- الاثنين يوليو 22, 2013 6:26 am
#63976
السيد يسين الاتحاد
عندما كنتُ أكتب مقالاً سابقاً لي بعنوان "نحو خريطة معرفية لعصر العولمة" كنت أريد من ورائه أن أرسم بصورة واضحة تضاريس الزمن الحاضر، تمهيداً للمناقشة التفصيلية لكل نقطة من نقاط الخريطة، لم أدرك أنني في الواقع أوقعت نفسي في مأزق! وبيان ذلك أنني أردتُ حين رسمت الملامح الرئيسية للخريطة أن أبدأ من البدايات. ولذلك شئت في حديثي عن نشوء المجتمع الأوروبي أن أركِّز على فكرة "السوق" التي هي ركيزة النظام الرأسمالي. وفي هذا السياق تحدثت عن المؤرخ الاقتصادي المجري الأصل "كارل بولاني" مؤلف كتاب "التحول العظيم"، الذي يعتبر حتى الآن –مع أنه نشر عام 1944- الكتاب العمدة في الموضوع!
غير أنني اكتشفت بعد أن شرعت في الكتابة وأنجزت مقالتي الأولى عن فكر "كارل بولاني" والثانية عن نقد خصومه، أنني لو سرت في هذا الطريق الطويل فإنني سأحتاج إلى كتابة مجلدات وليس سلسلة مقالات!
ومن هنا آثرت أن أغيِّر منهج الكتابة ولا أعتمد على المنهج التاريخي المقارن الذي تعودت أن أكتب بحوثي ودراساتي في ظله، وإنما أتحول لأناقش مشكلات العالم المعاصر مناقشة مباشرة، ولا بأس من الإشارة الموجزة إلى بعض جذورها التاريخية.
وإذا كانت هذه هي خطتي الجديدة في الكتابة، فما هي المشكلة الأساسية التي علىَّ أن أبدأ بها؟ ليس هناك شك في أن الإشكالية وليس فقط المشكلة هي العولمة، وذلك لسبب بسيط، لكونها هي الرمز الأساسي لمجتمع المعلومات العالمي الذي انطلق من رحم المجتمع الصناعي، وتجاوزه إلى آفاق بعيدة.
وقد دارت حول العولمة معركة فكرية كبرى بين أنصارها من مدرسة "الليبرالية الجديدة" سواء كانوا مثقفين غربيين أم عرباً، وخصومها من المثقفين الغربيين والعرب أيضاً.
غير أن المعركة لم تقتصر على كونها معركة فكرية، ولكنها تجاوزت ذلك لتكون معركة سياسية أيضاً، دارت في جنبات مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، والتي هي الرمز الحقيقي للعولمة الاقتصادية.
هذه المعركة السياسية التي تدور رحاها في كل مؤتمرات المنظمة بين الدول الصناعية المتقدمة المتحكمة في سياسات العولمة وتطبيقاتها، وبين الدول النامية التي تكافح حتى لا تكون مجرد ضحايا للعولمة، لم تقف عند حدود المؤتمرات التي تجمع ممثلي الدول المختلفة، ولكنها تعدت ذلك لتصبح إحدى المعارك الأساسية التي تخوضها مؤسسات المجتمع المدني العالمي، والتي نجحت في تنظيم تظاهرات سياسية ومؤتمرات مضادة وخصوصاً في بورتو أليجيري بالبرازيل وديربان بجنوب أفريقيا.
ويبقى السؤال: ما هو جوهر هذه المعركة المشتعلة بين أنصار العولمة وخصومها؟
جوهر المعركة ببساطة يدور حول احتكار الدول الصناعية الكبرى لمزايا العولمة والسوق الكوني المفتوح، وفي نفس الوقت تحكم نظام سلطوي استبدادي في صنع القرار الاقتصادي والتنموي، حتى لو عارضته غالبية الدول النامية. ويعني ذلك أنه في الوقت الذي تنادى فيه العولمة السياسية بشعارات الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، فإن العولمة الاقتصادية تقضي عملياً على كل هذه الشعارات بسياسات الأمر الواقع المفروض على الدول النامية.
ولذلك تشكلت عديد من المنابر الفكرية في الغرب في محاولة منها لصياغة مبادرة تكفل تحقيق الديمقراطية داخل دائرة صنع القرار الاقتصادي والتنموي. بعبارة أخرى السؤال المطروح كيف يمكن "مقرطة" العولمة الاقتصادية.
وهذا السؤال يطرح مشكلة أخرى لصيقة بسلبيات العولمة وهي التي تتعلق بالجشع الشديد للشركات العابرة للقارات في مجال جني الأرباح على حساب المستهلكين عموماً، وعلى حساب الدول النامية خصوصاً.
