صحوة موسكو:رؤية أمريكية للتحولات في السياسات الداخلية والخار
مرسل: الخميس أكتوبر 10, 2013 4:48 am
يشهد النظام الدولي حاليا عددا من التغيرات التي تنبع أغلبها وأكثرها تأثيرا في المجتمع الدولي من الداخل. ولعل أبرز دليل على محورية الأبعاد الداخلية في التـأثير في تطورات السياسة الدولية هو موجات الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت العالم في عام 2011 وتجلت في ثورات الربيع العربي. غير أن هذه الاحتجاجات لم تقتصر على نطاق الإقليم العربي، بل ظهرت في أماكن أخرى من العالم، كان من بينها روسيا، وذلك عقب الانتخابات التشريعية التي اتهم البعض الحزب الحاكم بتزويرها.عكست هذه الاحتجاجات منذ اندلاعها وحتى الآن رغبة من قبل قطاع كبير من الشعب الروسي لإحداث تغير جذري في هيكل النظام السياسي والبنية الاقتصادية والاجتماعية، وهو التغير الذي سيكون له لا محالة تداعياته الداخلية والإقليمية والعالمية.
وفي هذا الإطار، صدرت دراسة في نوفمبر 2012 بعنوان "الصحوة الروسية" عن مركز كارنيجي في موسكو، شارك في إعدادها عدد من الباحثين، بهدف بيان أبعاد الأزمة الروسية، والتي كانت سببا وراء هذه الاحتجاجات، والسيناريوهات المتوقعة للتغيير، مع تقديم مجموعة من التوصيات لصانعي السياسة الخارجية في الدول الغربية للتعامل مع تطورات الأوضاع في روسيا.
الأبعاد السياسية للأزمة الروسية:
أول أبعاد الأزمة التي تناولتها الدراسة بالتحليل هو ذلك الخاص بشرعية النظام. فدائما ما استند النظام الروسي إلى "موافقة المحكومين" كأساس لإضفاء الشرعية على سياساته الاستبدادية. غير أن زيادة درجة الوعي والنضج السياسي التي شهدها المجتمع الروسي، في السنوات الأخيرة، أدت إلى فقدان النظام للعديد من الدعائم الرئيسية لشرعيته، وتعالى أصوات المعارضة ضد سياساته الاستبدادية. واتسعت دائرة الرفض لهذه السياسات لتشمل قطاعات واسعة من المجتمع، بالإضافة إلى النخبة التي دائما ما دعمت بوتين، ولكن باتت تدرك عدم قدرته على حماية مصالحها على المدى البعيد.
هذه الأزمة السياسية قد وضعت النظام أمام خيارين، إما تطبيق الديمقراطية، وهو ما يعنى تخلى النخبة عن احتكار السلطة، وفقدان النظام لمصادر قوته، وإما استمرار السياسات القمعية التي من شأنها أن تزيد من الاحتقان المجتمعي. ولذا، لجأ بوتين إلى استراتيجية تجمع ما بين سياسات الانفتاح والقمع، وإضفاء طابع مؤسسي عليهما، وذلك لتلافي الآثار السلبية المترتبة على كلا الخيارين.
فعلى سبيل المثال، سمح بالانتخابات المحلية، ولكن بقيود لا تخول من لا ينتمون إلى النخبة الحاكمة تحقيق أي مكاسب فعلية. وسمح بالتظاهر، ولكن تتعرض قيادات المعارضة لاعتداءات أمنية متكررة. ومن جهة أخرى، يعمل النظام الروسي على محاولة "خلق عدو" خارجي متمثل في الولايات المتحدة والقوى الغربية بالأساس، وعدو داخلي، كالمنظمات غير الحكومية داخل الدولة، لإضفاء الشرعية على سياساته القمعية.
