- الثلاثاء يوليو 23, 2013 12:57 am
#64044
دور الإقليم القاعدة في تجارب التاريخ الوحدوية.
.إننا كدعاة منهج علمي في دراسة ظواهر الاجتماع وأحداث التاريخ، نؤمن أو يفترض بنا إن نؤمن بأن هذه الظواهر والأحداث تتميز، أولاً، بموضوعية مستقلة عن الإرادة الفردية، وثانياً، بأن هذه الموضوعية تكشف عن ذاتها في قوانين أو اتجاهات عامة تسودها وتوجه سيرها.....
الفكر الوحدوي العربي كان بعيداً عن هذا المنطلق العلمي، يعمل في دنيا غريبة عنه، فكان بالتالي فكراً تأملياً تبشيرياً، لأنه أهمل، في أحكامه ومواقفه، الظاهرة الوحدوية، كما تعبر عن ذاتها في موضوعيتها التاريخية، أي في تجارب التاريخ الوحدوية. إننا لسنا أول مجتمع يحاول الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة، وكان يجب على الفكر الوحدوي، إن صحت علميته، إن يعود إلى المجتمعات التاريخية – وهي عديدة جداً – التي حققت انتقالاً من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية، أو التي انتقلت فيها كيانات سياسية مستقلة إلى كيان واحد موحد، فيدرسها ويحاول إن يكشف فيها عن الاتجاهات العامة الواحدة التي كانت تعيد ذاتها في هذه العملية (process) الانتقالية الوحدوية، ومن ثم يعتمدها، يرجع إليها ويعمل بوحيها في نضاله نحو الدولة الواحدة. بدلاً من ذلك، كأن الفكر الوحدوي ينطلق، فيما يتعلق بالطريق إلى الوحدة، من رغبات مجردة، مما ((يجب إن يكون)) دون إن يربط ذلك بما ((يمكن إن يكون)).
الفكر الوحدوي كان فاشلاً حتى الآن في التسجيل وأحداث أية خطوة وحدوية ثابتة، لأنه كان فكراً خاطئاً يعود خطأه إلى عجزه عن إدراك الموضوعية المستقلة، التي تميز العملية الوحدوية، أي عملية الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة. هذا الفكر لم يدلل، في الواقع، حتى الآن، على أنه يعي ضرورة هذا النوع من الإدراك، أو حتى وجوده ودوره. العمل الوحدوي يحتاج إذن إلى فكر وحدوي جديد يتميز، أول ما يتميز بنظرة شاملة للوضع الإقليمي وكيفية تجاوزه نحو دولة الوحدة، وذلك في ضوء نظرية عامة جامعة لتجارب التاريخ الوحدوية.
الأجوبة التي تقدمها أية نظرية تتحدد بقدر كبير، وفي بعض الأحيان تتقرر، بنوع الأسئلة التي تطرحها. الإجابات الوحدوية التي كان يقدمها الفكر الوحدوي لم تطرح حتى الآن السؤال الأساسي الذي يمكن إن يؤدي إلى الإجابة الصحيحة وهو كيف تنتقل مجتمعات مجزأة أو كيانات سياسية مستقلة عبر التاريخ من حالة تجزئة إلى حالة وحدة؟.. إن كانت الظواهر الاجتماعية والسياسية تتميز بموضوعية مستقلة تعبر عن ذاتها في اتجاهات أو قوانين معينة، فما هي إذن الاتجاهات أو القوانين التي كانت تكشف عنها هذه التجارب التاريخية الوحدوية؟.
العمل الوحدوي لا يستطيع إن يحقق قفزته الجذرية الثورية الكبيرة إلى دولة الوحدة دون إن تضيء طريقه نظرية وحدوية علمية من هذا النوع. المستقبل العربي سيكون مجتمعاً جديداً قوياً منيعاً، قادراً ليس فقط على مجاراة التاريخ بل على تقدمه وصنعه إن هو استطاع إن يتبلور في دولة الوحدة، أداة التعبئة والتوجيه لكافة موارده الإنسانية والمادية. ولكنه سيكون بربرية جديدة إن هو عجز عن تحقيق هذه الدولة، ولكن هذه الدولة ليست حتمية تشتق من وجودنا كأمة، بل هي احتمال يحتاج، فيما يحتاج إليه، إلى عمل وحدوي فعال يستطيع إن يدفع نحوها ويحققها، ولكن كي يمكن لهذا العمل إن يمارس هذه الفاعلية، يجب عليه اعتماد نظرية موضوعية علمية تحدد الطريق إلى الوحدة.
الطريق الوحيدة إلى هذه النظرية هي الكشف عن الاتجاهات الوحدوية الواحدة التي كانت تتكرر وتعين ذاتها في تجارب التاريخ الوحدوية.
توفر إقليم – قاعدة – أي إقليم ترتبط به وتتمحور حوله الجهود الوحدوية عبر المجتمع المجزأ، يمثل أحد الاتجاهات الأساسية الأولى التي كانت تسود هذه التجارب، مما يعني، بدوره، وجوب توفر إقليم من هذا النوع للعمل الوحدوي العربي إن أراد هذا العمل إن يكون فعالاً في نضاله نحو دولة الوحدة.
تاريخ فرنسا يوفر لنا أحد الأمثلة البارزة على دور الإقليم – القاعدة في عمليات التوحيد السياسي التاريخية. في القرون الوسطى نفسها كان المشرعون الملكيون يعلنون إن فرنسا هي الخليفة الشرعي لـ (غاليا) القديمة، وبالتالي من حقها المطالبة بحدود ((غاليا)) (Gaule) كما وصفها قيصر، أي الرين، والألب، والبيرينيه. هذا المبدأ كان تقليداً في السياسة الفرنسية الخارجية وجر أوربا إلى حروب كبيرة عديدة.
اسم ((فرنسا)) كان آنذاك يشمل فقط الأراضي المحيطة بباريس، والتي كانت تجد حدودها في خمسة أنهر تحيط بها. ولهذا كانت هذه الأراضي تسمى ((إيل دي فرانس)) أو جزيرة فرنسا. حول هذه الأرض تشكلت فرنسا الحالية، وكان ذلك ممكناً لأن ((إيل دي فرانس)) كانت تقوم بدور الإقليم – القاعدة الذي امتدت منه حركة توحيد استمرت تعمل قروناً عديدة بغية تحقيق حدود غاليا.
ضمن هذه الحدود أي حدود فرنسا الحالية، كان هناك عدد كبير من القوميات المختلفة، كما إن القوى القطرية المحلية كانت قوية جداً. فقد كان هناك مثلاًً تجمعات كبيرة من البريتون والباسك، ومجموعات فليمينكية وألمانية، كما كان هناك البروفنسال الذين كانوا يتكلمون لغة منفصلة، أقرب إلى القطلانية منها إلى الفرنسية.
حركة التوحيد التي كانت تمتد من إيل دي فرانس وتتمحور عليها كانت تجد باستمرار مقاطعات فرنسية تقف مع أعداء الفرنسيين وتحارب معهم ضد هؤلاء. ففي حرب المائة عام مثلاًً، كان سكان الجنوب الغربي، وخصوصاًً سكان جاسكونيه، وجويانيه، مع الجانب الإنكليزي بينما كان النبلاء يقفون مع الجانب الفرنسي، وإن لم يكن لأسباب قومية. في المراحل الأخيرة من الحرب وقفت أجزاء عديدة من الشمال إلى جانب دوق بورغوندي الذي كان متحالفاً مع إنكلترا ضد حركة التوحيد القومي في ظل التاج الفرنسي.
كثير من المدن الفرنسية كانت تنجذب آنذاك إلى المدن البلجيكية أكثر من انجذابها إلى مثال الوحدة الفرنسية القومية في ظل ملك متحالف مع الإقطاع .
كثيرون من المؤرخين يلاحظون في هذا الشأن أنه لو انتصرت إنكلترا وبورغوندي في هذه الحرب، لكان أدى الانتصار إلى ظهور عدد من الأمم المستقلة في الأرض التي تتشكل منها فرنسا الحالية وخصوصاًً ظهور بلجيكا كبرى في الشمال، وأمة بروفنسالية في الجنوب.
هذا النزوع المحلي إلى الاستقلال كان قوياً أيضاً في أجزاء أخرى من فرنسا، عندما حاول لويس الرابع عشر مثلاًً كسب ولاء المقاطعات الأخرى التي تتكلم الفرنسية، وكان النجاح الذي حققه في هذا السبيل هو وحده الذي جعل تلك السياسية سياسة قومية توحيدية. فحيثما نجحت هذه السياسة، أي سياسة الدمج مع إيل دي فرانس، توصف بأنها سياسة قومية توحيدية، وحيثما فشلت توصف بأنها سياسة ضم واعتداء. الهجوم على بلجيكا يعتبر اليوم اعتداء لا مبرر له. أما ضم مقاطعات أخرى كمقاطعة اللورين أو الفرانش، فإنه يجد تبريره في ضوء مبدأ الوحدة القومية، ولكن سكان اللورين، والفرانش، كانوا لا يميلون إلى هذه الوحدة آنذاك، ولم يكونوا أقل ابتعاداً عنها من البلجيك أنفسهم.
سكان اللورين قاتلوا قتالاً شديداً، وإن كان يائساً ضد الفرنسيين، فقتل قسم كبير منهم، كما إن الحكومة الفرنسية فكرت، بسبب هذه المقاومة، بترحيل الباقين منهم إلى كندا، ولكن على الرغم من هذا فإن اللورين لم تتحد نهائياً مع فرنسا إلا عام 1766، أما مقاطعة فرانش، فإنها، بعد ثلاثين عاماً من الوحدة مع فرنسا، قدمت إلى المؤتمر الذي هيأ صلح يوترخت (peace of utrechte) عريضة تطالب بالتحرر من ((العبودية الفرنسية)) . وعشية الثورة الفرنسية التي حققت نهائياً الوحدة الفرنسية، كان هناك بعض الأقاليم التي أرادت الاعتراف بها كأمم مستقلة.
على الرغم من إن فرنسا خضعت عبر قرون عديدة لنظام واحد مركز، فإن ذكرى الاستقلال السابق كانت لا تزال حية في عدة أجزاء من أراضيها في القرن التاسع عشر حيث رأينا حركات عديدة تدعو إلى ثقافة خاصة وإلى استقلال ذاتي لهذه الأجزاء، ويدعمها مفكرون معروفون. حتى في النصف الثاني من القرن العشرين لانزال نرى حركات من هذا النوع، كالتي نشاهدها بين سكان بريتانيا والباسك.
من هذا يتضح إن فرنسا، أعرق قومية في أوربا، تكونت عبر قرون عديدة من مئات من الوحدات الإقطاعية. إن طريقة تكوينها كأمة، كوحدة قومية، تعطينا، في الواقع، مثلاًً واضحاً عن الكيفية التي كانت تتم بها عملية التوحيد في تجارب التاريخ الوحدوية: ففي القرن الحادي عشر، كان ولاء النورماندي، الباريسي، الفلاندري، إلخ .يتركز على دوق، ماركيز، أو ملك المقاطعة، وكان الفرد يشعر إن القتال أو الموت في سبيل الدوق، المركيز، الكونت، الذي يمثل المقاطعة واجب عليه القيام به. ولكن بعد بضعة قرون زالت هذه الولاءات، تحولت إلى كيان جديد يدعى فرنسا، وأصبح واجب الفرنسي إن يقاتل ويموت في سبيل هذا الكيان الجديد، كما أصبح من الجريمة إن يقتل فرنسي فرنسياً آخراً.
فرنسا أصبحت منذ عام 1789 بشكل خاص، أنموذج وحدة الأمة – الدولة، ومنذ ذلك التاريخ حققت درجة عليا من الوحدة في الثقافة والتقاليد جعلت الكثيرين ينسون القرون العديدة التي احتاجت إليها في صياغة هذه الوحدة، وكأن الوحدة كانت متأصلة في مزاجها، أو يرون إن بناء وحدتها من مئات من الوحدات والأجزاء الإقطاعية المتحاربة كان نتيجة محتومة وطبيعية، وبالتالي كان لا يمكن تفاديها وتجنبها. الأمر الذي يتخذ هذا المجرى ((الميتافيزيقي)) .
فالرغبات والأهواء الذاتية المختلفة، وحتى الاحتيالات القانونية والصدف لعبت دورها في هذه العملية التوحيدية الطويلة. ولكن من الضروري التنبيه إلى أنه وراء جميع هذه الأسباب التي شكلت جزءاً من هذه العملية كان يقف عاملان أساسياً ضبطا ووجها هذه الأخيرة في تلك الوجهة القومية الوحدوية، وأنه لولا توفرهما لاستحالت هذه النتيجة.
هذا العاملان الأساسيان كانا، أولاً، توفر الإقليم – القاعدة – وثانياً، القائد – الرمـز الذي يرمـز إلـيــها ويشـخص هويتها.
العملية الفرنسية التوحيدية كانت – ككل عملية توحيدية أخرى في التاريخ – ترتبط برمز قوي للسلطة والوحدة. ومن الممكن القول إن مفهوم سيادة رمزية تتجسد في شخص الملك لم تغب تماماً عن مملكة فرنسا حتى أثناء التفكك العام الذي ساد في القرون الوسطى، ولكن مع نمو سلطة الملوك بعد القرن العاشر نمت أيضاً قوة التاج الفرنسي، وقوي جداً دوره التوحيدي، ليس بسبب نمو تلك السلطة فقط، بل أيضاً بسبب نمو ولاء الشعب له، هذا الولاء استمر في الواقع، حتى الثورة الفرنسية، فكان الشعب يشعر حتى في ذلك التاريخ وفي المرحلة الأولى من الثورة نفسها بولاء حقيقي لشخص الملك.
