من الحزب الواحد إلى التوريث
مرسل: الخميس يوليو 04, 2013 3:05 pm
رفع التباس منهجي
من دولة النخبة والحزب الواحد إلى الزبونية والتوريث
تفترض صياغة هذا العنوان وجود نقطة ترابط ما بين ظاهرة الحزب الواحد، كما عرفتها وتعرفها أغلب الأقطار العربية، وبين خيار التوريث الذي بدأ يتأكد مؤخرا في أكثر من بلد. كما تفترض ترابطا عضويا في سياق التطور التاريخي أو ربما في سياق علاقة سببية معينة.
الواقع أن أحادية التحزب وكذلك فرض التوريث يدخل في سياق علاقة الدولة بالمجتمع داخل الفضاء العربي. وقد لا يتوقف الأمر عند هذا المستوى، فتراجع ثقافة الإبداع وثقافة الوعي العقلاني بالذات أمام ثقافة الاستهلاك وثقافة النقل وتنامي البيروقراطية والمحسوبية هي كذلك مؤشرات على هذه العلاقة وعلى تحولاتها منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
رفع التباس منهجي
لا بد من التأكيد في البداية على حالة عدم التجانس داخل الفضاء العربي على مستوى علاقة الدولة بالمجتمع وتطوراتها. وهو اختلاف يجعل البحث في إطار مقاربة شاملة تنطبق في نفس الوقت على كل هذا الفضاء عملا غير مجد من وجهة نظر معرفية.
فالحدود الفاصلة بين ما هو عربي وما هو غير عربي ليست دائما على تلك الدرجة من الوضوح. ويبرز العائق الأول على مستوى التسمية في ظل وجود ثقافات غير عربية داخل المجتمعات العربية.
"
لا فرق بين المعطى الاجتماعي الكردي والبربري من ناحية والعربي من ناحية ثانية, فأنماط التنظيم الأسري والعشائري ودور الأعيان المحليين وعلاقة كل هذا بالسلطة المركزية هي نفسها، غير أنها تعبر عن ذاتها بلغة مختلفة
"
فالإطار العربي هو إطار ثقافي قبل كل شيء، ولا فرق من وجهة نظر سوسيولوجية بين المعطى الاجتماعي الكردي والبربري من ناحية والعربي من ناحية ثانية. نضيف أن أنماط التنظيم الأسري والعشائري ودور الأعيان المحليين وعلاقة كل هذا بالسلطة المركزية هي نفسها، غير أنها تعبر عن ذاتها بلغة مختلفة.
نشير من جهة أخرى إلى أنه عندما نتحدث عن الفضاء العربي كموضوع للبحث في مجال العلوم الاجتماعية فإن هذا لا يعني بالضرورة وجود كتلة متجانسة تختلف عن الفضاءات الأخرى على مستوى أنماط تشكلها الاجتماعي وعلى مستوى طبيعة علاقتها بالسلطة المركزية.
فالواضح أن الاعتبار الأساسي يبقى اللغة العربية. حيث أن الحدود الفاصلة بين المجتمع الإيراني مثلا والعراقي والسوري هي ثقافية لغوية أكثر منها اجتماعية.
والهياكل الاجتماعية في هذه البلدان تتشابه لكنها تعبر عن نفسها بلغات مختلفة. ففي عديد الحالات نرى فعل الجغرافيا أوضح بكثير من فعل اللغة. فمثلا يوجد تشابه كبير على مستوى أنماط العيش والتنظيم الاجتماعي بين سكان القسم العربي للصحراء الكبرى وسكان الساحل الأفريقي المجاورين.
تشابه تجسده قوة التنظيم الأسري والعشائري المحلي وكذلك تقاليد عصيان الحكم المركزي بسبب بعد التجمعات السكانية عن مراكز السلطة. أما إذا تطرقنا إلى خصوصيات الفضاء العربي على المستوى السياسي، أي مستوى أنماط الدولة والحكم وتشكل الأحزاب والجمعيات، فإن الحديث عن نموذج عربي يفقد جاذبيته وحتى شرعيته العلمية.
فتجارب البلدان النامية على مستوى تنظيم الدولة ووسائل الانتقال السياسي (الانقلابات، الانتخابات، التوريث أو السلطة مدى الحياة) هي تقريبا نفسها.