النظام الاجتماعي والاقتصادي:
ثاني أبعاد الأزمة التي ناقشتها الدراسة هو البعد المرتبط بالنظام الاقتصادي والاجتماعي. فسماح النظام الروسي للنخبة بالحصول على مكاسب اقتصادية ضخمة، مقابل الولاء للكرملين، قد أدى إلى ارتفاع معدلات الفساد، وزيادة الغضب المجتمعي. كما أن الاقتصاد الروسي يواجه حاليا عددا من التحديات، أهمها هو الركود في أسعار النفط والمتوقع انخفاضها مستقبلا، وهو الأمر الذي يهدد البنية الاقتصادية للدولة، باعتبار أن الاقتصاد الروسي هو اقتصاد رأسمالي ريعي يعتمد بالأساس على عائدات النفط.
ونتيجة لتزايد اتهامات المعارضة للحزب الحاكم بالفساد، والتخوف من تطور الاحتجاجات إلى حد الثورة ضد النظام، بدأ الكرملين تطبيق مجموعة من السياسات لاستمالة الناخبين، من بينها محاولة الحد من الامتيازات الاقتصادية التي تحظى بها النخبة، واشتراط توقف رجال الأعمال عن إدارة أعمالهم مباشرة أثناء وجودهم في السلطة، فضلا عن القيام ببعض التغييرات في قيادات جهاز الأمن، ومحاكمة عدد من المسئولين في الأجهزة البيروقراطية داخل الدولة. غير أن هذه الإجراءات الشكلية لن تتمكن وحدها من اقتلاع جذور الفساد المتغلغلة في النظام الروسي.
الصحوة المجتمعية والإصلاح من أسفل:
تشهد العلاقة ما بين المجتمع والسلطة السياسية في روسيا مجموعة من التحولات الجذرية التي ناقشتها الدراسة. فالصحوة المجتمعية ضد سياسات بوتين تزايدت مع صعود الطبقة الوسطى، التي تمثل نحو 15 – 17 بالمائة من المجتمع الروسي، ورفضها للعقد الاجتماعي الذي تقوم السلطة السياسة بموجبه بمنح المواطنين الحرية في المجال الخاص، مقابل عدم تدخلهم في الشأن السياسي، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في زيادة معدلات التصويت في الانتخابات، وخروج الشباب الروسي في مظاهرات للاحتجاج على سياسات النظام.
غير أن التيارات الداعمة لتحديث المجتمع الروسي، وتبنى القيم الديمقراطية تواجه صراعا مع التيارات المحافظة المتخوفة من التغيير، والتي يستغلها بوتين لمواجهة المعارضة. هذا الاستقطاب المجتمعي ما بين التيارات الداعية للتغيير والتيارات الرافضة له يتجلى أيضا في صراع قيمي حول مدى قبول أو رفض قيم الديمقراطية والتسامح وغيرها، باعتبارها قيما غربية، وما إذا كانت الثقافة الروسية جزءا من هذه المنظومة القيمية، أم أن روسيا تمثل نموذجا حضاريا قائما بذاته.
ورأت الدراسة أن النخبة الحاكمة لن تتخلى عن احتكارها للسلطة، ومن ثم يكون السبيل الوحيد لإحداث التغير هو تكاتف القوى المجتمعية المختلفة من أجل الضغط على النظام السياسي. ولكن تظل المعارضة الروسية، داخل البرلمان وخارجه، غير قادرة على تحقيق أهدافها، بسبب غياب التنظيم والفاعلية، بالإضافة إلى سياسات بوتين القمعية تجاهها. فلم تستطع المعارضة إجبار بوتين على ترك السلطة، أو التحقيق في ادعاءات تزوير الانتخابات التشريعية أو إعادتها، ولكن تبقى مساعي المعارضة مستمرة لتحقيق التوافق ما بين التيارات المختلفة، الليبرالية واليسارية وغيرها، وذلك من أجل تضييق الخناق على النظام الروسي، وإجباره على الاستجابة لمطالبهم للإصلاح.
