- الجمعة يوليو 19, 2013 3:12 am
#63858
يسلط الكتاب الضوء على التناقضات الداخلية لدول الشرق الأوسط ، والتي ترفع بها ديناميكيات الصراع الطبقي في مجال العلاقات الاجتماعية ، كما أنه يقوم في الوقت نفسه "بدراسة الاقتصاد السياسي للنزاعات الراسخة منذ زمن طويل ، والأزمات في الشرق الأوسط ، مع الالتفات بصورة خاصة إلى دور القوى الخارجية القوية النابعة من الإمبريالية الغربية بقيادة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة فيما بعد " . فهو - أي الكتاب - يوضح مركزية العلاقة بين الإمبريالية والحرب والاضطراب السياسي الشرق أوسطي مع تحليل الطبيعة الطبقية للدولة والقوى الاقتصادية المشاركة في الحركات الوطنية والأصولية ، والسياق التنظيمي الذي تحشد فيه هذه القوى نفسها سياسيًا حتى تكون ذات أثر في التغيير.
فبعد أن كانت الإمبراطورية العثمانية حتى مطلع القرن العشرين هي القوة الأساسية الكبرى في الشرق الأوسط ، فإن الضغط الغربي الإمبريالي على الإمبراطورية سرعان ما تسارعت وتائره في صورة علاقات تجارية غير متكافئة ، انعكست سلبًا على الصناعات المحلية ، وبالتالي على الاقتصاد بشكل عام ، مما أدى إلى الانهيار التام والكامل فيما بعد . ومما لا شك فيه أن تلك المشاكل والأحوال الاقتصادية المتردية للإمبراطورية العثمانية "والتي كان الغرب أحد أسبابها الرئيسية" قد شكلت مدخلا طبيعيا للتدخل في شؤونها الداخلية ، ومن ثم احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لقد أسال المخزون الهائل للمنطقة من النفط لعاب القوى الإمبريالية الأساسية للغرب "ومن ثم فإن تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين مرتبط بجهود القوى الغربية لتحقيق سيطرة مطلقة على موارده وتجارته والمورد الرئيسي هو الزيت (النفط) ".
بيد أن المخطط الغربي للسيطرة على المنطقة أو مصادرها النفطية لم تكن على وتيرة واحدة من النزاع والمنافسة ، بل تمثلت فيما قسّمه المؤلف إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى : من عام 1818وحتى عام1914م والتي تميزت بانحدار بريطانيا من قمة هرم الإمبريالية الغربية أواخر القرن التاسع عشر إلى المنافسة مع الدول الأخرى (فرنسا- ألمانيا - الولايات المتحدة) أي الصراع للحصول على تنازلات مريحة في كل من الأرض والشؤون المالية والطرق الحيوية للمواصلات وحتى القوى الإدارية للحكومة العثمانية ، وقد تزايد خلالها النفوذ الألماني في المنطقة والذي كانت مكافأته خط سكة حديد بغداد . ولمقاومة التحدي الألماني - الأمريكي للهيمنة على الشرق الأوسط "عادت بريطانيا وفرنسا للظهور باعتبارهما القوة المهيمنة فعززا سيطرتهما على المنطقة متجاوزتين الوجود الألماني ، مع إخضاع وكبح تحدي الولايات المتحدة للهيمنة البريطانية ".
المرحلة الثانية : من1918 وحتى 1939 والتي تميزت بتقسيم الشرق الأوسط بين القوى الغربية ، وبروز تحدٍّ أكبر من ألمانيا تمثل بعمل عسكري أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية ، ثم بعد ذلك تحدٍّ من الولايات المتحدة عند نهاية الحرب ، لتحل أمريكا محل بريطانيا "باعتبارها القوة العظمى الرأسمالية القائدة محددة طبيعة وديناميكيات الاقتصاد السياسي الكوني .
المرحلة الثالثة : من1945 إلى 1991 والتي أنهت الولايات المتحدة بها أكثر من قرن ونصف من السيطرة البريطانية في الشرق الأوسط ، ولتؤمن في الوقت ذاته بواسطة سلسلة من الدول والحكومات الوكيلة عنها في المنطقة تحكّمها الجيو بوليتيكي بالمنطقة ، واستغلالا واسعا لآبار النفط المتدفقة باستمرار . وكانت حرب الخليج الثانية عام 1991 أكبر حدث معبر عن الصورة المرسومة آنفًا .
