صفحة 1 من 1

مفهوم الديمقراطية المعاصرة

مرسل: الجمعة سبتمبر 13, 2013 2:58 pm
بواسطة عبدالله القاسم٣٣٦
مفهوم الديمقراطية المعاصرة


بادئ ذي بدء نحتاج من أجل تحديد مفهوم الديمقراطية التي نسعى إلى تعزيز جهودها، إلى التأكيد على أن الديمقراطية منهج يؤدي اتباعه إلى تفعيل عملية سياسية وإرساء أسس نظام حكم وليست عقيدة جامدة تنافس غيرها من العقائد والنظريات وتنفيها، وإنما يتأثر مضمون الممارسة الديمقراطية بالتفضيلات العقائدية للمجتمعات وثوابتها في إطار المحافظة على الديمقراطية باعتبارها منهجا لإدارة أوجه الاختلاف وتعارض المصالح سلميا وفق مبادئ ومؤسسات وآليات وضمانات لا تقوم لنظام الحكم الديمقراطي قائمة إذا لم يتم العمل بالحد الأدنى اللازم منها.

ونقطة البداية في تحديد مفهوم الديمقراطية تتمثل في التأكيد على إن الديمقراطية لا يوجد لها تعريف جامع مانع، ولا شكل تطبيقي واحد صالح لكل زمان ومكان تأخذ به جميع نظم الحكم الديمقراطية في العالم. وربما لن يوجد مثل هذا التعريف أو الشكل الثابت، طالما استمر وجود الأمم والشعوب والمجتمعات والدول المتعددة المرجعيات الثقافية والتاريخ الاجتماعي، وذات التجارب السياسية المتنوعة. ولو كان للديمقراطية شكل جامد ومضمون عقائدي ثابت، لما استطاع نظام الحكم الديمقراطي أن ينتشر عبر القارات ويتكيف مع مختلف الثقافات دون أن ينفي عقائد المجتمعات وقيم الشعوب المختلفة، بل إن الممارسة الديمقراطية الحقة قد ساعدت على تنمية الثقافات الوطنية وأكدت على الثوابت التي تٌجِلّها الشعوب. الأمر الذي أدى إلى تزايد الطلب على نظام الحكم الديمقراطي من قبل الشعوب في كافة الدول غير الديمقراطية دون استثناء.

إن الديمقراطية اليوم مفهوم حي ينمو وينضج لتلبية الحاجة المتعاظمة لنظام الحكم الديمقراطي. وقد بدأ مفهوم الديمقراطية أميل إلى الأخذ بصفة المنهج ونظام الحكم والعملية السياسية، واصبح له من التعريفات بعدد ما هناك من باحثين تناولوا الديمقراطية. بل ان نفس الباحثين قد غيروا تعريفاتهم عبر الزمن (Vanhanen1997:28 - 31). كما نمى فهم مشترك افضل لدى الدارسين حول دواعي وأسباب وشروط الانتقال إلى الديمقراطية، ولم تعد الشروط المسبقة التي كان يعتقد في الماضي أنها تتمثل في النمو الاقتصادي وانتشار الثقافة الديمقراطية شروطا لازمة لحدوث انتقال إلى الديمقراطية (Vanhanen 1997:10 - 26). بل لم يعد يرى المتابعون لعملية الانتقال إلى الديمقراطية ان الشــروط الاقتصـادية والاجتماعية كافية في حد ذاتها إلى جانب عدم كونها غير لازمة للانتقال (Waterbury 1999:261)، وإنما قد يكون تردي أداء النظام السياسي في مجال الأمن والتنمية – على سبيل المثال - ومن ثم الوصول إلى مأزق سياسي Stalemate وطريق مسدود يحول دون قدرة النظام السياسي على الحكم بأساليبه السابقة، وعدم قدرة أي من فصائل المعارضة على الاستحواذ على الحكم منه، سببا للانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي باعتباره الاختيار الثاني المتاح لجميع القوى الفاعلة (Waterbury 1999:261). هذا إضافة إلى عدد كبير من العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤدي إلى الانتقال إلى الديمقراطية حيث لم يكن يتوقع حدوث الانتقال في الماضي (Diamonds and others 1989 (vol.3): IX - XXV) مثل وجود حاكم مستنير أو وجود قيادات واعية ومسئولة تتوافق على الانتقال إلى الديمقراطية. ومن هنا يمكن القول ان شروط الممارسة الديمقراطية، من بنى مجتمعية ناضجة وثقافة ديمقراطية ووجود مجتمع مدني ورأي عام مستنير، يمكن أن تنمو من خلال عملية التحول الديمقراطي نفسها بعد إعلان القطيعة مع قبول حكم الفرد والقلة وإنكار هيمنتهم على مقدرات الدولة والمجتمع، وليس من الضروري أن تكون تلك الشروط مكتملة قبل الانتقال إلى الديمقراطية.

