إستراتيجية التهويد والاستيلاء الإسرائيلي على القدس
مرسل: الأحد سبتمبر 15, 2013 8:13 pm
إستراتيجية التهويد والاستيلاء الإسرائيلي على القدس
إن ما يجري، الآن، في مدينة القدس بواسطة الجانب الإسرائيلي، ما هو إلا صراع مع الزمن. فقد بدأ يترسخ في العقل الإسرائيلي، أن الأوان قد آن لإعادة الحقوق إلى أصحابها، ومن ثم، فهم في صراع مع الزمن، في محاولة تغيير المعالم، الجغرافية والديموجرافية، للكثير من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، عموماً، بحجة الأمن، وفي القدس الشرقية، خصوصاً، بحجة عد القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل.
في هذا السياق، تجري عمليات التهويد على قدم وساق، من إقامة أحزمة من المستوطنات الأمنية، وشق الطرق حولها، خاصة من الاتجاه الشرقي، في محاولة لعزلها عن الضفة الغربية. ويواكب ذلك محاولات تشجيع الإسرائيليين على الهجرة، والاستقرار في القدس. بينما على الجانب الآخر، تعرقل إسرائيل النمو الطبيعي للعرب المقدسيين، سواء بالنسبة إلى إقامة مساكن جديدة، أو لمحاولة البقاء في القدس، من خلال المضايقات المتعددة، التي تهدف إلى دفعهم إلى مغادرة القدس. وبذلك، تحقق هدفها من التغيير، الجغرافي والديموجرافي، الأمر الذي يمكن أن يفرض نفسه في النهاية لمصلحة إسرائيل.
ولمّا كان الفكر اليهودي، والصهيوني عموماً، يتميز، على مر العصور، بالتخطيط بعيد المدى، لذلك، يجدر بنا تناول المحاولات اليهودية والصهيونية لتهويد القدس، ومراحل ذلك، على امتداد التاريخ الحديث وحتى اليوم، بغية تعرف هذا الفكر الاستعماري الاستيطاني.
أولاً. مراحل التهويد
1. المرحلة الأولى: 1807 ـ 1916
شرعت الجماعات اليهودية في بريطانيا تمارس نفوذها، للبدء بتنفيذ خطوات على طريق التهويد التدريجي. فتمكن موسى مونتفيوري، بحكم منصبه كضابط في قصر الملكة فيكتوريا Victoria ، ملكة إنجلترا، إذ كان يصاهر آل روتشيلد، أثرى أثرياء الأُسر اليهودية، آنذاك، من التأثير في فرنسا وإنجلترا، لممارسة ضغوطٍ على الدولة العثمانية، لاستصدار فرمانات، تسمح بإقامة مؤسسات يهودية في فلسطين، تأتي القدس في مقدمتها.
وكنتيجة لهذه الضغوط المتواصلة، تمكنت قوى الجماعات اليهودية، من إقناع قناصل الدول المقيمين بالمدينة المقدسة، من انتزاع (فرمانات) عدة، لإقامة مثل هذه المؤسسات، لتصبح القدس هدفاً متميزاً للمطامع اليهودية الصهيونية، حتى قبل الإعلان، عملياً، عن هوية الحركة الصهيونية، في 29 أغسطس 1897، في بال في سويسرا.
وبعد أن مهد موسى مونتفيوري السبيل للشروع في حملته الاستيطانية، في قلب مدينة القدس التاريخية، بدأ بتنظيم رحلات عمل إليها، لإقامة الأحياء اليهودية، منذ عام 1827. فقام بست زيارات، لتنفيذ مخططه التمهيدي، ببناء المؤسسات والأحياء اليهودية، خارج محيط السور التاريخي لمدينة القدس، ليكون ذلك مقدمة لتحقيق الأهداف، التي اتفق عليها في شأن القدس مع زعماء الطوائف اليهودية في إنجلترا وإيطاليا ورومانيا والمغرب وروسيا، خلال الفترة ما بين 1838 ـ 1872. ولعل الخطوة الأولى في عملية التهويد، بدأها مونتفيوري بإجراء إحصاء لليهود في قلب القدس، عام 1839، وفي سائر أنحاء فلسطين، كي تتكامل عمليات الاستيطان، التي تكون مدينة القدس انطلاقتها. وقد تأسست عام 1863، أول بلدية عربية للقدس. (اُنظر خريطة الأوضاع النهائية في فلسطين) و(خريطة القدس بين عامي 1949-1967) و(خريطة القدس منذ عام 1967) و(شكل القدس في الخمسينيات) و(شكل القدس في الستينيات) و(شكل القدس في السبعينيات).
2. المرحلة الثانية: 1917ـ 1948 (اُنظر ملحق أبرز النشاطات الاستيطانية اليهودية في القدس، في الفترة 1917 - 1948)
قبل الانتداب البريطاني، عام 1917، كان العرب الفلسطينيون، يملكون أكثر من 90%، بينما ملكية اليهود لا تذكر. ونتيجة لنشوء الضواحي الاستيطانية في المنطقة العربية، ونتيجة للزعم الصهيوني، بأن القدس كانت دائماً ذات أغلبية يهودية، جرى ترسيم الحدود البلدية، عام 1921، لتضم حدود البلدة القديمة، وقطاعاً عريضاً، بعرض 400م، على طول الجانب الشرقي لسور المدينة، إضافة إلى أحياء باب الساهرة، وادي الجوز، الشيخ جراح، من الناحية الشمالية. ومن الناحية الجنوبية، انتهي خط الحدود إلى سور المدينة فقط. أما الناحية الغربية، والتي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود، لاحتوائها تجمعات يهودية كبيرة، إضافة إلى بعض التجمعات العربية (القطمون، والبقعة الفوقا والتحتا، والطالبية، والوعرية، والشيخ بدر، ومأمن الله).
وقد شهدت الهجرة إلى القدس نشاطاً محموماً، منذ عام 1922، إذ عملت الصهيونية، ممثلة في منظماتها الإرهابية، على تغيير معالم الوجه التاريخي لمدينة القدس، الذي حافظ على طابعه منذ آلاف السنين. في هذا السياق، أقيمت مستوطنة أجودات بني برايت، في عام 1929، على يد أعضاء منظمة بني برايت (أبناء العهد)، في الشطر الغربي من المدينة المقدسة.
وفي عام 1945، خلال الانتداب البريطاني، بلغت مساحة القدس:
دونماً، داخل السور.
868
دونماً، خارج السور.
18463
ــــ
دونماً، موزعة ملكيتها كالآتي:
19331
الجملة
(النسبة 58%).
دونماً، يملكها العرب
11191
(النسبة 25%).
دونماً، يملكها اليهود
4835
(النسبة 17%).
دونمات، طرق ـ ميادين ـ أغراض أخرى
3305
أما المخطط الثاني لحدود البلدية، فقد وضع عام 1946، بقصد توسيع منطقة خدماتها. غير أن التوسيع، تركز، أيضاً، في القسم الغربي، حتى يمكن استيعاب وضم الأحياء اليهودية الجديدة، التي بقيت خارج منطقة التنظيم العام (1931). وفي الجزء الشرقي، أضيفت قرية سلوان، من الناحية الجنوبية، ووادي الجوز، وبلغت مساحة المخطط 20.199 دونماً. توزعت ملكية أراضيها كما يلي:
40%
أملاك عربية
1
26.12%
أملاك يهودية
2
13.86%
أملاك مسيحية
3
2.9%
أملاك حكومية وبلدية
4
17.12%
طرق، سكك الحديد
5
100%
المجموع
وارتفعت المساحة المبنية من 4130 دونماً، عام 1918، إلى 7230 دونماً، عام 1948.
3. المرحلة الثالثة: 1948 ـ 1967 (اُنظر ملحق الضواحي اليهودية الجديدة في الفترة من 1948 - 1967) و(خريطة القدس بين عامي 1949-1967)
ثم جاءت حرب عام 1948، وتصاعُد المعارك الحربية، التي أعقبت التقسيم، الأمر الذي أدى إلى تقسيم المدينة إلى قسمين رئيسيين. وفي 30 نوفمبر 1948، وقعت السلطات، الإسرائيلية والأردنية، على اتفاق وقف إطلاق النار، بعد أن فصل خط تقسيم القدس بين القسمين، الشرقي والغربي للمدينة. غير أنه مع نهاية عام 1948، كان تقسيم القدس إلى ثلاثة أقسام قد اكتمل:
11.48%
2220 دونماً
مناطق فلسطينية تحت السيطرة الأردنية
1
84.12%
16.261 دونماً
مناطق فلسطينية محتلة (الغربية)
2
4.39%
850 دونماً
مناطق حرام ومناطق للأمم المتحدة
3
100%
19.331 دونمًا
المجموع
(اُنظر ملحق أساليب الاستيلاء على الأراضي والممتلكات الفلسطينية).