هذا القائد – الرمز كان يجد دوره في كونه ملك مقاطعة فرنسية، هي ((إيل دي فرانس))، مارست دور الإقليم – القاعدة الذي ارتكزت عليه وامتدت منه عملية التوحيد. طريق هذه العملية كانت أساسياً الطريق العسكري.
فالأجزاء الأخرى كانت تضم إلى هذه المملكة – القاعدة ودون موافقتها، ولكن هنا تجب أيضاً الإشارة إلى القوة وحدها لا تفسر عملية تداخلت فيها عوامل شتى تمتد من العامل الاقتصادي، إلى العامل الدبلوماسي، إلى الحظ والخداع.
توفر الإقليم – القاعدة لهذه العوامل المختلفة هو الذي كان مسؤولاً عنها، عن وجهتها الوحدوية.
في جميع مراحل هذه العملية التوحيدية الطويلة كانت طريق التوحيد تدين بالشيء الكثير للأجهزة الإدارية والقضائية والعسكرية والسياسية التي كانت تتشكل منها المملكة القاعدة في امتدادها إلى الأجزاء الأخرى. فهذه الأجهزة وفرت الأرضية القانونية الواحدة التي يمكن تنظيم وتنسيق الحياة الفرنسية اليومية حولها.
المؤرخ يستطيع إن يقف عند ظواهر وعوامل وقوى أخرى عديدة متنوعة أسهمت ولعبت دوراً في عملية توحيد فرنسا، كعلاقة التاج بالبورجوازية مثلاًً، ولكنه سيجد نفسه، كيفما اتجه، أمام ظاهرة تعيد ذاتها باستمرار، وهي الدور الأساسي الرئيسي المهيمن الذي مارسته إيل دي فرانس كقاعدة تنطلق منها وترتبط بها العملية الوحدوية، وأهمية التاج كرمز لها. الحادثة التالية تشف بوضوح عن هذا الدور التوحيدي الرمزي المهم الذي مارسه التاج باستمرار.
ففي عام 1792، عندما انفجرت الحرب الأوربية العامة بين الثورة وأعدائها، صدر قانون يفرض تسجيل الأجانب في كل بلدة وقرية. النتيجة كانت إن السلطات المحلية سجلت كأجنبي كل شخص لم يكن من أبناء المنطقة المحليين.
ولكن في عام 1789، كانت أكثرية الشعب الساحقة- ثمانون في المائة- لاتزال تعطي ولاءها للويس السادس عشر كرمز للوحدة الفرنسية. التاج الفرنسي لعب نفس الدور الذي لعبته، مثلاًً، عبادة الإمبراطور في الإمبراطورية الرومانية.
في هذه العملية التوحيدية لفرنسا، اضطرت الأقاليم المختلفة إلى تبني لغة الإقليم- القاعدة، أي لغة ((إيل دي فرانس))، وإهمال لغاتها المحلية.
تجربة بريطانيا تختلف في كثير من التفاصيل والأمور عن تجربة فرنسا، ولكن لو نحن رجعنا إليها، بدلاً من الأخيرة، كأنموذج لعملية التوحيد السياسي، لوجدنا إن الخطوط الأساسية والعامة واحدة.
واسيكس كانت الإقليم – القاعدة الذي تمحورت حوله وعليه وحدة إنكلترا، وإنكلترا كانت الإقليم- القاعدة الذي تمحورت حوله وعليه وحدة بريطانيا . من هذه القاعدة امتدت سلطة الدولة عبر حروب ضد ويلز، واسكتلندا، وإرلندا، إلى إن تم توحيد الجزر التي تتشكل منها بريطانيا. في بداية القرون الوسطى كان ما نسميه بإنكلترا مجموعة كبيرة من الممالك والإمارات المتخاصمة والمتحاربة. ولكن واسيكس استطاعت إن تحقق نوعاً من الاتحاد بينها في القرن الحادي عشر. هذا الاتحاد كان يمكن إن لا يستمر وأن يكون مؤقتاً لولا الغزو النورماندي الذي أمن له الاستمرار عن طريق إدارة مركزة أعطتها وحدة قومية فعالة قبل أي مجتمع آخر في أوربا.
نواة الاتحاد السويسري الأولى تشكلت من ثلاثة كانتونات وهي يوري (Uri)، شيفز (Sohwyz)، واونتر فالدين (Unterwalden)، تحالفت معاً ضد السلطة الاعتباطية التي حاول ممارستها عملاء رودولف، ملك الهابسبورغ. شيفز كانت قاعدة هذا التحالف الأول لأن جميع سكانها كانوا أحراراً بينما كان سكان الكانتونين الآخرين يخضعون للقنانة. إن الدور الطبيعي الذي قامت به شيفز في كل هجوم تقريباً على النمسا برر نقل اسمها إلى الكونفيدراسيون ككل. عند موت رودلف حولت هذه الكانتونات تحالفها إلى تحالف دائم ضد كل تدخل أجنبي.
الكانتونات السويسرية لم تكن قد حققت بعد، في أواخر القرن الرابع عشر، اتحاداً بينها، أو حتى كونفيدراسيونا صحيحاً. ولكن التحالف الأول تطور فيما بعد إلى كونفيدراسيون، ومن ثم إلى اتحاد ذي تركيب سياسي ثابت.
أهم الأسباب لهذا التطور كان الاتحاد الفريد بين الكانتونات الثلاثة الأولى، الذي وفر قاعدة لتجمعات أكبر واستطاع إن يستقطب الأجزاء الأخرى. هناك طبعاً أسباب أخرى ساعدت في خلق هذا الاتحاد، منها مثلاًً إن الكونفيدراسيون كان رقعة جغرافية متصلة وحدت بين الأقسام الريفية والمدنية، ومنها ضرورة التعاون المطلقة في متابعة حرب ظافرة ضد عدو مشترك متمثل في الهابسبورغ، ومنها العمل التمهيدي الخلاق الذي حققته مملكة الهابسبورغ في محاولتها صنع إقليم واحد من المنطقة السويسرية، إلخ.. ولكـن لولا قيــام الإقلـيم ـ القاعــدة مــنالكانتونات الثلاثة الأولى، وتوفر كانتون شفيز كقاعدة لتحالف هذه الأخيرة، لما كان من الممكن تحقيق الاتحاد السويسري.
فيما يتعلق بإسبانيا، نرى إن كاستيل كانت قاعدة حركة التحرير والتوحيد. اتحاد آراغون وليون معها ثبت هذا الدور المحوري.
من أهم التطورات التي حدثت في إسبانيا بين عام 1031، تاريخ سقوط قرطبة، وبين أواسط القرن الثالث عشر، كان قيام كاستيل بدور التحرير والتوحيد. في عام 1035، أصبح فرديناند الأول ملكاً على كاستيل. بعد عامين، وكنتيجة لحرب ظافرة، ضم ليون إلى مملكته، وفي حرب أخرى لاحقة ضم نافار، مناطق أخرى عديدة . هذه الحركة التوحيدية الظافرة مهدت الطريق أمام خلفاء فرديناند في ضم الأراضي الأخرى التي كان يسودها العرب.
الوحدة الأولى بين كاستيل وليون تعرضت لنكسات عديدة، ولم تتحقق بشكل دائم إلا في القرن الثالث عشر، عام 1230، في عهد فرديناند الثالث الذي تابع بنجاح سياسة التوحيد.
كاستيل كانت تضم المناطق الوسطى والغربية، ولذلك كانت أكبر مملكة في إسبانيا . في عهد فرديناند الأول سادت القسم الأكبر مما أصبح فيما بعد البرتغال، وغزت مملكتي طليطلة وإشبيلية العربيتين، وفي عهد فرديناند الثالث جعلت وسط وغربي الأندلس مناطق كاستيلية، وفي عهد إيزابيلا انتزعت غرناطة من العرب وأدخلت مناطق الباسك نهائياً في دائرة سلطتها.
إسبانيا لم تكن موزعة إلى ممالك وإمارات مختلفة فقط، بل كانت تتقاسمها أيضاً اتجاهات محلية وثقافية متناقضة. كاستيل قامت بدورها كقاعدة لوحدة إسبانيا ليس فقط بسبب عملها السياسي والعسكري، بل لأن ((شخصيتها الثقافية كانت تمتد وتؤكد ذاتها قرناً بعد قرن، وابتداء من القرن الثالث عشر، بشكل عفوي وطبيعي، دون اللجوء إلى العنف أو الإرغام السياسي، لأن تطور لغتها وتميزها بالفاعلية والتنوع والمرونة والجمال، وأدب متزايد النشاط، جعل هذه اللغة تكسف وتمتص اللغات الأخرى التي تنتسب معها إلى أصل واحد، والتي كانت قد ظهرت في استورياس، جاليسيا، ليون، آراغون، وغيرها… اللغة الكاستيلية سادت عليها كلها كلغة الحياة الفكرية وكتعبير عن الإيديولوجية الإسبانية))*.
قضية ألمانيا لا تزال طرية في الأذهان، وعمليتها الوحدوية تعطي أيضاً مثلاًً كلاسيكياً عن دور الإقليم – القاعدة الرئيسي الذي طالعنا في تجارب فرنسا وبريطانيا وسويسرا وإسبانيا. فقد كانت خاضعة لتجزئة قاسية، تقاسمتها مئات الممالك والإمارات. تجاوزها لهذه التجزئة كشف بوضوح إن ذلك إن ممكناً عن طريق إقليم – قاعدة توفر لها في بروسيا التي ارتبطت بها الجهود الوحدوية عبر الوطن الألماني.
الوحدة الإيطالية تكشف أيضاً نفس القانون، أي نفس الدور الرئيسي الذي يقوم به إقليم – قاعدة، يرتبط بتوفره تحقيق الوحدة. إن بيدمونتي قامت بهذا الدور وقادت إيطاليا الممزقة المجزأة إلى وحدتها الحديثة.
في روسيا نجد إن ((الدولة الموسكوفية)) قامت بهذا الدور، دور الإقليم – القاعدة، وكانت نواة وحدتها ومحورها. في هذا الصدد كتب ستالين ((إن أكبر خدمة قدمتها موسكو كانت تحولها إلى مركز لتوحيد روسيا المجزأة في دولة واحدة))*. روسيا تشكلت في شعوب عديدة متمايزة، ولكن دور الشعب الروسي كان دائماً المحور والقاعدة.
في عام 1576 اتحدت أقاليم هولندا في حربها التحريرية ضد إسبانيا تحت قيادة ويليام أوف أوينج. بين الأقاليم المختلفة التي تشكل منها الاتحاد، كان إقليم هولندا هو الإقليم – القاعدة.
الكومنولث البريطاني انهار عندما خسرت بريطانيا دورها الأساسي المحوري ولم يعد بإمكانها إن تمارس، بسبب ضعفها المتزايد، دور القاعدة، وهو دور كان الاعتراف به قائماً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
في تجارب وحدوية أخرى، وهي قليلة جداً، قد لا نجد إقليماً واحداًً يقود عملية الوحدة ويمارس دور الإقليم- القاعدة، ولكننا نجد عادة خطراً خارجياً يفرض على بعض الأقاليم المهددة به القيام بهذا الدور، ففي تجربة الولايات المتحدة مثلاًً نجد إن ماسيتشوستس، وبانسلفانيا، وفرجينيا، وكانت أضخم الولايات الموجودة آنذاك، مارست الدور الأساسي في إقامة اتحاد الولايات الأميركية المتحدة. فيما بعد رأينا إن هذا الاتحاد الأول الذي تشكل من ثلاث عشرة ولاية مارس دور القاعدة في عملية الدمج السياسي الذي كان يمتد إلى المناطق والولايات الجديدة.
من حيث الحجم والمساحة والإمكانات، لم ترد أو لم تستطع إن تقوم بدورها كقاعدة. غواتيمالا كانت القوة الأساسية في بناء ومن ثم انهيار ((اتحاد أميركا الوسطى))، 1823،1839.
جمهوريات أمريكا الوسطى تتشابه أكثر من أية مجموعة أخرى من الحكومات أو الأمم، ولهذا فإن المحاولات التي شاهدتها في إقامة حكومة مركزية واحدة تضمها كلها، كانت تثير من البداية درجة عليا من التفاؤل. أما السبب الثاني الذي كان يدعو إلى هذا التفاؤل فيعود إلى كون هذه البلدان كانت تشكل وحدة سياسية لمدة ثلاثة قرون في ظل السيادة الإسبانية.
المحاولة الاتحادية الأولى، عام 1823-1824، فشلت وكانت النتيجة خمس جمهوريات صغيرة. ومشاعر وضغائن مريرة نمت أثناء مماحكات طويلة حول مركز الحكومات المختلفة في الجمهورية الواحدة. أميركا الوسطى دمرت نفسها في الأحقاد التي نتجت عن الأحكام والقرارات المختلفة المتناقضة التي كانت تفرزها فيما يتعلق باتحادها . الحكومة الاتحادية الثانية التي تشكلت عام 1830 كانت لا تستطيع الاطمئنان إلى ولاء أية حكومة بين الحكومات المحلية بسبب هذه الأحقاد التي كانت تمزقها.
بعد فشل المحاولة الاتحادية الثانية، عام 1842، قامت محاولات أخرى لا تقل عن ثمانية بين عام 1842 وعام 1963، ولكنها فشلت كلها في تحقيق الاتحاد. هذه النتائج السلبية كشفت لعدد كبير آنذاك إن الضعف الأساسي في هذه المحاولات كان فقدان الإقليم- القاعدة الذي تتمحور عليه وحوله الجهود الوحدوية، وبالتالي دفعت الكثيرين من السياسيين والكتاب إلى حل جديد يرتبط بدعوة غواتيمالا إلى ممارسة دورها القيادي، ويرى إن طريق الاتحاد يرتبط بهذا الدور. ولكن كارارا، الذي كان يحكم غواتيمالا آنذاك، لم يكن يهتم بهذه القضية، وهذا الإهمال منه ((شكل على الأرجح جريمته الكبرى)).