وجديرٌ بالتأكيد أيضاً أن عدم وجود تعريف جامع مانع للديمقراطية صالح لكل زمان ومكان، لا يعني بأي حال من الأحوال أن الديمقراطية شئ هلامي غامض غير محدد المعالم والصفات. فالديمقراطية لها ثوابت تتجلى اليوم في مبادئ ومؤسسات وآليات وضمانات الدستور الديمقراطي. كما أن للديمقراطية قيما تتمثل في الحرية والمساواة والعدل والتسامح تفترض ضرورة قبول الآخر والتعامل معه على قدم المساواة.

ولذلك كله فإن قضية الانتقال إلى الديمقراطية وما يجب أن يليها من تحول ديمقراطي سلمي ليست مجرد مسألة فنية إدارية وإنما هي قضية إرادة سياسية تؤسس على التوافق السياسي والمصالحات التاريخية بين القوى التي تنشد التغيير من ناحية وبينها وبين السلطة الحاكمة من ناحية ثانية، كما تتطلب بالضرورة مقاربات جادة لإزالة اوجه التعارض المحتمل بين ما هو من ثوابت المجتمعات بالضرورة وما هو من ثوابت الديمقراطية بالضرورة أيضا. فبدون إجراء مثل هذه المراجعة، وإبداع مقاربات جادة ومسئولة تواجه إشكاليات الديمقراطية، وتؤسس لها في ثقافة المجتمع واعتبارات المصالح المشروعة لأفراده وجماعاته، يستحيل أن يتم الانتقال إلى الديمقراطية مهما كانت المبررات الفعلية للانتقال قوية وملحة. وحتى لو تم انتقال قسري تكتيكي دون توافق حقيقي ومقاربات موضوعية، فإن عملية التحول الديمقراطي لن تبدأ ولن تستقر ما لم يؤسس النظام السياسي على حد أدنى من القواسم المشتركة التي تجعل من التجمع البشري مجتمعاً بالمعنى العلمي، ما يربط بين جماعاته اكثر مما يربط أي جماعة منهم بمجتمع آخر، الأمر الذي يوحد مصيرهم المشترك في الحاضر والمستقبل ويجعل منهم جماعة سياسية واحدة في إطار التنوع.

ومن هنا يمكننا التأكيد منذ البداية، إن الديمقراطية مفهوم سياسي حي ومتطور يؤثر في المجتمعات التي تجرى ممارسته فيها وتؤثر قيم المجتمعات وثقافتها ومصالحها في مضمونه. ويعود ذلك إلى حقيقة كون الديمقراطية منهجا وعملية سياسية وليست عقيدة مثل غيرها من العقائد، وإنما تتأثر الممارسة الديمقراطية بعقائد المجتمعات التي تتم فيها وتراعي ثوابتها، تعبيرا عن اختيارات الجماعة التي تمارسها. إن الديمقراطية اليوم هي –في المقام الأول - نظام حكم ومنهج سلمي لإدارة اوجه الاختلاف في الرأي والتعارض في المصالح. ويتم ذلك من خلال إقرار وحماية وضمان ممارسة حق المشاركة السياسية الفعالة من قبل الكثرة Polarchy في عملية اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة للجماعة السياسية (Dahl1989: 1 - 9)، بما في ذلك تداول السلطة وفق شرعية دستور ديمقراطي (الكواري 1996(أ):121 - 160).

ولعل كون إحدى تجليات المشاركة السياسية الفعالة تتمثل في تداول السلطة سلميا من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة، توضح لنا أيضا أهمية العملية الديمقراطية على الأرض، باعتبارها منهج اختيار متجدد لمتخذي القرار من قبل الملزمين بالقرارات العامة، يتم بواسطته ومن خلال الانتخابات الدورية النزيهة تفويض كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وفقا للبرامج الفردية أو الحزبية التي عرضها متخذو القرارات الجماعية على الناخبين عندما رشحوا أنفسهم لتولي السلطة (Schumpeter 1970:269 - 273). إن تلك البرامج التي يتم انتخاب المفوضين لتولي السلطة على أساسها قد تحمل تفضيلات عقائدية وتفضيلها لمصالح دون غيرها طالما كانت تلك التفضيلات والمصالح لا تتعدى على حقوق الآخرين وتتم وفق مبادئ الشرعية الدستورية.

وخاصية المنهج هذه، تفك ارتباط الديمقراطية المعاصرة بالمحتوى العقائدي الذي اكتسبته من خلال سبق الغرب الرأسمالي الليبرالي إلى تطبيقها، وتبعد عنها شبهة العقيدة المنافسة لغيرها من العقائد، وتسبغ عليها صفة نظام الحكم السياسي. ومن هنا فان السعي لتعزيز الجهود الديمقراطية في الديمقراطيات الناشئة خارج دائرة الحضارة الغربية، يتطلب مقاربة مفهوم الديمقراطية باعتبارها نظامَ حكم ومنهجاً لإدارة اوجه الاختلاف في ضوء التأكيد على اعتبارين جوهريين:

أولهما: إن نظام الحكم الديمقراطي نظام له معالم واضحة وحدود فاصلة عن غيره من نظم الحكم البديلة، فالديمقراطية ليست لفظا مشاعاً يمكن إطلاقه على أي فعل أو فكرة نريد أن نحسنها. ولذلك لابد من تحديد المبادئ والمؤسسات والآليات والضمانات العامة المشتركة التي لا تقوم للممارسة الديمقراطية قائمة - على المستوى الكلي والجزئي - إذا لم يتم تطبيق حد أدنى من كل منها في الحياة السياسية على المستوى الرسمي وفي المجتمع المدني.

