صلح وَسْتفاليا — نقطة تحوّل في تاريخ اوروپا
مرسل: الاثنين يوليو 22, 2013 6:49 pm
صلح وَسْتفاليا — نقطة تحوّل في تاريخ اوروپا
«ان اجتماع هذا العدد الكبير من رؤساء الدول الاوروپية هنا اليوم هو بالتأكيد حدَث استثنائي». تفوه بهذه الكلمات رومان هرتسوڠ، الرئيس السابق لجمهورية المانيا الاتحادية، في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٩٨. والاجتماع الذي اشار اليه كان حدثا بالغ الاهمية في تاريخ المانيا العصرية التي كان قد مضى على وجودها ٥٠ سنة. لقد جرى هذا الحدث برعاية مجلس اوروپا. وحضره اربعة ملوك، اربع ملكات، اميران، غراندوق، وعدة رؤساء. فماذا كانت المناسبة؟
احتُفِل في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٩٨ بالذكرى الـ ٣٥٠ لتوقيع معاهدة صلح وستفاليا. وفي كثير من الاحيان، تشكّل اتفاقيات السلام نقاط تحوّل في التاريخ. ويمكن القول ان معاهدة وستفاليا هي نقطة تحوّل استثنائية. فقد أنهى توقيعها سنة ١٦٤٨ حرب الاعوام الثلاثين، ووسم ولادة قارة اوروپا العصرية المؤلفة من دول ذات سيادة.
نظام قديم يتزعزع
خلال القرون الوسطى، سادت اوروپا قوتان عظميان هما: الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والامبراطورية الرومانية المقدسة. وقد تألفت الامبراطورية من مئات الامارات المتعددة الاحجام التي امتدت على مساحة تشغلها حاليا المانيا، الجمهورية التشيكية، سويسرا، شرقي فرنسا، النمسا، البلدان المنخفضة، وأجزاء من ايطاليا. وبما ان الامارات الالمانية شكَّلت الجزء الاكبر من الامبراطورية، فقد عُرِفت هذه آنذاك باسم الامبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة. وتمتعت كل امارة بشبه استقلال ذاتي تحت حكم امير. وكان الامبراطور نفسه كاثوليكيا رومانيا من اسرة هابسبورڠ النمساوية. وبسبب تولّي النظام البابوي والامبراطورية الرومانية زمام السلطة، كان الدين الكاثوليكي الروماني القوة المهيمنة في اوروپا.
ولكن في القرنين الـ ١٦ والـ ١٧، تزعزع هذا النظام القائم. ففي كل انحاء اوروپا، ساد استياء شديد من تجاوزات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فدعا المصلحون الدينيون، امثال مارتن لوثر وجون كالڤن، الى العودة الى قيم الكتاب المقدس. فلقي لوثر وكالڤن دعما واسع النطاق، وأدّت نشاطاتهما الى نشوء الاصلاح وتشكُّل الفئات الپروتستانتية. فقسَّم الاصلاح الامبراطورية الى ثلاثة اديان: الكاثوليكية، اللوثرية، والكالڤنية.
نظر الكاثوليك الى الپروتستانت نظرة ارتياب، وازدرى الپروتستانت بمنافسيهم الكاثوليك. فنجم عن ذلك قيام الاتحاد الپروتستانتي والعصبة الكاثوليكية في مستهل القرن السابع عشر. وانقسم الأمراء الى قسمين: قسم يؤيد الاتحاد وآخر العصبة. وبسبب جوّ الشك والارتياب السائد آنذاك، شابهت اوروپا برميلا من البارود ينتظر شرارة صغيرة ليشتعل. وعندما أُطلقت هذه الشرارة اخيرا، اشتعلت نار الحرب ودامت ٣٠ عاما.
شرارة مميتة تشعل نار الحرب في اوروپا
حاول الحكام الپروتستانت ان يضغطوا على اسرة هابسبورڠ الكاثوليكية بغية نيل المزيد من حرية العبادة. فقُدِّمت لهم بعض التنازلات على مضض. ص٢١وفي السنتين ١٦١٧-١٦١٨، أُقفلت عنوة كنيستان لوثريتان في بوهيميا بالجمهورية التشيكية. فاغتاظ أعيان الپروتستانت واقتحموا قصرا في پراڠ وقبضوا على ثلاثة رسميين كاثوليك وألقوا بهم من احدى نوافذ القصر. فكانت هذه الحادثة الشرارة التي اشعلت نار الحرب في اوروپا.