وحدة العالم الكاثوليكي كانت تعود حتى الآن إلى وجود قاعدة تتمثل في روما أو الفاتيكان، ترتبط بها وتنقاد لها. في الستينات ابتدأ دور هذه القاعدة يضعف، وظهرت حركات تتميز بقدر كبير من الاستقلال مما جعل الكثيرين يرون إن مصير الكنيسة الكاثوليكية سينتهي، إن تابع هذا التحول مجراه، إلى مصير البروتستانتية أي في كنائس وطوائف ومذاهب مختلفة، كل منها يتمتع بهوية منفصلة ووجود خاص.
هذه الأمثلة كافية فيما يتعلق بالغرب للتدليل على ضرورة توفر إقليم- قاعدة كشرط في الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة . ((جميع الدول الأوربية الحالية، والتي ترجع إلى العصور الوسطى بجذورها، ظهرت إلى الوجود عن طريق ضم أراض كانت سابقاًً مستقلة عنها، بالانطلاق من قاعدة مركزية، امتدت حدودها خارجياً في جميع الاتجاهات، وفي دوائر كانت تتسع باستمرار)).
السلام الذي كان يحققه الغرب بين بعض أقاليمه كان يعني دائماً خضوع هذه الأقاليم لسلطة مركزية واحدة. ((تاريخ الغرب الذي يمتد إلى خمسة آلاف سنة يكشف إن المجتمع الغربي لم يستطع أبداً إن يحقق السلام لمدة طويلة في منطقة معينة إلا بإخضاع هذه المنطقة لسلطة حكومة واحدة)).
روما، المدينة الصغيرة على نهر التيبر، أعطت اسمها للعالم الكلاسيكي.المدن الإيطالية ارتبطت بها وتمحورت حولها كقاعدة للإمبراطورية الرومانية .
الشواطئ الطويلة التي تشكل حدود شبه الجزيرة الإيطالية كانت تجعلها عرضة للغزو والاعتداءات، ولهذا رأت روما إن توحيدها يشكل الأساس الأول لأية سياسية عالمية تريدها. في سبيل هذا القصد، قامت روما بسلسلة من الحروب كانت تقود فيها شعباً إثر آخر إلى الخضوع والارتباط بها كقاعدة لهذه الدولة أو الوحدة، أما سياستها تجاه القبائل المختلفة التي كانت تسكن شبه الجزيرة فكانت سياسة معتدلة لأن روما كانت تريد الاستقرار فيها كي يمكن لها متابعة سياستها الإمبريالية في الخارج. إن خطر قبائل الغول ساعد في تدعيم هذه السياسة لأنه جعل قبائل إيطالية معتمدة على روما في حمايتها. هكذا نما وتطور مع الوقت شعور عام بالالتحام بين هذه القبائل نتج عن الارتباط بهذا الإقليم – القاعدة))، وتبلور تدريجياً في ((شعور قومي)) موحد. فالناس أخذوا يشعرون، نتيجة لهذه المشاركة، ليس في روما فقط بل في جميع شبه الجزيرة، بأنهم رومان.
وجود مدن كبيرة متماثلة أو متوازية الإمكانات في اليونان القديمة كان من الأسباب الأولى التي منعت وحدتها. إن أعظم حرب داخلية عرفتها هذه المدن، الحرب البيلوبونيزية التي استمرت ثلاثين عاماً تقريباً، كانت تعود، كما يرى كثيرون من المؤرخين، إلى صراع حول وحدة اليونان القومية، أو بالأحرى حول من يقود هذه الوحدة. هذا لصراع الطويل بين اسبارطة وأثينا قاد إلى انهيار اليونان كقوة تاريخية مستقلة، وكان في الواقع يعبر عن مفهومين مختلفين جداً للحضارة.
هناك (( جامعات سياسية )) أو تحالفات كانت تتشكل في بعض المدن اليونانية، تلتقي فيها هذه المدن ككيانات مستقلة، تتمتع كل منها بحقوق متساوية، ولكن هذا التحالف يتطور في بعض الأحيان فيضفي على إحدى المدن دوراً قيادياً. ابتداء من القرن السادس ق.م . ابتدأ في الواقع شكل سياسي جديد بالظهور في الحياة اليونانية. هذا الشكل كان يعني تحالف عدد من ((المدن – الدول)) حول مدينة – قاعدة. إنه كان يعني مركزاً قيادياً لـ ((مدينة-دولة )) في الحرب، لا يلبث إن يتحول إلى مركز قيادي في السياسة.
في جميع جامعات التحالف التي كانت تتشكل بين المدن اليونانية القديمة نجد مدينة واحدة تقوم بدور القاعدة والمحور.
المدن اليونانية بقيت منفصلة، متخاصمة، مستقلة عن بعضها، عاجزة عن تحقيق وحدتها بسبب غياب المدينة- القاعدة التي تستطيع استقطابها كلها إلى إن توفر لها ذلك في مقدونيا التي استطاعت إن تفرض إرادتها فتوحدها وتجعل من ملكها فيليب سيداً ورمزاً لهذه الوحدة.
في جميع الممالك والإمبراطوريات التاريخية التي تم فيها الانتقال من الطور القبلي إلى الطور السياسي الإقليمي. كانت هناك دائماً قاعدة تقود عملية الانتقال أو عملية التوحيد، وتتمثل في إقليم، قبيلة، أو عائلة.
الصين مثلاًً كانت في بداية تاريخها مجزأة إلى أنظمة إقطاعية ودول عديدة تمزقها في حروب أهلية مستقلة. كان هناك سبع دول كبيرة تتمحور عليها هذه الخصومات والحروب. تحقيق وحدتها الإقليمية لأول مرة في تاريخها تم في نهاية القرن الثالث ق.م، عام 221. وكان ذلك يعود إلى دولة ch,in التي قامت بدور الإقليم – القاعدة ومارست باستمرار سياسة توحيدية إلى إن تم إنشاء الدولة الواحدة. اسم الصين نفسه يشتق من هذه الدولة – القاعدة التي سحقت النظام الإقطاعي القديم وحققت وحدة الصين في دولة جديدة. في جميع حركات التوحيد السياسي التي كانت تحدث في الصين في تاريخها الطويل، بعد مراحل من التجزئة والانقسام عديدة، برز بوضوح دور الإقليم – القاعدة في تحقيق ذلك وجعله ممكناً.
ما ينطبق على الصين، ينطبق على بلدان شرقي آسيا، وعلى حضارات ما بين النهرين الأولى. تاريخنا العربي يقدم مثلاًً واضحاً عن هذا القانون الوحدوي.
تاريخ هذه الممالك والإمبراطوريات التاريخية يكشف أيضاً، من ناحية أخرى إن من أهم أسباب انهيارها كان ضعف الإقليم – القاعدة مما يحرك أطماع ومطامح الأطراف ويدفعها إلى الانسلاخ عنه.
في الحركات الثورية نفسها نجد قاعدة طبقية أو تنظيمية تتركز عليها الحركة أو مختلف الجماعات والطبقات والمنظمات التي تساهم فيها. فالحزب الشيوعي مثلاًً كان هذه القاعدة، من روسيا إلى الصين، ومن كوبا إلى فيتنام. ((إن غياب قاعدة صلبة من القوى الثورية يدفع الثورة إلى الهزيمة)).
تاريخ الحركة الشيوعية العالمية يوفر لنا، في الواقع، مثلاًً واضحاً عن دور القاعدة في تحقيق أية وحدة فعالة بين عدد من الحركات والأحزاب الثورية، ويكشف بوضوح إن هذه الوحدة تستحيل دون توفر هذه القاعدة التي تستقطب هذه الحركات والأحزاب كمحور ترتبط به. الحركة الشيوعية العالمية كانت تشكل عالماً واحداًً موحداً فقط عندما كانت ترتبط بمركز واحد، بقاعدة، موسكو، في المرحلة الستالينية. ولكن عندما انهارت وحدتها فتمزقت إلى عوالم عديدة متنافرة ومتخاصمة.
في تلك المرحلة كانت الأحزاب الشيوعية العالمية محض طلائع أمامية للجيش الرئيسي الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفييتي . ستالين كان يرى إن الرأسمالية تسير نحو الانهيار ومقضي عليها بالموت، ولكنه كان يؤمن بأن هذه النهاية لن تكون نتيجة (مغامرات)) ثورية في الصين أو في فرنسا، إلخ.. بل نتيجة نمو قوة الاتحاد السوفياتي العسكرية ومنعته الصناعية. الخط السياسي والإيديولوجي الذي كانت تتبعه موسكو آنذاك واحداًً للجميع، وكل شيوعي لا يلتزم بهذا الخط كان ينكر نفسه كشيوعي. في عام 1927، كتب ستالين في هذا الشأن بأن ((الثوري هو من كان مستعداً لحماية الاتحاد السوفياتي والدفاع عنه دون أي تحفظ، دون أية شروط، بشكل صريح وصادق… الأممي هو من كان مستعداً للدفاع عن الاتحاد السوفييتي دون تحفظ، دون تردد، دون أي شرط، وذلك لأن الاتحاد السوفييتي هو قاعدة الحركة الثورية العالمية، ولأنه لا يمكن الدفاع عن هذه الحركة وإعلاء شأنها دون الدفاع عن الاتحاد السوفياتي)).
وحدة العالم الشيوعي في العهد الستاليني كانت تعود إلى الاعتراف بالمبدأ الذي أعلنه الاتحاد السوفييتي والقائل بضرورة إعطاء أولوية سافرة واضحة لمصلحته على مصلحة الثورة العالمية عندما يكون هناك تناقض بين الاثنتين.
شعار ((وطن جميع الكادحين)) كان يعبر طيلة المرحلة الستالينية عن مبدأ أساسي يعني إن مصلحة الاتحاد السوفباتي تمثل المصلحة العليا للشيوعية العالمية التي يجب على كل شيوعي إن يضحي في سبيلها بكل اعتبار آخر. هذا كان يعني علمياً إن انتصار الشيوعية في أي بلد آخر يجب إن يرتبط بهذه المصلحة، ويشكل أمراً غير مرغوب فيه إن لم يكن بمساعدة الاتحاد السوفييتي أو الاتفاق معه. كان على كل دولة شيوعية جديدة إن تخضع لدور الاتحاد السوفييتي وأن ترتبط به كقاعدة، مثلها مثل الأحزاب الشيوعية الأخرى.
في قرار الكومينفورم، حزيران عام 1948، الذي طرد الحزب الشيوعي اليوغسلافي من صفوفه، نجد إن التهمة الأساسية كانت رفض الولاء للاتحاد السوفييتي . مبدأ الارتباط بالاتحاد السوفييتي كقاعدة للحركة الشيوعية العالمية كان واضحاً في سياسة الكومينتيرن ومن بعده الكومينفورم، التي كانت تنكر مبدأ الطرق المتعددة نحو الاشتراكية، وتعتبر كل قول بهذا المبدأ انحرافاً وخيانة.
في مؤتمر الأحزاب الشيوعية المنعقد في موسكو، في تشرين الثاني عام 1957، هاجم ماوتسي تونغ نفسه يوغسلافيا ليس فقط بسبب ((انحرافها)) بل لأنها ترفض الانصياع لنظام واحد يتمحور على الاتحاد السوفييتي كقاعدة له. الحزب الشيوعي الصيني كان يرى آنذاك إن هذا الارتباط ضروري، ويشكل ضمانة للانتصارات الثورية المقبلة، وأن رفضه يعني رفض هذه الانتصارات واستمرار الإمبريالية، فالصين، كما قال ماوتسي تونغ آنذاك ((تمتلك تجربة ثورية كبيرة، ولكن القليل من الخبرة في البناء الاشتراكي. الصين دولة كبيرة،ولكنها لا تمتلك سوى صناعة صغيرة، الصين لا تمتلك ربع سبوتنيك بينما يملك الاتحاد السوفييتي اثنين. ولكن قبل كل شيء تقف وراء الاتحاد السوفييتي تجربة تمتد لأربعين سنة. دون الاتحاد السوفييتي كنا أصبحنا كلنا تحت سيطرة بلدان أخرى)).
انتصار الماوية عام 1949 الذي كان يعني ظهور دولة شيوعية كبيرة يمكن لها منافسة الاتحاد السوفييتي في استقطاب الحركة الشيوعية العالمية، ومن ثم الانشقاق الذي حدث بين الاتحاد السوفييتي والصين في بداية الستينات، خلق قاعدتين كبيرتين، وهو أمر مزق وحدة العالم الشيوعي. هذا التطور – بالإضافة إلى قدرة يوغسلافيا على الاستمرار في خطها المستقل – وضع نهاية لدور الاتحاد السوفييتي كقاعدة، وبذلك قضى على وحدة العالم الشيوعي. إن سلطة ستالين الهائلة عبر العالم الشيوعي كانت كافية أثناء حياته في الحد من هذا التمزق وتجاهله . ولكن بعد وفاته، كان على خلفائه الاعتراف بهذا الواقع والتكيف معه.
أزمة الشيوعية العالمية أو وحدة العالم الشيوعي برزت بوضوح في أواسط الخمسينات عندما رفض عدد كبير من القادة الشيوعيين الكبار، وأحزاب شيوعية بكاملها، الاعتراف بالاتحاد السوفييتي كالأنموذج الوحيد للتجربة الشيوعية، كقاعدة للسياسة والولاءات الشيوعية عبر العالم، وبقيادته للعمل الشيوعي. هنا نجد ولادة ((الشيوعية القومية)).