التداعيات الداخلية للأزمة والسيناريوهات المحتملة للتغيير:
توقعت الدراسة أن الأزمة الحالية في روسيا ستستمر لفترة طويلة نسبيا، خاصة أن أي قوة سياسية لم تستطع الدفع نحو تحقيق تغير حقيقي قبل الانتخابات البرلمانية في 2017 والرئاسية في 2018. فغياب البديل للنخبة الحاكمة قد يترتب عليه إجهاض محاولات الإصلاح، وتحولها إلى مجرد تغيير للقيادات من داخل النخبة، وهو ما سيزيد الأزمة تعقيدا. وإذا ما فقدت القوى المجتمعية المطالبة بالتغيير إيمانها بالقدرة على تحقيقه، فقد تتمكن النخبة الحالية من إحكام قبضتها على النظام، ويتحول النظام الروسي إلى نظام أكثر ديكتاتورية، يستخدم سياسات القمع والقهر ضد المعارضة، ويعمل على عزل روسيا دوليا.
ولذا، توقعت الدراسة أن تستغرق الصحوة الروسية وقتا طويلا، حتى تستطيع تعبئة القوى المجتمعية الكافية المؤيدة للتغيير. ورأت أن هذا التغير، إن تم، لن تترتب عليه نتائج مثالية بالضرورة، خاصة مع تنامي القوى الراديكالية اليمينية واليسارية داخل روسيا، وتعقد الأوضاع على الساحة الدولية. ولكن يبقى مستقبل روسيا متوقفا على سياسات النخبة الحاكمة، ومحاولتها الاستجابة لمطالب الإصلاح، وقدرة المعارضة على حشد المزيد من التأييد، وتقديم البديل القادر على إدارة البلاد نحو التغيير.
الصحوة المجتمعية والسياسة الخارجية الروسية:
نتيجة للتغيرات التي يشهدها النظام الدولي، التي تعد الأكبر منذ انتهاء الحرب الباردة، والثنائية القطبية، بدأت روسيا بتغيير استراتيجيتها في التعامل مع العالم الخارجي، وهو ما تجلى في الابتعاد عن "الخيار الأوروبي"، والتوجه نحو تحقيق تكامل أورو-آسيوى. كما أن تبعات وأبعاد الحرب الباردة لا تزال تمثل جزءا محوريا من السياسة الخارجية الروسية. يظهر ذلك في السياسات الأمنية والدفاعية التي تبنتها روسيا منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي تضع على قمة أولويات الدولة زيادة الإنفاق على التسلح من أجل صد أي هجوم، حال وقوعه، سواء من الولايات المتحدة، أو حلف شمال الأطلنطي. كما أن هذه السياسة تعد أيضا جزءا من الاستراتيجية الروسية في إضفاء الشرعية على سياسات النظام القمعية بدعوى "ردع العدو الخارجي وحماية الأمن القومي الروسي".
غير أن الصحوة الروسية، وإن ترتب عليها تحولات جذرية، لن تعنى خضوع روسيا للهيمنة الغربية. إذ توقعت الدراسة أن يظل مفهوم القوة حاكما للسياسة الخارجية الروسية، وتبقى روسيا فاعلا مستقلا على الساحة الدولية، يرفض الهيمنة الأمريكية، أو الأوروبية، أو حتى الصينية على السياسة الدولية. فالتغير الأكثر قابلية للحدوث، إن استطاعت الصحوة الروسية أن تدفع نحو الإصلاح السياسي، هو توجه صانعي السياسة الخارجية الروسية نحو توسيع مجالات التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ومحو الصورة النمطية التي جعلت من الولايات المتحدة وأوروبا العدو الأول للدولة الروسية. أما إذا فشلت قوى الإصلاح في إحداث التغير المنشود، فمن المتوقع أن تتجه روسيا نحو العزلة الدولية، وأن يتم تحييدها من قبل الدول الغربية، وتتحول العلاقات ما بين الغرب وروسيا إلى علاقات صراعية، يستحيل معها تحقيق أي نوع من الشراكة، أو التعاون فيما بينهما.