وهكذا، وبعد اتفاق الهدنة بين الطرفين، الأردني والإسرائيلي، في 3 أبريل 1949، تأكدت حقيقة تقسيم القدس بينهما، تماشياً مع موقفهما السياسي، المعارض لتدويل المدينة. وفي 13 يونيه 1951 جرت أول انتخابات لبلدية القدس الشرقية (العربية). وقد أولت البلدية اهتماماً خاصاً بتعيين وتوسيع حدودها البلدية، وذلك لاستيعاب الزيادة السكانية. وتم ترسيم القدس الشرقية، للمرة الأولى، في الأول من أبريل 1952. وقد ضمت القرى الآتية إلى مناطق مسؤولية البلدية: سلوان، رأس العمود، الصوانة، أرض السمار، والجزء الجنوبي من قرية شعفاط. وأصبحت المساحة الواقعة تحت مسؤولية البلدية 6.5كم2، في حين لم تزد مساحة الجزء المبني منها على 3 كم2. وفي 12 فبراير 1957، قرر مجلس البلدية توسيع حدودها. وفي جلسة لبلدية القدس، بتاريخ 22 يونيه 1958، ناقش المجلس مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً، لتشمل منطقة بعرض 500م، من كلا جانبي الشارع الرئيسي، المؤدي إلى رام الله، ويمتد حتى مطار قلنديا.
واستمرت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية، بما في ذلك وضع مخطط هيكلي رئيسي للبلدية، حتى عام 1959، دون نتيجة. وفي سبتمبر 1959، أعلن عن تحويل بلدية القدس إلى " أمانة القدس ". ولكن هذا التغيير في الأسماء، لم يتبعه تغيير في حجم الميزانيات أو المساعدات. وفي عام 1964، وبعد انتخابات عام 1963، كان هناك توصية بتوسيع حدود بلدية القدس، لتصبح مساحتها 75 كم2. ولكن نشوب حرب عام 1967، أوقف المشروع، وبقيت حدودها على ما كانت عليه في الخمسينيات.
4. المرحلة الرابعة: 1967 حتى 1997 (اُنظر شكل القدس في الثمانينيات)
وكان من نتيجة حرب يونيه 1967، أن احتلت إسرائيل القدس الشرقية (العربية)، ما حدا إسحاق رابين Yitzhak Rabin القول: "لقد أخذنا القدس في حربين". وبدأت، على الفور، خطوات تهويد المدينة، واتفقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حكومات العمل والليكود، على الإطار الإستراتيجي، وإن اختلفت تكتيكياً. ووضعت، في هذا السياق، الخطط العامة التفصيلية، لتحقيق هذا الهدف، إذ بدأت إسرائيل، من فورها، العمل على مستويات عدة:
أ. المستوى الأول: إزالة أحياء عربية برمتها.
ب. والمستوى الثاني: منع العرب المقيمين بالمدينة، من بناء مساكنهم، أو ترميمها.
ج. والمستوى الثالث: مصادرة جميع أراضي الدولة، داخل المدينة وحولها (داخل حزامها الإداري).
ثم لجأت السلطات الإسرائيلية، فيما بعد، إلى إجراءات التوسع الإداري لنطاق بلدية القدس، إذ ألحقت عدداً من القرى، إدارياً، بالمدينة، وبدأت بالحديث عن القدس الكبرى. وتواكب كل ذلك مع إعلان ضم المدينة، إدارياً، إلى إسرائيل، وعرض الجنسية الإسرائيلية على العرب المقيمين بها.
أما بالنسبة إلى التغيير السكاني، فقد عملت إسرائيل على تقليل أعداد العرب، بكل الطرق، مستغلة سياسة التهجير، وطرد السكان العرب من فلسطين، أي مستخدمة الضغوط، الاقتصادية والقانونية. وفي الوقت نفسه، بدأت في تسكين جماعات من اليهود المتدينين المتشددين، فيما زُعم أنه إجراء من قِبَل مدارس دينية لليهود، في البيوت المصادرة، أو المبيعة بالتزييف والتزوير، أو في البيوت التي بُنيت حديثاً. وهكذا، لم تمض سنوات الاحتلال، إلا وقد حوصرت مدينة القدس بأسوار من المستوطنات، التي يقطنها المهاجرون الجدد. وقد تبع ذلك، أن قامت، في داخل المدينة، مؤسسات يهودية. وتحول العرب، القاطنون في القسم الشرقي من المدينة، من أغلبية في السكان (الجميع تقريباً) إلى أقلّ من النصف. ولا يزال 85% منهم، يرفضون الهوية الإسرائيلية الحكومية، مضحين بالامتيازات العديدة، التي توفرها الجنسية الإسرائيلية التي تعطيهم حق الانتخاب، سواء في الانتخابات العامة أو في الانتخابات البلدية، إلى جانب تطبيق القانون الإسرائيلي عليهم وعلى ممتلكاتهم.
وبعد إعلان توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها، في 28 يونيه 1967، وطبقاً للسياسة الإسرائيلية، للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقلّ عدد ممكن من السكان العرب، خُططت الحدود البلدية للقدس الموحدة بشكل متناقض، لتضم أراضي 28 قرية ومدينة عربية، وتخرج، في الوقت نفسه، جميع التجمعات السكانية العربية الكثيفة. والهدف من ذلك، أن تأخذ هذه الحدود وضعاً شاذاً، وغير منتظم، فهي، مرة مع خطوط التسوية، وأخرى مع الشوارع. وهكذا، بدأت حقبة أخرى من ترسيم الحدود البلدية للقدس الموحدة، لتتسع مساحة بلدية القدس الشرقية من 6.5 كم2 إلى 70.5 كم2، ولتصبح مساحتها مجتمعة، الشرقية والغربية، 108.5 كم2، ثم لتتوسع، مرة أخرى، عام 1990، في اتجاه الغرب، حتى أصبحت مساحتها، الآن، 123 كم2.
وهكذا، بدأت السياسة الإسرائيلية، ومنذ الساعات الأولى للاحتلال، في رسم الإطار لتهويد القدس، من أجل فرض الأمر الواقع، وخلق ظروف ديموجرافية، الأمر الذي يجعل من الصعب على السياسي، أو الجغرافي، إعادتها إلى وضعها قبل عام 1967، وتقسيمها مرة أخرى. فبدأت في إقامة الأحياء اليهودية، لتحيط القدس الشرقية بسلسلة من المستوطنات، من جميع الجهات. ثم جلبت إليها المستوطنين، لتخلق أمراً واقعاً، جغرافياً وديموجرافياً، ومن ثم، تُحدث خلخلة سكانية في القدس العربية. وبعد أن كان الفلسطينيون يشكلون أغلبية سكان القدس الشرقية، عام 1967، أصبحوا أقلية، عام 1997. وبعد أن كانوا يسيطرون على 100% من الأراضي، أصبحوا لا يسيطرون إلاّ على 21% من الأراضي، بعد عمليات المصادرة، وإقامة المشروعات الاستيطانية عليها، وفتح الطرق، والبناء ضمن الأحياء العربية. ثم تأتي مرحلة أخرى من مراحل التهويد وترسيم الحدود، وهي حدود القدس الكبرى (المتروبوليتان)، لتشمل أراضٍ، تبلغ مساحتها 840 كم2، أو ما يعادل 15% من مساحة الضفة الغربية، ولتبدأ حلقة أخرى من إقامة المستعمرات، خارج حدود البلدية، في سياق هدفٍ واضحٍ، وهو التواصل، الإقليمي والجغرافي، ما بين المستعمرات، خارج حدود البلدية، والواقعة في الضفة الغربية. إضافة إلى إقامة شبكة من الطرق الالتفافية، تصل ما بين هذه المستعمرات.
كان العامل الحاسم في إحداث التغيير في حدود القدس، هو الاحتلال وسياسة التوسع والاستيطان الإسرائيلية. ومن ثم، فقد بدأت عمليات المصادرة للأراضي العربية، بعد الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، في شيخ جراح، وأرض السمار، ووادي الجوز، وخلة نوح، في الأرض الحرام. وكانت البداية إقامة مستوطنات رامات أشكول، وجعفات همبتار، والتلة الفرنسية، والجامعة العبرية على تلك الأراضي المصادرة، في عامَي 1968 - 1969. وقد تم ذلك على خمس مراحل. (اُنظر ملحق مراحل مصادرة الأراضي الفلسطينية في القدس، منذ عام 1967).
وتجدر الإشارة إلى أن حدود مدينة القدس الشرقية، توسعت، مقارنة بحدود 1949 و1969، في كل الاتجاهات. ففي المنطقة الشرقية، على سبيل المثال، جرى التوسع بضم جبل المشارف والطور وجبل المكبر، إلى حدود القدس الشرقية. وتقع أقصى نقطة في الشرق في المنطقة المرتفعة، الفاصلة بين وادي النار غرباً، ووادي الجهير شرقاً، المعروفة بجبل السلحيد، وذلك بهدف عزلها عن باقي الضفة الغربية.