وفي معرض بيانه لأثر النزاعات الاثنية والانفعالات القومية على الاضطراب السياسي في المنطقة يرى المؤلف أن "انحدار الإمبراطورية العثمانية - والذي لعب الغرب الإمبريالي فيه دورًا أساسيًا - أدى إلى صعود رد فعل سياسي محافظ ومتطرف ، رد فعل انتقى الأرمن كبش فداء لأمراض المجتمع العثماني ". لقد لعبت الأقليات الاثنية المكونة من الأرمن واليونانيين واليهود دورا مهمًّا وقياديًّا في البنيان الاجتماعي والاقتصادي والمالي العثماني أواخر القرن الثامن عشر ، وقد أدى ذلك إلى تحسس الأتراك جراء قوة الأقليات الاثنية الاقتصادية - وخاصة الأرمن - .
إن كثيرًا من الحنق والغضب التركي يمكن تفسيره في ضوء تلك الإزاحة الاقتصادية التي قام بها الأرمن متساوقة مع العديد من الهبات القومية التي قمعت بشدة ، إلا أن نقطة التحول في تلك العلاقة المأزومة تعود إلى ثورة "تركيا الفتاة عام 1908"، وارتباك قادة الثورة حيال التصدع الذي كانت تعانيه الإمبراطورية المنهارة فكانت "الدكتاتورية العسكرية وغدت التتركة الأيديولوجية هي المهيمنة في لجنة الاتحاد والترقي ".
ومع اختلاق نظرية الأمة التركية الطورانية لكل الشعوب الآرية عبر آسيا ، برزت روسيا والشعوب السلافية والأرمن كعقبات أمام تحقيق هذه النظرية وتجسيدها على أرض الواقع ، وبحسب المؤلف فإن مشيئة الانتقام لحزب الاتحاد والترقي من مذلة الهزيمة أمام روسيا في الحرب العالمية الأولى قد أدى إلى اتخاذ قرار الاستئصال المنظم لكل الأرمن من داخل الإمبراطورية العثمانية .
"لقد كان البعث القومي في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين رد فعل للدور المهيمن للإمبريالية الغربية في المنطقة " . بهذه المقولة "الإيمانية" يدرس المؤلف في فصول لاحقة بروز الحركة القومية في العديد من بلدان الشرق الأوسط.
ففي تركيا يفسر صعود الكماليين إلى قيادة الحركة القومية وظهور الجمهورية التركية الجديدة فيما بعد بتنامي مشاعر الحنق والغضب جراء الهزائم والإهانات المتتالية التي لحقت بالأتراك العثمانيين أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى "إذ عندما هبط الجيش اليوناني إلى ازمير عام 1919م تحت غطاء من سفن الحلفاء الحربية التهب أخيرا الغضب الكامن في شعلة لا تخمد ". وقرر الكماليون هزيمة الإمبريالية خلال تلك الفترة على جبهات ثلاث تكتيكية : "قوات الاحتلال الإمبريالية , بيروقراطية القصر العثماني ، والبرجوازية البيروقراطية الأقلية "، وقد وجد مصطفى كمال في فلاحي الأناضول حلفًا جماهيريًا مكنه من البروز كبطل قومي ، ومع توسع دور الدولة في الاقتصاد ما بعد سنوات الحرب فإن " الكماليين بورجوازية الثورة أنتجوا دولة قوية مركزية ". بيد أن تدخل الولايات المتحدة في تحريك بيادق اللعب على الرقعة التركية ودعمها للعديد من التحالفات والانقلابات العسكرية أعوام 1960-و1971-و1980 عمق من أزمة النظام النيوكولونيالي مع تضارب التوجهات ونمو المد الإسلامي التركي .
"لقد كانت قناة السويس أساسية لاستغلال زيت الشرق الأوسط ". هكذا كان لسان حال بريطانيا وهي تبسط سيطرتها على مصر وما جاورها ، وهو ما جعل الوجدان القومي ينساب عميقا بين المصريين الذين استنكروا الاحتلال الإمبريالي لترابهم الوطني ، فقامت مجموعة من الضباط الأحرار بانقلاب على السلطة الحاكمة مدخلين بذلك مصر في مرحلة "رأسمالية الدولة " في الاقتصاد باستخدام الدولة "كأداة للتطور الرأسمالي القومي في ظل الحكم البيروقراطي للبرجوازية الصغيرة ". وبوفاة عبد الناصر دخلت البلاد مرحلة جديدة سميت "بالانفتاح" تحت ضغوط داخلية وخارجية إمبريالية، تمت بموجبها عملية تآكل لسياسة رأسمالية الدولة وظهور طبقة رأسمالية قومية متحالفة مع المصالح التجارية الكبرى تعتمد أساسا على الإمبريالية ، أدى في النهاية إلى وقوع مصر في الفلك النيوكولونيالي ، وإلى زيادة التقسيمات والصراعات الطبقية في المجتمع المصري .