وفي هذا المجال يمكن رصد السياسة المنهجية التي تتبعها هذه الشركات في الغزو الاقتصادي المنظم لأسواق البلاد النامية، محمية في ذلك بالنصوص المجحفة الواردة في نصوص معاهدة منظمة التجارة العالمية، والتي وضعت في الحقيقة تحت ضغوط واضحة من الدول الصناعية المتقدمة وضد مصالح الدول النامية. وإذا نظرنا للعولمة من زاوية التعريف الإجرائي لها والذي مبناه أنها "سرعة تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأفكار والبشر بغير حدود أو قيود". فإن مخاطرها على اقتصادات الدول النامية وخصوصاً الضعيفة اقتصادياً تصبح بادية للعيان.
فالسلع تتدفق من الدول الصناعية المتقدمة إلى الدول النامية بصورة لا تتيح لسلع هذه الدول أن تنافس بشكل متكافئ معها. بل إن هذه الدول الصناعية المتقدمة ومنها دول الاتحاد الأوروبي أحياناً ما تأخذ موقفاً تمييزياً صريحاً ضد استيراد السلع من الدول النامية، من خلال تعلاّت شتى من بينها نقص الجودة، أو عيوب التصنيع. بل إن بعض الدول الأوروبية ترفض بعض السلع على أساس أنها تتضمن "عمالة الأطفال"، وهذا يعد خرقاً لحقوق الإنسان.
أما تدفق الخدمات، فإنه يمكن أن يمثل خطورة خاصة بالنسبة لضعف مستوى المؤسسات الخدمية الوطنية في عديد من البلاد، إذا ما قورنت بارتفاع مستوى هذه المؤسسات في البلاد المتقدمة.
وفيما يتعلق برؤوس الأموال الأجنبية واستثماراتها في الدول النامية، فإن أصحاب هذه الأموال لا تعنيهم على وجه الإطلاق مسألة المسؤولية الاجتماعية لرأس المال، لأن كل ما يشغلهم هو جني أكبر قدر من الأرباح وتحويله إلى الخارج، وبغض النظر عن نقل الخبرة التكنولوجية المتقدمة إلى هذه البلاد.
أما تدفق الأفكار بغير حدود فهو يثير قضايا في منتهى الخطورة، أبرزها أنه يتم في مرحلة تاريخية يعاد فيها "إنتاج المركزية الغربية" التي كانت تدعي أن القيم الغربية أسمى من غيرها من القيم، وهي بالتالي التي ينبغي أن تكون لها المرجعية في موضوعات التخلف والتقدم. بعبارة أخرى ما تراه هذه المركزية الغربية أنها ظواهر متخلفة تصبح كذلك حتى لو كانت هذه الظواهر تمثل نوعاً من أنواع التقدم بالنسبة لبلادنا ووفقاً لثقافتنا، التي لا تقل كفاءة أو جدارة حضارية عن غيرها من الثقافات. وكذلك ما تعتبر الثقافة الغربية أنه تقدم تريد أن تفرضه علينا باعتباره كذلك، بالرغم من أن ثقافتنا قد تعتبره قمة في التخلف الحضاري. فعلى سبيل المثال تعتبر الثقافة الغربية المعاصرة أن تقنين الزواج المثلي نوع من أنواع التقدم، مع أن ذلك مرفوض لدينا ثقافياً. والأخطر من ذلك أن تحاول بعض الدول الغربية أن تفرض في هذا الموضوع وما شابهه مثل تقنين وضع أصحاب السلوك الجنسي الشاذ، قيمها الخاصة باعتبارها من حقوق الإنسان.
ومن هنا يمكن القول إن رفض العولمة له أسباب اقتصادية تتمثل في عدم تحقيق العدالة بين الدول الداخلة في فلكها، وله أسباب سياسية في محاولة فرض النظام السياسي الليبرالي بالقوة بغض النظر عن بعض التمايزات، وله أسباب ثقافية ترد إلى محاولة فرض القيم الثقافية الغربية وتجاهل الخصوصيات الثقافية.
وإذا كانت المعركة مازالت دائرة بين أنصار العولمة وخصومها سواء على المستوى العالمي أو على صعيد الدول النامية بين السياسيين والنخب الثقافية، فقد ينشأ سؤال مؤداه: وهل هناك بديل للعولمة؟ سؤال يستحق أن نحاول الإجابة عليه في المستقبل، من خلال استعراضنا لبعض النظريات البديلة التي تحاول تغيير الرأسمالية المتوحشة الراهنة إلى تنمية مستدامة لها وجه إنساني.