على الصعيد الداخلي تتعدد الخصوصيات الإقليمية والمحلية وتتشابك عناصرها. فعلى مستوى الاجتماع السياسي العام -وهو الإطار الأفضل لدراسة العلاقة بين المجتمع والدولة- نميز أربعة مجموعات على الأقل تختلف فيما بينها.
فهناك الدول الخليجية التي يبرز فيها دور النفط ودور المؤسسة القبلية والثقافة التقليدية كسند لجهاز الدولة. كما تتميز هذه البلدان ببطء التطور السياسي (ما عدا الكويت ونسبيا البحرين). وهذا يعود إلى أن النخبة الحاكمة، أي العائلة أو العشيرة، هي التي أوجدت الدولة كجهاز.
وهذا ما أدى إلى هيمنة مطلقة للحكم على حساب الدولة وعلى حساب المجتمع. يمكننا أن نضيف إلى ذلك حيوية الهياكل الاجتماعية والثقافية التقليدية التي باتت عائدات النفط توفر لها فرصة للتناغم مع العصر.
نجد كذلك الدول التي رسخت فيها التقاليد الملكية مثل المغرب والأردن، حيث يلعب الملك دورا محوريا كوسيط أحيانا بين المجتمع والدولة. تتميز هذه الحالة بهيمنة مطلقة للمؤسسة الملكية على الدولة وكذلك على المجتمع.
وقد اختارت الملكيات العربية إستراتيجيا التعددية الحزبية لحماية المؤسسة الملكية من الاضطراب السياسي وذلك بتوريط الأحزاب في تسيير شؤون المجتمع. وهو توكيل صوري وشكلي لا علاقة له بتاتا بالملكيات الدستورية الحقيقية.
أما الجانب الأكبر فيتمثل في الجمهوريات بنوعيها: تلك التي شهدت تجربة ثورية مثل حالة العراق ومصر وسوريا والجزائر وليبيا وتلك التي سلكت طريقا ليبراليا مثل تونس والسودان وموريتانيا.
وبالرغم من الاختلافات الأكيدة بين حالة وأخرى فقد لعب الحزب والجيش وشخص القائد الرمز دورا مركزيا في تطور علاقة الدولة بالمجتمع خلال الفترة التي تهمنا.
ففي حالة التجربة الثورية لعبت هذه العناصر الثلاثة مجتمعة دورا رئيسا في تحريك الحياة السياسية. مثال ذلك حزب البعث والقائد الرمز صدام حسين وجهازه العسكري المتنفذ.
"
أغلب الدول العربية تشترك في نقطتين أساسيتين, تتمثل الأولى في ضعف مَؤْسَسَةِ الدولة التي تعتبر ملكا فرديا للحكم وللقائمين عليه, ثم هيمنة الدولة المطلقة من خلال توظيف العنف المادي والعنف الرمزي
"
نفس الشيء ينطبق على الحالة السورية والمصرية. أما في الجزائر فالدور الرئيس يعود إلى الجيش وحزب جبهة التحرير وثانويا شخص القائد الرمز. في حين تتميز الحالة التونسية بالدور المحوري لشخص الرئيس الرمز وذلك على حساب المؤسسة العسكرية المهمشة تماما عن الحياة السياسية.
مقابل هذه المجموعات التي تتجانس نسبيا فيما بينها، نجد حالتي لبنان واليمن اللتين تتميزان بخصوصية تاريخية واجتماعية وسياسية. والسمة الأولى لهذين البلدين هي ضعف جهاز الدولة مقابل نفوذ التشكيلات الاجتماعية السياسية المحلية.
فالطائفة أكثر نفوذا على المستوى الاجتماعي والسياسي من الدولة في حالة لبنان. وكذلك شأن العشيرة وأحيانا المذهب (مثل الشافعية والزيدية) في حالة اليمن بالرغم من قدم تقاليد الحكم المركزي فيها. داخل هذا الإطار يمكننا أن نفهم ضعف مفهوم المواطنة أمام الانتماء المحلي الطائفي أو العشائري.