في السياق ذاته يتناول المؤلف كلاً من سوريا والعراق في سرد تاريخي توصيفي لأحداث باتت معروفة لمتابعي تاريخ الصراع السياسي في كلا البلدين ، لينتهي إلى تحديد دور كل من القوى الداخلية والخارجية في رسم خريطة مصير هاتين الدولتين في ظل فشل مشروع رأسمالية الدولة الذي تم اعتماده و تبنيهما لوضع نيوكولونيالي متزايد داخل الاقتصاد العالمي وبضغط مباشر من صراعات اثنية وطبقية .
وإذ يقوم المؤلف بمعالجة المسالة القومية في الشرق الأوسط ، فإنه يرى أن الشعب الفلسطيني قد تعرض لمؤامرة إمبريالية دولية تمثلت في انتزاعه من جسد الإمبراطورية العثمانية ووضعه تحت الانتداب البريطاني لخدمة المشروع الصهيوني في إنشاء وطن قومي لليهود، وهو ما يجعل الأمر يبدو مختلفا بالنظر إلى القضية الكردية التي اتضحت معالمها مع تقسيم كردستان التاريخية بين الدول الحديثة الأربع "تركيا والعراق وإيران وسوريا" ومحاولات تأسيس دولة أو حتى تكتل سياسي قومي وما تعرضت له هذه المحاولات من اضطهاد وسحق عنيفين ، إلا أن المؤلف يصر على وجود تشابه كبير بين تجربتي الشعبين وذلك بإلقاء الضوء على الأسباب الحقيقية الكامنة وراء نضالهما لتحقيق وطن قومي وهوية وطنية.
وإذ أضحى الشرق الأوسط مرتعًا للتنافس الإمبريالي لتحقيق المصالح المنشودة ، فقد كان من نتائج هذا التنافس ميراث من الصراع العربي الإسرائيلي ابتلى المنطقة بسلسلة من الأزمات والاضطرابات تزيد عن نصف قرن . "لقد غدا إيجاد دولة إسرائيل استراتيجية جيوبوليتيكية مريحة للدول الاستعمارية لتهيمن على كل منطقة الشرق الأوسط ". ومع تداول الأيام بين العرب وإسرائيل - وإن كان في معظمها لصالح الكيان الدخيل - فإن فشل الحروب العربية وسياسات التفاوض التالية لها في حل المسالة الفلسطينية ، والإجابة عن سؤال المصير لملايين اللاجئين في شتات الطوق المحيط بالكيان الصهيوني ، قد ولّد حالة من الاستياء والنقمة العارمة أدت إلى اندلاع انتفاضة 1987م ، وإذا كانت تلك الانتفاضة قد أجبرت إسرائيل على الدخول في مفاوضات علنية مباشرة مع الفلسطينيين ، إلا أن سياسات الدولة العبرية المعلنة منها والسرية بالاستمرار "في بناء المستوطنات قد ألقى ستارا قاتما فوق الأمل في حل سلمي للمسألة القومية " .
ينتهي المؤلف أخيرا إلى وصف تاريخ صراع المصالح الإمبريالية بين الدول الثلاث الأقوى اقتصاديا "ألمانيا-اليابان-الولايات المتحدة" وكيف تسبب ذلك الصراع في نشوب حروب عالمية ، ومن ثم حربين خليجيتين كان المحرك الأول لها محاولة استخدام إحدى دول المنطقة الإقليمية كحارس وساهر على خدمة مصالح هذه الدول ، وكيف انتهت تلك التجاذبات السياسية والعسكرية بهيمنة مطلقة للولايات المتحدة على المنطقة . إلا أن الكاتب لا ينسى في هذا السياق التأكيد على تنامي التحدي الألماني -الياباني للهيمنة الأمريكية على المنطقة ، باعتماد كل منهما على مجاله الحيوي "ألمانيا على الجماعة الأوروبية ودول الشمال الإفريقي واليابان على الصين ودول جنوب شرق آسيا "،"مبشرا" إن -جاز التعبير- بصدام آخر للمصالح دون تحديد لمكانه أو زمانه.