في نهاية عام 1956 بلغت الأزمة الإيديولوجية أوجها في الحركة الشيوعية العالمية. رفض دور الاتحاد السوفييتي كقاعدة للحركة الشيوعية العالمية أدى بسرعة، ليس إلى نوع جديد من الوحدة، بل إلى تفكك وحدة هذه الحركة وتبعثرها في مراكز مختلفة متناقضة، وفي بعض الأحيان متعادية. عندما أعلن تولياتي، عام 1956، فكرة ((تعدد المراكز)) للحركة الشيوعية، كان ذلك يعني أنه لم يعد بإمكان أي نظام شيوعي إن يعلن أحكام إيديولوجية أو سياسية واحدة تعبر عن إرادة العالم الشيوعي. الاعتراف بتعدد الطرق نحو إقامة سلطة إشتراكية وتنوع لأنظمة في استخدام هذه السلطة كان، في الواقع، يتناقض حتى مع وحدة السياسة الخارجية التي ظن الاتحاد السوفييتي والصين آنذاك إمكان الاستمرار عليها رغم الاعتراف بمبدأ هذا النوع.
في ربيع عام 1957 أدرك قادة الأحزاب الشيوعية بأن خصوماتهم الإيديولوجية تهدد سلطتهم وابتدأوا يعملون على إعادة شكل من أشكال الوحدة الشيوعية العالمية بينهم. في تشرين الثاني عام 1957، دعا خروشوف إلى عقد مؤتمر الأحزاب الشيوعية في موسكو، كي ينال الاعتراف بالمبدأ القائل بأن الشيوعية العالمية تحتاج إلى سلطة واحدة تعبر عنها، وأن هذه السلطة لا يمكن إن تكون سوى الاتحاد السوفييتي كقاعدة لها، وأن الوحدة الإيديولوجية في عالم مقسوم على ذاته تتطلب الولاء لهذه القاعدة. إن نجاحه كان كبيراً على الرغم من استمرار يوغسلافيا في خطها المستقل. فالحزب الشيوعي الصيني أكد بشدة على الاعتراف بالقيادة السوفييتية وسلطتها الإيديولوجية، وماوتسي تونغ نبه بوضوح إلى الحاجة إلى قائد واحد للأحزاب والدول الشيوعية، وإلى إن الاتحاد السوفييتي وحده يستطيع توفير هذه القيادة الموحدة.
ولكن هذا النجاح كان مؤقتاً ولم يكن باستطاعته الاستمرار طويلاً، ولهذا انفرط عقده ابتداء من عام 1960، عندما أخذت الصين تمثل دور القاعدة الثانية.
أساس سياسة خروشوف للحركة الشيوعية العالمية كان الاعتقاد بأنه لا يمكن إن يكون هناك تناقض رئيسي بين مصلحة الاتحاد السوفييتي ومصلحة الأحزاب والدول الشيوعية الأخرى.انهيار هذا المفهوم كان واضحاً في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي الثاني والعشرين الذي كشف عن انهيار التسوية السوفييتية – الصينية التي تم الاتفاق عليها في مؤتمر الأحزاب الشيوعية العالمي عام 1960. السبب المباشر لذلك كان التحدي الصيني السافر لسلطة خروشوف ورفاقه، الذي عبر عن ذاته في تأييد الفئات الستالينية في الاتحاد السوفييتي، والبلدان الشيوعية الأخرى في البلقان. ظهور قاعدتين للعالم الشيوعي، واحدة في الاتحاد السوفييتي وأخرى في الصين الشعبية، مزق وحدة العالم الشيوعي وتركه في متاهة إيديولوجية، وسياسية. ظهور قاعدتين لم يكن يعني فقط انشقاق العالم الشيوعي إلى نصفين متناقضين – اتساع تناقضات وخصومات الدول والأحزاب الشيوعية التي تجد نفسها مضطرة إن تقف إلى جهة دون الأخرى، أو إن تقف على الحياد بين الطرفين – بل خلق وضعاً يزيــد من قــدرة هذه الدول والأحزاب على الاستقلال بسياستها .
ظهور قاعدتين للحركة الشيوعية العالمية، واحدة في موسكو وأخرى في بكين، كل منهما تنافس الأخرى في الهيمنة على العالم الشيوعي، مزق هذا العالم وحوله إلى شيوعيات قومية تحدث في إطارها جميع التطورات الجديدة في الشيوعية. وما يربط حالياً بين الحركات والأنظمة الشيوعية في العلاقات الدولية أو ما يدفعها إلى الوقوف معاً هو الخوف من مخاطرة خارجية وداخلية، والضغوط التي تمارسها القاعدتان.
في مؤتمر 1957، أكدت الصين، في الواقع، أنه لا يمكن قيادة الأحزاب الشيوعية العالمية كحزب واحد، ولهذا يجب إن تكون هذه الأحزاب مستقلة في أجهزتها. ولكنها، من ناحية أخرى، يجب إن تلتقي على أرضية إيديولوجية واحدة، وهذا يتطلب الاعتراف بالسلطة الإيديولوجية لحزب قائد. الحكومات الشيوعية هي الأخرى حكومات متساوية وذات سيادة ولكنها تحتاج إلى سياسة خارجية واحدة يجب تحديدها، بعد المشاورة، من قبل حكومة دولة قائدة. القاعدة التي تتمثل في حزب قائد، في دولة قائدة من هذا النوع، زالت، وبزوالها زالت وحدة العالم الشيوعي.
هذه الملاحظات تدل بوضوح على إن التجارب الوحدوية التاريخية الناجحة كانت كلها تقريباً من النوع الذي تجري فيه العملية (process) الوحدوية تحت قيادة إقليم – قاعدة. فهناك عادة بين الأقاليم المدعوة إلى الوحدة أو الاتحاد، إقليم يتفوق على الأقاليم أو الأجزاء الأخرى، من حيث الالتزام بالقصد الوحدوي والإمكانات المختلفة التي وضعها في خدمة هذا القصد. هذه الإمكانات كانت تعطي هذا الإقليم القدرة على ممارسة دوره الطليعي القيادي لعملية الوحدة، المؤرخون الذين درسوا هذه الظاهرة توصلوا إلى نتيجة مماثلة من هذه الناحية.
((في الاتحادات الكبيرة توجد غالباً وحدة (Unit) تلعب دور الضابط. إنها ليست قوة من الدرجة الأولى، ولكنها تكون أقوى من الوحدات الأصغر)).
مهما كانت القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، والإيديولوجية التي تستخدم في خلق وحدة سياسية جديدة، فإن الطريقة التي تتوزع بها هذه القوى بين الأقاليم المختلفة المدعوة إلى الوحدة، تشكل قضية من أهم القضايا التي تواجه كل عمل وحدوي تاريخي لأن النتائج التي تترتب عليها قد تعني ولادة الاتحاد وحياته أو إجهاضه ومماته. توزع هذه القوى بشكل متساو بين جميع الأقاليم أو بعضها يشكل حاجزاً كبيراً ضد الوحدة لأنه يعني قيام محاور عديدة له، يستطيع كل منها إن يبرز وجوده بالرجوع إلى قوى موضوعية تدعمه، وبذلك تتجزأ وتتبعثر الجهود الوحدوية، وقد لا تصل أبداً، بسبب ذلك، إلى الوحدة. ولكن إن هي توزعت بشكل تتركز فيه، كنتيجة لعمل التاريخ والواقع، في إقليم واحد، فإن ذلك يسهل جداً العملية الوحدوية، لأن العمل الوحدوي يمكنه آنذاك تحقيق وحدته عن طريق توفر محور له يدور حوله ويرتبط به. لاشك إن بعض هذه الأقاليم يستطيع، بشكل أو بآخر، إن ينافس الإقليم – القاعدة في هذا الدور القيادي. ولكن بما إن الإمكانات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والبشرية والإعلامية والإيديولوجية والإستراتيجية التي يمكنه اعتمادها هي أضعف مما يتوفر لهذا الأخير، فإنه يعجز في المدى البعيد عن إعطاء الدور الطليعي الذي يزعمه لنفسه القدر الضروري من الفاعلية التي تضفي عليه ما يحتاجه من جدية، وخصوصاًً عندما يحسن الإقليم – القاعدة استخدام قواه في وجهة وحدوية. لهذا فإن النتيجة النهائية لانحرافه عن الارتباط بالإقليم المؤهل لأن يكون إقليم -القاعدة تكون فقط تعثير وتخريب العمل الوحدوي.
الأمثلة التاريخية التي قدمناها والتي تمثل شتى أطوار التاريخ وشعوبه، تقود إلى استنتاج واضح صريح بارز يفرض ذاته في كل دراسة علمية لتجارب التاريخ الوحدوية، وهو إن وجود قاعدة واحدة تقوم بدور القيادة للعمل الوحدوي هو شرط أساسي في الانتقال الفعال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة.
إن تجارب التاريخ تدل بوضوح على إن وجود قاعدتين أو أكثر يقتل عادة الوحدة بين الأقاليم المدعوة إليها. إن وجود اسبارطة وأثينا في اليونان القديمة، مثلاًً، قتل وحدتها وحال دونها. وجود النمسا وبروسيا اللتين تنافستا على دور الإقليم – القاعدة عثر كثيراً سير ألمانيا نحو وحدتها. اتحاد ((الوست انديز)) الفاشل يعود أيضاً بفشله إلى وجود قاعدتين .
فهذا الاتحاد كان يتشكل من جزيرتين كبيرتين هما جامايكا وجزيرة ترينيداد، ومن ثماني جزر صغيرة. لاشك إن أسباب الفشل كانت عديدة، ولكن مما لاشك فيه أيضاً إن وجود جزيرتين كبيرتين إنيتين أدى بدوره إلى تعثير الاتحاد. قيام قاعدتين في العالم الشيوعي كان، كما رأينا، من الأسباب التي قضت على وحدته. في كينيا، نجد مثلاًً، إن وجود قبيلة واحدة، وهي قبيلة الكيكويو، ذات حجم كبير بالنسبة للقبائل الأخرى، سهل وحدة البلاد. ولكن وحدة نيجريا كانت ضعيفة بسبب وجود بعض القبائل الكبيرة المتماثلة حجماً وقوة. وهكذا دواليك !..
((الوحدات التي تشكلت دون إن تتوفر لها قاعدة قوية متفوقة تتمحور عليها كانت عادة تفشل في الاستمرار، كما نجد مثلاًً في تفكك وحدة أسوج ونروج)) . إيطاليا في عصر النهضة عجزت عن تحقيق وحدتها لأنه لم يكن هناك بين المدن التي تتشكل منها من مدينة تستطيع القيام بدور القاعدة. تماثل المواقف والأنظمة السياسية والاجتماعية والإيديولوجية بين أقاليم وحكومات مختلفة لا يعني أبداً اتفاقها على الوحدة، سيرها نحوها وتحقيقها. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، مثلاًً، كان معظم الأمراء الألمان والطليان يشاركون في مفاهيم وأنظمة متماثلة، ولكنهم لم يصنعوا شيئاً في سبيل الوحدة، وعجزوا عن تحقيق أية خطوة نحوها. تحقق الوحدة في إيطاليا وألمانيا يعود إلى توفر قاعدة ارتبطت بها الجهود الوحدوية واستطاعت بما تتميز به من قوة إن تفرضها على الآخرين.
العمل الوحدوي يعني تنسيق الجهود والنشاطات بين أقطار وبلدان مختلفة. هذا التنسيق قد يتوفر، أولاً، عن طريق سلطة خارجية، ثانياً، عن طريق انسجام عفوي بين أقطار وأقاليم معينة، ثالثاً، عن طريق مركز يتخذ القرارات الأساسية وتتركز عليه الجهود الوحدوية. التجارب الوحدوية التاريخية تدل بوضوح على إن الطريق الثالثة كانت الطريق التي هيمنت على هذه التجارب. إن الطريق الأولى تأتي في المرتبة الثانية، وأن الطريق الثانية كانت نادرة أو غير موجودة.
من هذا يمكن أو بالأحرى يجب إن نخلص إلى القول إن تجارب التاريخ الوحدوية تدل بوضوح على أنه يجب إن يتوفر إقليم – قاعدة لعملنا الوحدوي، يرتبط به هذا العمل ويتمحور عليه إن هو أراد الفاعلية والنجاح، وإن نحن أردنا حقاً عن وعي تحقيق دولة الوحدة التي تضمنا في كيان سياسي واحد موحد يجمعنا من الخليج إلى المحيط.
هذا الشرط الضروري في تحقيق الوحدة توفر لنا من أواخر الخمسينات إلى أواخر الستينات، في المرحلة الناصرية، ولكن مع الأسف عجزنا عن الارتفاع إلى مستوى المهمة التاريخية الكبرى الملقاة على عاتقنا كوحدويين. إنها قد تكون الفرصة التاريخية الوحيدة التي سمح بها التاريخ الحديث في تحقيق الوحدة.
ولكنها فرصة ضاعت علينا، وضياعها يعود إلى ما ميز العمل الوحدوي من ضحالة ثورية ومن عجز فادح في الوعي الوحدوي. إن نحن عجزنا عن تحقيق دولة الوحدة، فإن مؤرخ المستقبل سيكتب عند تأريخ هذه المرحلة بأن أعظم كارثة نزلت بنا لم تكن سوى عجزنا عن الإفادة من المرحلة الناصرية في تحقيق هذه الوحدة. في ضوء تجارب التاريخ الوحدوية والقوانين العامة التي تكشف عنها، نستطيع القول إن العنصر الموضوعي الإيجابي الوحيد الذي لا يزال يتوفر لنا في الدفع نحو الوحدة هو معركة فلسطين. إن نحن تجاهلنا، نسينا، تجنبنا، أو ألغينا هذه المعركة، فذلك يعني نهاية كل أمل وحدوي، والموت النهائي للقصد الوحدوي في هذا البحث أشرنا فقط إلى دور الإقليم - القاعدة كواقعة تعيد ذاتها في تجارب التاريخ الوحدوية، أي كقانون وحدوي، ولكن كي يتكامل البحث يجب إن نفسر بشيء من الإسهاب هذه الظاهرة، أي إن نشرح الأسباب الكامنة وراء هذا الدور، الأسباب التي تفرضه كضرورة، وهو موضوع نتركه لمناسبة أخرى..