ثانياً: الإستراتيجية الإسرائيلية لتهويد مدينة القدس
لقد مضى أكثر من نصف قرن على احتلال القدس الغربية، وحوالي ثلاثة عقود على احتلال القدس الشرقية، وخلال هذه الفترة لم تتغير الإستراتيجية الإسرائيلية حيال مدينة القدس، والتي هدفت إلى استمرار السيطرة عليها وعدم التنازل أو التفريط في هذه السيطرة، ولذلك أصدر الكنيست قانونه الخاص بتوحيد المدينتين الغربية والشرقية وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. وإذا كانت الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت بين بعض الدول العربية وإسرائيل من جانب، وكذلك بين الفلسطينيين وإسرائيل من جانب آخر، وخاصة اتفاق أسلو، أكدت على عدم فتح ملف القدس ما لم يتم الانتهاء من الملفات الأخرى، وخلال مرحلة مفاوضات الوضع النهائي، فإن ذلك لم يعنِ أن إسرائيل كانت قد غيرت إستراتيجيتها تجاه مدينة القدس، بل إنها كانت ترغب في تحقيق أهدافها وإستراتيجيتها تجاه مدينة القدس بطرق سلمية، دون الدخول في مواجهات مع العرب والمسلمين، وخاصة في بداية مسيرة العملية السلمية.
1. تطور الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه مدينة القدس
أ. بن جوريون وإستراتيجية الأمر الواقع[1]
يُعَدُّ بن جوريون أول من تطلع إلى القدس كعاصمة لإسرائيل، حتى قبل إعلان نشأتها في ليلة 14 مايو 1948، ولقد تبنى إستراتيجية فرض الأمر الواقع مبكراً على مدينة القدس، ومنذ صدور قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947، وتقسيمها إلى مدينتين، والتهويد المبكر للجزء الغربي منها. ولقد تعامل بن جوريون مع قرار تقسيم فلسطين بأسلوب يعتمد على الخداع والمكر لم يفهمه العرب، حيث عمل على أن يكون للقدس كياناً منفصلاً خاضعاً لنظام دولي خاص، تتولى الأمم المتحدة إدارته، وتعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية نيابة عن الأمم المتحدة. ولقد أكد القرار حدود المدينة والتي تضمنت بلدية القدس الحالية، إضافة إلى القرى والبلدان المجاورة لها، والتي امتدت شرقاً حتى أبو ديس، وجنوباً حتى بيت لحم، وغرباً حتى عين كارم، وشملت أيضاً المنطقة المبنية من قرية قالوينا.
وإذا كان العرب قد رفضوا قرار التقسيم، انطلاقاً من أن التدويل يسلبهم حقهم التاريخي والشرعي في السيادة على المدينة، إلا أن اليهود قبلوا مشروع التدويل حتى يمكنهم إعلان قيام دولة إسرائيل. على أن تعمل بعد ذلك على فرض أمر واقع جديد. ولذلك احتلت القوات الصهيونية مزيداً من الأراضي العربية، ثم أقامت طريقاً يربط بين تل أبيب والقدس، كما بادرت باحتلال حي القطمون الذي له أهمية إستراتيجية في القدس قبل إعلان قيام دولة إسرائيل. ولتحقيق الإستراتيجية التي تبناها بن جوريون، لم يحترم قرارات مجلس الأمن، حيث لم يلتزم بقرار تجريد القدس من السلاح لحمايتها من الدمار. ولقد نجح بن جوريون في تثبيت إستراتيجيته القائمة على سياسة الأمر الواقع خلال اتفاق وقف إطلاق النار مع الأردن، حيث عُينت خطوط وقف إطلاق النار في القدس، وهي الخطوط التي أصبحت فيما بعد خطوط الهدنة في اتفاق 3 أبريل 1949، أو خطوط الأمر الواقع لتقسيم القدس إلى مدينتين شرقية وغربية.
تكريساً للأمر الواقع، بادر بن جوريون بنقل العديد من الوزارات إلى القدس، وكان منها وزارة الخارجية، حتى تضطر الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلى نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس. ومن ثم تعترف بالأمر الواقع الذي عمد بن جوريون إلى تثبيته. كما بدئ في إقامة مبنى الكنيست الجديد في 14 أكتوبر 1958، والذي افتتح في 30 أغسطس 1966، وبذلك يكون بن جوريون قد نجح في تنفيذ إستراتيجيته الهادفة إلى خلق أمر واقع جديد، على الرغم من أن طموحاته كانت أكبر من هذا بكثير. حيث كان قد أعلن الخطوط العامة لحدود دولة إسرائيل قبل قيامها، على أن تكون الحدود الشمالية هي نهر الليطاني جنوب لبنان، والحدود الشرقية عند نهر العوجي في سورية وصحراء الأردن، والحدود الجنوبية عند البحر الأحمر.
ب. ليفي أشكول واحتلال القدس الشرقية
عمل ليفي أشكول على استكمال إستراتيجية بن جوريون، الذي اعتزل الحياة السياسية عام 1963. ولقد كانت حرب يونيه 1967 سبباً رئيسياً لسقوط القدس الشرقية. وفي يوم 27 يونيه 1967، أعلن عن ضم الأحياء العربية في القدس الشرقية، ولقد شمل أمر الضم المنطقة ما بين مطار وقرية قلنديا شمالاً، وقرى صور باهر وبيت صفافا جنوباً، وقرى الطور والعيسوية وعناتا والأم شرقاً، وحدود الهدنة عام 1949 غرباً.
تحددت إستراتيجية ليفي أشكول، في تغيير معالم الأرض، التي استولى عليها، خلال حرب يونيه 1967،. ولذلك أصدرت السلطات الإسرائيلية قراراً لحل مجلس أمانة القدس العربي المنتخب، وإقصاء أمين القدس من عمله، وإلحاق موظفي وعمال أمانة القدس ببلدية القدس المحتلة. كما أقامت السلطات مراكز حدود عسكرية وجمركية على الطرق والمعابر، تأكيداً بأن القدس أصبحت منطقة أجنبية بالنسبة للمدن والقرى في الضفة الغربية، ويستلزم دخول القدس وجود تصاريح عسكرية لا تمنح إلا بشروط معقدة. كما أصدرت بطاقات هوية إسرائيلية للعرب المتواجدين في القدس الشرقية، وعدت غير الموجودين من العرب، أثناء إصدار هذه الهويات، غائبين ومنعتهم من حق الرجوع. حيث بدأت بعد ذلك في تطبيق قانون أموال الغائبين، الذي كان قد أقر في 31 مارس 1950، حتى يمكن للسلطات الإسرائيلية السيطرة على الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يملكها العرب.
ولتحقيق أكبر قدر من نجاح إستراتيجية تغيير معالم الأرض، بدأ في إقامة المناطق السكنية لليهود، وإنشاء العديد من المنشآت الخدمية الرسمية والشعبية والثقافية والاجتماعية بالقدس، كعاصمة يهودية موحدة. إضافة إلى فرض السيطرة الإسرائيلية على المباني الحكومية والخاصة التي استولى عليها. ولقد عمل أشكول على تطبيق إستراتيجيته خلال مراحل متتابعة، مع حرصه على إطلاق العديد من المزاعم والادعاءات التاريخية الباطلة.
ج. جولدا مائير واستكمال إستراتيجية فرض الأمر الواقع
بعد أن تولت جولدا مائير رئاسة الحكومة، واصلت سياسة فرض الأمر الواقع التي كان كرسها بن جوريون. حيث استهلت فترة حكمها، بمحاولة إحراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969. وكان اختيار هذا التوقيت له دلالة وتأكيد أن هناك مخططاً، لطمس كل المقدسات الإسلامية بالقدس، ولقد تمت هذه المحاولة في اليوم التالي لإنجاز بعض الحفريات التي قامت بها حكومة إسرائيل، تحت أرض المسجد الأقصى، بحثاً عن الآثار المزعومة لهيكل سليمان، حيث كانت محاولة إحراق المسجد الأقصى متممة لعمليات الحفر.
على الرغم من الاتهامات التي وُجِّهت إلى جولدا مائير وحكومتها، إلا أنها استمرت في مواصلة سياسة فرض الأمر الواقع، كما هو مخطط. حيث استكملت عمليات مصادرة الأراضي، وكان أخطرها قرار الحكومة الإسرائيلية الصادر في 30 أغسطس 1970، الذي صادر مساحات شاسعة، بلغت حوالي 11680 دونماً من الأراضي العربية، وانتزع خلالها حوالي عشر قرى تحيط بالقدس، ومن ثم إقامة، بدلاً منها، الطرق والمؤسسات الخدمية، وكذلك حوالي 22 ألف وحدة سكنية. كما أعلن في يونيه 1971 عن مصادرة 12 ألف دونم جديدة في ضواحي القدس الشرقية، لزيادة مساحة المستوطنات وإقامة حي أشكول.
