهمية بالنسبة لواشنطن، كما دفعت اللاعبين الإقليميين والدوليين إلى محاولة استغلال هذه اللحظة التاريخية للهيمنة على المنطقة، كل بأدواته. في المقابل، شهدت تركيا خلال المرحلة نفسها تقريبًا، أي منذ نهاية العام 2002، صعودًا إقليميًا زادت وتيرته خلال فترة وجيزة؛ إذ استطاعت أنقرة خلال هذه المرحلة تحقيق نقلة نوعية وإنجازات كبيرة على مختلف الصعد الاقتصادية (انظر المؤشرات أدناه)، والسياسية والاجتماعية والعسكرية.

كما شهدت السياسة الخارجية التركية تحولاً كبيرًا وسريعًا، مؤسسة على رؤية تهدف إلى إعادة تعريف دور تركيا في المنطقة وفق مفهوم "العمق الاستراتيجي". ومع وضع سياسة "تصفير النزاعات"(10)، المنبثقة عن هذه الرؤية، موضع التنفيذ، حصل انقلابٌ في عددٍ من السياسات التقليدية للجمهورية التركية، وخاصةً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للبلاد، لاسيما تجاه منطقة الشرق الأوسط(11). وساعد انتشار القوة الناعمة التركية، التي كان لها أكبر الأثر في الارتقاء بدور تركيا وموقعها في المنطقة وصعودها الإقليمي، في تطوير علاقاتها مع دول المنطقة وشعوبها، خاصةً عندما تم تعزيزها بالدبلوماسية الشعبية(12). وبالرغم من أن الثورات العربية كشفت بعض نقاط الضعف الخطيرة في ميزان القوة التركية(13)، إلا أن غالبية التقارير والتقييمات المستقبلية الدولية(14) تؤكد على دور تركيا الجيو-استراتيجي المستقبلي في الشرق الأوسط والعالم بما ينسجم مع استراتيجية 2023 الموضوعة من قبل الحكومة التركية(15).

ولا شك في أن تزامن مرحلتي الصعود والهبوط عند كلا الطرفين انعكس على رؤية كل منهما للوضع في الشرق الأوسط في مختلف الملفات الملتهبة، ولدور كل منهما في هذه الملفات؛ ويبدو الاختلاف واضحًا في سياسات الدولتين، بينما يحاول القادة الأتراك والأميركيون منع تحويل هذا الاختلاف إلى خلاف.

الملفات المتشابكة في الشرق الأوسط

شهد العام 2010 ذروة التناقض في رؤى الطرفين فيما يتعلق بإسرائيل وعملية السلام وإيران وقبرص ومكافحة الإرهاب وغيرها من الملفات، وذلك على الرغم من أن كلا الطرفين حرص في النهاية على احتواء الموقف؛ اذ وُصفت العلاقات التركية-الأميركية من قبلهما خلال مراحل مختلفة بأنها "شراكة نموذجية"(16). وبالرغم من أن العلاقات الشخصية بين الرئيس الأميركي أوباما ورئيس الحكومة التركية أردوغان توصف بأنها مميزة، إلا أنها لم تلعب دورًا في تحويل هذه الحميمية إلى أجندات مشتركة(17). وبناء على الملفات التي تم تباحثها في تركيا على أعلى مستوى بين الطرفين منذ مجيء أوباما إلى سدة الرئاسة وحتى اليوم (انظر الجدول أدناه)، يمكن القول: إن الاختلاف في الرؤى والمصالح كان موجودًا في معظم إن لم يكن كل هذه الملفات.

في الملف السوري
يعتبر الملف السوري أكبر الملفات الخلافية التي حازت اهتمام الطرفين منذ البداية، وحول طريقة التعامل مع الوضع والهدف النهائي. بالنسبة لأنقرة لم يكن هناك اقتناع كامل بأن واشنطن تريد الذهاب حتى النهاية في تغيير النظام على الرغم من تصريحات الرئيس أوباما بداية الثورة السورية بأن نظام الأسد قد فقد شرعيته(19). وقد ترسخت هذه القناعة بعد اختبار الموقف الأميركي في منعطفات حساسة جدًا حيث بدا التلكؤ الأميركي في التعامل معها واضحًا جدًا.

كان التركيز التركي منذ خريف 2011 على ضرورة معالجة السبب الرئيس للوضع وهو النظام السوري، فيما كانت واشنطن ترفض أي مقترح قد يتضمن حظرًا جويًا أو منطقة آمنة للمدنيين. ظهر هذا الموقف إلى السطح بشكل واضح في أغسطس/آب من العام 2012، عندما أخفقت الولايات المتحدة في لعب دور فعال في جلسة لمجلس الأمن التي دعت إليها تركيا لمناقشة القضية السورية من باب إنساني، على أمل أن تصل إلى فرض منطقة آمنة داخل سوريا يلجأ إليها المدنيون السوريون بدلاً من التدفق إلى الخارج(20). لا شيء تغير في هذه المعادلة حتى الآن.