ورغم ان اعضاء الاديان المتعارضة هؤلاء هم أتباع رئيس السلام يسوع المسيح كما يُفترَض، فقد كان كل منهم يمسك بخناق الآخر. (اشعياء ٩:٦) وفي معركة الجبل الابيض، مُني الاتحاد بهزيمة نكراء على يد أتباع العصبة، الامر الذي ادّى الى حلّ الاتحاد. كما أُعدم بعض نبلاء الپروتستانت في ساحة پراڠ. وفي كل انحاء بوهيميا، صودِرت أملاك الپروتستانت الذين لم ينكروا ايمانهم واقتسمها الكاثوليك في ما بينهم. يصف كتاب ١٦٤٨: الحرب والسِّلم في اوروپا (بالالمانية) مصادرة الاملاك هذه بأنها «احد اكبر التغييرات في المِلكية التي شهدتها اوروپا الوسطى».
تفاقم النزاع الديني الذي بدأ في بوهيميا وتحوَّل الى صراع عالمي في سبيل السيادة. وفي السنوات الثلاثين التالية، انجرفت في تيار الحرب اسپانيا، الدانمارك، السويد، فرنسا، وهولندا. وبدافع الطمع والسعي وراء السلطة، قام الحكام الكاثوليك والپروتستانت بالمناورات طلبا للنفوذ السياسي والربح المادي. وقُسمت حرب الاعوام الثلاثين الى مراحل سُمّي كل منها باسم الخصم الرئيسي للامبراطور. وبحسب عدة مراجع، شملت هذه الحرب اربع مراحل هي: الحرب البوهيمية والبلاطينية، حرب الدانمارك وساكسونيا السفلى، الحرب السويدية، والحرب الفرنسية السويدية. وقد جرى القتال في معظمه على اراضي الامبراطورية.
اشتملت اسلحة ذلك الزمان على المسدسات والبنادق والمدافع، كمدافع الهاون. وكانت السويد المصدر الرئيسي للأسلحة. وبات الكاثوليك والپروتستانت متورطين في النزاع. وفي ساحة المعركة، كان جنود احد الطرفين يصيحون: «يا قديسة مريم»، فيما يهتف جنود الطرف الآخر: «الله معنا». وكانت الجيوش تسرق وتنهب في طريقها عبر الامارات الالمانية. كما عامل المتحاربون اعداءهم العسكريين والمدنيين معاملة وحشية، فتحوَّل النزاع الى حرب بربرية. كم يتباين ذلك مع نبوة الكتاب المقدس: «لا ترفع امة على امة سيفا ولا يتعلمون الحرب في ما بعد»! — ميخا ٤:٣.
في تلك الحقبة، نشأ الجيل الالماني الجديد في بيئة تسودها الحرب. وسئم الناس من النزاع وباتوا يتوقون الى السلام. لكنَّ السلام لم يكن يتحقق بسبب مصالح الحكام السياسية المتضاربة. ومع الوقت، فقدت الحرب طابعها الديني وطغى عليها الطابع السياسي. ومن المثير للسخرية ان الرجل الذين احدث هذا التغيير هو مسؤول رفيع المستوى في الكنيسة الكاثوليكية.
الكردينال ريشيليو يمارس سلطته
كان اللقب الرسمي لآرمان جان دو پْليسي هو الكردينال ريشيليو. وقد شغل منصب رئيس وزراء فرنسا ص٢٢بين العامين ١٦٢٤ و ١٦٤٢. اراد ريشيليو ان يجعل من فرنسا القوة العظمى في اوروپا. وفي سعيه الى تحقيق هذه الغاية، حاول ريشيليو ان يقلّص سلطة اخوته في الايمان، آل هابسبورڠ الكاثوليكيين. كيف؟ بتمويل الجيوش الپروتستانتية في الامارات الالمانية وفي الدانمارك والسويد وهولندا، التي كانت بأجمعها في حرب مع آل هابسبورڠ.