د. إسحاق رابين وإستراتيجية توحيد القدس
تولى رئاسة الحكومة إسحاق رابين بعد جولدا مائير منذ عام 1974، وخاض، خلال هذه المرحلة، مفاوضات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية، إلا أنه، في الوقت ذاته، واصل السياسة الاستيطانية التي بدأتها الحكومات السابقة. كذلك واصل رابين سياسة ضم المدينتين، الغربية والشرقية، بخطوط متتابعة، من خلال مصادرة مزيد من الأحياء العربية والاستيلاء على الأراضي المحيطة بالمسجد الأقصى، للبدء في تنفيذ مشروع بناء القدس الكبرى، لتضم أكبر من ربع مساحة الضفة الغربية.
وبذلك وضحت إستراتيجية رابين خلال فترة ولايته الأولى 1974-1977، والهادفة إلى تحقيق مشروع القدس اليهودية الموحدة كعاصمة لإسرائيل، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق هدفه خلال هذه الفترة، وبتولي مناحم بيجين رئاسة الحكومة في مايو 1977، وعلى الرغم من أنه، خلال هذه المرحلة، وقعت اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، ثم المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية عام 1979، والتي أكد من خلالها الموقف المصري أن القدس العربية جزء من الضفة الغربية، إلا أن موقف بيجين استند إلى موقف حكومته التي أصدرت مرسوماً يُعد القدس مدينة واحدة غير قابلة للتقسيم. ولقد كان هذا الموقف دافعاً قوياً للكنيست لتأكيد قراره السابق. حيث أقر مرة أخرى، وبشكل عاجل، في 30 يوليه 1980، قانوناً جديداً لتهويد القدس وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.
على الرغم من الإدانة الدولية للقانون الإسرائيلي، إلا أن حكومة بيجين وحكومة شامير قد استندتا إلى هذا القانون، لاستكمال إستراتيجية القدس الموحدة، وبناء المزيد من المشروعات الاستيطانية في القدس خلال ثلاث مراحل تمثلت في:
(1) المشروعات التي استهدفت الأحياء العربية في القدس نفسها، وحاولت تغليب العنصر اليهودي حضارياً وسكانياً على الطابع العربي للمدينة.
(2) توسيع المدينة بشوارع تربطها بالضواحي، التي أُقيمت على أراضي القرى العربية القريبة من القدس، بهدف فصلها عن المدن الأخرى في الضفة الغربية.
(3) إقامة الحي اليهودي في القدس الشرقية، لتكتمل عملية التهويد الشاملة للمدينة. ويعد هذا الحي من أخطر المشروعات، التي تستهدف تغيير معالم المدينة، بإقامة سور جديد.
وبذلك يكون مشروع القدس الكبرى، كما خطط له كل من: رابين، ثم تبعه بيجين، وشامير، منذ منتصف السبعينيات. ولقد كان شامير من أشد المعارضين لاتفاقيات كامب ديفيد، وقامت سياسته أساساً على مبدأ أرض إسرائيل الكاملة. وبانتهاء فترة رئاسته للحكومة، تولى شيمون بيريز رئاسة الحكومة عام 1985. ولقد كان هناك تطورات سريعة ومتلاحقة منذ بداية هذه المرحلة، إلا أنه كان هناك اتفاق إسرائيلي عام حول عدم التخلي عن مدينة القدس والتمسك بها كعاصمة أبدية لإسرائيل. وإذا كان شامير حكم على قضية القدس بالجمود طوال فترة حكمه، رداً على أحداث الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، ولم يحرك هذا الموقف الساكن سوى مؤتمر مدريد (30 أكتوبر ـ 2 نوفمبر 1991).
عملت إسرائيل، خلال مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، على تأجيل بحث قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي، وإذا كان اعتراف إسرائيل بأن القدس قضية لها أهميتها بالنسبة للعرب والمسلمين ، يُعد تراجعاً عن موقفها تجاه مدينة القدس، إلا أن هذا الاعتراف لم يمنع إسرائيل من استعمال إستراتيجيتها الهادفة لفرض الأمر الواقع، وخاصة أن مفاوضات أوسلو قد أسفرت أيضاً عن تأجيل قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي أيضاً.
مع احتدام المواجهات التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أصدر الكنيست قانوناً، يوم 10 مايو 1994، يؤكد استمرار تمسكه بمدينة القدس موحدة إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية. ومع شعور إسرائيل بخطورة مكانة بيت الشرق،[2] بعد اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، أصدر الكنيست في ديسمبر 1994 قانوناً يحظر نشاط المنظمة في القدس الشرقية. كما هدد المسؤولون الإسرائيليون بإغلاق بيت الشرق للحد من الأنشطة الفلسطينية المكثفة. وفي نهاية أغسطس 1995، بدأت التهديدات المباشرة لبيت الشرق تتعدد، حيث أصدر رابين أوامره باتخاذ الإجراءات القانونية لمواجهة ما عَدّه، تجاوزات بيت الشرق.
باغتيال رابين في نوفمبر 1955، دخلت القدس ضمن المساومات الانتخابية، حيث كانت وحدة القدس هي الهدف الرئيسي لكل رؤساء الوزراء بعد ذلك، وكان هناك تأكيد بأنها ليست داخل إطار المفاوضات. ولذلك استمرت القدس هي القضية الخلافية الأولى في مفاوضات السلام، والتي أدت إلى تعثرها أكثر من مرة، كما أنها السبب الأساسي في انهيار المفاوضات السلمية في كامب ديفيد 2. ولقد أعلن شارون في برنامجه الانتخابي، استمرار تمسكه بإستراتيجية القدس الموحدة، وعدم تفريطه فيها، أو الموافقة على تقسيمها أو المساس بها، أو حتى التفاوض بشأنها.
ثالثاً: أساليب السلطات الإسرائيلية لفرض الأمر الواقع
1. تهجير السكان العرب وترحيلهم
منذ الأيام الأولى لاحتلالها القدس، وضعت إسرائيل حافلات ركاب، لنقل السكان العرب من القدس إلى الضفة الشرقية. وقد باشرت ذلك من خلال الخطوات التالية:
أ. تهجير حوالي 6500 مواطن من سكان حارة المغاربة وحارة الشرف، بعد هدم أحيائها في 8 مايو 1967، ومصادرة أراضيها، البالغة 16 دونماً، كانت تضم 595 بناية و104 محلات تجارية و5 مساجد و4 مدارس.
ب. استمرت في هدم المنازل العربية بشكل متواصل، منذ ذلك الحين. وعلى سبيل المثال، هدمت 256 منزلاً، بين عامَي 1986 ـ 1994، وخططت لهدم 550 منزلاً، بمعدل 50 منزلاً كل عام. ولكن أولمرت، عمدة القدس، استعجل الأمر، وهدد بالهدم الفوري لـ 70 منزلاً، (تصريحاته في أواخر أغسطس 1996). وبذلك تُخْلي القدس من سكانها العرب، ليقيموا خارج حدود البلدية.
2. مصادرة العقارات
أ. صادرت إسرائيل حارة المغاربة وحارة الشرف، وشيدت مكانهما 460 منزلاً لليهود، تختلف في طابعها العمراني عن باقي منازل القدس.
ب. صادرت 17 عقاراً ومتجراً ومدرسة، وأماكن دينية مختلفة، في منطقة باب السلسلة وحي الواد.
ج. في 25 يونيه 1969، امتدت الاستملاكات والمصادرات، لتشمل أكثر من 300 عقار في البلدة القديمة، كان أهمها المسكن، الذي استولى عليه أرييل شارون Ariel Sharon في حي الواد.
د. لجأت السلطات إلى تسهيل انتقال ملكية العقارات العربية إلى اليهود، بوسائل غير مشروعة، كما حدث في رأس العمود.
هـ. صُودر 73% من أراضي القدس، لإقامة مستوطنات عليها (منذ عام 1967)، وهناك 7% مرشحة للمصادرة. وأقيم عليها 40 ألف مسكن، يسكنها حالياً حوالي 160 ألف يهودي.
و. تخطط السلطات الإسرائيلية لتنفيذ 30 ألف وحدة سكنية، في أحياء استيطانية جديدة، وتوسيع الأحياء القديمة، وقد بدأت السلطات في التنفيذ الفعلي لهذا المخطط. (اُنظر ملحق أبرز النشاطات الإسرائيلية في الفترة من 1967 - 1997)، أبرز تلك التغييرات.
ز. إحكام الطوق الأمني حول القدس، ما زاد معاناة الفلسطينيين، اقتصادياً وتعليمياً وطبياً واجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً وتراثياً. وتسببت هذه المعاناة، وزيادة الضرائب، بتفريغ القدس من سكانها العرب.
ح. سحب الهويات من العرب، سكان القدس الأصليين.
رأس بن جوريون الحكومة الإسرائيلية المؤقتة عند الإعلان عن نشأة إسرائيل، ولقد أصبح رئيساً للوزراء في 17 فبراير 1949، ولمدة 15 عاماً، باستثناء الفترة من 1953-1955، واستمر حتى عام 1963.