في الملف العراقي

يعود الخلاف التركي-الأميركي حول الملف العراقي إلى عام 2003؛ حيث رفض البرلمان التركي حينها منح واشنطن الموافقة على غزو العراق من خلال الأراضي التركية. واتخذ الخلاف منذ حينها أشكالاً متعددة على الرغم من القول بأن البلدين متفقان على الحفاظ على وحدة العراق. ترى تركيا أن الالتفاف على النتائج الرسمية من خلال الصفقة التي حصلت بين الجانبين: الأميركي والإيراني والتي أدت إلى اختيار المالكي عززت من الانقسامات الطائفية داخل المجتمع العراقي بشكل يهدد أمن ووحدة البلاد وينشر الطائفية في المنطقة، وأن المالكي لا يمثل مصالح العراقيين بقدر ما يمثل مصالح جهات أخرى(21).

في المقابل، فيما تتجاهل واشنطن وجهة النظر التركية أعلاه لصالح صيانة اتفاقها مع طهران على شخص المالكي، وترى أن على تركيا أن تخفف من العلاقات مع شمال العراق لأنها تأتي على حساب حكومة بغداد(22). كما تطالب واشنطن أنقرة بعدم عقد اتفاقات نفطية مع كردستان العراق دون موافقة بغداد(23). صحيح أن واشنطن قد تكون محقة في هذه الجوانب لكن هدفها لا يتعلق من قريب أو بعيد بالحفاظ على وحدة العراق ومصالحه بقدر ما هو محاولة الدفاع عن الاتفاق مع إيران حول العراق والدفاع عن المالكي في وجه خصومه.

في الملف الإيراني
عارضت تركيا سياسة الولايات المتحدة الرامية إلى فرض عقوبات على طهران في الملف النووي، وامتنعت مرات عديدة عن التصويت لصالح هذا الطرح في الأمم المتحدة بل صوتت ضده في مجلس الأمن؛ مما سبّب إحباطًا لدى الأميركيين(24)؛ لدرجة أن أوساطًا كثيرة داخل الولايات المتحدة كانت تتهم أنقرة بأنها تقدم العون والدعم بهذه الطريقة للبرنامج النووي الإيراني(25)، خاصة بعد الاتفاق الثلاثي مع البرازيل(26).

تغيرت وجهة النظر التركية من البرنامج النووي الإيراني بعد الأزمة السورية على الصعيد الرسمي والشعبي، وجاء هذا التغيير بعد الثورات العربية وتحديدًا بعد اندلاع الثورة السورية دون أن يعني ذلك الدخول في صراع مباشر مع إيران(27).

في ملف عملية السلام
تؤيد تركيا مبادرة السلام العربية(28)، وترى أنه لا خيار لإسرائيل سوى القبول بها إذا أرادت أن تكون جزءًا من المنطقة، ولا يمكن لتل أبيب الاستعاضة عن المبادرة باستخدام القوة العسكرية وتجاهل القانون الدولي الذي يجب أن يطبق على الجميع دون استثناء(29). لكن هذه الرؤية لم تكن على وفاق تام مع الإدارة الأميركية، التي لم تستطع إجبار إسرائيل حتى على مجرد وقف الاستيطان، وهو أمر متواضع جدًا مقارنة بعملية السلام ومخالف للقانون وفقًا للقوانين الأميركية والاوروبية والدولية. فضلاً عن ذلك، وقفت واشنطن إلى جانب إسرائيل في كل الحالات التي شهدت توترًا وتدهورًا في العلاقات التركية-الإسرائيلية، بما في ذلك الاعتداء على أسطول الحرية وسفينة "مافي مرمرة". ولهذا، فقد كان الانتقاد التركي للرؤية الأميركية للسلام يتم بشكل روتيني وباعتباره انعكاسًا للمشكلة(30).

في ملف الغاز في قبرص
ترى تركيا أنه لا يحق لقبرص اليونانية أن تنقب عن الغاز في المياه الإقليمية للجزيرة من دون التوافق مع قبرص الشمالية؛ إذ عدا عن كون ذلك انتهاكًا لحقوق الشطر الشمالي، فإن الشروع به عبر هذه الطريقة من شأنه أن يقوض جهود توحيد الجزيرة(31).

وقد استعان الجزء الجنوبي من الجزيرة بدعم الاتحاد الأوروبي عبر اليونان، وبدعم إسرائيل عبر الشراكة الثنائية للتنقيب عن الغاز، مقابل استخدام جزء من الجزيرة كقاعدة عسكرية إسرائيلية (خطوة موجهة آنذاك ضد تركيا بعد أن ساءت علاقاتهما إثر الاعتداء على أسطول الحرية وقطع العلاقات)(32). وانخرط العديد من الشركات الأميركية في اكتشاف الغاز الموجود على سواحل قبرص، وهو الأمر الذي أزعج الأتراك، ويثيرونه بشكل مستمر ولم يتم حله إلى الآن(33).