توصيات لصانعى السياسة الخارجية في الدول الغربية:
انتهت الدراسة إلى تقديم مجموعة من التوصيات لصانعي السياسة في الدول الغربية للتعامل الأمثل مع الأزمة الروسية الحالية، ومع السيناريوهات المحتملة للتغيير. فلقد رأت الدراسة أن الاستراتيجية المثلى للتعامل مع الأوضاع الروسية لا بد أن تقوم على توسيع مجالات التعاون والشراكة ما بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وروسيا من جهة أخرى في القضايا الاقتصادية، والسياسية، والاستراتيجية المختلفة.
فمن الناحية الاقتصادية، أوصت الدراسة الولايات المتحدة بأن تمنح روسيا صفة الشريك التجاري الدائم، وأن تعزز من التعاون التكنولوجي المشترك ما بين البلدين، وذلك لمساعدة روسيا على تطوير بنيتها الاقتصادية، فضلا عن إمكانية إنشاء مناطق تجارة حرة، تكون روسيا جزءا منها، والعمل على تأسيس إطار تعاوني ما بين الولايات المتحدة وروسيا وكندا. هذه الإجراءات من شأنها أن تدعم عملية التنمية الاقتصادية في روسيا، وتدعم قوى الإصلاح داخلها.
ومن الناحية السياسة، لابد ألا يرتبط حوار القوى الغربية مع روسيا بشخصيات بعينها، بل يستند إلى المصالح المشتركة، وفتح مجالات للحوار بشأن القضايا الدولية المختلفة، كمستقبل الشرق الأوسط، والوضع في أفغانستان. كما أن القطب الشمالي، الذي يجمع ما بين روسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا، يمكن أن يمثل نموذجا للتعاون الدولي الفعال في كافة المجالات، فضلا عن ضرورة تعميق المصالحة ما بين روسيا وبولندا، واتساع نطاقها لتشمل كافة دول البلقان، حتى يتم بناء الثقة في وسط وشرق أوروبا.
وأخيرا، من الناحية الاستراتيجية، أوصت الدراسة بضرورة تحقيق التعاون ما بين روسيا وحلف شمال الأطلنطي، خاصة في مجال الدفاع الصاروخي، حتى تتم إزالة ما تركته الحرب الباردة من آثار سلبية ومن علاقات عدائية ما بين الطرفين. هذا التعاون من شأنه أن يقضى على إحدى الدعائم التي يستند إليها بوتين لإضفاء الشرعية على السياسات الاستبدادية للنظام، وذلك عن طريق خلق عدو خارجي، متمثل في الولايات المتحدة والناتو، وتحفيز قوى المعارضة في روسيا وتدعيمها لاستكمال كفاحها نحو الإصلاح.
وفي هذا الإطار، صدرت دراسة في نوفمبر 2012 بعنوان "الصحوة الروسية" عن مركز كارنيجي في موسكو، شارك في إعدادها عدد من الباحثين، بهدف بيان أبعاد الأزمة الروسية، والتي كانت سببا وراء هذه الاحتجاجات، والسيناريوهات المتوقعة للتغيير، مع تقديم مجموعة من التوصيات لصانعي السياسة الخارجية في الدول الغربية للتعامل مع تطورات الأوضاع في روسيا.
الأبعاد السياسية للأزمة الروسية:
أول أبعاد الأزمة التي تناولتها الدراسة بالتحليل هو ذلك الخاص بشرعية النظام. فدائما ما استند النظام الروسي إلى "موافقة المحكومين" كأساس لإضفاء الشرعية على سياساته الاستبدادية. غير أن زيادة درجة الوعي والنضج السياسي التي شهدها المجتمع الروسي، في السنوات الأخيرة، أدت إلى فقدان النظام للعديد من الدعائم الرئيسية لشرعيته، وتعالى أصوات المعارضة ضد سياساته الاستبدادية. واتسعت دائرة الرفض لهذه السياسات لتشمل قطاعات واسعة من المجتمع، بالإضافة إلى النخبة التي دائما ما دعمت بوتين، ولكن باتت تدرك عدم قدرته على حماية مصالحها على المدى البعيد.