.إننا كدعاة منهج علمي في دراسة ظواهر الاجتماع وأحداث التاريخ، نؤمن أو يفترض بنا إن نؤمن بأن هذه الظواهر والأحداث تتميز، أولاً، بموضوعية مستقلة عن الإرادة الفردية، وثانياً، بأن هذه الموضوعية تكشف عن ذاتها في قوانين أو اتجاهات عامة تسودها وتوجه سيرها.....
الفكر الوحدوي العربي كان بعيداً عن هذا المنطلق العلمي، يعمل في دنيا غريبة عنه، فكان بالتالي فكراً تأملياً تبشيرياً، لأنه أهمل، في أحكامه ومواقفه، الظاهرة الوحدوية، كما تعبر عن ذاتها في موضوعيتها التاريخية، أي في تجارب التاريخ الوحدوية. إننا لسنا أول مجتمع يحاول الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة، وكان يجب على الفكر الوحدوي، إن صحت علميته، إن يعود إلى المجتمعات التاريخية – وهي عديدة جداً – التي حققت انتقالاً من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية، أو التي انتقلت فيها كيانات سياسية مستقلة إلى كيان واحد موحد، فيدرسها ويحاول إن يكشف فيها عن الاتجاهات العامة الواحدة التي كانت تعيد ذاتها في هذه العملية (process) الانتقالية الوحدوية، ومن ثم يعتمدها، يرجع إليها ويعمل بوحيها في نضاله نحو الدولة الواحدة. بدلاً من ذلك، كأن الفكر الوحدوي ينطلق، فيما يتعلق بالطريق إلى الوحدة، من رغبات مجردة، مما ((يجب إن يكون)) دون إن يربط ذلك بما ((يمكن إن يكون)).
الفكر الوحدوي كان فاشلاً حتى الآن في التسجيل وأحداث أية خطوة وحدوية ثابتة، لأنه كان فكراً خاطئاً يعود خطأه إلى عجزه عن إدراك الموضوعية المستقلة، التي تميز العملية الوحدوية، أي عملية الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة. هذا الفكر لم يدلل، في الواقع، حتى الآن، على أنه يعي ضرورة هذا النوع من الإدراك، أو حتى وجوده ودوره. العمل الوحدوي يحتاج إذن إلى فكر وحدوي جديد يتميز، أول ما يتميز بنظرة شاملة للوضع الإقليمي وكيفية تجاوزه نحو دولة الوحدة، وذلك في ضوء نظرية عامة جامعة لتجارب التاريخ الوحدوية.
الأجوبة التي تقدمها أية نظرية تتحدد بقدر كبير، وفي بعض الأحيان تتقرر، بنوع الأسئلة التي تطرحها. الإجابات الوحدوية التي كان يقدمها الفكر الوحدوي لم تطرح حتى الآن السؤال الأساسي الذي يمكن إن يؤدي إلى الإجابة الصحيحة وهو كيف تنتقل مجتمعات مجزأة أو كيانات سياسية مستقلة عبر التاريخ من حالة تجزئة إلى حالة وحدة؟.. إن كانت الظواهر الاجتماعية والسياسية تتميز بموضوعية مستقلة تعبر عن ذاتها في اتجاهات أو قوانين معينة، فما هي إذن الاتجاهات أو القوانين التي كانت تكشف عنها هذه التجارب التاريخية الوحدوية؟.
العمل الوحدوي لا يستطيع إن يحقق قفزته الجذرية الثورية الكبيرة إلى دولة الوحدة دون إن تضيء طريقه نظرية وحدوية علمية من هذا النوع. المستقبل العربي سيكون مجتمعاً جديداً قوياً منيعاً، قادراً ليس فقط على مجاراة التاريخ بل على تقدمه وصنعه إن هو استطاع إن يتبلور في دولة الوحدة، أداة التعبئة والتوجيه لكافة موارده الإنسانية والمادية. ولكنه سيكون بربرية جديدة إن هو عجز عن تحقيق هذه الدولة، ولكن هذه الدولة ليست حتمية تشتق من وجودنا كأمة، بل هي احتمال يحتاج، فيما يحتاج إليه، إلى عمل وحدوي فعال يستطيع إن يدفع نحوها ويحققها، ولكن كي يمكن لهذا العمل إن يمارس هذه الفاعلية، يجب عليه اعتماد نظرية موضوعية علمية تحدد الطريق إلى الوحدة.
الطريق الوحيدة إلى هذه النظرية هي الكشف عن الاتجاهات الوحدوية الواحدة التي كانت تتكرر وتعين ذاتها في تجارب التاريخ الوحدوية.
توفر إقليم – قاعدة – أي إقليم ترتبط به وتتمحور حوله الجهود الوحدوية عبر المجتمع المجزأ، يمثل أحد الاتجاهات الأساسية الأولى التي كانت تسود هذه التجارب، مما يعني، بدوره، وجوب توفر إقليم من هذا النوع للعمل الوحدوي العربي إن أراد هذا العمل إن يكون فعالاً في نضاله نحو دولة الوحدة.
تاريخ فرنسا يوفر لنا أحد الأمثلة البارزة على دور الإقليم – القاعدة في عمليات التوحيد السياسي التاريخية. في القرون الوسطى نفسها كان المشرعون الملكيون يعلنون إن فرنسا هي الخليفة الشرعي لـ (غاليا) القديمة، وبالتالي من حقها المطالبة بحدود ((غاليا)) (Gaule) كما وصفها قيصر، أي الرين، والألب، والبيرينيه. هذا المبدأ كان تقليداً في السياسة الفرنسية الخارجية وجر أوربا إلى حروب كبيرة عديدة.
اسم ((فرنسا)) كان آنذاك يشمل فقط الأراضي المحيطة بباريس، والتي كانت تجد حدودها في خمسة أنهر تحيط بها. ولهذا كانت هذه الأراضي تسمى ((إيل دي فرانس)) أو جزيرة فرنسا. حول هذه الأرض تشكلت فرنسا الحالية، وكان ذلك ممكناً لأن ((إيل دي فرانس)) كانت تقوم بدور الإقليم – القاعدة الذي امتدت منه حركة توحيد استمرت تعمل قروناً عديدة بغية تحقيق حدود غاليا.
ضمن هذه الحدود أي حدود فرنسا الحالية، كان هناك عدد كبير من القوميات المختلفة، كما إن القوى القطرية المحلية كانت قوية جداً. فقد كان هناك مثلاًً تجمعات كبيرة من البريتون والباسك، ومجموعات فليمينكية وألمانية، كما كان هناك البروفنسال الذين كانوا يتكلمون لغة منفصلة، أقرب إلى القطلانية منها إلى الفرنسية.
حركة التوحيد التي كانت تمتد من إيل دي فرانس وتتمحور عليها كانت تجد باستمرار مقاطعات فرنسية تقف مع أعداء الفرنسيين وتحارب معهم ضد هؤلاء. ففي حرب المائة عام مثلاًً، كان سكان الجنوب الغربي، وخصوصاًً سكان جاسكونيه، وجويانيه، مع الجانب الإنكليزي بينما كان النبلاء يقفون مع الجانب الفرنسي، وإن لم يكن لأسباب قومية. في المراحل الأخيرة من الحرب وقفت أجزاء عديدة من الشمال إلى جانب دوق بورغوندي الذي كان متحالفاً مع إنكلترا ضد حركة التوحيد القومي في ظل التاج الفرنسي.
كثير من المدن الفرنسية كانت تنجذب آنذاك إلى المدن البلجيكية أكثر من انجذابها إلى مثال الوحدة الفرنسية القومية في ظل ملك متحالف مع الإقطاع .
كثيرون من المؤرخين يلاحظون في هذا الشأن أنه لو انتصرت إنكلترا وبورغوندي في هذه الحرب، لكان أدى الانتصار إلى ظهور عدد من الأمم المستقلة في الأرض التي تتشكل منها فرنسا الحالية وخصوصاًً ظهور بلجيكا كبرى في الشمال، وأمة بروفنسالية في الجنوب.
هذا النزوع المحلي إلى الاستقلال كان قوياً أيضاً في أجزاء أخرى من فرنسا، عندما حاول لويس الرابع عشر مثلاًً كسب ولاء المقاطعات الأخرى التي تتكلم الفرنسية، وكان النجاح الذي حققه في هذا السبيل هو وحده الذي جعل تلك السياسية سياسة قومية توحيدية. فحيثما نجحت هذه السياسة، أي سياسة الدمج مع إيل دي فرانس، توصف بأنها سياسة قومية توحيدية، وحيثما فشلت توصف بأنها سياسة ضم واعتداء. الهجوم على بلجيكا يعتبر اليوم اعتداء لا مبرر له. أما ضم مقاطعات أخرى كمقاطعة اللورين أو الفرانش، فإنه يجد تبريره في ضوء مبدأ الوحدة القومية، ولكن سكان اللورين، والفرانش، كانوا لا يميلون إلى هذه الوحدة آنذاك، ولم يكونوا أقل ابتعاداً عنها من البلجيك أنفسهم.
سكان اللورين قاتلوا قتالاً شديداً، وإن كان يائساً ضد الفرنسيين، فقتل قسم كبير منهم، كما إن الحكومة الفرنسية فكرت، بسبب هذه المقاومة، بترحيل الباقين منهم إلى كندا، ولكن على الرغم من هذا فإن اللورين لم تتحد نهائياً مع فرنسا إلا عام 1766، أما مقاطعة فرانش، فإنها، بعد ثلاثين عاماً من الوحدة مع فرنسا، قدمت إلى المؤتمر الذي هيأ صلح يوترخت (peace of utrechte) عريضة تطالب بالتحرر من ((العبودية الفرنسية)) . وعشية الثورة الفرنسية التي حققت نهائياً الوحدة الفرنسية، كان هناك بعض الأقاليم التي أرادت الاعتراف بها كأمم مستقلة.
على الرغم من إن فرنسا خضعت عبر قرون عديدة لنظام واحد مركز، فإن ذكرى الاستقلال السابق كانت لا تزال حية في عدة أجزاء من أراضيها في القرن التاسع عشر حيث رأينا حركات عديدة تدعو إلى ثقافة خاصة وإلى استقلال ذاتي لهذه الأجزاء، ويدعمها مفكرون معروفون. حتى في النصف الثاني من القرن العشرين لانزال نرى حركات من هذا النوع، كالتي نشاهدها بين سكان بريتانيا والباسك.
من هذا يتضح إن فرنسا، أعرق قومية في أوربا، تكونت عبر قرون عديدة من مئات من الوحدات الإقطاعية. إن طريقة تكوينها كأمة، كوحدة قومية، تعطينا، في الواقع، مثلاًً واضحاً عن الكيفية التي كانت تتم بها عملية التوحيد في تجارب التاريخ الوحدوية: ففي القرن الحادي عشر، كان ولاء النورماندي، الباريسي، الفلاندري، إلخ .يتركز على دوق، ماركيز، أو ملك المقاطعة، وكان الفرد يشعر إن القتال أو الموت في سبيل الدوق، المركيز، الكونت، الذي يمثل المقاطعة واجب عليه القيام به. ولكن بعد بضعة قرون زالت هذه الولاءات، تحولت إلى كيان جديد يدعى فرنسا، وأصبح واجب الفرنسي إن يقاتل ويموت في سبيل هذا الكيان الجديد، كما أصبح من الجريمة إن يقتل فرنسي فرنسياً آخراً.
فرنسا أصبحت منذ عام 1789 بشكل خاص، أنموذج وحدة الأمة – الدولة، ومنذ ذلك التاريخ حققت درجة عليا من الوحدة في الثقافة والتقاليد جعلت الكثيرين ينسون القرون العديدة التي احتاجت إليها في صياغة هذه الوحدة، وكأن الوحدة كانت متأصلة في مزاجها، أو يرون إن بناء وحدتها من مئات من الوحدات والأجزاء الإقطاعية المتحاربة كان نتيجة محتومة وطبيعية، وبالتالي كان لا يمكن تفاديها وتجنبها. الأمر الذي يتخذ هذا المجرى ((الميتافيزيقي)) .
فالرغبات والأهواء الذاتية المختلفة، وحتى الاحتيالات القانونية والصدف لعبت دورها في هذه العملية التوحيدية الطويلة. ولكن من الضروري التنبيه إلى أنه وراء جميع هذه الأسباب التي شكلت جزءاً من هذه العملية كان يقف عاملان أساسياً ضبطا ووجها هذه الأخيرة في تلك الوجهة القومية الوحدوية، وأنه لولا توفرهما لاستحالت هذه النتيجة.
هذا العاملان الأساسيان كانا، أولاً، توفر الإقليم – القاعدة – وثانياً، القائد – الرمـز الذي يرمـز إلـيــها ويشـخص هويتها.
العملية الفرنسية التوحيدية كانت – ككل عملية توحيدية أخرى في التاريخ – ترتبط برمز قوي للسلطة والوحدة. ومن الممكن القول إن مفهوم سيادة رمزية تتجسد في شخص الملك لم تغب تماماً عن مملكة فرنسا حتى أثناء التفكك العام الذي ساد في القرون الوسطى، ولكن مع نمو سلطة الملوك بعد القرن العاشر نمت أيضاً قوة التاج الفرنسي، وقوي جداً دوره التوحيدي، ليس بسبب نمو تلك السلطة فقط، بل أيضاً بسبب نمو ولاء الشعب له، هذا الولاء استمر في الواقع، حتى الثورة الفرنسية، فكان الشعب يشعر حتى في ذلك التاريخ وفي المرحلة الأولى من الثورة نفسها بولاء حقيقي لشخص الملك.
هذا القائد – الرمز كان يجد دوره في كونه ملك مقاطعة فرنسية، هي ((إيل دي فرانس))، مارست دور الإقليم – القاعدة الذي ارتكزت عليه وامتدت منه عملية التوحيد. طريق هذه العملية كانت أساسياً الطريق العسكري.
