منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#63807
انضمت دول وازنة مثل أميركا وبريطانيا وهولندا وألمانيا إلى دعم موقف باريس في مواجهة توصية غير ملزمة، صدرت عن اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار في الأمم المتحدة، تطالب بتقرير مصير جزر بولينزيا الفرنسية. واعتبرت الأمر تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية للغير.

إلى هنا يبدو الأمر عادياً. فالتوصية صدرت باقتراح من دول صغيرة في المحيط الهادي، هي جزر سليمان ونورو وتوفالو. لكن العواصم التي انزعجت لصدورها تواجه قضايا مماثلة. فبريطانيا مثلاً تعتبر جزر الفوكلاند وكايمان وسانت هيلانة تابعة لها تاريخياً وقانونياً. فيما أميركا لها جزر العذراء وغوام وساموا الأميركية. وتدفع باريس من جهتها في اتجاه أن الخيار الديموقراطي الذي أقصى التيار الانفصالي في بولينزيا في الانتخابات الأخيرة يعزز وضعها القانوني.

غير أن الأهم في هذا الطرح ليس البحث في مستقبل هذه الكيانات والجزر، بقدر ما يطاول حدود تنفيذ مبدأ تقرير المصير الذي يعود إلى مرجعية اعتمدت بعد الحرب الكونية، وتوقفت أمام الملاءمة وفكرة الحدود الموروثة عن الاستعمار. ولا يبدو أن التزام المبادئ الكونية، من قبيل مفهوم تقرير المصير وحدها تحرك الأحداث، فثمة ما هو أكبر، كلما تعلق الأمر بأوضاع الدول المتنفذة التي تعتمد الكيل بأكثر من مكيال، وتترك لباقي العوالم أن تتعارك مع بعضها طالما أن شظايا العراك لا تنفذ إليها. أو في أقل تقدير تصون طروحاتها في ما تعتبره توازنات إقليمية أو دولية، تدفع ببعض الصراعات أن تطفو على السطح. وتحيل أخرى إلى ذاكرة النسيان.

عندما حان وقت انهيار المعسكر الشرقي، لم يجد العالم بداً من الانصياع إلى رغبات كيانات كانت تندرج في إطار الإمبراطورية السوفياتية المترامية الأطراف، إلى درجة أن الترحيب بانضمام دول من أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي كان أسرع من أي قرار. لكن عندما ينسحب الأمر على جزر وكيانات لها ارتباط ما بالدول الكبرى يرتدي السجال طابعاً آخر. ليس أبعده أن تقرير المصير يصاغ وفق المفهوم الديموقراطي للمشاركة الشعبية. وهذا أمر وجيه، إذا أخذنا في الاعتبار أن وحدة الدول تسبق في مرجعية الأمم المتحدة ذاتها أي نزوع إلى تقرير المصير.

كل المبررات التي ترفع في مضمار اللجوء إلى تقرير المصير، أكانت خلافات دينية أو عرقية أو طائفية، تنتفي في الحالات التي تشمل كيانات دول متنفذة، كونها اعتمدت الانصهار في الوحدة، وإقرار أنماط في التدبير السياسي، تدعم صيغة الحكم الذاتي في الولايات والمقاطعات وإقامة حكومات محلية، لكنها في أوضاع العالم العربي مثلاً ترتدي طابعاً آخر. إذ يصار إلى تشجيع نزعات الانفصال وتعميق التناقضات بين دول المركز ومحيطها. حتى إذا تجذرت بوادر تفتيت الكيانات وبلقنتها، يكون اللجوء إلى تقرير المصير مبرراً، مع أنه لا يراد هنا دفاعاً عن المبدأ بل لتمرير خطة التقسيم المستعصية.

الانزعاج الفرنسي من توصية اللجنة الرابعة، لا يمكن أن يمر من دون تأثير. أقله أنه يعاود طرح إشكالات الأمم المتحدة ومسألة العضوية. وإذا كان من حق أي عضو في المنظمة الدولية أن يكون له صوته الذي يعبر عن سيادته، فإن غياب التوازن فيها، ومن ضمنها تركيبة مجلس الأمن الدولي، بات يفرض نفسه، وفي أقل تقدير أن يصبح التزام المبادئ على قدر الحاجة إلى توازن قابل للفعالية والاستمرار. وما من شك في أن طرح توصية بلدان منطقة المحيط الهادي يكشف جانباً من محاولات خلخلة التوازن الهش. لكن ما يعني الكثير من البلدان العربية التي تحيط بها مخاطر التجزئة، هو عدم الانقياد وراء الشعارات البراقة. وأفضل دليل على ذلك أن الدول الوازنة وقفت إلى جانب فرنسا، عندما أدركت أن تقرير المصير يراد استخدامه لمعاودة فصلها عن مراكز نفوذها التقليدي.

لعل أهم خلاصة تفيد بأن الحل الديموقراطي الذي لوحت به باريس لتكريس حضورها في بولينزيا، يصلح وصفة لتجاوز الكثير من الصراعات العرقية والطائفية والدينية. بخاصة تلك التي تستهدف البعد الوحدوي للدول. وما يصلح لحل مشاكل مستعصية بالنسبة للدول المتنفذة، ليس هناك ما يحول دون اقتباسه. شرط أن يكون التزام مبادئ الحرية والعدالة وقيم التعايش والتساكن بين مكونات الدول سقفاً يحدد المسؤوليات ومجالات الحركة والقدرة على الإقناع بأن ما ينطبق على طروحات الدول المتقدمة، لا شيء يحول دون امتداد نفوذه إلى العالم العربي تحديداً. كونه لم يعد يواجه تحديات خارجية فقط، بل رهانات داخلية تفكك أوصاله ومكوناته وتعددياته