هذه الأزمة السياسية قد وضعت النظام أمام خيارين، إما تطبيق الديمقراطية، وهو ما يعنى تخلى النخبة عن احتكار السلطة، وفقدان النظام لمصادر قوته، وإما استمرار السياسات القمعية التي من شأنها أن تزيد من الاحتقان المجتمعي. ولذا، لجأ بوتين إلى استراتيجية تجمع ما بين سياسات الانفتاح والقمع، وإضفاء طابع مؤسسي عليهما، وذلك لتلافي الآثار السلبية المترتبة على كلا الخيارين.
فعلى سبيل المثال، سمح بالانتخابات المحلية، ولكن بقيود لا تخول من لا ينتمون إلى النخبة الحاكمة تحقيق أي مكاسب فعلية. وسمح بالتظاهر، ولكن تتعرض قيادات المعارضة لاعتداءات أمنية متكررة. ومن جهة أخرى، يعمل النظام الروسي على محاولة "خلق عدو" خارجي متمثل في الولايات المتحدة والقوى الغربية بالأساس، وعدو داخلي، كالمنظمات غير الحكومية داخل الدولة، لإضفاء الشرعية على سياساته القمعية.
النظام الاجتماعي والاقتصادي:
ثاني أبعاد الأزمة التي ناقشتها الدراسة هو البعد المرتبط بالنظام الاقتصادي والاجتماعي. فسماح النظام الروسي للنخبة بالحصول على مكاسب اقتصادية ضخمة، مقابل الولاء للكرملين، قد أدى إلى ارتفاع معدلات الفساد، وزيادة الغضب المجتمعي. كما أن الاقتصاد الروسي يواجه حاليا عددا من التحديات، أهمها هو الركود في أسعار النفط والمتوقع انخفاضها مستقبلا، وهو الأمر الذي يهدد البنية الاقتصادية للدولة، باعتبار أن الاقتصاد الروسي هو اقتصاد رأسمالي ريعي يعتمد بالأساس على عائدات النفط.
ونتيجة لتزايد اتهامات المعارضة للحزب الحاكم بالفساد، والتخوف من تطور الاحتجاجات إلى حد الثورة ضد النظام، بدأ الكرملين تطبيق مجموعة من السياسات لاستمالة الناخبين، من بينها محاولة الحد من الامتيازات الاقتصادية التي تحظى بها النخبة، واشتراط توقف رجال الأعمال عن إدارة أعمالهم مباشرة أثناء وجودهم في السلطة، فضلا عن القيام ببعض التغييرات في قيادات جهاز الأمن، ومحاكمة عدد من المسئولين في الأجهزة البيروقراطية داخل الدولة. غير أن هذه الإجراءات الشكلية لن تتمكن وحدها من اقتلاع جذور الفساد المتغلغلة في النظام الروسي.
الصحوة المجتمعية والإصلاح من أسفل:
تشهد العلاقة ما بين المجتمع والسلطة السياسية في روسيا مجموعة من التحولات الجذرية التي ناقشتها الدراسة. فالصحوة المجتمعية ضد سياسات بوتين تزايدت مع صعود الطبقة الوسطى، التي تمثل نحو 15 – 17 بالمائة من المجتمع الروسي، ورفضها للعقد الاجتماعي الذي تقوم السلطة السياسة بموجبه بمنح المواطنين الحرية في المجال الخاص، مقابل عدم تدخلهم في الشأن السياسي، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في زيادة معدلات التصويت في الانتخابات، وخروج الشباب الروسي في مظاهرات للاحتجاج على سياسات النظام.
غير أن التيارات الداعمة لتحديث المجتمع الروسي، وتبنى القيم الديمقراطية تواجه صراعا مع التيارات المحافظة المتخوفة من التغيير، والتي يستغلها بوتين لمواجهة المعارضة. هذا الاستقطاب المجتمعي ما بين التيارات الداعية للتغيير والتيارات الرافضة له يتجلى أيضا في صراع قيمي حول مدى قبول أو رفض قيم الديمقراطية والتسامح وغيرها، باعتبارها قيما غربية، وما إذا كانت الثقافة الروسية جزءا من هذه المنظومة القيمية، أم أن روسيا تمثل نموذجا حضاريا قائما بذاته.