فالأجزاء الأخرى كانت تضم إلى هذه المملكة – القاعدة ودون موافقتها، ولكن هنا تجب أيضاً الإشارة إلى القوة وحدها لا تفسر عملية تداخلت فيها عوامل شتى تمتد من العامل الاقتصادي، إلى العامل الدبلوماسي، إلى الحظ والخداع.
توفر الإقليم – القاعدة لهذه العوامل المختلفة هو الذي كان مسؤولاً عنها، عن وجهتها الوحدوية.
في جميع مراحل هذه العملية التوحيدية الطويلة كانت طريق التوحيد تدين بالشيء الكثير للأجهزة الإدارية والقضائية والعسكرية والسياسية التي كانت تتشكل منها المملكة القاعدة في امتدادها إلى الأجزاء الأخرى. فهذه الأجهزة وفرت الأرضية القانونية الواحدة التي يمكن تنظيم وتنسيق الحياة الفرنسية اليومية حولها.
المؤرخ يستطيع إن يقف عند ظواهر وعوامل وقوى أخرى عديدة متنوعة أسهمت ولعبت دوراً في عملية توحيد فرنسا، كعلاقة التاج بالبورجوازية مثلاًً، ولكنه سيجد نفسه، كيفما اتجه، أمام ظاهرة تعيد ذاتها باستمرار، وهي الدور الأساسي الرئيسي المهيمن الذي مارسته إيل دي فرانس كقاعدة تنطلق منها وترتبط بها العملية الوحدوية، وأهمية التاج كرمز لها. الحادثة التالية تشف بوضوح عن هذا الدور التوحيدي الرمزي المهم الذي مارسه التاج باستمرار.
ففي عام 1792، عندما انفجرت الحرب الأوربية العامة بين الثورة وأعدائها، صدر قانون يفرض تسجيل الأجانب في كل بلدة وقرية. النتيجة كانت إن السلطات المحلية سجلت كأجنبي كل شخص لم يكن من أبناء المنطقة المحليين.
ولكن في عام 1789، كانت أكثرية الشعب الساحقة- ثمانون في المائة- لاتزال تعطي ولاءها للويس السادس عشر كرمز للوحدة الفرنسية. التاج الفرنسي لعب نفس الدور الذي لعبته، مثلاًً، عبادة الإمبراطور في الإمبراطورية الرومانية.
في هذه العملية التوحيدية لفرنسا، اضطرت الأقاليم المختلفة إلى تبني لغة الإقليم- القاعدة، أي لغة ((إيل دي فرانس))، وإهمال لغاتها المحلية.
تجربة بريطانيا تختلف في كثير من التفاصيل والأمور عن تجربة فرنسا، ولكن لو نحن رجعنا إليها، بدلاً من الأخيرة، كأنموذج لعملية التوحيد السياسي، لوجدنا إن الخطوط الأساسية والعامة واحدة.
واسيكس كانت الإقليم – القاعدة الذي تمحورت حوله وعليه وحدة إنكلترا، وإنكلترا كانت الإقليم- القاعدة الذي تمحورت حوله وعليه وحدة بريطانيا . من هذه القاعدة امتدت سلطة الدولة عبر حروب ضد ويلز، واسكتلندا، وإرلندا، إلى إن تم توحيد الجزر التي تتشكل منها بريطانيا. في بداية القرون الوسطى كان ما نسميه بإنكلترا مجموعة كبيرة من الممالك والإمارات المتخاصمة والمتحاربة. ولكن واسيكس استطاعت إن تحقق نوعاً من الاتحاد بينها في القرن الحادي عشر. هذا الاتحاد كان يمكن إن لا يستمر وأن يكون مؤقتاً لولا الغزو النورماندي الذي أمن له الاستمرار عن طريق إدارة مركزة أعطتها وحدة قومية فعالة قبل أي مجتمع آخر في أوربا.
نواة الاتحاد السويسري الأولى تشكلت من ثلاثة كانتونات وهي يوري (Uri)، شيفز (Sohwyz)، واونتر فالدين (Unterwalden)، تحالفت معاً ضد السلطة الاعتباطية التي حاول ممارستها عملاء رودولف، ملك الهابسبورغ. شيفز كانت قاعدة هذا التحالف الأول لأن جميع سكانها كانوا أحراراً بينما كان سكان الكانتونين الآخرين يخضعون للقنانة. إن الدور الطبيعي الذي قامت به شيفز في كل هجوم تقريباً على النمسا برر نقل اسمها إلى الكونفيدراسيون ككل. عند موت رودلف حولت هذه الكانتونات تحالفها إلى تحالف دائم ضد كل تدخل أجنبي.
الكانتونات السويسرية لم تكن قد حققت بعد، في أواخر القرن الرابع عشر، اتحاداً بينها، أو حتى كونفيدراسيونا صحيحاً. ولكن التحالف الأول تطور فيما بعد إلى كونفيدراسيون، ومن ثم إلى اتحاد ذي تركيب سياسي ثابت.
أهم الأسباب لهذا التطور كان الاتحاد الفريد بين الكانتونات الثلاثة الأولى، الذي وفر قاعدة لتجمعات أكبر واستطاع إن يستقطب الأجزاء الأخرى. هناك طبعاً أسباب أخرى ساعدت في خلق هذا الاتحاد، منها مثلاًً إن الكونفيدراسيون كان رقعة جغرافية متصلة وحدت بين الأقسام الريفية والمدنية، ومنها ضرورة التعاون المطلقة في متابعة حرب ظافرة ضد عدو مشترك متمثل في الهابسبورغ، ومنها العمل التمهيدي الخلاق الذي حققته مملكة الهابسبورغ في محاولتها صنع إقليم واحد من المنطقة السويسرية، إلخ.. ولكـن لولا قيــام الإقلـيم ـ القاعــدة مــنالكانتونات الثلاثة الأولى، وتوفر كانتون شفيز كقاعدة لتحالف هذه الأخيرة، لما كان من الممكن تحقيق الاتحاد السويسري.
فيما يتعلق بإسبانيا، نرى إن كاستيل كانت قاعدة حركة التحرير والتوحيد. اتحاد آراغون وليون معها ثبت هذا الدور المحوري.
من أهم التطورات التي حدثت في إسبانيا بين عام 1031، تاريخ سقوط قرطبة، وبين أواسط القرن الثالث عشر، كان قيام كاستيل بدور التحرير والتوحيد. في عام 1035، أصبح فرديناند الأول ملكاً على كاستيل. بعد عامين، وكنتيجة لحرب ظافرة، ضم ليون إلى مملكته، وفي حرب أخرى لاحقة ضم نافار، مناطق أخرى عديدة . هذه الحركة التوحيدية الظافرة مهدت الطريق أمام خلفاء فرديناند في ضم الأراضي الأخرى التي كان يسودها العرب.
الوحدة الأولى بين كاستيل وليون تعرضت لنكسات عديدة، ولم تتحقق بشكل دائم إلا في القرن الثالث عشر، عام 1230، في عهد فرديناند الثالث الذي تابع بنجاح سياسة التوحيد.
كاستيل كانت تضم المناطق الوسطى والغربية، ولذلك كانت أكبر مملكة في إسبانيا . في عهد فرديناند الأول سادت القسم الأكبر مما أصبح فيما بعد البرتغال، وغزت مملكتي طليطلة وإشبيلية العربيتين، وفي عهد فرديناند الثالث جعلت وسط وغربي الأندلس مناطق كاستيلية، وفي عهد إيزابيلا انتزعت غرناطة من العرب وأدخلت مناطق الباسك نهائياً في دائرة سلطتها.
إسبانيا لم تكن موزعة إلى ممالك وإمارات مختلفة فقط، بل كانت تتقاسمها أيضاً اتجاهات محلية وثقافية متناقضة. كاستيل قامت بدورها كقاعدة لوحدة إسبانيا ليس فقط بسبب عملها السياسي والعسكري، بل لأن ((شخصيتها الثقافية كانت تمتد وتؤكد ذاتها قرناً بعد قرن، وابتداء من القرن الثالث عشر، بشكل عفوي وطبيعي، دون اللجوء إلى العنف أو الإرغام السياسي، لأن تطور لغتها وتميزها بالفاعلية والتنوع والمرونة والجمال، وأدب متزايد النشاط، جعل هذه اللغة تكسف وتمتص اللغات الأخرى التي تنتسب معها إلى أصل واحد، والتي كانت قد ظهرت في استورياس، جاليسيا، ليون، آراغون، وغيرها… اللغة الكاستيلية سادت عليها كلها كلغة الحياة الفكرية وكتعبير عن الإيديولوجية الإسبانية))*.
قضية ألمانيا لا تزال طرية في الأذهان، وعمليتها الوحدوية تعطي أيضاً مثلاًً كلاسيكياً عن دور الإقليم – القاعدة الرئيسي الذي طالعنا في تجارب فرنسا وبريطانيا وسويسرا وإسبانيا. فقد كانت خاضعة لتجزئة قاسية، تقاسمتها مئات الممالك والإمارات. تجاوزها لهذه التجزئة كشف بوضوح إن ذلك إن ممكناً عن طريق إقليم – قاعدة توفر لها في بروسيا التي ارتبطت بها الجهود الوحدوية عبر الوطن الألماني.
الوحدة الإيطالية تكشف أيضاً نفس القانون، أي نفس الدور الرئيسي الذي يقوم به إقليم – قاعدة، يرتبط بتوفره تحقيق الوحدة. إن بيدمونتي قامت بهذا الدور وقادت إيطاليا الممزقة المجزأة إلى وحدتها الحديثة.
في روسيا نجد إن ((الدولة الموسكوفية)) قامت بهذا الدور، دور الإقليم – القاعدة، وكانت نواة وحدتها ومحورها. في هذا الصدد كتب ستالين ((إن أكبر خدمة قدمتها موسكو كانت تحولها إلى مركز لتوحيد روسيا المجزأة في دولة واحدة))*. روسيا تشكلت في شعوب عديدة متمايزة، ولكن دور الشعب الروسي كان دائماً المحور والقاعدة.
في عام 1576 اتحدت أقاليم هولندا في حربها التحريرية ضد إسبانيا تحت قيادة ويليام أوف أوينج. بين الأقاليم المختلفة التي تشكل منها الاتحاد، كان إقليم هولندا هو الإقليم – القاعدة.
الكومنولث البريطاني انهار عندما خسرت بريطانيا دورها الأساسي المحوري ولم يعد بإمكانها إن تمارس، بسبب ضعفها المتزايد، دور القاعدة، وهو دور كان الاعتراف به قائماً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
في تجارب وحدوية أخرى، وهي قليلة جداً، قد لا نجد إقليماً واحداًً يقود عملية الوحدة ويمارس دور الإقليم- القاعدة، ولكننا نجد عادة خطراً خارجياً يفرض على بعض الأقاليم المهددة به القيام بهذا الدور، ففي تجربة الولايات المتحدة مثلاًً نجد إن ماسيتشوستس، وبانسلفانيا، وفرجينيا، وكانت أضخم الولايات الموجودة آنذاك، مارست الدور الأساسي في إقامة اتحاد الولايات الأميركية المتحدة. فيما بعد رأينا إن هذا الاتحاد الأول الذي تشكل من ثلاث عشرة ولاية مارس دور القاعدة في عملية الدمج السياسي الذي كان يمتد إلى المناطق والولايات الجديدة.
من حيث الحجم والمساحة والإمكانات، لم ترد أو لم تستطع إن تقوم بدورها كقاعدة. غواتيمالا كانت القوة الأساسية في بناء ومن ثم انهيار ((اتحاد أميركا الوسطى))، 1823،1839.
جمهوريات أمريكا الوسطى تتشابه أكثر من أية مجموعة أخرى من الحكومات أو الأمم، ولهذا فإن المحاولات التي شاهدتها في إقامة حكومة مركزية واحدة تضمها كلها، كانت تثير من البداية درجة عليا من التفاؤل. أما السبب الثاني الذي كان يدعو إلى هذا التفاؤل فيعود إلى كون هذه البلدان كانت تشكل وحدة سياسية لمدة ثلاثة قرون في ظل السيادة الإسبانية.
المحاولة الاتحادية الأولى، عام 1823-1824، فشلت وكانت النتيجة خمس جمهوريات صغيرة. ومشاعر وضغائن مريرة نمت أثناء مماحكات طويلة حول مركز الحكومات المختلفة في الجمهورية الواحدة. أميركا الوسطى دمرت نفسها في الأحقاد التي نتجت عن الأحكام والقرارات المختلفة المتناقضة التي كانت تفرزها فيما يتعلق باتحادها . الحكومة الاتحادية الثانية التي تشكلت عام 1830 كانت لا تستطيع الاطمئنان إلى ولاء أية حكومة بين الحكومات المحلية بسبب هذه الأحقاد التي كانت تمزقها.
بعد فشل المحاولة الاتحادية الثانية، عام 1842، قامت محاولات أخرى لا تقل عن ثمانية بين عام 1842 وعام 1963، ولكنها فشلت كلها في تحقيق الاتحاد. هذه النتائج السلبية كشفت لعدد كبير آنذاك إن الضعف الأساسي في هذه المحاولات كان فقدان الإقليم- القاعدة الذي تتمحور عليه وحوله الجهود الوحدوية، وبالتالي دفعت الكثيرين من السياسيين والكتاب إلى حل جديد يرتبط بدعوة غواتيمالا إلى ممارسة دورها القيادي، ويرى إن طريق الاتحاد يرتبط بهذا الدور. ولكن كارارا، الذي كان يحكم غواتيمالا آنذاك، لم يكن يهتم بهذه القضية، وهذا الإهمال منه ((شكل على الأرجح جريمته الكبرى)).