ـــــــــ
* كاتب وباحث فلسطيني
ـ الكتاب: اضطراب في الشرق الأوسط: الإمبريالية والحرب وعدم الاستقرار السياسي
ـ المؤلف: بيرش بيربروجلو
ـ ترجمة: فخري لبيب
ـ الناشر: المجلس الأعلى للثقافة ط1مصر 2002م
فبعد أن كانت الإمبراطورية العثمانية حتى مطلع القرن العشرين هي القوة الأساسية الكبرى في الشرق الأوسط ، فإن الضغط الغربي الإمبريالي على الإمبراطورية سرعان ما تسارعت وتائره في صورة علاقات تجارية غير متكافئة ، انعكست سلبًا على الصناعات المحلية ، وبالتالي على الاقتصاد بشكل عام ، مما أدى إلى الانهيار التام والكامل فيما بعد . ومما لا شك فيه أن تلك المشاكل والأحوال الاقتصادية المتردية للإمبراطورية العثمانية "والتي كان الغرب أحد أسبابها الرئيسية" قد شكلت مدخلا طبيعيا للتدخل في شؤونها الداخلية ، ومن ثم احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لقد أسال المخزون الهائل للمنطقة من النفط لعاب القوى الإمبريالية الأساسية للغرب "ومن ثم فإن تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين مرتبط بجهود القوى الغربية لتحقيق سيطرة مطلقة على موارده وتجارته والمورد الرئيسي هو الزيت (النفط) ".
بيد أن المخطط الغربي للسيطرة على المنطقة أو مصادرها النفطية لم تكن على وتيرة واحدة من النزاع والمنافسة ، بل تمثلت فيما قسّمه المؤلف إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى : من عام 1818وحتى عام1914م والتي تميزت بانحدار بريطانيا من قمة هرم الإمبريالية الغربية أواخر القرن التاسع عشر إلى المنافسة مع الدول الأخرى (فرنسا- ألمانيا - الولايات المتحدة) أي الصراع للحصول على تنازلات مريحة في كل من الأرض والشؤون المالية والطرق الحيوية للمواصلات وحتى القوى الإدارية للحكومة العثمانية ، وقد تزايد خلالها النفوذ الألماني في المنطقة والذي كانت مكافأته خط سكة حديد بغداد . ولمقاومة التحدي الألماني - الأمريكي للهيمنة على الشرق الأوسط "عادت بريطانيا وفرنسا للظهور باعتبارهما القوة المهيمنة فعززا سيطرتهما على المنطقة متجاوزتين الوجود الألماني ، مع إخضاع وكبح تحدي الولايات المتحدة للهيمنة البريطانية ".
المرحلة الثانية : من1918 وحتى 1939 والتي تميزت بتقسيم الشرق الأوسط بين القوى الغربية ، وبروز تحدٍّ أكبر من ألمانيا تمثل بعمل عسكري أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية ، ثم بعد ذلك تحدٍّ من الولايات المتحدة عند نهاية الحرب ، لتحل أمريكا محل بريطانيا "باعتبارها القوة العظمى الرأسمالية القائدة محددة طبيعة وديناميكيات الاقتصاد السياسي الكوني .
المرحلة الثالثة : من1945 إلى 1991 والتي أنهت الولايات المتحدة بها أكثر من قرن ونصف من السيطرة البريطانية في الشرق الأوسط ، ولتؤمن في الوقت ذاته بواسطة سلسلة من الدول والحكومات الوكيلة عنها في المنطقة تحكّمها الجيو بوليتيكي بالمنطقة ، واستغلالا واسعا لآبار النفط المتدفقة باستمرار . وكانت حرب الخليج الثانية عام 1991 أكبر حدث معبر عن الصورة المرسومة آنفًا .
وفي معرض بيانه لأثر النزاعات الاثنية والانفعالات القومية على الاضطراب السياسي في المنطقة يرى المؤلف أن "انحدار الإمبراطورية العثمانية - والذي لعب الغرب الإمبريالي فيه دورًا أساسيًا - أدى إلى صعود رد فعل سياسي محافظ ومتطرف ، رد فعل انتقى الأرمن كبش فداء لأمراض المجتمع العثماني ". لقد لعبت الأقليات الاثنية المكونة من الأرمن واليونانيين واليهود دورا مهمًّا وقياديًّا في البنيان الاجتماعي والاقتصادي والمالي العثماني أواخر القرن الثامن عشر ، وقد أدى ذلك إلى تحسس الأتراك جراء قوة الأقليات الاثنية الاقتصادية - وخاصة الأرمن - .