زيارة أردوغان

جاءت زيارة أردوغان إلى واشنطن في 16مايو/أيار 2013، في توقيت مهم جدًا لناحية تأزم الوضع في جميع هذه الملفات وعلى رأسها الملف السوري. حظيت هذه الزيارة باهتمام كبير جدًا، وسط ترقب للنتائج التي ستتمخض عنها بخصوص هذه الملفات، وعما إذا كان بإمكان الجانب التركي إقناع الجانب الأميركي، أم أن الجانب الأميركي هو الذي سيقنع الجانب التركي بضرورة تغيير موقفه حول هذه الملفات أو بعضها. ويظهر الاختلاف في الرؤى من الملفات الإقليمية بشكل واضح جدًا ويعكس التناقضات الكامنة وليس الانسجام المفترض؛ إذ لم يستطع رئيس الوزراء التركي إقناع الرئيس الأميركي بوجهة نظره في معظم الملفات. والحاصل أن الجانب التركي فضّل إعطاء الفرصة والمزيد من الوقت للمفاوضات بين البلدين. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون من أن تركيا تنفذ إرادة واشنطن في المنطقة، فإن أنقرة كانت تريد من واشنطن دورًا أكبر في الملف السوري (ليس من بينه غزو أميركي لسورية). وقد أقنع الجانب الأميركي تركيا بالقبول ببذل الجهود من أجل جنيف-2 قبل البحث لاحقًا في أية خيارات أخرى(34)؛ وهو الأمر الذي كانت تركيا تعارضه ولا ترى فائدة منه بعد اختبار الأسد مرات عديدة.

أما في الموضوع العراقي، فسيكون على تركيا أن تصبر على ما يبدو إلى حين انتهاء ولاية المالكي ورحيله 2014، فلا تغير في سياسة واشنطن، باستثناء بعض الجهود والضغوط التي تقوم بها الولايات المتحدة على الطرف الكردي لردم الهوة مع حكومة المالكي(35).

وفي عملية السلام، فعلى الرغم من الإصرار التركي على ضرورة أن تمارس واشنطن نفوذها على إسرائيل لتحقيق المبادرة العربية، فإن الجانب الأميركي يركز على ضرورة إجراء محادثات ثنائية الآن بين الطرفين. وبما أن أردوغان كان قد وعد بزيارة غزة في مايو/أيار، إلا أنه استجاب على ما يبدو للمطالب الأميركية المتكررة بتأجيل الزيارة، التي يبدو أنها ستتم في نهاية شهر يونيو/حزيران، بدون استبعاد إمكانية تأجيلها مرة أخرى؛ فزيارة غزة من دون الضفة قد تساعد على تعميق الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني، وتضر علاقات أنقرة بحكومة رام الله، كما أن انتقاد إسرائيل بشدة في غزة من شأنه أن يقطع أي أمل في إحراز تقدم سياسي في العلاقات بين تركيا وإسرائيل، ويسيء إلى الوسيط الأميركي الذي أقنع الجانب الإسرائيلي بضرورة الاعتذار لتركيا(36).

أما في القضية الأرمنية، فسيشكّل العام 2015 تحديًا لهذا الملف؛ ففي هذا العام ستحل الذكرى المئوية لما يسمى بـ "مذبحة الأرمن"، وبالتالي فإن الموقف الأميركي من القضية سيكون مرهونًا بمدى تطور العلاقات الأميركية-التركية، والتركية-الإسرائيلية، علمًا بأن الجانب التركي بدأ منذ سنوات في تطوير لوبي في الكونغرس الأميركي بلغ عدده العام الماضي 157 عضوًا(37).

في الملف الإيراني، يبدو أن تركيا استجابت نوعًا ما لدعوات تلبية العقوبات المفروضة على إيران بعد الحظر الشامل للاتحاد الأوروبي على النفط الإيراني والمطبق منذ يوليو/تموز 2012، إلى جانب سلسلة العقوبات الأميركية الأخرى، ناهيك عن كون جزء من ذلك يعود أيضًا إلى تدهور العلاقات التركية-الإيرانية مؤخرًا ولاسيما بعد الثورة السورية(38)؛ إذ أشار أردوغان خلال تواجده في واشنطن إلى أن بلاده قد خفضت وارداتها من النفط الإيراني. ولكن المزيد من التخفيض يعتمد على حاجات تركيا من الطاقة، علمًا بأن أنقرة استغنت عن 80 ألف برميل من النفط الإيراني من أصل حوالي 180 ألف كانت تستوردها سابقًا(39).

ويبدو أن القضية القبرصية هي الملف الوحيد الذي من الممكن لواشنطن أن تبذل فيه جهدًا لصالح أنقرة، دون أن يكون ذلك مضمون النتائج.

خلاصة

وعلى الرغم من أن البعض يحب أن ينظر إلى الخلاف التركي-الأميركي على أنه خلاف تكتيكي أكثر منه استراتيجيًا، إلا أن آخرين يفضّلون تفسير حرص الطرفين على أن تبقى العلاقات جيدة بينهم، بالرغم من هذه الخلافات، على أنه مرتبط بحاجة كل طرف بصورة ملحة إلى الطرف الآخر، بحيث لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر، كما لا يمكن غض الطرف عن هذه الخلافات لصالح تطابق وجهات النظر، وهو المرشح أن يبقى إلى أمد غير قصير.
___________________________________________
علي حسين باكير - باحث في منظمة البحوث الاستراتيجية الدولية (أوساك)