ثانيهما: تحديد الثوابت وهي بالنسبة لمجتمعاتنا الدين الإسلامي والانتماء العربي في إطار التنوع الإثني والديني والمذهبي. وكذلك تنقية ثقافتنا السياسية من شوائب الاستبداد والتعرف على القيم الإيجابية والمصالح المشروعة لشعوبنا وتأكيد ذلك في مضمون الممارسة الديمقراطية المنشودة وتأسيسها عليه. كما أن نظام الحكم الديمقراطي أيضا، لا تقوم له قائمة إذا لم يؤسس على أرضية مشتركة (الغنوشي 2000: 217) وجوامع فكرية ومصلحيه، يجد فيها أفراد الشعب وجماعاته، مرجعية مقبولة لتضامنهم وتعاونهم وتفاعلهم الاجتماعي من اجل كسب الحاضر وتأمين المستقبل من منطلق وحدة المصير.

ولتحقيق هذين التحفظين الجوهريين باعتبارهما شرطين لازمين لا تقوم للديمقراطية الحقيقية قائمه إذا جرت التضحية بأي منهما، يجب علينا إعمال الفكر وإجراء المقاربات الجادة المسئولة باعتبار الديمقراطية إشكالية بالنسبة للمجتمعات العربية وليست مجرد مشكلة (الحسن1988: 149 - 151). ومن هنا يتطلب أمر مقاربة الديمقراطية بما تحمله من قيم إنسانية وثوابت منهجية مع ثوابت مجتمعاتنا، إبداعا حقيقيا في الفكر السياسي وحل معادلة صعبة، ليس بغير العقل في ضوء المصالح المرسلة وفي إطار الثوابت والقيم العليا التي يجلها المجتمع، من سبيل لمقاربتها بشكل جاد مسئول ومقبول من قبل دعاة الديمقراطية والمتحفظين على بعض احتمالاتها.

ومما لا شك فيه أن الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية إشكالية معقدة، وهذا ما يفسر جزئيا تأخر العرب والمسلمين في مجال الديمقراطية بالرغم من حاجتهم الماسة لمواجهة الاستبداد وحكم الغلبة الذي طبع تاريخهم السياسي وأدى إلى تخلفهم، هذا في حين تقدم غيرهم من الأمم والشعوب على طريق مواجهة الاستبداد ووضع حد لحكم القوة الغاشمة وفتحوا آفاقا رحبة للاستقرار الحقيقي والتراكم الذي قاد إلى الأمن والتنمية والتقدم العلمي والتقني. هذا بالرغم من كون الولاية في الإسلام للأمة وليست للفرد ولا للقلة، وأمرهم شورى بينهم والعدل أساس الحكم والمسلمون جميعاً متساوون ومدعوون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل أن تلك المبادئ تشمل الجماعة السياسية كلها دون تمييز من منطلق المصالح المرسلة. وللمسلمين في رسول الله وصحيفة المدينة أسوة حسنة.

إن الديمقراطية في الدول غير الديمقراطية تمثل بحق إشكالية وليست مجرد مشكلة بسيطة يمكن حلها عن طريق استيراد تكنولوجيا الديمقراطية بمضمونها القيمي والعقائدي، وفي ضوء انحيازها المصلحي التقليدي الليبرالي والرأسمالي والإمبريالي، دون فرز لما هو من الديمقراطية بالضرورة. وإنما يجب تأصيل الديمقراطية وتأسيسها في الحياة الثقافية والتوجهات الاجتماعية، بعد ضبطها بثوابت المجتمع وتأسيسها على القيم الإيجابية والمصالح المشروعة. وذلك من اجل توطين الديمقراطية وإقرارها في الحياة السياسية العربية وحمايتها بإطار أخلاقي يجعل ممارستها نابعة من الضمير وخاضعة لمحاسبة "النفس اللوامة" ومحصنة بتنظيمات المجتمع وقيمه وهادفة لتحقيق مصالحة. وألا فإن "الديمقراطية" سوف تتحول إلى مجرد لعبة تقنية انتهازية مستوردة تتوقف عند حد عد الأصوات بعد تزويرها أو التأثير على الناخبين بذهب السلطة وسيفها، يقصد منها استمرار أوضاع الاستبداد والاستغلال والإقصاء والفساد بكافة مظاهره في إطار الهيمنة الأجنبية والعجز الوطني بعد أن يتم اختراق وتفكيك البنى التقليدية ونظم القيم المرتبطة بها، دون أن تحل محلها بنى ديمقراطية. وفي هذه الحالة لن تستقر الديمقراطية ولن تقوم لها قائمة إلى أن يتصالح مضمون الديمقراطية مع شكلها وتتم المقاربة الموضوعية بين ثوابت الديمقراطية وثوابت المجتمعات التي تنتقل إليها.