إن ما يجري، الآن، في مدينة القدس بواسطة الجانب الإسرائيلي، ما هو إلا صراع مع الزمن. فقد بدأ يترسخ في العقل الإسرائيلي، أن الأوان قد آن لإعادة الحقوق إلى أصحابها، ومن ثم، فهم في صراع مع الزمن، في محاولة تغيير المعالم، الجغرافية والديموجرافية، للكثير من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، عموماً، بحجة الأمن، وفي القدس الشرقية، خصوصاً، بحجة عد القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل.
في هذا السياق، تجري عمليات التهويد على قدم وساق، من إقامة أحزمة من المستوطنات الأمنية، وشق الطرق حولها، خاصة من الاتجاه الشرقي، في محاولة لعزلها عن الضفة الغربية. ويواكب ذلك محاولات تشجيع الإسرائيليين على الهجرة، والاستقرار في القدس. بينما على الجانب الآخر، تعرقل إسرائيل النمو الطبيعي للعرب المقدسيين، سواء بالنسبة إلى إقامة مساكن جديدة، أو لمحاولة البقاء في القدس، من خلال المضايقات المتعددة، التي تهدف إلى دفعهم إلى مغادرة القدس. وبذلك، تحقق هدفها من التغيير، الجغرافي والديموجرافي، الأمر الذي يمكن أن يفرض نفسه في النهاية لمصلحة إسرائيل.
ولمّا كان الفكر اليهودي، والصهيوني عموماً، يتميز، على مر العصور، بالتخطيط بعيد المدى، لذلك، يجدر بنا تناول المحاولات اليهودية والصهيونية لتهويد القدس، ومراحل ذلك، على امتداد التاريخ الحديث وحتى اليوم، بغية تعرف هذا الفكر الاستعماري الاستيطاني.
أولاً. مراحل التهويد
1. المرحلة الأولى: 1807 ـ 1916
شرعت الجماعات اليهودية في بريطانيا تمارس نفوذها، للبدء بتنفيذ خطوات على طريق التهويد التدريجي. فتمكن موسى مونتفيوري، بحكم منصبه كضابط في قصر الملكة فيكتوريا Victoria ، ملكة إنجلترا، إذ كان يصاهر آل روتشيلد، أثرى أثرياء الأُسر اليهودية، آنذاك، من التأثير في فرنسا وإنجلترا، لممارسة ضغوطٍ على الدولة العثمانية، لاستصدار فرمانات، تسمح بإقامة مؤسسات يهودية في فلسطين، تأتي القدس في مقدمتها.
وكنتيجة لهذه الضغوط المتواصلة، تمكنت قوى الجماعات اليهودية، من إقناع قناصل الدول المقيمين بالمدينة المقدسة، من انتزاع (فرمانات) عدة، لإقامة مثل هذه المؤسسات، لتصبح القدس هدفاً متميزاً للمطامع اليهودية الصهيونية، حتى قبل الإعلان، عملياً، عن هوية الحركة الصهيونية، في 29 أغسطس 1897، في بال في سويسرا.
وبعد أن مهد موسى مونتفيوري السبيل للشروع في حملته الاستيطانية، في قلب مدينة القدس التاريخية، بدأ بتنظيم رحلات عمل إليها، لإقامة الأحياء اليهودية، منذ عام 1827. فقام بست زيارات، لتنفيذ مخططه التمهيدي، ببناء المؤسسات والأحياء اليهودية، خارج محيط السور التاريخي لمدينة القدس، ليكون ذلك مقدمة لتحقيق الأهداف، التي اتفق عليها في شأن القدس مع زعماء الطوائف اليهودية في إنجلترا وإيطاليا ورومانيا والمغرب وروسيا، خلال الفترة ما بين 1838 ـ 1872. ولعل الخطوة الأولى في عملية التهويد، بدأها مونتفيوري بإجراء إحصاء لليهود في قلب القدس، عام 1839، وفي سائر أنحاء فلسطين، كي تتكامل عمليات الاستيطان، التي تكون مدينة القدس انطلاقتها. وقد تأسست عام 1863، أول بلدية عربية للقدس. (اُنظر خريطة الأوضاع النهائية في فلسطين) و(خريطة القدس بين عامي 1949-1967) و(خريطة القدس منذ عام 1967) و(شكل القدس في الخمسينيات) و(شكل القدس في الستينيات) و(شكل القدس في السبعينيات).
2. المرحلة الثانية: 1917ـ 1948 (اُنظر ملحق أبرز النشاطات الاستيطانية اليهودية في القدس، في الفترة 1917 - 1948)
قبل الانتداب البريطاني، عام 1917، كان العرب الفلسطينيون، يملكون أكثر من 90%، بينما ملكية اليهود لا تذكر. ونتيجة لنشوء الضواحي الاستيطانية في المنطقة العربية، ونتيجة للزعم الصهيوني، بأن القدس كانت دائماً ذات أغلبية يهودية، جرى ترسيم الحدود البلدية، عام 1921، لتضم حدود البلدة القديمة، وقطاعاً عريضاً، بعرض 400م، على طول الجانب الشرقي لسور المدينة، إضافة إلى أحياء باب الساهرة، وادي الجوز، الشيخ جراح، من الناحية الشمالية. ومن الناحية الجنوبية، انتهي خط الحدود إلى سور المدينة فقط. أما الناحية الغربية، والتي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود، لاحتوائها تجمعات يهودية كبيرة، إضافة إلى بعض التجمعات العربية (القطمون، والبقعة الفوقا والتحتا، والطالبية، والوعرية، والشيخ بدر، ومأمن الله).
وقد شهدت الهجرة إلى القدس نشاطاً محموماً، منذ عام 1922، إذ عملت الصهيونية، ممثلة في منظماتها الإرهابية، على تغيير معالم الوجه التاريخي لمدينة القدس، الذي حافظ على طابعه منذ آلاف السنين. في هذا السياق، أقيمت مستوطنة أجودات بني برايت، في عام 1929، على يد أعضاء منظمة بني برايت (أبناء العهد)، في الشطر الغربي من المدينة المقدسة.
وفي عام 1945، خلال الانتداب البريطاني، بلغت مساحة القدس:
دونماً، داخل السور.
868
دونماً، خارج السور.
18463
ــــ
دونماً، موزعة ملكيتها كالآتي:
19331
الجملة
(النسبة 58%).
دونماً، يملكها العرب
11191
(النسبة 25%).
دونماً، يملكها اليهود
4835
(النسبة 17%).
دونمات، طرق ـ ميادين ـ أغراض أخرى
3305
أما المخطط الثاني لحدود البلدية، فقد وضع عام 1946، بقصد توسيع منطقة خدماتها. غير أن التوسيع، تركز، أيضاً، في القسم الغربي، حتى يمكن استيعاب وضم الأحياء اليهودية الجديدة، التي بقيت خارج منطقة التنظيم العام (1931). وفي الجزء الشرقي، أضيفت قرية سلوان، من الناحية الجنوبية، ووادي الجوز، وبلغت مساحة المخطط 20.199 دونماً. توزعت ملكية أراضيها كما يلي:
40%
أملاك عربية
1
26.12%
أملاك يهودية
2
13.86%
أملاك مسيحية
3
2.9%
أملاك حكومية وبلدية
4
17.12%
طرق، سكك الحديد
5
100%
المجموع
وارتفعت المساحة المبنية من 4130 دونماً، عام 1918، إلى 7230 دونماً، عام 1948.
3. المرحلة الثالثة: 1948 ـ 1967 (اُنظر ملحق الضواحي اليهودية الجديدة في الفترة من 1948 - 1967) و(خريطة القدس بين عامي 1949-1967)
ثم جاءت حرب عام 1948، وتصاعُد المعارك الحربية، التي أعقبت التقسيم، الأمر الذي أدى إلى تقسيم المدينة إلى قسمين رئيسيين. وفي 30 نوفمبر 1948، وقعت السلطات، الإسرائيلية والأردنية، على اتفاق وقف إطلاق النار، بعد أن فصل خط تقسيم القدس بين القسمين، الشرقي والغربي للمدينة. غير أنه مع نهاية عام 1948، كان تقسيم القدس إلى ثلاثة أقسام قد اكتمل:
11.48%
2220 دونماً
مناطق فلسطينية تحت السيطرة الأردنية
1
84.12%
16.261 دونماً
مناطق فلسطينية محتلة (الغربية)
2
4.39%
850 دونماً
مناطق حرام ومناطق للأمم المتحدة
3
100%
19.331 دونمًا
المجموع
(اُنظر ملحق أساليب الاستيلاء على الأراضي والممتلكات الفلسطينية).