هذا وتبقى السمة الأبرز هي انتشار العنف كوسيلة لتحقيق التغيير أو التوازن السياسي، وهذا يعود إلى أن الدولة في كلتا الحالتين لا تحتكر امتلاك العنف الشرعي القانوني كما تطلبه الدولة الحديثة.
رغم هذه الاختلافات وهذه الخصوصيات، فإن أغلب الدول العربية تشترك في نقطتين أساسيتين. تتمثل الأولى في ضعف مَؤْسَسَةِ الدولة التي تعتبر ملكا فرديا للحكم وللقائمين عليه. ثم هيمنة الدولة المطلقة من خلال توظيف العنف المادي والعنف الرمزي.
ويتدعم حضور هذه المعطيات خاصة في حالة الدول الجمهورية التي تطور فيها جهاز الحكم من مرحلة النخبة السياسية والحزب الواحد إلى الدولة الزبونية والتوريث.
من دولة النخبة والحزب الواحد إلى الزبونية والتوريث
بعد مرحلة الاستقلال التي امتدت عموما من بداية الخمسينيات إلى بداية الستينيات من القرن الماضي، هيمن في أغلب البلدان العربية نموذج الدولة الجمهورية التي قادتها نخبة سياسية من بين من يمكن تسميتهم بالبرجوازية الصغيرة وأصحاب المهن الحرة، مثل الأطباء والمحامين والمعلمين، من خريجي التعليم الحديث الذي انتشر نوعا ما خلال الفترة الاستعمارية.
ويمكن أن نضيف إلى هذه النخبة بعضا من بقايا الأرستقراطية التقليدية، التجارية والزراعية، التي تمكنت من تجاوز عقبات وتحديات الاقتصاد الاستعماري، لكن دون أن تتمكن من استرجاع كل نفوذها الذي كانت تتمتع به خلال الفترة ما قبل الرأسمالية.
"
تميزت الفترة التي امتدت من الاستقلال حتى أواسط الثمانينيات، بهيمنة الحزب الواحد الذي تديره النخبة من السياسيين ذوي الأصول الاجتماعية المتواضعة مثل بورقيبة وهواري بومدين وجمال عبد الناصر وغيرهم
"
لقد تميزت هذه الفترة التي امتدت من الاستقلال حتى أواسط الثمانينيات، بهيمنة الحزب الواحد الذي تديره هذه النخبة من السياسيين ذوي الأصول الاجتماعية المتواضعة (مثل بورقيبة وهواري بومدين وجمال عبد الناصر....).
وكانت مهمة هذا الحزب تأطير المجتمع باتجاه زيادة الوفاء للوطن وللقائد الرمز والدولة وهو هدف اختزل ضمنه العمل السياسي خلال هذه الفترة. لكن رغم ضوابطه الصارمة واقتصاره على الوفاء للسلطة، فإن الحقل السياسي تميز بوجود ممارسة سياسية مصبغة بنوع من الاحترافية التي تعود إلى متانة التكوين الفكري للنخبة المتنفذة.
ومن بين الأدلة على ذلك حيوية الحزب الحاكم وخاصة الحضور المكثف لمفهوم الدولة على الأقل كجهاز سواء لتحقيق التنمية (حالة تونس) أو لتحقيق الوحدة العربية (التجربة الناصرية والبعثية).
بدأ هذا التوازن النسبي يشهد خللا منذ أواسط السبعينيات. لقد وجدت هذه الأنظمة نفسها في مواجهة جحافل المتخرجين من الجامعات بعد تعميم التعليم، أي تلك الشريحة التي أسست عليها قاعدتها الاجتماعية.
فقد تضخم الحزب الحاكم الذي لم يعد بإمكانه توفير أفق لأصحاب الشهادات، كما لم يكن بإمكان الدولة دمجهم في سلك الوظيفة العمومية التي تضخمت بدورها.
نضيف إلى كل هذا فشل السياسات التنموية التي اعتمدت في مجملها على نموذج تصنيعي همش الأرياف ودفع بجحافل الفقراء الريفيين إلى النزوح نحو المدن الكبرى. ولم تستثن هذه التحولات البلدان التي اعتمدت على المحروقات، مثل حالة الجزائر، حيث أن انهيار أسعارها مع بداية الثمانينيات قلص من قدرة الدولة على مجابهة حاجيات السكان المتزايدين.