إن كثيرًا من الحنق والغضب التركي يمكن تفسيره في ضوء تلك الإزاحة الاقتصادية التي قام بها الأرمن متساوقة مع العديد من الهبات القومية التي قمعت بشدة ، إلا أن نقطة التحول في تلك العلاقة المأزومة تعود إلى ثورة "تركيا الفتاة عام 1908"، وارتباك قادة الثورة حيال التصدع الذي كانت تعانيه الإمبراطورية المنهارة فكانت "الدكتاتورية العسكرية وغدت التتركة الأيديولوجية هي المهيمنة في لجنة الاتحاد والترقي ".
ومع اختلاق نظرية الأمة التركية الطورانية لكل الشعوب الآرية عبر آسيا ، برزت روسيا والشعوب السلافية والأرمن كعقبات أمام تحقيق هذه النظرية وتجسيدها على أرض الواقع ، وبحسب المؤلف فإن مشيئة الانتقام لحزب الاتحاد والترقي من مذلة الهزيمة أمام روسيا في الحرب العالمية الأولى قد أدى إلى اتخاذ قرار الاستئصال المنظم لكل الأرمن من داخل الإمبراطورية العثمانية .
"لقد كان البعث القومي في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين رد فعل للدور المهيمن للإمبريالية الغربية في المنطقة " . بهذه المقولة "الإيمانية" يدرس المؤلف في فصول لاحقة بروز الحركة القومية في العديد من بلدان الشرق الأوسط.
ففي تركيا يفسر صعود الكماليين إلى قيادة الحركة القومية وظهور الجمهورية التركية الجديدة فيما بعد بتنامي مشاعر الحنق والغضب جراء الهزائم والإهانات المتتالية التي لحقت بالأتراك العثمانيين أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى "إذ عندما هبط الجيش اليوناني إلى ازمير عام 1919م تحت غطاء من سفن الحلفاء الحربية التهب أخيرا الغضب الكامن في شعلة لا تخمد ". وقرر الكماليون هزيمة الإمبريالية خلال تلك الفترة على جبهات ثلاث تكتيكية : "قوات الاحتلال الإمبريالية , بيروقراطية القصر العثماني ، والبرجوازية البيروقراطية الأقلية "، وقد وجد مصطفى كمال في فلاحي الأناضول حلفًا جماهيريًا مكنه من البروز كبطل قومي ، ومع توسع دور الدولة في الاقتصاد ما بعد سنوات الحرب فإن " الكماليين بورجوازية الثورة أنتجوا دولة قوية مركزية ". بيد أن تدخل الولايات المتحدة في تحريك بيادق اللعب على الرقعة التركية ودعمها للعديد من التحالفات والانقلابات العسكرية أعوام 1960-و1971-و1980 عمق من أزمة النظام النيوكولونيالي مع تضارب التوجهات ونمو المد الإسلامي التركي .
"لقد كانت قناة السويس أساسية لاستغلال زيت الشرق الأوسط ". هكذا كان لسان حال بريطانيا وهي تبسط سيطرتها على مصر وما جاورها ، وهو ما جعل الوجدان القومي ينساب عميقا بين المصريين الذين استنكروا الاحتلال الإمبريالي لترابهم الوطني ، فقامت مجموعة من الضباط الأحرار بانقلاب على السلطة الحاكمة مدخلين بذلك مصر في مرحلة "رأسمالية الدولة " في الاقتصاد باستخدام الدولة "كأداة للتطور الرأسمالي القومي في ظل الحكم البيروقراطي للبرجوازية الصغيرة ". وبوفاة عبد الناصر دخلت البلاد مرحلة جديدة سميت "بالانفتاح" تحت ضغوط داخلية وخارجية إمبريالية، تمت بموجبها عملية تآكل لسياسة رأسمالية الدولة وظهور طبقة رأسمالية قومية متحالفة مع المصالح التجارية الكبرى تعتمد أساسا على الإمبريالية ، أدى في النهاية إلى وقوع مصر في الفلك النيوكولونيالي ، وإلى زيادة التقسيمات والصراعات الطبقية في المجتمع المصري .