وحدة العالم الكاثوليكي كانت تعود حتى الآن إلى وجود قاعدة تتمثل في روما أو الفاتيكان، ترتبط بها وتنقاد لها. في الستينات ابتدأ دور هذه القاعدة يضعف، وظهرت حركات تتميز بقدر كبير من الاستقلال مما جعل الكثيرين يرون إن مصير الكنيسة الكاثوليكية سينتهي، إن تابع هذا التحول مجراه، إلى مصير البروتستانتية أي في كنائس وطوائف ومذاهب مختلفة، كل منها يتمتع بهوية منفصلة ووجود خاص.
هذه الأمثلة كافية فيما يتعلق بالغرب للتدليل على ضرورة توفر إقليم- قاعدة كشرط في الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة . ((جميع الدول الأوربية الحالية، والتي ترجع إلى العصور الوسطى بجذورها، ظهرت إلى الوجود عن طريق ضم أراض كانت سابقاًً مستقلة عنها، بالانطلاق من قاعدة مركزية، امتدت حدودها خارجياً في جميع الاتجاهات، وفي دوائر كانت تتسع باستمرار)).
السلام الذي كان يحققه الغرب بين بعض أقاليمه كان يعني دائماً خضوع هذه الأقاليم لسلطة مركزية واحدة. ((تاريخ الغرب الذي يمتد إلى خمسة آلاف سنة يكشف إن المجتمع الغربي لم يستطع أبداً إن يحقق السلام لمدة طويلة في منطقة معينة إلا بإخضاع هذه المنطقة لسلطة حكومة واحدة)).
روما، المدينة الصغيرة على نهر التيبر، أعطت اسمها للعالم الكلاسيكي.المدن الإيطالية ارتبطت بها وتمحورت حولها كقاعدة للإمبراطورية الرومانية .
الشواطئ الطويلة التي تشكل حدود شبه الجزيرة الإيطالية كانت تجعلها عرضة للغزو والاعتداءات، ولهذا رأت روما إن توحيدها يشكل الأساس الأول لأية سياسية عالمية تريدها. في سبيل هذا القصد، قامت روما بسلسلة من الحروب كانت تقود فيها شعباً إثر آخر إلى الخضوع والارتباط بها كقاعدة لهذه الدولة أو الوحدة، أما سياستها تجاه القبائل المختلفة التي كانت تسكن شبه الجزيرة فكانت سياسة معتدلة لأن روما كانت تريد الاستقرار فيها كي يمكن لها متابعة سياستها الإمبريالية في الخارج. إن خطر قبائل الغول ساعد في تدعيم هذه السياسة لأنه جعل قبائل إيطالية معتمدة على روما في حمايتها. هكذا نما وتطور مع الوقت شعور عام بالالتحام بين هذه القبائل نتج عن الارتباط بهذا الإقليم – القاعدة))، وتبلور تدريجياً في ((شعور قومي)) موحد. فالناس أخذوا يشعرون، نتيجة لهذه المشاركة، ليس في روما فقط بل في جميع شبه الجزيرة، بأنهم رومان.
وجود مدن كبيرة متماثلة أو متوازية الإمكانات في اليونان القديمة كان من الأسباب الأولى التي منعت وحدتها. إن أعظم حرب داخلية عرفتها هذه المدن، الحرب البيلوبونيزية التي استمرت ثلاثين عاماً تقريباً، كانت تعود، كما يرى كثيرون من المؤرخين، إلى صراع حول وحدة اليونان القومية، أو بالأحرى حول من يقود هذه الوحدة. هذا لصراع الطويل بين اسبارطة وأثينا قاد إلى انهيار اليونان كقوة تاريخية مستقلة، وكان في الواقع يعبر عن مفهومين مختلفين جداً للحضارة.
هناك (( جامعات سياسية )) أو تحالفات كانت تتشكل في بعض المدن اليونانية، تلتقي فيها هذه المدن ككيانات مستقلة، تتمتع كل منها بحقوق متساوية، ولكن هذا التحالف يتطور في بعض الأحيان فيضفي على إحدى المدن دوراً قيادياً. ابتداء من القرن السادس ق.م . ابتدأ في الواقع شكل سياسي جديد بالظهور في الحياة اليونانية. هذا الشكل كان يعني تحالف عدد من ((المدن – الدول)) حول مدينة – قاعدة. إنه كان يعني مركزاً قيادياً لـ ((مدينة-دولة )) في الحرب، لا يلبث إن يتحول إلى مركز قيادي في السياسة.
في جميع جامعات التحالف التي كانت تتشكل بين المدن اليونانية القديمة نجد مدينة واحدة تقوم بدور القاعدة والمحور.
المدن اليونانية بقيت منفصلة، متخاصمة، مستقلة عن بعضها، عاجزة عن تحقيق وحدتها بسبب غياب المدينة- القاعدة التي تستطيع استقطابها كلها إلى إن توفر لها ذلك في مقدونيا التي استطاعت إن تفرض إرادتها فتوحدها وتجعل من ملكها فيليب سيداً ورمزاً لهذه الوحدة.
في جميع الممالك والإمبراطوريات التاريخية التي تم فيها الانتقال من الطور القبلي إلى الطور السياسي الإقليمي. كانت هناك دائماً قاعدة تقود عملية الانتقال أو عملية التوحيد، وتتمثل في إقليم، قبيلة، أو عائلة.
الصين مثلاًً كانت في بداية تاريخها مجزأة إلى أنظمة إقطاعية ودول عديدة تمزقها في حروب أهلية مستقلة. كان هناك سبع دول كبيرة تتمحور عليها هذه الخصومات والحروب. تحقيق وحدتها الإقليمية لأول مرة في تاريخها تم في نهاية القرن الثالث ق.م، عام 221. وكان ذلك يعود إلى دولة ch,in التي قامت بدور الإقليم – القاعدة ومارست باستمرار سياسة توحيدية إلى إن تم إنشاء الدولة الواحدة. اسم الصين نفسه يشتق من هذه الدولة – القاعدة التي سحقت النظام الإقطاعي القديم وحققت وحدة الصين في دولة جديدة. في جميع حركات التوحيد السياسي التي كانت تحدث في الصين في تاريخها الطويل، بعد مراحل من التجزئة والانقسام عديدة، برز بوضوح دور الإقليم – القاعدة في تحقيق ذلك وجعله ممكناً.
ما ينطبق على الصين، ينطبق على بلدان شرقي آسيا، وعلى حضارات ما بين النهرين الأولى. تاريخنا العربي يقدم مثلاًً واضحاً عن هذا القانون الوحدوي.
تاريخ هذه الممالك والإمبراطوريات التاريخية يكشف أيضاً، من ناحية أخرى إن من أهم أسباب انهيارها كان ضعف الإقليم – القاعدة مما يحرك أطماع ومطامح الأطراف ويدفعها إلى الانسلاخ عنه.
في الحركات الثورية نفسها نجد قاعدة طبقية أو تنظيمية تتركز عليها الحركة أو مختلف الجماعات والطبقات والمنظمات التي تساهم فيها. فالحزب الشيوعي مثلاًً كان هذه القاعدة، من روسيا إلى الصين، ومن كوبا إلى فيتنام. ((إن غياب قاعدة صلبة من القوى الثورية يدفع الثورة إلى الهزيمة)).
تاريخ الحركة الشيوعية العالمية يوفر لنا، في الواقع، مثلاًً واضحاً عن دور القاعدة في تحقيق أية وحدة فعالة بين عدد من الحركات والأحزاب الثورية، ويكشف بوضوح إن هذه الوحدة تستحيل دون توفر هذه القاعدة التي تستقطب هذه الحركات والأحزاب كمحور ترتبط به. الحركة الشيوعية العالمية كانت تشكل عالماً واحداًً موحداً فقط عندما كانت ترتبط بمركز واحد، بقاعدة، موسكو، في المرحلة الستالينية. ولكن عندما انهارت وحدتها فتمزقت إلى عوالم عديدة متنافرة ومتخاصمة.
في تلك المرحلة كانت الأحزاب الشيوعية العالمية محض طلائع أمامية للجيش الرئيسي الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفييتي . ستالين كان يرى إن الرأسمالية تسير نحو الانهيار ومقضي عليها بالموت، ولكنه كان يؤمن بأن هذه النهاية لن تكون نتيجة (مغامرات)) ثورية في الصين أو في فرنسا، إلخ.. بل نتيجة نمو قوة الاتحاد السوفياتي العسكرية ومنعته الصناعية. الخط السياسي والإيديولوجي الذي كانت تتبعه موسكو آنذاك واحداًً للجميع، وكل شيوعي لا يلتزم بهذا الخط كان ينكر نفسه كشيوعي. في عام 1927، كتب ستالين في هذا الشأن بأن ((الثوري هو من كان مستعداً لحماية الاتحاد السوفياتي والدفاع عنه دون أي تحفظ، دون أية شروط، بشكل صريح وصادق… الأممي هو من كان مستعداً للدفاع عن الاتحاد السوفييتي دون تحفظ، دون تردد، دون أي شرط، وذلك لأن الاتحاد السوفييتي هو قاعدة الحركة الثورية العالمية، ولأنه لا يمكن الدفاع عن هذه الحركة وإعلاء شأنها دون الدفاع عن الاتحاد السوفياتي)).
وحدة العالم الشيوعي في العهد الستاليني كانت تعود إلى الاعتراف بالمبدأ الذي أعلنه الاتحاد السوفييتي والقائل بضرورة إعطاء أولوية سافرة واضحة لمصلحته على مصلحة الثورة العالمية عندما يكون هناك تناقض بين الاثنتين.
شعار ((وطن جميع الكادحين)) كان يعبر طيلة المرحلة الستالينية عن مبدأ أساسي يعني إن مصلحة الاتحاد السوفباتي تمثل المصلحة العليا للشيوعية العالمية التي يجب على كل شيوعي إن يضحي في سبيلها بكل اعتبار آخر. هذا كان يعني علمياً إن انتصار الشيوعية في أي بلد آخر يجب إن يرتبط بهذه المصلحة، ويشكل أمراً غير مرغوب فيه إن لم يكن بمساعدة الاتحاد السوفييتي أو الاتفاق معه. كان على كل دولة شيوعية جديدة إن تخضع لدور الاتحاد السوفييتي وأن ترتبط به كقاعدة، مثلها مثل الأحزاب الشيوعية الأخرى.
في قرار الكومينفورم، حزيران عام 1948، الذي طرد الحزب الشيوعي اليوغسلافي من صفوفه، نجد إن التهمة الأساسية كانت رفض الولاء للاتحاد السوفييتي . مبدأ الارتباط بالاتحاد السوفييتي كقاعدة للحركة الشيوعية العالمية كان واضحاً في سياسة الكومينتيرن ومن بعده الكومينفورم، التي كانت تنكر مبدأ الطرق المتعددة نحو الاشتراكية، وتعتبر كل قول بهذا المبدأ انحرافاً وخيانة.
في مؤتمر الأحزاب الشيوعية المنعقد في موسكو، في تشرين الثاني عام 1957، هاجم ماوتسي تونغ نفسه يوغسلافيا ليس فقط بسبب ((انحرافها)) بل لأنها ترفض الانصياع لنظام واحد يتمحور على الاتحاد السوفييتي كقاعدة له. الحزب الشيوعي الصيني كان يرى آنذاك إن هذا الارتباط ضروري، ويشكل ضمانة للانتصارات الثورية المقبلة، وأن رفضه يعني رفض هذه الانتصارات واستمرار الإمبريالية، فالصين، كما قال ماوتسي تونغ آنذاك ((تمتلك تجربة ثورية كبيرة، ولكن القليل من الخبرة في البناء الاشتراكي. الصين دولة كبيرة،ولكنها لا تمتلك سوى صناعة صغيرة، الصين لا تمتلك ربع سبوتنيك بينما يملك الاتحاد السوفييتي اثنين. ولكن قبل كل شيء تقف وراء الاتحاد السوفييتي تجربة تمتد لأربعين سنة. دون الاتحاد السوفييتي كنا أصبحنا كلنا تحت سيطرة بلدان أخرى)).
انتصار الماوية عام 1949 الذي كان يعني ظهور دولة شيوعية كبيرة يمكن لها منافسة الاتحاد السوفييتي في استقطاب الحركة الشيوعية العالمية، ومن ثم الانشقاق الذي حدث بين الاتحاد السوفييتي والصين في بداية الستينات، خلق قاعدتين كبيرتين، وهو أمر مزق وحدة العالم الشيوعي. هذا التطور – بالإضافة إلى قدرة يوغسلافيا على الاستمرار في خطها المستقل – وضع نهاية لدور الاتحاد السوفييتي كقاعدة، وبذلك قضى على وحدة العالم الشيوعي. إن سلطة ستالين الهائلة عبر العالم الشيوعي كانت كافية أثناء حياته في الحد من هذا التمزق وتجاهله . ولكن بعد وفاته، كان على خلفائه الاعتراف بهذا الواقع والتكيف معه.
أزمة الشيوعية العالمية أو وحدة العالم الشيوعي برزت بوضوح في أواسط الخمسينات عندما رفض عدد كبير من القادة الشيوعيين الكبار، وأحزاب شيوعية بكاملها، الاعتراف بالاتحاد السوفييتي كالأنموذج الوحيد للتجربة الشيوعية، كقاعدة للسياسة والولاءات الشيوعية عبر العالم، وبقيادته للعمل الشيوعي. هنا نجد ولادة ((الشيوعية القومية)).