دفع هذا الوضع المتردي إلى تدخل المؤسسات المالية الدولية لتفرض وصفة الإصلاح الهيكلي مركزة على ضرورة التخفيض من الإنفاق العام وعلى مزيد فتح الأسواق الداخلية للمبادرة الخاصة الداخلية والأجنبية.
ضمن هذا الإطار نفهم حركات الاحتجاج الاجتماعي المرتبط بالخبز في مصر وفي تونس أواسط الثمانينيات وكذلك ربيع البربر في الجزائر رغم تعبيراته الثقافية والإثنية، ثم أحداث أكتوبر من سنة 1988.
أفرزت هذه التحولات واقعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا جديدا. فقد ظهر توجه محتشم نحو التعددية ولو كان ذلك على المستوى الشكلي، مثلما تم في مصر سنة 1977 وفي تونس سنة 1987. لكنه انفتاح مفروض من طرف الدول المقرضة أكثر منه اقتناعا بنجاعة التعددية في تحقيق الاستقرار الدائم.
المهم في جملة هذه التحولات هو ما حصل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. فسياسة تخفيض الإنفاق وما صاحبها من خصخصة للقطاع العام أضعفت من دور الدولة كمؤسسة عليا لتنظيم الفضاء الاجتماعي.
كما أدت إلى بروز نخبة من الأثرياء الجدد الذين استفادوا من رفع يد القطاع العام عن بعض الأنشطة والمؤسسات لتحقيق ثراء سريع مثلما استفادوا من الامتيازات الضريبية التي منحت لهم.
هكذا تشكل تحالف جديد بين الأنظمة القائمة وهذه الفئة الطفيلية من الأثرياء الجدد الذين عوضوا النخبة المتعلمة وفرضوا الثروة والأعمال كمقياس للنفوذ على حساب الوظيفة السياسية. ضمن هذا الإطار نفهم تراجع هيبة المعطى السياسي وتراجع هيبة الدولة الممثلة بوزراء وموظفين لا حول لهم أمام جاه الأثرياء الجدد.
لقد أصبحت الدولة فضاءً للاستثمار الاقتصادي بامتياز أكثر منها مؤسسة تخدم الصالح العام. ضمن هذا الابتذال للفعل السياسي، وضمن هذا الابتذال الاقتصادي لمؤسسة الدولة نفهم ظاهرة التوريث.
"
تحولت الأحزاب الحاكمة في بعض الدول العربية إلى نواد اقتصادية لكسب المشاريع والصفقات, ومن ثم تراجع دور النخبة داخل الحزب الحاكم مما جعل من التوريث الحل الأقرب واقعية لتجديد دم النظام القائم
"
فهذا الخيار هو في عمقه تجسيد لتراجع الفعل السياسي الحقيقي، أي ذلك الفعل الذي يدور حول مفهوم التسيير المؤسساتي ضمن هيبة الدولة. كما أنه تجسيد لهيمنة منطق الربح والاستثمار في تعامل أصحاب السلطة والأثرياء الجدد مع مؤسسة الدولة ومع القطاع العام.
يلاحظ هذا بكل وضوح في حالة الحزب الوطني في مصر وفي حالة التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس وفي حالة جبهة التحرير الجزائرية وحزب البعث في سوريا، أحزاب تحولت إلى نواد اقتصادية لكسب المشاريع والصفقات. فتراجع دور النخبة داخل الحزب الحاكم وكذلك رفض الانفتاح والتداول على السلطة جعل من التوريث الحل الأقرب واقعية لتجديد دم النظام القائم.
ليس مستبعدا إذن في ظل هذه المعطيات أن تتحول الدولة إلى ملكية فردية أو عائلية تتم الخصخصة فيها أو توريثها أو حتى هبتها. وحسبنا أن ندقق في السند الاجتماعي والاقتصادي الذي يعتمد عليه مرشحو التوريث من أبناء الرئيس أولا أو من محيطهم العائلي الأقرب، لنقف على علاقاتهم المتينة مع نخبة الثراء الجديد. إنه تحول عميق من دولة النخبة السياسية التي احتكرت السلطة ضمن الحزب الواحد نحو دولة الثراء السريع والتوريث.