عندما كنتُ أكتب مقالاً سابقاً لي بعنوان "نحو خريطة معرفية لعصر العولمة" كنت أريد من ورائه أن أرسم بصورة واضحة تضاريس الزمن الحاضر، تمهيداً للمناقشة التفصيلية لكل نقطة من نقاط الخريطة، لم أدرك أنني في الواقع أوقعت نفسي في مأزق! وبيان ذلك أنني أردتُ حين رسمت الملامح الرئيسية للخريطة أن أبدأ من البدايات. ولذلك شئت في حديثي عن نشوء المجتمع الأوروبي أن أركِّز على فكرة "السوق" التي هي ركيزة النظام الرأسمالي. وفي هذا السياق تحدثت عن المؤرخ الاقتصادي المجري الأصل "كارل بولاني" مؤلف كتاب "التحول العظيم"، الذي يعتبر حتى الآن –مع أنه نشر عام 1944- الكتاب العمدة في الموضوع!
غير أنني اكتشفت بعد أن شرعت في الكتابة وأنجزت مقالتي الأولى عن فكر "كارل بولاني" والثانية عن نقد خصومه، أنني لو سرت في هذا الطريق الطويل فإنني سأحتاج إلى كتابة مجلدات وليس سلسلة مقالات!
ومن هنا آثرت أن أغيِّر منهج الكتابة ولا أعتمد على المنهج التاريخي المقارن الذي تعودت أن أكتب بحوثي ودراساتي في ظله، وإنما أتحول لأناقش مشكلات العالم المعاصر مناقشة مباشرة، ولا بأس من الإشارة الموجزة إلى بعض جذورها التاريخية.
وإذا كانت هذه هي خطتي الجديدة في الكتابة، فما هي المشكلة الأساسية التي علىَّ أن أبدأ بها؟ ليس هناك شك في أن الإشكالية وليس فقط المشكلة هي العولمة، وذلك لسبب بسيط، لكونها هي الرمز الأساسي لمجتمع المعلومات العالمي الذي انطلق من رحم المجتمع الصناعي، وتجاوزه إلى آفاق بعيدة.
وقد دارت حول العولمة معركة فكرية كبرى بين أنصارها من مدرسة "الليبرالية الجديدة" سواء كانوا مثقفين غربيين أم عرباً، وخصومها من المثقفين الغربيين والعرب أيضاً.
غير أن المعركة لم تقتصر على كونها معركة فكرية، ولكنها تجاوزت ذلك لتكون معركة سياسية أيضاً، دارت في جنبات مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، والتي هي الرمز الحقيقي للعولمة الاقتصادية.
هذه المعركة السياسية التي تدور رحاها في كل مؤتمرات المنظمة بين الدول الصناعية المتقدمة المتحكمة في سياسات العولمة وتطبيقاتها، وبين الدول النامية التي تكافح حتى لا تكون مجرد ضحايا للعولمة، لم تقف عند حدود المؤتمرات التي تجمع ممثلي الدول المختلفة، ولكنها تعدت ذلك لتصبح إحدى المعارك الأساسية التي تخوضها مؤسسات المجتمع المدني العالمي، والتي نجحت في تنظيم تظاهرات سياسية ومؤتمرات مضادة وخصوصاً في بورتو أليجيري بالبرازيل وديربان بجنوب أفريقيا.
ويبقى السؤال: ما هو جوهر هذه المعركة المشتعلة بين أنصار العولمة وخصومها؟
جوهر المعركة ببساطة يدور حول احتكار الدول الصناعية الكبرى لمزايا العولمة والسوق الكوني المفتوح، وفي نفس الوقت تحكم نظام سلطوي استبدادي في صنع القرار الاقتصادي والتنموي، حتى لو عارضته غالبية الدول النامية. ويعني ذلك أنه في الوقت الذي تنادى فيه العولمة السياسية بشعارات الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، فإن العولمة الاقتصادية تقضي عملياً على كل هذه الشعارات بسياسات الأمر الواقع المفروض على الدول النامية.
ولذلك تشكلت عديد من المنابر الفكرية في الغرب في محاولة منها لصياغة مبادرة تكفل تحقيق الديمقراطية داخل دائرة صنع القرار الاقتصادي والتنموي. بعبارة أخرى السؤال المطروح كيف يمكن "مقرطة" العولمة الاقتصادية.
وهذا السؤال يطرح مشكلة أخرى لصيقة بسلبيات العولمة وهي التي تتعلق بالجشع الشديد للشركات العابرة للقارات في مجال جني الأرباح على حساب المستهلكين عموماً، وعلى حساب الدول النامية خصوصاً.