وفي سنة ١٦٣٥، أرسل ريشيليو الجيوش الفرنسية لأول مرة الى ساحة المعركة. يوضح كتاب ليحيَ السلام (بالالمانية) انه في المرحلة الاخيرة، «لم تعد حرب الاعوام الثلاثين نزاعا بين فئات دينية. . . . فقد تحوَّلت الى صراع سياسي من اجل السيادة في اوروپا». فما بدأ كخلاف ديني بين الكاثوليك والپروتستانت اصبح صراعا بين الكاثوليك والپروتستانت من جهة، والكاثوليك من جهة اخرى. وفي اوائل ثلاثينات الـ ١٦٠٠، ضعفت العصبة الكاثوليكية. ثم انحلّت سنة ١٦٣٥.
مؤتمر السلام في وستفاليا
كانت اوروپا خربة تقريبا بسبب السرقة والقتل والاغتصاب والامراض. ومع الوقت، شعر كثيرون بتوق شديد الى السلام بعد ان ادركوا ان لا منتصر في هذه الحرب. يذكر كتاب ليحيَ السلام: «في اواخر ثلاثينات الـ ١٦٠٠، ادرك الامراء اخيرا ان القوة العسكرية لن تحقق الهدف الذي يسعون اليه». ولكن كيف يمكن إحلال السلام الذي تاق اليه الجميع؟
اتّفق فرديناند الثالث الذي حكم الامبراطورية الرومانية المقدسة، لويس الثالث عشر ملك فرنسا، وكريستينا ملكة السويد على وجوب عقد مؤتمر يجتمع فيه كل الاطراف للتفاوض حول شروط السلام. واختير موقعان لإجراء المحادثات: مدينتا اوزنابروك ومونستر في مقاطعة وستفاليا الالمانية. ويُعزى اختيار هاتين المدينتين الى وقوعهما في منتصف الطريق بين عاصمتَي السويد وفرنسا. وفي السنة ١٦٤٣، بدأ نحو ١٥٠ وفدا يتقاطرون الى المدينتين، واصطحب البعض منهم عددا كبيرا من المستشارين. وقد اجتمع المبعوثون الكاثوليك في مونستر، والمندوبون الپروتستانت في اوزنابروك.
في البداية، وُضعت قواعد للسلوك بغية تحديد ألقاب ومراتب المبعوثين، نظام الجلوس، والاجراءات الاخرى. ثم ابتدأت محادثات السلام، وكانت الاقتراحات تمرَّر من وفد الى آخر من خلال الوسطاء. وبعد نحو خمس سنوات كانت خلالها الحرب محتدمة، توصَّل الافرقاء الى اتفاق حول شروط السلام. وقد تضمنت معاهدة وستفاليا اكثر من وثيقة واحدة. فثمة وثيقة وقَّعها الامبراطور فرديناند الثالث مع السويد وأخرى مع فرنسا.
مع انتشار اخبار المعاهدة، بدأت الاحتفالات تُقام. فالحرب التي اشعلتها شرارة مميتة، انتهت بالشرار المتطاير من الالعاب النارية التي اضاءت سماء العديد من المدن. ودقّت اجراس الكنائس ودوَّت اصوات المدافع احتفاء بالسلام، كما سُمعت الاناشيد في الشوارع. فهل كانت اوروپا ستنعم بالسلام الدائم؟
هل يمكن إحلال السلام الدائم؟
اقرّت معاهدة وستفاليا بمبدإ السيادة. وعنى ذلك ان كل الذين وقَّعوا المعاهدة وافقوا على احترام الحدود الجغرافية لباقي الاطراف وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية. فوُلدت آنذاك قارة اوروپا العصرية المؤلفة من دول ذات سيادة. لكنَّ بعض الدول استفادت من المعاهدة اكثر من غيرها.
اصبحت فرنسا قوة عظمى، وحازت هولندا وسويسرا كلاهما على الاستقلال. لكنَّ سلبيات ص٢٣المعاهدة انعكست على الامارات الالمانية التي دمَّرت الحرب العديد منها. فقد باتت دول اخرى تتحكم الى حد بعيد بمصير المانيا. تذكر دائرة المعارف البريطانية الجديدة: «خسائر وأرباح الامراء الالمان حدَّدتها مصالح القوى الرئيسية: فرنسا، السويد، والنمسا». وبدل ان تتوحَّد هذه الامارات في امة واحدة، بقيت مقسَّمة كما في السابق. بالاضافة الى ذلك، فقد وُضعت بعض مناطق المانيا تحت سيطرة حكام اجانب، وكذلك اجزاء من الانهر الالمانية الرئيسية: الرين، ألْبَه، وأودَر.