من دولة النخبة والحزب الواحد إلى الزبونية والتوريث
تفترض صياغة هذا العنوان وجود نقطة ترابط ما بين ظاهرة الحزب الواحد، كما عرفتها وتعرفها أغلب الأقطار العربية، وبين خيار التوريث الذي بدأ يتأكد مؤخرا في أكثر من بلد. كما تفترض ترابطا عضويا في سياق التطور التاريخي أو ربما في سياق علاقة سببية معينة.
الواقع أن أحادية التحزب وكذلك فرض التوريث يدخل في سياق علاقة الدولة بالمجتمع داخل الفضاء العربي. وقد لا يتوقف الأمر عند هذا المستوى، فتراجع ثقافة الإبداع وثقافة الوعي العقلاني بالذات أمام ثقافة الاستهلاك وثقافة النقل وتنامي البيروقراطية والمحسوبية هي كذلك مؤشرات على هذه العلاقة وعلى تحولاتها منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
رفع التباس منهجي
لا بد من التأكيد في البداية على حالة عدم التجانس داخل الفضاء العربي على مستوى علاقة الدولة بالمجتمع وتطوراتها. وهو اختلاف يجعل البحث في إطار مقاربة شاملة تنطبق في نفس الوقت على كل هذا الفضاء عملا غير مجد من وجهة نظر معرفية.
فالحدود الفاصلة بين ما هو عربي وما هو غير عربي ليست دائما على تلك الدرجة من الوضوح. ويبرز العائق الأول على مستوى التسمية في ظل وجود ثقافات غير عربية داخل المجتمعات العربية.
"
لا فرق بين المعطى الاجتماعي الكردي والبربري من ناحية والعربي من ناحية ثانية, فأنماط التنظيم الأسري والعشائري ودور الأعيان المحليين وعلاقة كل هذا بالسلطة المركزية هي نفسها، غير أنها تعبر عن ذاتها بلغة مختلفة
"
فالإطار العربي هو إطار ثقافي قبل كل شيء، ولا فرق من وجهة نظر سوسيولوجية بين المعطى الاجتماعي الكردي والبربري من ناحية والعربي من ناحية ثانية. نضيف أن أنماط التنظيم الأسري والعشائري ودور الأعيان المحليين وعلاقة كل هذا بالسلطة المركزية هي نفسها، غير أنها تعبر عن ذاتها بلغة مختلفة.
نشير من جهة أخرى إلى أنه عندما نتحدث عن الفضاء العربي كموضوع للبحث في مجال العلوم الاجتماعية فإن هذا لا يعني بالضرورة وجود كتلة متجانسة تختلف عن الفضاءات الأخرى على مستوى أنماط تشكلها الاجتماعي وعلى مستوى طبيعة علاقتها بالسلطة المركزية.
فالواضح أن الاعتبار الأساسي يبقى اللغة العربية. حيث أن الحدود الفاصلة بين المجتمع الإيراني مثلا والعراقي والسوري هي ثقافية لغوية أكثر منها اجتماعية.
والهياكل الاجتماعية في هذه البلدان تتشابه لكنها تعبر عن نفسها بلغات مختلفة. ففي عديد الحالات نرى فعل الجغرافيا أوضح بكثير من فعل اللغة. فمثلا يوجد تشابه كبير على مستوى أنماط العيش والتنظيم الاجتماعي بين سكان القسم العربي للصحراء الكبرى وسكان الساحل الأفريقي المجاورين.
تشابه تجسده قوة التنظيم الأسري والعشائري المحلي وكذلك تقاليد عصيان الحكم المركزي بسبب بعد التجمعات السكانية عن مراكز السلطة. أما إذا تطرقنا إلى خصوصيات الفضاء العربي على المستوى السياسي، أي مستوى أنماط الدولة والحكم وتشكل الأحزاب والجمعيات، فإن الحديث عن نموذج عربي يفقد جاذبيته وحتى شرعيته العلمية.
فتجارب البلدان النامية على مستوى تنظيم الدولة ووسائل الانتقال السياسي (الانقلابات، الانتخابات، التوريث أو السلطة مدى الحياة) هي تقريبا نفسها.