في نهاية عام 1956 بلغت الأزمة الإيديولوجية أوجها في الحركة الشيوعية العالمية. رفض دور الاتحاد السوفييتي كقاعدة للحركة الشيوعية العالمية أدى بسرعة، ليس إلى نوع جديد من الوحدة، بل إلى تفكك وحدة هذه الحركة وتبعثرها في مراكز مختلفة متناقضة، وفي بعض الأحيان متعادية. عندما أعلن تولياتي، عام 1956، فكرة ((تعدد المراكز)) للحركة الشيوعية، كان ذلك يعني أنه لم يعد بإمكان أي نظام شيوعي إن يعلن أحكام إيديولوجية أو سياسية واحدة تعبر عن إرادة العالم الشيوعي. الاعتراف بتعدد الطرق نحو إقامة سلطة إشتراكية وتنوع لأنظمة في استخدام هذه السلطة كان، في الواقع، يتناقض حتى مع وحدة السياسة الخارجية التي ظن الاتحاد السوفييتي والصين آنذاك إمكان الاستمرار عليها رغم الاعتراف بمبدأ هذا النوع.
في ربيع عام 1957 أدرك قادة الأحزاب الشيوعية بأن خصوماتهم الإيديولوجية تهدد سلطتهم وابتدأوا يعملون على إعادة شكل من أشكال الوحدة الشيوعية العالمية بينهم. في تشرين الثاني عام 1957، دعا خروشوف إلى عقد مؤتمر الأحزاب الشيوعية في موسكو، كي ينال الاعتراف بالمبدأ القائل بأن الشيوعية العالمية تحتاج إلى سلطة واحدة تعبر عنها، وأن هذه السلطة لا يمكن إن تكون سوى الاتحاد السوفييتي كقاعدة لها، وأن الوحدة الإيديولوجية في عالم مقسوم على ذاته تتطلب الولاء لهذه القاعدة. إن نجاحه كان كبيراً على الرغم من استمرار يوغسلافيا في خطها المستقل. فالحزب الشيوعي الصيني أكد بشدة على الاعتراف بالقيادة السوفييتية وسلطتها الإيديولوجية، وماوتسي تونغ نبه بوضوح إلى الحاجة إلى قائد واحد للأحزاب والدول الشيوعية، وإلى إن الاتحاد السوفييتي وحده يستطيع توفير هذه القيادة الموحدة.
ولكن هذا النجاح كان مؤقتاً ولم يكن باستطاعته الاستمرار طويلاً، ولهذا انفرط عقده ابتداء من عام 1960، عندما أخذت الصين تمثل دور القاعدة الثانية.
أساس سياسة خروشوف للحركة الشيوعية العالمية كان الاعتقاد بأنه لا يمكن إن يكون هناك تناقض رئيسي بين مصلحة الاتحاد السوفييتي ومصلحة الأحزاب والدول الشيوعية الأخرى.انهيار هذا المفهوم كان واضحاً في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي الثاني والعشرين الذي كشف عن انهيار التسوية السوفييتية – الصينية التي تم الاتفاق عليها في مؤتمر الأحزاب الشيوعية العالمي عام 1960. السبب المباشر لذلك كان التحدي الصيني السافر لسلطة خروشوف ورفاقه، الذي عبر عن ذاته في تأييد الفئات الستالينية في الاتحاد السوفييتي، والبلدان الشيوعية الأخرى في البلقان. ظهور قاعدتين للعالم الشيوعي، واحدة في الاتحاد السوفييتي وأخرى في الصين الشعبية، مزق وحدة العالم الشيوعي وتركه في متاهة إيديولوجية، وسياسية. ظهور قاعدتين لم يكن يعني فقط انشقاق العالم الشيوعي إلى نصفين متناقضين – اتساع تناقضات وخصومات الدول والأحزاب الشيوعية التي تجد نفسها مضطرة إن تقف إلى جهة دون الأخرى، أو إن تقف على الحياد بين الطرفين – بل خلق وضعاً يزيــد من قــدرة هذه الدول والأحزاب على الاستقلال بسياستها .
ظهور قاعدتين للحركة الشيوعية العالمية، واحدة في موسكو وأخرى في بكين، كل منهما تنافس الأخرى في الهيمنة على العالم الشيوعي، مزق هذا العالم وحوله إلى شيوعيات قومية تحدث في إطارها جميع التطورات الجديدة في الشيوعية. وما يربط حالياً بين الحركات والأنظمة الشيوعية في العلاقات الدولية أو ما يدفعها إلى الوقوف معاً هو الخوف من مخاطرة خارجية وداخلية، والضغوط التي تمارسها القاعدتان.
في مؤتمر 1957، أكدت الصين، في الواقع، أنه لا يمكن قيادة الأحزاب الشيوعية العالمية كحزب واحد، ولهذا يجب إن تكون هذه الأحزاب مستقلة في أجهزتها. ولكنها، من ناحية أخرى، يجب إن تلتقي على أرضية إيديولوجية واحدة، وهذا يتطلب الاعتراف بالسلطة الإيديولوجية لحزب قائد. الحكومات الشيوعية هي الأخرى حكومات متساوية وذات سيادة ولكنها تحتاج إلى سياسة خارجية واحدة يجب تحديدها، بعد المشاورة، من قبل حكومة دولة قائدة. القاعدة التي تتمثل في حزب قائد، في دولة قائدة من هذا النوع، زالت، وبزوالها زالت وحدة العالم الشيوعي.
هذه الملاحظات تدل بوضوح على إن التجارب الوحدوية التاريخية الناجحة كانت كلها تقريباً من النوع الذي تجري فيه العملية (process) الوحدوية تحت قيادة إقليم – قاعدة. فهناك عادة بين الأقاليم المدعوة إلى الوحدة أو الاتحاد، إقليم يتفوق على الأقاليم أو الأجزاء الأخرى، من حيث الالتزام بالقصد الوحدوي والإمكانات المختلفة التي وضعها في خدمة هذا القصد. هذه الإمكانات كانت تعطي هذا الإقليم القدرة على ممارسة دوره الطليعي القيادي لعملية الوحدة، المؤرخون الذين درسوا هذه الظاهرة توصلوا إلى نتيجة مماثلة من هذه الناحية.
((في الاتحادات الكبيرة توجد غالباً وحدة (Unit) تلعب دور الضابط. إنها ليست قوة من الدرجة الأولى، ولكنها تكون أقوى من الوحدات الأصغر)).
مهما كانت القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، والإيديولوجية التي تستخدم في خلق وحدة سياسية جديدة، فإن الطريقة التي تتوزع بها هذه القوى بين الأقاليم المختلفة المدعوة إلى الوحدة، تشكل قضية من أهم القضايا التي تواجه كل عمل وحدوي تاريخي لأن النتائج التي تترتب عليها قد تعني ولادة الاتحاد وحياته أو إجهاضه ومماته. توزع هذه القوى بشكل متساو بين جميع الأقاليم أو بعضها يشكل حاجزاً كبيراً ضد الوحدة لأنه يعني قيام محاور عديدة له، يستطيع كل منها إن يبرز وجوده بالرجوع إلى قوى موضوعية تدعمه، وبذلك تتجزأ وتتبعثر الجهود الوحدوية، وقد لا تصل أبداً، بسبب ذلك، إلى الوحدة. ولكن إن هي توزعت بشكل تتركز فيه، كنتيجة لعمل التاريخ والواقع، في إقليم واحد، فإن ذلك يسهل جداً العملية الوحدوية، لأن العمل الوحدوي يمكنه آنذاك تحقيق وحدته عن طريق توفر محور له يدور حوله ويرتبط به. لاشك إن بعض هذه الأقاليم يستطيع، بشكل أو بآخر، إن ينافس الإقليم – القاعدة في هذا الدور القيادي. ولكن بما إن الإمكانات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والبشرية والإعلامية والإيديولوجية والإستراتيجية التي يمكنه اعتمادها هي أضعف مما يتوفر لهذا الأخير، فإنه يعجز في المدى البعيد عن إعطاء الدور الطليعي الذي يزعمه لنفسه القدر الضروري من الفاعلية التي تضفي عليه ما يحتاجه من جدية، وخصوصاًً عندما يحسن الإقليم – القاعدة استخدام قواه في وجهة وحدوية. لهذا فإن النتيجة النهائية لانحرافه عن الارتباط بالإقليم المؤهل لأن يكون إقليم -القاعدة تكون فقط تعثير وتخريب العمل الوحدوي.
الأمثلة التاريخية التي قدمناها والتي تمثل شتى أطوار التاريخ وشعوبه، تقود إلى استنتاج واضح صريح بارز يفرض ذاته في كل دراسة علمية لتجارب التاريخ الوحدوية، وهو إن وجود قاعدة واحدة تقوم بدور القيادة للعمل الوحدوي هو شرط أساسي في الانتقال الفعال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة.
إن تجارب التاريخ تدل بوضوح على إن وجود قاعدتين أو أكثر يقتل عادة الوحدة بين الأقاليم المدعوة إليها. إن وجود اسبارطة وأثينا في اليونان القديمة، مثلاًً، قتل وحدتها وحال دونها. وجود النمسا وبروسيا اللتين تنافستا على دور الإقليم – القاعدة عثر كثيراً سير ألمانيا نحو وحدتها. اتحاد ((الوست انديز)) الفاشل يعود أيضاً بفشله إلى وجود قاعدتين .
فهذا الاتحاد كان يتشكل من جزيرتين كبيرتين هما جامايكا وجزيرة ترينيداد، ومن ثماني جزر صغيرة. لاشك إن أسباب الفشل كانت عديدة، ولكن مما لاشك فيه أيضاً إن وجود جزيرتين كبيرتين إنيتين أدى بدوره إلى تعثير الاتحاد. قيام قاعدتين في العالم الشيوعي كان، كما رأينا، من الأسباب التي قضت على وحدته. في كينيا، نجد مثلاًً، إن وجود قبيلة واحدة، وهي قبيلة الكيكويو، ذات حجم كبير بالنسبة للقبائل الأخرى، سهل وحدة البلاد. ولكن وحدة نيجريا كانت ضعيفة بسبب وجود بعض القبائل الكبيرة المتماثلة حجماً وقوة. وهكذا دواليك !..
((الوحدات التي تشكلت دون إن تتوفر لها قاعدة قوية متفوقة تتمحور عليها كانت عادة تفشل في الاستمرار، كما نجد مثلاًً في تفكك وحدة أسوج ونروج)) . إيطاليا في عصر النهضة عجزت عن تحقيق وحدتها لأنه لم يكن هناك بين المدن التي تتشكل منها من مدينة تستطيع القيام بدور القاعدة. تماثل المواقف والأنظمة السياسية والاجتماعية والإيديولوجية بين أقاليم وحكومات مختلفة لا يعني أبداً اتفاقها على الوحدة، سيرها نحوها وتحقيقها. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، مثلاًً، كان معظم الأمراء الألمان والطليان يشاركون في مفاهيم وأنظمة متماثلة، ولكنهم لم يصنعوا شيئاً في سبيل الوحدة، وعجزوا عن تحقيق أية خطوة نحوها. تحقق الوحدة في إيطاليا وألمانيا يعود إلى توفر قاعدة ارتبطت بها الجهود الوحدوية واستطاعت بما تتميز به من قوة إن تفرضها على الآخرين.
العمل الوحدوي يعني تنسيق الجهود والنشاطات بين أقطار وبلدان مختلفة. هذا التنسيق قد يتوفر، أولاً، عن طريق سلطة خارجية، ثانياً، عن طريق انسجام عفوي بين أقطار وأقاليم معينة، ثالثاً، عن طريق مركز يتخذ القرارات الأساسية وتتركز عليه الجهود الوحدوية. التجارب الوحدوية التاريخية تدل بوضوح على إن الطريق الثالثة كانت الطريق التي هيمنت على هذه التجارب. إن الطريق الأولى تأتي في المرتبة الثانية، وأن الطريق الثانية كانت نادرة أو غير موجودة.
من هذا يمكن أو بالأحرى يجب إن نخلص إلى القول إن تجارب التاريخ الوحدوية تدل بوضوح على أنه يجب إن يتوفر إقليم – قاعدة لعملنا الوحدوي، يرتبط به هذا العمل ويتمحور عليه إن هو أراد الفاعلية والنجاح، وإن نحن أردنا حقاً عن وعي تحقيق دولة الوحدة التي تضمنا في كيان سياسي واحد موحد يجمعنا من الخليج إلى المحيط.
هذا الشرط الضروري في تحقيق الوحدة توفر لنا من أواخر الخمسينات إلى أواخر الستينات، في المرحلة الناصرية، ولكن مع الأسف عجزنا عن الارتفاع إلى مستوى المهمة التاريخية الكبرى الملقاة على عاتقنا كوحدويين. إنها قد تكون الفرصة التاريخية الوحيدة التي سمح بها التاريخ الحديث في تحقيق الوحدة.
ولكنها فرصة ضاعت علينا، وضياعها يعود إلى ما ميز العمل الوحدوي من ضحالة ثورية ومن عجز فادح في الوعي الوحدوي. إن نحن عجزنا عن تحقيق دولة الوحدة، فإن مؤرخ المستقبل سيكتب عند تأريخ هذه المرحلة بأن أعظم كارثة نزلت بنا لم تكن سوى عجزنا عن الإفادة من المرحلة الناصرية في تحقيق هذه الوحدة. في ضوء تجارب التاريخ الوحدوية والقوانين العامة التي تكشف عنها، نستطيع القول إن العنصر الموضوعي الإيجابي الوحيد الذي لا يزال يتوفر لنا في الدفع نحو الوحدة هو معركة فلسطين. إن نحن تجاهلنا، نسينا، تجنبنا، أو ألغينا هذه المعركة، فذلك يعني نهاية كل أمل وحدوي، والموت النهائي للقصد الوحدوي في هذا البحث أشرنا فقط إلى دور الإقليم - القاعدة كواقعة تعيد ذاتها في تجارب التاريخ الوحدوية، أي كقانون وحدوي، ولكن كي يتكامل البحث يجب إن نفسر بشيء من الإسهاب هذه الظاهرة، أي إن نشرح الأسباب الكامنة وراء هذا الدور، الأسباب التي تفرضه كضرورة، وهو موضوع نتركه لمناسبة أخرى..