اعتُرف بالاديان الكاثوليكية واللوثرية والكالڤنية على حد سواء، الامر الذي لم يُرضِ الجميع. فقد عارض البابا إينوسنت العاشر المعاهدة معارضة شديدة واعتبرها باطلة وغير شرعية. لكنَّ حدود المناطق التي يسيطر عليها كل من هذه الاديان لم تتغير طوال ثلاثة قرون. ورغم ان حرية الفرد الدينية لم تتحقق، فقد غدت اقرب من ذي قبل.
أنهت المعاهدة حرب الاعوام الثلاثين، وانتهت معها معظم الاعتداءات. فكان هذا الصراع آخر حرب دينية كبرى في اوروپا. غير ان الحروب لم تنتهِ، بل تحوَّل الدافع اليها من ديني الى سياسي او تجاري. لكنَّ هذا لا يعني ان الدين لم يعد له دور في الاعمال العدوانية في اوروپا. ففي الحربين العالميتين الاولى والثانية، لبس الجنود الالمان احزمة نُقشت على إبزيمها العبارة المألوفة: «الله معنا». وخلال هذين الصراعين المريرين، تكاتف الكاثوليك والپروتستانت معا ليحاربوا اخوتهم الكاثوليك والپروتستانت في الطرف المعادي.
فمن الواضح اذًا ان معاهدة وستفاليا لم تحقق السلام الدائم. لكنَّ البشر الطائعين سينعمون قريبا بهذا السلام. فسيجلب يهوه الله سلاما ابديا للجنس البشري بواسطة الملكوت المسياني برئاسة ابنه يسوع المسيح. وفي ظل هذه الحكومة، سيكون الدين الحقيقي قوة موحِّدة، لا مقسِّمة. ولن يشترك احد في الحرب لأي سبب، سواء كان دينيا او غير ذلك. فكم سيرتاح البشر حين يبسط الملكوت سيطرته على كل الارض! فحينئذ ‹لن يكون للسلام نهاية›.
«ان اجتماع هذا العدد الكبير من رؤساء الدول الاوروپية هنا اليوم هو بالتأكيد حدَث استثنائي». تفوه بهذه الكلمات رومان هرتسوڠ، الرئيس السابق لجمهورية المانيا الاتحادية، في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٩٨. والاجتماع الذي اشار اليه كان حدثا بالغ الاهمية في تاريخ المانيا العصرية التي كان قد مضى على وجودها ٥٠ سنة. لقد جرى هذا الحدث برعاية مجلس اوروپا. وحضره اربعة ملوك، اربع ملكات، اميران، غراندوق، وعدة رؤساء. فماذا كانت المناسبة؟
احتُفِل في تشرين الاول (اكتوبر) ١٩٩٨ بالذكرى الـ ٣٥٠ لتوقيع معاهدة صلح وستفاليا. وفي كثير من الاحيان، تشكّل اتفاقيات السلام نقاط تحوّل في التاريخ. ويمكن القول ان معاهدة وستفاليا هي نقطة تحوّل استثنائية. فقد أنهى توقيعها سنة ١٦٤٨ حرب الاعوام الثلاثين، ووسم ولادة قارة اوروپا العصرية المؤلفة من دول ذات سيادة.
نظام قديم يتزعزع
خلال القرون الوسطى، سادت اوروپا قوتان عظميان هما: الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والامبراطورية الرومانية المقدسة. وقد تألفت الامبراطورية من مئات الامارات المتعددة الاحجام التي امتدت على مساحة تشغلها حاليا المانيا، الجمهورية التشيكية، سويسرا، شرقي فرنسا، النمسا، البلدان المنخفضة، وأجزاء من ايطاليا. وبما ان الامارات الالمانية شكَّلت الجزء الاكبر من الامبراطورية، فقد عُرِفت هذه آنذاك باسم الامبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة. وتمتعت كل امارة بشبه استقلال ذاتي تحت حكم امير. وكان الامبراطور نفسه كاثوليكيا رومانيا من اسرة هابسبورڠ النمساوية. وبسبب تولّي النظام البابوي والامبراطورية الرومانية زمام السلطة، كان الدين الكاثوليكي الروماني القوة المهيمنة في اوروپا.