وفي هذا المجال يمكن رصد السياسة المنهجية التي تتبعها هذه الشركات في الغزو الاقتصادي المنظم لأسواق البلاد النامية، محمية في ذلك بالنصوص المجحفة الواردة في نصوص معاهدة منظمة التجارة العالمية، والتي وضعت في الحقيقة تحت ضغوط واضحة من الدول الصناعية المتقدمة وضد مصالح الدول النامية. وإذا نظرنا للعولمة من زاوية التعريف الإجرائي لها والذي مبناه أنها "سرعة تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأفكار والبشر بغير حدود أو قيود". فإن مخاطرها على اقتصادات الدول النامية وخصوصاً الضعيفة اقتصادياً تصبح بادية للعيان.
فالسلع تتدفق من الدول الصناعية المتقدمة إلى الدول النامية بصورة لا تتيح لسلع هذه الدول أن تنافس بشكل متكافئ معها. بل إن هذه الدول الصناعية المتقدمة ومنها دول الاتحاد الأوروبي أحياناً ما تأخذ موقفاً تمييزياً صريحاً ضد استيراد السلع من الدول النامية، من خلال تعلاّت شتى من بينها نقص الجودة، أو عيوب التصنيع. بل إن بعض الدول الأوروبية ترفض بعض السلع على أساس أنها تتضمن "عمالة الأطفال"، وهذا يعد خرقاً لحقوق الإنسان.
أما تدفق الخدمات، فإنه يمكن أن يمثل خطورة خاصة بالنسبة لضعف مستوى المؤسسات الخدمية الوطنية في عديد من البلاد، إذا ما قورنت بارتفاع مستوى هذه المؤسسات في البلاد المتقدمة.
وفيما يتعلق برؤوس الأموال الأجنبية واستثماراتها في الدول النامية، فإن أصحاب هذه الأموال لا تعنيهم على وجه الإطلاق مسألة المسؤولية الاجتماعية لرأس المال، لأن كل ما يشغلهم هو جني أكبر قدر من الأرباح وتحويله إلى الخارج، وبغض النظر عن نقل الخبرة التكنولوجية المتقدمة إلى هذه البلاد.
أما تدفق الأفكار بغير حدود فهو يثير قضايا في منتهى الخطورة، أبرزها أنه يتم في مرحلة تاريخية يعاد فيها "إنتاج المركزية الغربية" التي كانت تدعي أن القيم الغربية أسمى من غيرها من القيم، وهي بالتالي التي ينبغي أن تكون لها المرجعية في موضوعات التخلف والتقدم. بعبارة أخرى ما تراه هذه المركزية الغربية أنها ظواهر متخلفة تصبح كذلك حتى لو كانت هذه الظواهر تمثل نوعاً من أنواع التقدم بالنسبة لبلادنا ووفقاً لثقافتنا، التي لا تقل كفاءة أو جدارة حضارية عن غيرها من الثقافات. وكذلك ما تعتبر الثقافة الغربية أنه تقدم تريد أن تفرضه علينا باعتباره كذلك، بالرغم من أن ثقافتنا قد تعتبره قمة في التخلف الحضاري. فعلى سبيل المثال تعتبر الثقافة الغربية المعاصرة أن تقنين الزواج المثلي نوع من أنواع التقدم، مع أن ذلك مرفوض لدينا ثقافياً. والأخطر من ذلك أن تحاول بعض الدول الغربية أن تفرض في هذا الموضوع وما شابهه مثل تقنين وضع أصحاب السلوك الجنسي الشاذ، قيمها الخاصة باعتبارها من حقوق الإنسان.
ومن هنا يمكن القول إن رفض العولمة له أسباب اقتصادية تتمثل في عدم تحقيق العدالة بين الدول الداخلة في فلكها، وله أسباب سياسية في محاولة فرض النظام السياسي الليبرالي بالقوة بغض النظر عن بعض التمايزات، وله أسباب ثقافية ترد إلى محاولة فرض القيم الثقافية الغربية وتجاهل الخصوصيات الثقافية.
وإذا كانت المعركة مازالت دائرة بين أنصار العولمة وخصومها سواء على المستوى العالمي أو على صعيد الدول النامية بين السياسيين والنخب الثقافية، فقد ينشأ سؤال مؤداه: وهل هناك بديل للعولمة؟ سؤال يستحق أن نحاول الإجابة عليه في المستقبل، من خلال استعراضنا لبعض النظريات البديلة التي تحاول تغيير الرأسمالية المتوحشة الراهنة إلى تنمية مستدامة لها وجه إنساني.