وهكذا، وبعد اتفاق الهدنة بين الطرفين، الأردني والإسرائيلي، في 3 أبريل 1949، تأكدت حقيقة تقسيم القدس بينهما، تماشياً مع موقفهما السياسي، المعارض لتدويل المدينة. وفي 13 يونيه 1951 جرت أول انتخابات لبلدية القدس الشرقية (العربية). وقد أولت البلدية اهتماماً خاصاً بتعيين وتوسيع حدودها البلدية، وذلك لاستيعاب الزيادة السكانية. وتم ترسيم القدس الشرقية، للمرة الأولى، في الأول من أبريل 1952. وقد ضمت القرى الآتية إلى مناطق مسؤولية البلدية: سلوان، رأس العمود، الصوانة، أرض السمار، والجزء الجنوبي من قرية شعفاط. وأصبحت المساحة الواقعة تحت مسؤولية البلدية 6.5كم2، في حين لم تزد مساحة الجزء المبني منها على 3 كم2. وفي 12 فبراير 1957، قرر مجلس البلدية توسيع حدودها. وفي جلسة لبلدية القدس، بتاريخ 22 يونيه 1958، ناقش المجلس مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً، لتشمل منطقة بعرض 500م، من كلا جانبي الشارع الرئيسي، المؤدي إلى رام الله، ويمتد حتى مطار قلنديا.
واستمرت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية، بما في ذلك وضع مخطط هيكلي رئيسي للبلدية، حتى عام 1959، دون نتيجة. وفي سبتمبر 1959، أعلن عن تحويل بلدية القدس إلى " أمانة القدس ". ولكن هذا التغيير في الأسماء، لم يتبعه تغيير في حجم الميزانيات أو المساعدات. وفي عام 1964، وبعد انتخابات عام 1963، كان هناك توصية بتوسيع حدود بلدية القدس، لتصبح مساحتها 75 كم2. ولكن نشوب حرب عام 1967، أوقف المشروع، وبقيت حدودها على ما كانت عليه في الخمسينيات.
4. المرحلة الرابعة: 1967 حتى 1997 (اُنظر شكل القدس في الثمانينيات)
وكان من نتيجة حرب يونيه 1967، أن احتلت إسرائيل القدس الشرقية (العربية)، ما حدا إسحاق رابين Yitzhak Rabin القول: "لقد أخذنا القدس في حربين". وبدأت، على الفور، خطوات تهويد المدينة، واتفقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حكومات العمل والليكود، على الإطار الإستراتيجي، وإن اختلفت تكتيكياً. ووضعت، في هذا السياق، الخطط العامة التفصيلية، لتحقيق هذا الهدف، إذ بدأت إسرائيل، من فورها، العمل على مستويات عدة:
أ. المستوى الأول: إزالة أحياء عربية برمتها.
ب. والمستوى الثاني: منع العرب المقيمين بالمدينة، من بناء مساكنهم، أو ترميمها.
ج. والمستوى الثالث: مصادرة جميع أراضي الدولة، داخل المدينة وحولها (داخل حزامها الإداري).
ثم لجأت السلطات الإسرائيلية، فيما بعد، إلى إجراءات التوسع الإداري لنطاق بلدية القدس، إذ ألحقت عدداً من القرى، إدارياً، بالمدينة، وبدأت بالحديث عن القدس الكبرى. وتواكب كل ذلك مع إعلان ضم المدينة، إدارياً، إلى إسرائيل، وعرض الجنسية الإسرائيلية على العرب المقيمين بها.
أما بالنسبة إلى التغيير السكاني، فقد عملت إسرائيل على تقليل أعداد العرب، بكل الطرق، مستغلة سياسة التهجير، وطرد السكان العرب من فلسطين، أي مستخدمة الضغوط، الاقتصادية والقانونية. وفي الوقت نفسه، بدأت في تسكين جماعات من اليهود المتدينين المتشددين، فيما زُعم أنه إجراء من قِبَل مدارس دينية لليهود، في البيوت المصادرة، أو المبيعة بالتزييف والتزوير، أو في البيوت التي بُنيت حديثاً. وهكذا، لم تمض سنوات الاحتلال، إلا وقد حوصرت مدينة القدس بأسوار من المستوطنات، التي يقطنها المهاجرون الجدد. وقد تبع ذلك، أن قامت، في داخل المدينة، مؤسسات يهودية. وتحول العرب، القاطنون في القسم الشرقي من المدينة، من أغلبية في السكان (الجميع تقريباً) إلى أقلّ من النصف. ولا يزال 85% منهم، يرفضون الهوية الإسرائيلية الحكومية، مضحين بالامتيازات العديدة، التي توفرها الجنسية الإسرائيلية التي تعطيهم حق الانتخاب، سواء في الانتخابات العامة أو في الانتخابات البلدية، إلى جانب تطبيق القانون الإسرائيلي عليهم وعلى ممتلكاتهم.
وبعد إعلان توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها، في 28 يونيه 1967، وطبقاً للسياسة الإسرائيلية، للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقلّ عدد ممكن من السكان العرب، خُططت الحدود البلدية للقدس الموحدة بشكل متناقض، لتضم أراضي 28 قرية ومدينة عربية، وتخرج، في الوقت نفسه، جميع التجمعات السكانية العربية الكثيفة. والهدف من ذلك، أن تأخذ هذه الحدود وضعاً شاذاً، وغير منتظم، فهي، مرة مع خطوط التسوية، وأخرى مع الشوارع. وهكذا، بدأت حقبة أخرى من ترسيم الحدود البلدية للقدس الموحدة، لتتسع مساحة بلدية القدس الشرقية من 6.5 كم2 إلى 70.5 كم2، ولتصبح مساحتها مجتمعة، الشرقية والغربية، 108.5 كم2، ثم لتتوسع، مرة أخرى، عام 1990، في اتجاه الغرب، حتى أصبحت مساحتها، الآن، 123 كم2.
وهكذا، بدأت السياسة الإسرائيلية، ومنذ الساعات الأولى للاحتلال، في رسم الإطار لتهويد القدس، من أجل فرض الأمر الواقع، وخلق ظروف ديموجرافية، الأمر الذي يجعل من الصعب على السياسي، أو الجغرافي، إعادتها إلى وضعها قبل عام 1967، وتقسيمها مرة أخرى. فبدأت في إقامة الأحياء اليهودية، لتحيط القدس الشرقية بسلسلة من المستوطنات، من جميع الجهات. ثم جلبت إليها المستوطنين، لتخلق أمراً واقعاً، جغرافياً وديموجرافياً، ومن ثم، تُحدث خلخلة سكانية في القدس العربية. وبعد أن كان الفلسطينيون يشكلون أغلبية سكان القدس الشرقية، عام 1967، أصبحوا أقلية، عام 1997. وبعد أن كانوا يسيطرون على 100% من الأراضي، أصبحوا لا يسيطرون إلاّ على 21% من الأراضي، بعد عمليات المصادرة، وإقامة المشروعات الاستيطانية عليها، وفتح الطرق، والبناء ضمن الأحياء العربية. ثم تأتي مرحلة أخرى من مراحل التهويد وترسيم الحدود، وهي حدود القدس الكبرى (المتروبوليتان)، لتشمل أراضٍ، تبلغ مساحتها 840 كم2، أو ما يعادل 15% من مساحة الضفة الغربية، ولتبدأ حلقة أخرى من إقامة المستعمرات، خارج حدود البلدية، في سياق هدفٍ واضحٍ، وهو التواصل، الإقليمي والجغرافي، ما بين المستعمرات، خارج حدود البلدية، والواقعة في الضفة الغربية. إضافة إلى إقامة شبكة من الطرق الالتفافية، تصل ما بين هذه المستعمرات.
كان العامل الحاسم في إحداث التغيير في حدود القدس، هو الاحتلال وسياسة التوسع والاستيطان الإسرائيلية. ومن ثم، فقد بدأت عمليات المصادرة للأراضي العربية، بعد الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، في شيخ جراح، وأرض السمار، ووادي الجوز، وخلة نوح، في الأرض الحرام. وكانت البداية إقامة مستوطنات رامات أشكول، وجعفات همبتار، والتلة الفرنسية، والجامعة العبرية على تلك الأراضي المصادرة، في عامَي 1968 - 1969. وقد تم ذلك على خمس مراحل. (اُنظر ملحق مراحل مصادرة الأراضي الفلسطينية في القدس، منذ عام 1967).
وتجدر الإشارة إلى أن حدود مدينة القدس الشرقية، توسعت، مقارنة بحدود 1949 و1969، في كل الاتجاهات. ففي المنطقة الشرقية، على سبيل المثال، جرى التوسع بضم جبل المشارف والطور وجبل المكبر، إلى حدود القدس الشرقية. وتقع أقصى نقطة في الشرق في المنطقة المرتفعة، الفاصلة بين وادي النار غرباً، ووادي الجهير شرقاً، المعروفة بجبل السلحيد، وذلك بهدف عزلها عن باقي الضفة الغربية.