ورأت الدراسة أن النخبة الحاكمة لن تتخلى عن احتكارها للسلطة، ومن ثم يكون السبيل الوحيد لإحداث التغير هو تكاتف القوى المجتمعية المختلفة من أجل الضغط على النظام السياسي. ولكن تظل المعارضة الروسية، داخل البرلمان وخارجه، غير قادرة على تحقيق أهدافها، بسبب غياب التنظيم والفاعلية، بالإضافة إلى سياسات بوتين القمعية تجاهها. فلم تستطع المعارضة إجبار بوتين على ترك السلطة، أو التحقيق في ادعاءات تزوير الانتخابات التشريعية أو إعادتها، ولكن تبقى مساعي المعارضة مستمرة لتحقيق التوافق ما بين التيارات المختلفة، الليبرالية واليسارية وغيرها، وذلك من أجل تضييق الخناق على النظام الروسي، وإجباره على الاستجابة لمطالبهم للإصلاح.
التداعيات الداخلية للأزمة والسيناريوهات المحتملة للتغيير:
توقعت الدراسة أن الأزمة الحالية في روسيا ستستمر لفترة طويلة نسبيا، خاصة أن أي قوة سياسية لم تستطع الدفع نحو تحقيق تغير حقيقي قبل الانتخابات البرلمانية في 2017 والرئاسية في 2018. فغياب البديل للنخبة الحاكمة قد يترتب عليه إجهاض محاولات الإصلاح، وتحولها إلى مجرد تغيير للقيادات من داخل النخبة، وهو ما سيزيد الأزمة تعقيدا. وإذا ما فقدت القوى المجتمعية المطالبة بالتغيير إيمانها بالقدرة على تحقيقه، فقد تتمكن النخبة الحالية من إحكام قبضتها على النظام، ويتحول النظام الروسي إلى نظام أكثر ديكتاتورية، يستخدم سياسات القمع والقهر ضد المعارضة، ويعمل على عزل روسيا دوليا.
ولذا، توقعت الدراسة أن تستغرق الصحوة الروسية وقتا طويلا، حتى تستطيع تعبئة القوى المجتمعية الكافية المؤيدة للتغيير. ورأت أن هذا التغير، إن تم، لن تترتب عليه نتائج مثالية بالضرورة، خاصة مع تنامي القوى الراديكالية اليمينية واليسارية داخل روسيا، وتعقد الأوضاع على الساحة الدولية. ولكن يبقى مستقبل روسيا متوقفا على سياسات النخبة الحاكمة، ومحاولتها الاستجابة لمطالب الإصلاح، وقدرة المعارضة على حشد المزيد من التأييد، وتقديم البديل القادر على إدارة البلاد نحو التغيير.
الصحوة المجتمعية والسياسة الخارجية الروسية:
نتيجة للتغيرات التي يشهدها النظام الدولي، التي تعد الأكبر منذ انتهاء الحرب الباردة، والثنائية القطبية، بدأت روسيا بتغيير استراتيجيتها في التعامل مع العالم الخارجي، وهو ما تجلى في الابتعاد عن "الخيار الأوروبي"، والتوجه نحو تحقيق تكامل أورو-آسيوى. كما أن تبعات وأبعاد الحرب الباردة لا تزال تمثل جزءا محوريا من السياسة الخارجية الروسية. يظهر ذلك في السياسات الأمنية والدفاعية التي تبنتها روسيا منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي تضع على قمة أولويات الدولة زيادة الإنفاق على التسلح من أجل صد أي هجوم، حال وقوعه، سواء من الولايات المتحدة، أو حلف شمال الأطلنطي. كما أن هذه السياسة تعد أيضا جزءا من الاستراتيجية الروسية في إضفاء الشرعية على سياسات النظام القمعية بدعوى "ردع العدو الخارجي وحماية الأمن القومي الروسي".