في السياق ذاته يتناول المؤلف كلاً من سوريا والعراق في سرد تاريخي توصيفي لأحداث باتت معروفة لمتابعي تاريخ الصراع السياسي في كلا البلدين ، لينتهي إلى تحديد دور كل من القوى الداخلية والخارجية في رسم خريطة مصير هاتين الدولتين في ظل فشل مشروع رأسمالية الدولة الذي تم اعتماده و تبنيهما لوضع نيوكولونيالي متزايد داخل الاقتصاد العالمي وبضغط مباشر من صراعات اثنية وطبقية .
وإذ يقوم المؤلف بمعالجة المسالة القومية في الشرق الأوسط ، فإنه يرى أن الشعب الفلسطيني قد تعرض لمؤامرة إمبريالية دولية تمثلت في انتزاعه من جسد الإمبراطورية العثمانية ووضعه تحت الانتداب البريطاني لخدمة المشروع الصهيوني في إنشاء وطن قومي لليهود، وهو ما يجعل الأمر يبدو مختلفا بالنظر إلى القضية الكردية التي اتضحت معالمها مع تقسيم كردستان التاريخية بين الدول الحديثة الأربع "تركيا والعراق وإيران وسوريا" ومحاولات تأسيس دولة أو حتى تكتل سياسي قومي وما تعرضت له هذه المحاولات من اضطهاد وسحق عنيفين ، إلا أن المؤلف يصر على وجود تشابه كبير بين تجربتي الشعبين وذلك بإلقاء الضوء على الأسباب الحقيقية الكامنة وراء نضالهما لتحقيق وطن قومي وهوية وطنية.
وإذ أضحى الشرق الأوسط مرتعًا للتنافس الإمبريالي لتحقيق المصالح المنشودة ، فقد كان من نتائج هذا التنافس ميراث من الصراع العربي الإسرائيلي ابتلى المنطقة بسلسلة من الأزمات والاضطرابات تزيد عن نصف قرن . "لقد غدا إيجاد دولة إسرائيل استراتيجية جيوبوليتيكية مريحة للدول الاستعمارية لتهيمن على كل منطقة الشرق الأوسط ". ومع تداول الأيام بين العرب وإسرائيل - وإن كان في معظمها لصالح الكيان الدخيل - فإن فشل الحروب العربية وسياسات التفاوض التالية لها في حل المسالة الفلسطينية ، والإجابة عن سؤال المصير لملايين اللاجئين في شتات الطوق المحيط بالكيان الصهيوني ، قد ولّد حالة من الاستياء والنقمة العارمة أدت إلى اندلاع انتفاضة 1987م ، وإذا كانت تلك الانتفاضة قد أجبرت إسرائيل على الدخول في مفاوضات علنية مباشرة مع الفلسطينيين ، إلا أن سياسات الدولة العبرية المعلنة منها والسرية بالاستمرار "في بناء المستوطنات قد ألقى ستارا قاتما فوق الأمل في حل سلمي للمسألة القومية " .
ينتهي المؤلف أخيرا إلى وصف تاريخ صراع المصالح الإمبريالية بين الدول الثلاث الأقوى اقتصاديا "ألمانيا-اليابان-الولايات المتحدة" وكيف تسبب ذلك الصراع في نشوب حروب عالمية ، ومن ثم حربين خليجيتين كان المحرك الأول لها محاولة استخدام إحدى دول المنطقة الإقليمية كحارس وساهر على خدمة مصالح هذه الدول ، وكيف انتهت تلك التجاذبات السياسية والعسكرية بهيمنة مطلقة للولايات المتحدة على المنطقة . إلا أن الكاتب لا ينسى في هذا السياق التأكيد على تنامي التحدي الألماني -الياباني للهيمنة الأمريكية على المنطقة ، باعتماد كل منهما على مجاله الحيوي "ألمانيا على الجماعة الأوروبية ودول الشمال الإفريقي واليابان على الصين ودول جنوب شرق آسيا "،"مبشرا" إن -جاز التعبير- بصدام آخر للمصالح دون تحديد لمكانه أو زمانه.
ـــــــــ
* كاتب وباحث فلسطيني
ـ الكتاب: اضطراب في الشرق الأوسط: الإمبريالية والحرب وعدم الاستقرار السياسي
ـ المؤلف: بيرش بيربروجلو
ـ ترجمة: فخري لبيب
ـ الناشر: المجلس الأعلى للثقافة ط1مصر 2002م