ثانياً: الإستراتيجية الإسرائيلية لتهويد مدينة القدس
لقد مضى أكثر من نصف قرن على احتلال القدس الغربية، وحوالي ثلاثة عقود على احتلال القدس الشرقية، وخلال هذه الفترة لم تتغير الإستراتيجية الإسرائيلية حيال مدينة القدس، والتي هدفت إلى استمرار السيطرة عليها وعدم التنازل أو التفريط في هذه السيطرة، ولذلك أصدر الكنيست قانونه الخاص بتوحيد المدينتين الغربية والشرقية وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. وإذا كانت الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت بين بعض الدول العربية وإسرائيل من جانب، وكذلك بين الفلسطينيين وإسرائيل من جانب آخر، وخاصة اتفاق أسلو، أكدت على عدم فتح ملف القدس ما لم يتم الانتهاء من الملفات الأخرى، وخلال مرحلة مفاوضات الوضع النهائي، فإن ذلك لم يعنِ أن إسرائيل كانت قد غيرت إستراتيجيتها تجاه مدينة القدس، بل إنها كانت ترغب في تحقيق أهدافها وإستراتيجيتها تجاه مدينة القدس بطرق سلمية، دون الدخول في مواجهات مع العرب والمسلمين، وخاصة في بداية مسيرة العملية السلمية.
1. تطور الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه مدينة القدس
أ. بن جوريون وإستراتيجية الأمر الواقع[1]
يُعَدُّ بن جوريون أول من تطلع إلى القدس كعاصمة لإسرائيل، حتى قبل إعلان نشأتها في ليلة 14 مايو 1948، ولقد تبنى إستراتيجية فرض الأمر الواقع مبكراً على مدينة القدس، ومنذ صدور قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947، وتقسيمها إلى مدينتين، والتهويد المبكر للجزء الغربي منها. ولقد تعامل بن جوريون مع قرار تقسيم فلسطين بأسلوب يعتمد على الخداع والمكر لم يفهمه العرب، حيث عمل على أن يكون للقدس كياناً منفصلاً خاضعاً لنظام دولي خاص، تتولى الأمم المتحدة إدارته، وتعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية نيابة عن الأمم المتحدة. ولقد أكد القرار حدود المدينة والتي تضمنت بلدية القدس الحالية، إضافة إلى القرى والبلدان المجاورة لها، والتي امتدت شرقاً حتى أبو ديس، وجنوباً حتى بيت لحم، وغرباً حتى عين كارم، وشملت أيضاً المنطقة المبنية من قرية قالوينا.
وإذا كان العرب قد رفضوا قرار التقسيم، انطلاقاً من أن التدويل يسلبهم حقهم التاريخي والشرعي في السيادة على المدينة، إلا أن اليهود قبلوا مشروع التدويل حتى يمكنهم إعلان قيام دولة إسرائيل. على أن تعمل بعد ذلك على فرض أمر واقع جديد. ولذلك احتلت القوات الصهيونية مزيداً من الأراضي العربية، ثم أقامت طريقاً يربط بين تل أبيب والقدس، كما بادرت باحتلال حي القطمون الذي له أهمية إستراتيجية في القدس قبل إعلان قيام دولة إسرائيل. ولتحقيق الإستراتيجية التي تبناها بن جوريون، لم يحترم قرارات مجلس الأمن، حيث لم يلتزم بقرار تجريد القدس من السلاح لحمايتها من الدمار. ولقد نجح بن جوريون في تثبيت إستراتيجيته القائمة على سياسة الأمر الواقع خلال اتفاق وقف إطلاق النار مع الأردن، حيث عُينت خطوط وقف إطلاق النار في القدس، وهي الخطوط التي أصبحت فيما بعد خطوط الهدنة في اتفاق 3 أبريل 1949، أو خطوط الأمر الواقع لتقسيم القدس إلى مدينتين شرقية وغربية.
تكريساً للأمر الواقع، بادر بن جوريون بنقل العديد من الوزارات إلى القدس، وكان منها وزارة الخارجية، حتى تضطر الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلى نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس. ومن ثم تعترف بالأمر الواقع الذي عمد بن جوريون إلى تثبيته. كما بدئ في إقامة مبنى الكنيست الجديد في 14 أكتوبر 1958، والذي افتتح في 30 أغسطس 1966، وبذلك يكون بن جوريون قد نجح في تنفيذ إستراتيجيته الهادفة إلى خلق أمر واقع جديد، على الرغم من أن طموحاته كانت أكبر من هذا بكثير. حيث كان قد أعلن الخطوط العامة لحدود دولة إسرائيل قبل قيامها، على أن تكون الحدود الشمالية هي نهر الليطاني جنوب لبنان، والحدود الشرقية عند نهر العوجي في سورية وصحراء الأردن، والحدود الجنوبية عند البحر الأحمر.
ب. ليفي أشكول واحتلال القدس الشرقية
عمل ليفي أشكول على استكمال إستراتيجية بن جوريون، الذي اعتزل الحياة السياسية عام 1963. ولقد كانت حرب يونيه 1967 سبباً رئيسياً لسقوط القدس الشرقية. وفي يوم 27 يونيه 1967، أعلن عن ضم الأحياء العربية في القدس الشرقية، ولقد شمل أمر الضم المنطقة ما بين مطار وقرية قلنديا شمالاً، وقرى صور باهر وبيت صفافا جنوباً، وقرى الطور والعيسوية وعناتا والأم شرقاً، وحدود الهدنة عام 1949 غرباً.
تحددت إستراتيجية ليفي أشكول، في تغيير معالم الأرض، التي استولى عليها، خلال حرب يونيه 1967،. ولذلك أصدرت السلطات الإسرائيلية قراراً لحل مجلس أمانة القدس العربي المنتخب، وإقصاء أمين القدس من عمله، وإلحاق موظفي وعمال أمانة القدس ببلدية القدس المحتلة. كما أقامت السلطات مراكز حدود عسكرية وجمركية على الطرق والمعابر، تأكيداً بأن القدس أصبحت منطقة أجنبية بالنسبة للمدن والقرى في الضفة الغربية، ويستلزم دخول القدس وجود تصاريح عسكرية لا تمنح إلا بشروط معقدة. كما أصدرت بطاقات هوية إسرائيلية للعرب المتواجدين في القدس الشرقية، وعدت غير الموجودين من العرب، أثناء إصدار هذه الهويات، غائبين ومنعتهم من حق الرجوع. حيث بدأت بعد ذلك في تطبيق قانون أموال الغائبين، الذي كان قد أقر في 31 مارس 1950، حتى يمكن للسلطات الإسرائيلية السيطرة على الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يملكها العرب.
ولتحقيق أكبر قدر من نجاح إستراتيجية تغيير معالم الأرض، بدأ في إقامة المناطق السكنية لليهود، وإنشاء العديد من المنشآت الخدمية الرسمية والشعبية والثقافية والاجتماعية بالقدس، كعاصمة يهودية موحدة. إضافة إلى فرض السيطرة الإسرائيلية على المباني الحكومية والخاصة التي استولى عليها. ولقد عمل أشكول على تطبيق إستراتيجيته خلال مراحل متتابعة، مع حرصه على إطلاق العديد من المزاعم والادعاءات التاريخية الباطلة.
ج. جولدا مائير واستكمال إستراتيجية فرض الأمر الواقع
بعد أن تولت جولدا مائير رئاسة الحكومة، واصلت سياسة فرض الأمر الواقع التي كان كرسها بن جوريون. حيث استهلت فترة حكمها، بمحاولة إحراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969. وكان اختيار هذا التوقيت له دلالة وتأكيد أن هناك مخططاً، لطمس كل المقدسات الإسلامية بالقدس، ولقد تمت هذه المحاولة في اليوم التالي لإنجاز بعض الحفريات التي قامت بها حكومة إسرائيل، تحت أرض المسجد الأقصى، بحثاً عن الآثار المزعومة لهيكل سليمان، حيث كانت محاولة إحراق المسجد الأقصى متممة لعمليات الحفر.
على الرغم من الاتهامات التي وُجِّهت إلى جولدا مائير وحكومتها، إلا أنها استمرت في مواصلة سياسة فرض الأمر الواقع، كما هو مخطط. حيث استكملت عمليات مصادرة الأراضي، وكان أخطرها قرار الحكومة الإسرائيلية الصادر في 30 أغسطس 1970، الذي صادر مساحات شاسعة، بلغت حوالي 11680 دونماً من الأراضي العربية، وانتزع خلالها حوالي عشر قرى تحيط بالقدس، ومن ثم إقامة، بدلاً منها، الطرق والمؤسسات الخدمية، وكذلك حوالي 22 ألف وحدة سكنية. كما أعلن في يونيه 1971 عن مصادرة 12 ألف دونم جديدة في ضواحي القدس الشرقية، لزيادة مساحة المستوطنات وإقامة حي أشكول.