على الصعيد الداخلي تتعدد الخصوصيات الإقليمية والمحلية وتتشابك عناصرها. فعلى مستوى الاجتماع السياسي العام -وهو الإطار الأفضل لدراسة العلاقة بين المجتمع والدولة- نميز أربعة مجموعات على الأقل تختلف فيما بينها.
فهناك الدول الخليجية التي يبرز فيها دور النفط ودور المؤسسة القبلية والثقافة التقليدية كسند لجهاز الدولة. كما تتميز هذه البلدان ببطء التطور السياسي (ما عدا الكويت ونسبيا البحرين). وهذا يعود إلى أن النخبة الحاكمة، أي العائلة أو العشيرة، هي التي أوجدت الدولة كجهاز.
وهذا ما أدى إلى هيمنة مطلقة للحكم على حساب الدولة وعلى حساب المجتمع. يمكننا أن نضيف إلى ذلك حيوية الهياكل الاجتماعية والثقافية التقليدية التي باتت عائدات النفط توفر لها فرصة للتناغم مع العصر.
نجد كذلك الدول التي رسخت فيها التقاليد الملكية مثل المغرب والأردن، حيث يلعب الملك دورا محوريا كوسيط أحيانا بين المجتمع والدولة. تتميز هذه الحالة بهيمنة مطلقة للمؤسسة الملكية على الدولة وكذلك على المجتمع.
وقد اختارت الملكيات العربية إستراتيجيا التعددية الحزبية لحماية المؤسسة الملكية من الاضطراب السياسي وذلك بتوريط الأحزاب في تسيير شؤون المجتمع. وهو توكيل صوري وشكلي لا علاقة له بتاتا بالملكيات الدستورية الحقيقية.
أما الجانب الأكبر فيتمثل في الجمهوريات بنوعيها: تلك التي شهدت تجربة ثورية مثل حالة العراق ومصر وسوريا والجزائر وليبيا وتلك التي سلكت طريقا ليبراليا مثل تونس والسودان وموريتانيا.
وبالرغم من الاختلافات الأكيدة بين حالة وأخرى فقد لعب الحزب والجيش وشخص القائد الرمز دورا مركزيا في تطور علاقة الدولة بالمجتمع خلال الفترة التي تهمنا.
ففي حالة التجربة الثورية لعبت هذه العناصر الثلاثة مجتمعة دورا رئيسا في تحريك الحياة السياسية. مثال ذلك حزب البعث والقائد الرمز صدام حسين وجهازه العسكري المتنفذ.
"
أغلب الدول العربية تشترك في نقطتين أساسيتين, تتمثل الأولى في ضعف مَؤْسَسَةِ الدولة التي تعتبر ملكا فرديا للحكم وللقائمين عليه, ثم هيمنة الدولة المطلقة من خلال توظيف العنف المادي والعنف الرمزي
"
نفس الشيء ينطبق على الحالة السورية والمصرية. أما في الجزائر فالدور الرئيس يعود إلى الجيش وحزب جبهة التحرير وثانويا شخص القائد الرمز. في حين تتميز الحالة التونسية بالدور المحوري لشخص الرئيس الرمز وذلك على حساب المؤسسة العسكرية المهمشة تماما عن الحياة السياسية.
مقابل هذه المجموعات التي تتجانس نسبيا فيما بينها، نجد حالتي لبنان واليمن اللتين تتميزان بخصوصية تاريخية واجتماعية وسياسية. والسمة الأولى لهذين البلدين هي ضعف جهاز الدولة مقابل نفوذ التشكيلات الاجتماعية السياسية المحلية.
فالطائفة أكثر نفوذا على المستوى الاجتماعي والسياسي من الدولة في حالة لبنان. وكذلك شأن العشيرة وأحيانا المذهب (مثل الشافعية والزيدية) في حالة اليمن بالرغم من قدم تقاليد الحكم المركزي فيها. داخل هذا الإطار يمكننا أن نفهم ضعف مفهوم المواطنة أمام الانتماء المحلي الطائفي أو العشائري.