غير أن الصحوة الروسية، وإن ترتب عليها تحولات جذرية، لن تعنى خضوع روسيا للهيمنة الغربية. إذ توقعت الدراسة أن يظل مفهوم القوة حاكما للسياسة الخارجية الروسية، وتبقى روسيا فاعلا مستقلا على الساحة الدولية، يرفض الهيمنة الأمريكية، أو الأوروبية، أو حتى الصينية على السياسة الدولية. فالتغير الأكثر قابلية للحدوث، إن استطاعت الصحوة الروسية أن تدفع نحو الإصلاح السياسي، هو توجه صانعي السياسة الخارجية الروسية نحو توسيع مجالات التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ومحو الصورة النمطية التي جعلت من الولايات المتحدة وأوروبا العدو الأول للدولة الروسية. أما إذا فشلت قوى الإصلاح في إحداث التغير المنشود، فمن المتوقع أن تتجه روسيا نحو العزلة الدولية، وأن يتم تحييدها من قبل الدول الغربية، وتتحول العلاقات ما بين الغرب وروسيا إلى علاقات صراعية، يستحيل معها تحقيق أي نوع من الشراكة، أو التعاون فيما بينهما.
توصيات لصانعى السياسة الخارجية في الدول الغربية:
انتهت الدراسة إلى تقديم مجموعة من التوصيات لصانعي السياسة في الدول الغربية للتعامل الأمثل مع الأزمة الروسية الحالية، ومع السيناريوهات المحتملة للتغيير. فلقد رأت الدراسة أن الاستراتيجية المثلى للتعامل مع الأوضاع الروسية لا بد أن تقوم على توسيع مجالات التعاون والشراكة ما بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وروسيا من جهة أخرى في القضايا الاقتصادية، والسياسية، والاستراتيجية المختلفة.
فمن الناحية الاقتصادية، أوصت الدراسة الولايات المتحدة بأن تمنح روسيا صفة الشريك التجاري الدائم، وأن تعزز من التعاون التكنولوجي المشترك ما بين البلدين، وذلك لمساعدة روسيا على تطوير بنيتها الاقتصادية، فضلا عن إمكانية إنشاء مناطق تجارة حرة، تكون روسيا جزءا منها، والعمل على تأسيس إطار تعاوني ما بين الولايات المتحدة وروسيا وكندا. هذه الإجراءات من شأنها أن تدعم عملية التنمية الاقتصادية في روسيا، وتدعم قوى الإصلاح داخلها.
ومن الناحية السياسة، لابد ألا يرتبط حوار القوى الغربية مع روسيا بشخصيات بعينها، بل يستند إلى المصالح المشتركة، وفتح مجالات للحوار بشأن القضايا الدولية المختلفة، كمستقبل الشرق الأوسط، والوضع في أفغانستان. كما أن القطب الشمالي، الذي يجمع ما بين روسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا، يمكن أن يمثل نموذجا للتعاون الدولي الفعال في كافة المجالات، فضلا عن ضرورة تعميق المصالحة ما بين روسيا وبولندا، واتساع نطاقها لتشمل كافة دول البلقان، حتى يتم بناء الثقة في وسط وشرق أوروبا.
وأخيرا، من الناحية الاستراتيجية، أوصت الدراسة بضرورة تحقيق التعاون ما بين روسيا وحلف شمال الأطلنطي، خاصة في مجال الدفاع الصاروخي، حتى تتم إزالة ما تركته الحرب الباردة من آثار سلبية ومن علاقات عدائية ما بين الطرفين. هذا التعاون من شأنه أن يقضى على إحدى الدعائم التي يستند إليها بوتين لإضفاء الشرعية على السياسات الاستبدادية للنظام، وذلك عن طريق خلق عدو خارجي، متمثل في الولايات المتحدة والناتو، وتحفيز قوى المعارضة في روسيا وتدعيمها لاستكمال كفاحها نحو الإصلاح.