ولكن في القرنين الـ ١٦ والـ ١٧، تزعزع هذا النظام القائم. ففي كل انحاء اوروپا، ساد استياء شديد من تجاوزات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فدعا المصلحون الدينيون، امثال مارتن لوثر وجون كالڤن، الى العودة الى قيم الكتاب المقدس. فلقي لوثر وكالڤن دعما واسع النطاق، وأدّت نشاطاتهما الى نشوء الاصلاح وتشكُّل الفئات الپروتستانتية. فقسَّم الاصلاح الامبراطورية الى ثلاثة اديان: الكاثوليكية، اللوثرية، والكالڤنية.
نظر الكاثوليك الى الپروتستانت نظرة ارتياب، وازدرى الپروتستانت بمنافسيهم الكاثوليك. فنجم عن ذلك قيام الاتحاد الپروتستانتي والعصبة الكاثوليكية في مستهل القرن السابع عشر. وانقسم الأمراء الى قسمين: قسم يؤيد الاتحاد وآخر العصبة. وبسبب جوّ الشك والارتياب السائد آنذاك، شابهت اوروپا برميلا من البارود ينتظر شرارة صغيرة ليشتعل. وعندما أُطلقت هذه الشرارة اخيرا، اشتعلت نار الحرب ودامت ٣٠ عاما.
شرارة مميتة تشعل نار الحرب في اوروپا
حاول الحكام الپروتستانت ان يضغطوا على اسرة هابسبورڠ الكاثوليكية بغية نيل المزيد من حرية العبادة. فقُدِّمت لهم بعض التنازلات على مضض. ص٢١وفي السنتين ١٦١٧-١٦١٨، أُقفلت عنوة كنيستان لوثريتان في بوهيميا بالجمهورية التشيكية. فاغتاظ أعيان الپروتستانت واقتحموا قصرا في پراڠ وقبضوا على ثلاثة رسميين كاثوليك وألقوا بهم من احدى نوافذ القصر. فكانت هذه الحادثة الشرارة التي اشعلت نار الحرب في اوروپا.
ورغم ان اعضاء الاديان المتعارضة هؤلاء هم أتباع رئيس السلام يسوع المسيح كما يُفترَض، فقد كان كل منهم يمسك بخناق الآخر. (اشعياء ٩:٦) وفي معركة الجبل الابيض، مُني الاتحاد بهزيمة نكراء على يد أتباع العصبة، الامر الذي ادّى الى حلّ الاتحاد. كما أُعدم بعض نبلاء الپروتستانت في ساحة پراڠ. وفي كل انحاء بوهيميا، صودِرت أملاك الپروتستانت الذين لم ينكروا ايمانهم واقتسمها الكاثوليك في ما بينهم. يصف كتاب ١٦٤٨: الحرب والسِّلم في اوروپا (بالالمانية) مصادرة الاملاك هذه بأنها «احد اكبر التغييرات في المِلكية التي شهدتها اوروپا الوسطى».
تفاقم النزاع الديني الذي بدأ في بوهيميا وتحوَّل الى صراع عالمي في سبيل السيادة. وفي السنوات الثلاثين التالية، انجرفت في تيار الحرب اسپانيا، الدانمارك، السويد، فرنسا، وهولندا. وبدافع الطمع والسعي وراء السلطة، قام الحكام الكاثوليك والپروتستانت بالمناورات طلبا للنفوذ السياسي والربح المادي. وقُسمت حرب الاعوام الثلاثين الى مراحل سُمّي كل منها باسم الخصم الرئيسي للامبراطور. وبحسب عدة مراجع، شملت هذه الحرب اربع مراحل هي: الحرب البوهيمية والبلاطينية، حرب الدانمارك وساكسونيا السفلى، الحرب السويدية، والحرب الفرنسية السويدية. وقد جرى القتال في معظمه على اراضي الامبراطورية.