هذا وتبقى السمة الأبرز هي انتشار العنف كوسيلة لتحقيق التغيير أو التوازن السياسي، وهذا يعود إلى أن الدولة في كلتا الحالتين لا تحتكر امتلاك العنف الشرعي القانوني كما تطلبه الدولة الحديثة.
رغم هذه الاختلافات وهذه الخصوصيات، فإن أغلب الدول العربية تشترك في نقطتين أساسيتين. تتمثل الأولى في ضعف مَؤْسَسَةِ الدولة التي تعتبر ملكا فرديا للحكم وللقائمين عليه. ثم هيمنة الدولة المطلقة من خلال توظيف العنف المادي والعنف الرمزي.
ويتدعم حضور هذه المعطيات خاصة في حالة الدول الجمهورية التي تطور فيها جهاز الحكم من مرحلة النخبة السياسية والحزب الواحد إلى الدولة الزبونية والتوريث.
من دولة النخبة والحزب الواحد إلى الزبونية والتوريث
بعد مرحلة الاستقلال التي امتدت عموما من بداية الخمسينيات إلى بداية الستينيات من القرن الماضي، هيمن في أغلب البلدان العربية نموذج الدولة الجمهورية التي قادتها نخبة سياسية من بين من يمكن تسميتهم بالبرجوازية الصغيرة وأصحاب المهن الحرة، مثل الأطباء والمحامين والمعلمين، من خريجي التعليم الحديث الذي انتشر نوعا ما خلال الفترة الاستعمارية.
ويمكن أن نضيف إلى هذه النخبة بعضا من بقايا الأرستقراطية التقليدية، التجارية والزراعية، التي تمكنت من تجاوز عقبات وتحديات الاقتصاد الاستعماري، لكن دون أن تتمكن من استرجاع كل نفوذها الذي كانت تتمتع به خلال الفترة ما قبل الرأسمالية.
"
تميزت الفترة التي امتدت من الاستقلال حتى أواسط الثمانينيات، بهيمنة الحزب الواحد الذي تديره النخبة من السياسيين ذوي الأصول الاجتماعية المتواضعة مثل بورقيبة وهواري بومدين وجمال عبد الناصر وغيرهم
"
لقد تميزت هذه الفترة التي امتدت من الاستقلال حتى أواسط الثمانينيات، بهيمنة الحزب الواحد الذي تديره هذه النخبة من السياسيين ذوي الأصول الاجتماعية المتواضعة (مثل بورقيبة وهواري بومدين وجمال عبد الناصر....).
وكانت مهمة هذا الحزب تأطير المجتمع باتجاه زيادة الوفاء للوطن وللقائد الرمز والدولة وهو هدف اختزل ضمنه العمل السياسي خلال هذه الفترة. لكن رغم ضوابطه الصارمة واقتصاره على الوفاء للسلطة، فإن الحقل السياسي تميز بوجود ممارسة سياسية مصبغة بنوع من الاحترافية التي تعود إلى متانة التكوين الفكري للنخبة المتنفذة.
ومن بين الأدلة على ذلك حيوية الحزب الحاكم وخاصة الحضور المكثف لمفهوم الدولة على الأقل كجهاز سواء لتحقيق التنمية (حالة تونس) أو لتحقيق الوحدة العربية (التجربة الناصرية والبعثية).
بدأ هذا التوازن النسبي يشهد خللا منذ أواسط السبعينيات. لقد وجدت هذه الأنظمة نفسها في مواجهة جحافل المتخرجين من الجامعات بعد تعميم التعليم، أي تلك الشريحة التي أسست عليها قاعدتها الاجتماعية.
فقد تضخم الحزب الحاكم الذي لم يعد بإمكانه توفير أفق لأصحاب الشهادات، كما لم يكن بإمكان الدولة دمجهم في سلك الوظيفة العمومية التي تضخمت بدورها.
نضيف إلى كل هذا فشل السياسات التنموية التي اعتمدت في مجملها على نموذج تصنيعي همش الأرياف ودفع بجحافل الفقراء الريفيين إلى النزوح نحو المدن الكبرى. ولم تستثن هذه التحولات البلدان التي اعتمدت على المحروقات، مثل حالة الجزائر، حيث أن انهيار أسعارها مع بداية الثمانينيات قلص من قدرة الدولة على مجابهة حاجيات السكان المتزايدين.