د. إسحاق رابين وإستراتيجية توحيد القدس
تولى رئاسة الحكومة إسحاق رابين بعد جولدا مائير منذ عام 1974، وخاض، خلال هذه المرحلة، مفاوضات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية، إلا أنه، في الوقت ذاته، واصل السياسة الاستيطانية التي بدأتها الحكومات السابقة. كذلك واصل رابين سياسة ضم المدينتين، الغربية والشرقية، بخطوط متتابعة، من خلال مصادرة مزيد من الأحياء العربية والاستيلاء على الأراضي المحيطة بالمسجد الأقصى، للبدء في تنفيذ مشروع بناء القدس الكبرى، لتضم أكبر من ربع مساحة الضفة الغربية.
وبذلك وضحت إستراتيجية رابين خلال فترة ولايته الأولى 1974-1977، والهادفة إلى تحقيق مشروع القدس اليهودية الموحدة كعاصمة لإسرائيل، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق هدفه خلال هذه الفترة، وبتولي مناحم بيجين رئاسة الحكومة في مايو 1977، وعلى الرغم من أنه، خلال هذه المرحلة، وقعت اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، ثم المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية عام 1979، والتي أكد من خلالها الموقف المصري أن القدس العربية جزء من الضفة الغربية، إلا أن موقف بيجين استند إلى موقف حكومته التي أصدرت مرسوماً يُعد القدس مدينة واحدة غير قابلة للتقسيم. ولقد كان هذا الموقف دافعاً قوياً للكنيست لتأكيد قراره السابق. حيث أقر مرة أخرى، وبشكل عاجل، في 30 يوليه 1980، قانوناً جديداً لتهويد القدس وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.
على الرغم من الإدانة الدولية للقانون الإسرائيلي، إلا أن حكومة بيجين وحكومة شامير قد استندتا إلى هذا القانون، لاستكمال إستراتيجية القدس الموحدة، وبناء المزيد من المشروعات الاستيطانية في القدس خلال ثلاث مراحل تمثلت في:
(1) المشروعات التي استهدفت الأحياء العربية في القدس نفسها، وحاولت تغليب العنصر اليهودي حضارياً وسكانياً على الطابع العربي للمدينة.
(2) توسيع المدينة بشوارع تربطها بالضواحي، التي أُقيمت على أراضي القرى العربية القريبة من القدس، بهدف فصلها عن المدن الأخرى في الضفة الغربية.
(3) إقامة الحي اليهودي في القدس الشرقية، لتكتمل عملية التهويد الشاملة للمدينة. ويعد هذا الحي من أخطر المشروعات، التي تستهدف تغيير معالم المدينة، بإقامة سور جديد.
وبذلك يكون مشروع القدس الكبرى، كما خطط له كل من: رابين، ثم تبعه بيجين، وشامير، منذ منتصف السبعينيات. ولقد كان شامير من أشد المعارضين لاتفاقيات كامب ديفيد، وقامت سياسته أساساً على مبدأ أرض إسرائيل الكاملة. وبانتهاء فترة رئاسته للحكومة، تولى شيمون بيريز رئاسة الحكومة عام 1985. ولقد كان هناك تطورات سريعة ومتلاحقة منذ بداية هذه المرحلة، إلا أنه كان هناك اتفاق إسرائيلي عام حول عدم التخلي عن مدينة القدس والتمسك بها كعاصمة أبدية لإسرائيل. وإذا كان شامير حكم على قضية القدس بالجمود طوال فترة حكمه، رداً على أحداث الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، ولم يحرك هذا الموقف الساكن سوى مؤتمر مدريد (30 أكتوبر ـ 2 نوفمبر 1991).
عملت إسرائيل، خلال مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، على تأجيل بحث قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي، وإذا كان اعتراف إسرائيل بأن القدس قضية لها أهميتها بالنسبة للعرب والمسلمين ، يُعد تراجعاً عن موقفها تجاه مدينة القدس، إلا أن هذا الاعتراف لم يمنع إسرائيل من استعمال إستراتيجيتها الهادفة لفرض الأمر الواقع، وخاصة أن مفاوضات أوسلو قد أسفرت أيضاً عن تأجيل قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي أيضاً.
مع احتدام المواجهات التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أصدر الكنيست قانوناً، يوم 10 مايو 1994، يؤكد استمرار تمسكه بمدينة القدس موحدة إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية. ومع شعور إسرائيل بخطورة مكانة بيت الشرق،[2] بعد اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، أصدر الكنيست في ديسمبر 1994 قانوناً يحظر نشاط المنظمة في القدس الشرقية. كما هدد المسؤولون الإسرائيليون بإغلاق بيت الشرق للحد من الأنشطة الفلسطينية المكثفة. وفي نهاية أغسطس 1995، بدأت التهديدات المباشرة لبيت الشرق تتعدد، حيث أصدر رابين أوامره باتخاذ الإجراءات القانونية لمواجهة ما عَدّه، تجاوزات بيت الشرق.
باغتيال رابين في نوفمبر 1955، دخلت القدس ضمن المساومات الانتخابية، حيث كانت وحدة القدس هي الهدف الرئيسي لكل رؤساء الوزراء بعد ذلك، وكان هناك تأكيد بأنها ليست داخل إطار المفاوضات. ولذلك استمرت القدس هي القضية الخلافية الأولى في مفاوضات السلام، والتي أدت إلى تعثرها أكثر من مرة، كما أنها السبب الأساسي في انهيار المفاوضات السلمية في كامب ديفيد 2. ولقد أعلن شارون في برنامجه الانتخابي، استمرار تمسكه بإستراتيجية القدس الموحدة، وعدم تفريطه فيها، أو الموافقة على تقسيمها أو المساس بها، أو حتى التفاوض بشأنها.
ثالثاً: أساليب السلطات الإسرائيلية لفرض الأمر الواقع
1. تهجير السكان العرب وترحيلهم
منذ الأيام الأولى لاحتلالها القدس، وضعت إسرائيل حافلات ركاب، لنقل السكان العرب من القدس إلى الضفة الشرقية. وقد باشرت ذلك من خلال الخطوات التالية:
أ. تهجير حوالي 6500 مواطن من سكان حارة المغاربة وحارة الشرف، بعد هدم أحيائها في 8 مايو 1967، ومصادرة أراضيها، البالغة 16 دونماً، كانت تضم 595 بناية و104 محلات تجارية و5 مساجد و4 مدارس.
ب. استمرت في هدم المنازل العربية بشكل متواصل، منذ ذلك الحين. وعلى سبيل المثال، هدمت 256 منزلاً، بين عامَي 1986 ـ 1994، وخططت لهدم 550 منزلاً، بمعدل 50 منزلاً كل عام. ولكن أولمرت، عمدة القدس، استعجل الأمر، وهدد بالهدم الفوري لـ 70 منزلاً، (تصريحاته في أواخر أغسطس 1996). وبذلك تُخْلي القدس من سكانها العرب، ليقيموا خارج حدود البلدية.
2. مصادرة العقارات
أ. صادرت إسرائيل حارة المغاربة وحارة الشرف، وشيدت مكانهما 460 منزلاً لليهود، تختلف في طابعها العمراني عن باقي منازل القدس.
ب. صادرت 17 عقاراً ومتجراً ومدرسة، وأماكن دينية مختلفة، في منطقة باب السلسلة وحي الواد.
ج. في 25 يونيه 1969، امتدت الاستملاكات والمصادرات، لتشمل أكثر من 300 عقار في البلدة القديمة، كان أهمها المسكن، الذي استولى عليه أرييل شارون Ariel Sharon في حي الواد.
د. لجأت السلطات إلى تسهيل انتقال ملكية العقارات العربية إلى اليهود، بوسائل غير مشروعة، كما حدث في رأس العمود.
هـ. صُودر 73% من أراضي القدس، لإقامة مستوطنات عليها (منذ عام 1967)، وهناك 7% مرشحة للمصادرة. وأقيم عليها 40 ألف مسكن، يسكنها حالياً حوالي 160 ألف يهودي.
و. تخطط السلطات الإسرائيلية لتنفيذ 30 ألف وحدة سكنية، في أحياء استيطانية جديدة، وتوسيع الأحياء القديمة، وقد بدأت السلطات في التنفيذ الفعلي لهذا المخطط. (اُنظر ملحق أبرز النشاطات الإسرائيلية في الفترة من 1967 - 1997)، أبرز تلك التغييرات.
ز. إحكام الطوق الأمني حول القدس، ما زاد معاناة الفلسطينيين، اقتصادياً وتعليمياً وطبياً واجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً وتراثياً. وتسببت هذه المعاناة، وزيادة الضرائب، بتفريغ القدس من سكانها العرب.
ح. سحب الهويات من العرب، سكان القدس الأصليين.
رأس بن جوريون الحكومة الإسرائيلية المؤقتة عند الإعلان عن نشأة إسرائيل، ولقد أصبح رئيساً للوزراء في 17 فبراير 1949، ولمدة 15 عاماً، باستثناء الفترة من 1953-1955، واستمر حتى عام 1963.