اشتملت اسلحة ذلك الزمان على المسدسات والبنادق والمدافع، كمدافع الهاون. وكانت السويد المصدر الرئيسي للأسلحة. وبات الكاثوليك والپروتستانت متورطين في النزاع. وفي ساحة المعركة، كان جنود احد الطرفين يصيحون: «يا قديسة مريم»، فيما يهتف جنود الطرف الآخر: «الله معنا». وكانت الجيوش تسرق وتنهب في طريقها عبر الامارات الالمانية. كما عامل المتحاربون اعداءهم العسكريين والمدنيين معاملة وحشية، فتحوَّل النزاع الى حرب بربرية. كم يتباين ذلك مع نبوة الكتاب المقدس: «لا ترفع امة على امة سيفا ولا يتعلمون الحرب في ما بعد»! — ميخا ٤:٣.
في تلك الحقبة، نشأ الجيل الالماني الجديد في بيئة تسودها الحرب. وسئم الناس من النزاع وباتوا يتوقون الى السلام. لكنَّ السلام لم يكن يتحقق بسبب مصالح الحكام السياسية المتضاربة. ومع الوقت، فقدت الحرب طابعها الديني وطغى عليها الطابع السياسي. ومن المثير للسخرية ان الرجل الذين احدث هذا التغيير هو مسؤول رفيع المستوى في الكنيسة الكاثوليكية.
الكردينال ريشيليو يمارس سلطته
كان اللقب الرسمي لآرمان جان دو پْليسي هو الكردينال ريشيليو. وقد شغل منصب رئيس وزراء فرنسا ص٢٢بين العامين ١٦٢٤ و ١٦٤٢. اراد ريشيليو ان يجعل من فرنسا القوة العظمى في اوروپا. وفي سعيه الى تحقيق هذه الغاية، حاول ريشيليو ان يقلّص سلطة اخوته في الايمان، آل هابسبورڠ الكاثوليكيين. كيف؟ بتمويل الجيوش الپروتستانتية في الامارات الالمانية وفي الدانمارك والسويد وهولندا، التي كانت بأجمعها في حرب مع آل هابسبورڠ.
وفي سنة ١٦٣٥، أرسل ريشيليو الجيوش الفرنسية لأول مرة الى ساحة المعركة. يوضح كتاب ليحيَ السلام (بالالمانية) انه في المرحلة الاخيرة، «لم تعد حرب الاعوام الثلاثين نزاعا بين فئات دينية. . . . فقد تحوَّلت الى صراع سياسي من اجل السيادة في اوروپا». فما بدأ كخلاف ديني بين الكاثوليك والپروتستانت اصبح صراعا بين الكاثوليك والپروتستانت من جهة، والكاثوليك من جهة اخرى. وفي اوائل ثلاثينات الـ ١٦٠٠، ضعفت العصبة الكاثوليكية. ثم انحلّت سنة ١٦٣٥.
مؤتمر السلام في وستفاليا
كانت اوروپا خربة تقريبا بسبب السرقة والقتل والاغتصاب والامراض. ومع الوقت، شعر كثيرون بتوق شديد الى السلام بعد ان ادركوا ان لا منتصر في هذه الحرب. يذكر كتاب ليحيَ السلام: «في اواخر ثلاثينات الـ ١٦٠٠، ادرك الامراء اخيرا ان القوة العسكرية لن تحقق الهدف الذي يسعون اليه». ولكن كيف يمكن إحلال السلام الذي تاق اليه الجميع؟
اتّفق فرديناند الثالث الذي حكم الامبراطورية الرومانية المقدسة، لويس الثالث عشر ملك فرنسا، وكريستينا ملكة السويد على وجوب عقد مؤتمر يجتمع فيه كل الاطراف للتفاوض حول شروط السلام. واختير موقعان لإجراء المحادثات: مدينتا اوزنابروك ومونستر في مقاطعة وستفاليا الالمانية. ويُعزى اختيار هاتين المدينتين الى وقوعهما في منتصف الطريق بين عاصمتَي السويد وفرنسا. وفي السنة ١٦٤٣، بدأ نحو ١٥٠ وفدا يتقاطرون الى المدينتين، واصطحب البعض منهم عددا كبيرا من المستشارين. وقد اجتمع المبعوثون الكاثوليك في مونستر، والمندوبون الپروتستانت في اوزنابروك.