دفع هذا الوضع المتردي إلى تدخل المؤسسات المالية الدولية لتفرض وصفة الإصلاح الهيكلي مركزة على ضرورة التخفيض من الإنفاق العام وعلى مزيد فتح الأسواق الداخلية للمبادرة الخاصة الداخلية والأجنبية.
ضمن هذا الإطار نفهم حركات الاحتجاج الاجتماعي المرتبط بالخبز في مصر وفي تونس أواسط الثمانينيات وكذلك ربيع البربر في الجزائر رغم تعبيراته الثقافية والإثنية، ثم أحداث أكتوبر من سنة 1988.
أفرزت هذه التحولات واقعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا جديدا. فقد ظهر توجه محتشم نحو التعددية ولو كان ذلك على المستوى الشكلي، مثلما تم في مصر سنة 1977 وفي تونس سنة 1987. لكنه انفتاح مفروض من طرف الدول المقرضة أكثر منه اقتناعا بنجاعة التعددية في تحقيق الاستقرار الدائم.
المهم في جملة هذه التحولات هو ما حصل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. فسياسة تخفيض الإنفاق وما صاحبها من خصخصة للقطاع العام أضعفت من دور الدولة كمؤسسة عليا لتنظيم الفضاء الاجتماعي.
كما أدت إلى بروز نخبة من الأثرياء الجدد الذين استفادوا من رفع يد القطاع العام عن بعض الأنشطة والمؤسسات لتحقيق ثراء سريع مثلما استفادوا من الامتيازات الضريبية التي منحت لهم.
هكذا تشكل تحالف جديد بين الأنظمة القائمة وهذه الفئة الطفيلية من الأثرياء الجدد الذين عوضوا النخبة المتعلمة وفرضوا الثروة والأعمال كمقياس للنفوذ على حساب الوظيفة السياسية. ضمن هذا الإطار نفهم تراجع هيبة المعطى السياسي وتراجع هيبة الدولة الممثلة بوزراء وموظفين لا حول لهم أمام جاه الأثرياء الجدد.
لقد أصبحت الدولة فضاءً للاستثمار الاقتصادي بامتياز أكثر منها مؤسسة تخدم الصالح العام. ضمن هذا الابتذال للفعل السياسي، وضمن هذا الابتذال الاقتصادي لمؤسسة الدولة نفهم ظاهرة التوريث.
"
تحولت الأحزاب الحاكمة في بعض الدول العربية إلى نواد اقتصادية لكسب المشاريع والصفقات, ومن ثم تراجع دور النخبة داخل الحزب الحاكم مما جعل من التوريث الحل الأقرب واقعية لتجديد دم النظام القائم
"
فهذا الخيار هو في عمقه تجسيد لتراجع الفعل السياسي الحقيقي، أي ذلك الفعل الذي يدور حول مفهوم التسيير المؤسساتي ضمن هيبة الدولة. كما أنه تجسيد لهيمنة منطق الربح والاستثمار في تعامل أصحاب السلطة والأثرياء الجدد مع مؤسسة الدولة ومع القطاع العام.
يلاحظ هذا بكل وضوح في حالة الحزب الوطني في مصر وفي حالة التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس وفي حالة جبهة التحرير الجزائرية وحزب البعث في سوريا، أحزاب تحولت إلى نواد اقتصادية لكسب المشاريع والصفقات. فتراجع دور النخبة داخل الحزب الحاكم وكذلك رفض الانفتاح والتداول على السلطة جعل من التوريث الحل الأقرب واقعية لتجديد دم النظام القائم.
ليس مستبعدا إذن في ظل هذه المعطيات أن تتحول الدولة إلى ملكية فردية أو عائلية تتم الخصخصة فيها أو توريثها أو حتى هبتها. وحسبنا أن ندقق في السند الاجتماعي والاقتصادي الذي يعتمد عليه مرشحو التوريث من أبناء الرئيس أولا أو من محيطهم العائلي الأقرب، لنقف على علاقاتهم المتينة مع نخبة الثراء الجديد. إنه تحول عميق من دولة النخبة السياسية التي احتكرت السلطة ضمن الحزب الواحد نحو دولة الثراء السريع والتوريث.