في البداية، وُضعت قواعد للسلوك بغية تحديد ألقاب ومراتب المبعوثين، نظام الجلوس، والاجراءات الاخرى. ثم ابتدأت محادثات السلام، وكانت الاقتراحات تمرَّر من وفد الى آخر من خلال الوسطاء. وبعد نحو خمس سنوات كانت خلالها الحرب محتدمة، توصَّل الافرقاء الى اتفاق حول شروط السلام. وقد تضمنت معاهدة وستفاليا اكثر من وثيقة واحدة. فثمة وثيقة وقَّعها الامبراطور فرديناند الثالث مع السويد وأخرى مع فرنسا.
مع انتشار اخبار المعاهدة، بدأت الاحتفالات تُقام. فالحرب التي اشعلتها شرارة مميتة، انتهت بالشرار المتطاير من الالعاب النارية التي اضاءت سماء العديد من المدن. ودقّت اجراس الكنائس ودوَّت اصوات المدافع احتفاء بالسلام، كما سُمعت الاناشيد في الشوارع. فهل كانت اوروپا ستنعم بالسلام الدائم؟
هل يمكن إحلال السلام الدائم؟
اقرّت معاهدة وستفاليا بمبدإ السيادة. وعنى ذلك ان كل الذين وقَّعوا المعاهدة وافقوا على احترام الحدود الجغرافية لباقي الاطراف وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية. فوُلدت آنذاك قارة اوروپا العصرية المؤلفة من دول ذات سيادة. لكنَّ بعض الدول استفادت من المعاهدة اكثر من غيرها.
اصبحت فرنسا قوة عظمى، وحازت هولندا وسويسرا كلاهما على الاستقلال. لكنَّ سلبيات ص٢٣المعاهدة انعكست على الامارات الالمانية التي دمَّرت الحرب العديد منها. فقد باتت دول اخرى تتحكم الى حد بعيد بمصير المانيا. تذكر دائرة المعارف البريطانية الجديدة: «خسائر وأرباح الامراء الالمان حدَّدتها مصالح القوى الرئيسية: فرنسا، السويد، والنمسا». وبدل ان تتوحَّد هذه الامارات في امة واحدة، بقيت مقسَّمة كما في السابق. بالاضافة الى ذلك، فقد وُضعت بعض مناطق المانيا تحت سيطرة حكام اجانب، وكذلك اجزاء من الانهر الالمانية الرئيسية: الرين، ألْبَه، وأودَر.
اعتُرف بالاديان الكاثوليكية واللوثرية والكالڤنية على حد سواء، الامر الذي لم يُرضِ الجميع. فقد عارض البابا إينوسنت العاشر المعاهدة معارضة شديدة واعتبرها باطلة وغير شرعية. لكنَّ حدود المناطق التي يسيطر عليها كل من هذه الاديان لم تتغير طوال ثلاثة قرون. ورغم ان حرية الفرد الدينية لم تتحقق، فقد غدت اقرب من ذي قبل.
أنهت المعاهدة حرب الاعوام الثلاثين، وانتهت معها معظم الاعتداءات. فكان هذا الصراع آخر حرب دينية كبرى في اوروپا. غير ان الحروب لم تنتهِ، بل تحوَّل الدافع اليها من ديني الى سياسي او تجاري. لكنَّ هذا لا يعني ان الدين لم يعد له دور في الاعمال العدوانية في اوروپا. ففي الحربين العالميتين الاولى والثانية، لبس الجنود الالمان احزمة نُقشت على إبزيمها العبارة المألوفة: «الله معنا». وخلال هذين الصراعين المريرين، تكاتف الكاثوليك والپروتستانت معا ليحاربوا اخوتهم الكاثوليك والپروتستانت في الطرف المعادي.
فمن الواضح اذًا ان معاهدة وستفاليا لم تحقق السلام الدائم. لكنَّ البشر الطائعين سينعمون قريبا بهذا السلام. فسيجلب يهوه الله سلاما ابديا للجنس البشري بواسطة الملكوت المسياني برئاسة ابنه يسوع المسيح. وفي ظل هذه الحكومة، سيكون الدين الحقيقي قوة موحِّدة، لا مقسِّمة. ولن يشترك احد في الحرب لأي سبب، سواء كان دينيا او غير ذلك. فكم سيرتاح البشر حين يبسط الملكوت سيطرته على كل الارض! فحينئذ ‹لن يكون للسلام نهاية›.