- الخميس أكتوبر 10, 2013 5:00 am
#64313
روسيا الصاعدة والنظام الدولي الجديد
كانت الحرب الروسية الجورجية مجرد إعلان عن أن روسيا لن ترضى بعد اليوم إلا أن تكون قوة عظمى دولية، تملي إرادتها السياسية والإستراتيجية والاقتصادية، وفقًا فقط لـمصلحتها القومية وأمنها القومي. صحيح أن الإعلان الروسي هذا كان خشنًا خشونة تجللت بسحق الجيش الجورجي بلا رحمة تحت حوافر الدب الروسي الرهيب، ولكن هذا الإعلان الخشن كان لازمًا ليستفيق العم سام، الذي كان مازال سكرانًا بنشوة القدرات التسليحية والتكنولوجية غير المسبوقة، التي يحوزها ضمن قوات الولايات المتحدة العملاقة.
لقد أفاق العم سام وحلفاؤه في الناتو، ليجدوا أنفسهم عاجزين عن إيقاف الدب الروسي؛ لأن قواتهم مازالت متورطة ومستنزفة في الحرب على القاعدة في كل بحار العالم ومطاراته وموانيه، فضلًا عن خسائر أمريكا والحلفاء في العراق وأفغانستان، أضف إلى ذلك قواته التي في لبنان "اليونيفيل"، وقبالة سواحل الصومال وسواحل إيران.
فعملية انتشار قوات الولايات المتحدة البرية بلغت حدها الأقصى، بينما حبست قدرتاها البحرية والجوية في مهماتها العديدة حول العالم.
لقد فهم الدب الروسي المعادلات الدولية الجديدة، وأعد عدته جيدًا ليعود قطبًا دوليًّا فاعلًا، يملي إرادته على العالم من منظور أمنه ومصلحته القومية، وتحرك الدب الروسي ليغير الواقع الجيواستراتيجي والجيوسياسي بكل حزم وقوة، ووقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين مبهوتين من فاعلية واتساع حركة الدب الروسي حول العالم؛ فها هي القطع البحرية الروسية تعود للإنتشار في البحر المتوسط، وتتردد على المواني السورية مذكرة بالعصر الذهبي للقوة العسكرية السوفياتية، أيام كان الإتحاد السوفيتي قوة عظمى دولية، وقطبًا دوليًّا يتقاسم مع الولايات المتحدة السيطرة على العالم.
وتلك قطع بحرية أخرى من أسطول الشمال بينها سفينة القيادة الطراد "بيار لو غران"، الذي يتحرك بالدفع النووي والقاذف للصواريخ، والمدمرة "إميرال شابانينكو"، وسفن مواكبة تتحرك لتصل إلى فنزويلا لتجري مناورات بحرية مشتركة معها، رغم أن فنزويلا هذه تقع فيما تعتبره الولايات المتحدة فنائها الخلفي، الذي لم تسمح فيه طوال تاريخها بوجود معادٍ لها حتى أيام الحرب الباردة، لكن روسيا الآن تتحرك لتغيير الواقع الجيواستراتيجي والجيوسياسي وفقًا لمصالحها وأمنها القومي.
وهاهما القاذفتان الإستراتيجيتان من نوع "تو-160" تقيما أسبوعين في منتصف سبتمبر في فنزويلا لإجراء طلعات تدريبية، وبعد ذلك تطيران في طلعات تدريبية فوق المياه الدولية قبالة البرازيل، قبل أن تعودا إلى قواعدهما في روسيا، ويمثل هذا النوع من الطائرات القاذفة القوة الضاربة الأخطر في القوات الجوية الروسية الإستراتيجية، أي القوات التي تسخدم لإطلاق الأسلحة النووية الإستراتيجية.
ولم يقتصر الزحف الروسي على أمريكا اللاتينية والقوقاز والشرق الأوسط، بل نجد أن الزحف الروسي يسير حثيثًا في قارة أفريقيا، حيث الشراكة في التصنيع العسكري بين روسيا ودولة جنوب إفريقيا منذ عام 2002م، كما شاركت روسيا في المعرض الدولي للسلاح في جنوب إفريقيا بجناح كبير، يشمل كل أنواع السلاح تقريبًّا، وذلك في الفترة من 17 إلى 21 سبتمبر 2008م، وتأتي هذه المشاركة في ظل إعلان روسيا عن استعدادها لمقايضة الدول الإفريقية السلاح بالمواد الخام الإفريقية؛ كالماس والقطن والأخشاب والبن.
وعلى الصعيد العسكري أيضًا، بدأت القوات المسلحة الروسية في 22 سبتمبر تدريبًا استراتيجيًّا واسعًا، يشمل جميع الأراضي الروسية وأيضًا الأراضي البيلوروسية، ويشترك فيه أكثر من 50 ألف جندي وضابط، وعدة آلاف من الآلات العسكرية بما فيها الطائرات والسفن والغواصات العسكرية، سيشاركون في هذا التدريب الذي يعرف باسم "مناورة استقرار 2008"، ويستمر حتى 21 أكتوبر، وتتركز المناورات على صد هجوم جوي وفضائي على الأراضي الروسية.
ولم يقتصر النشاط الروسي على ما ذكرنا، بل يمكننا أن نجد في أخبار هذا الشهر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
• أعلنت روسيا عن نجاح تجربة إطلاق الصاروخ "بولافا" الاستراتيجي من على متن الغواصة دميتري دونسكوي.
• أبرمت روسيا وتركيا صفقة تبلغ قيمتها حوالي 70 مليون دولار، لتزويد الجيش التركي بمنظومات "كورنيت-إي" الصاروخية المضادة للدبابات.
• اتفقت روسيا وكوبا على تفعيل التعاون المتبادل في معظم المجالات الاقتصادية بين البلدين، وذلك على هامش زيارة إيغور سيتشين نائب رئيس الوزراء الروسي إلى هافانا، وبعد زيارته إلى كوبا يبدأ إيغور سيتشين زيارة عمل إلى فنزويلا، برفقة عدد من المسئولين ورجال الأعمال الروس.
• اجتاز صاروخ "براموس" الروسي ـ الهندي الصنع 15 تجربة ناجحة؛ إذ تميز بالسرعة الفائقة التي تكسر حاجز الصوت، والقدرة التدميرية العالية، وإصابته للأهداف الثابتة والمتحركة بدقة بالغة.
• عقد مجلس الأمن الروسي اجتماعًا في أرض "فرانس جوزيف" تحت عنوان "ضمان المصالح الوطنية لروسيا في منطقة القطب الشمالي".
لكن ما هي الأسس التي بنى عليها الروس تحركهم؟ هل هو فهمهم للمعادلات الدولية فقط، أم أن هناك أسس أخرى؟ إن الوقوف على حقيقة هذه الأسس يستلزم الرجوع قليلًا إلى الوراء، عندما انهار الإتحاد السوفيتي السابق، وبدأت القوى الروسية المرتبطة بالغرب وبالصهيونية العالمية بنهب ثرواته، والاستحواذ على مؤسساته بثرواتها وإمكاناتها الضخمة، خاصة شركات البترول والغاز الضخمة، وظهر للجميع أن نهب أموال روسيا قائم على قدم وساق ليل نهار؛ حيث كان تهريب مليارات الدولارات من روسيا إلى الخارج يتم يوميًّا بلا رحمة، وتجرع الشعب مرارات التضخم والغلاء الفاحش لسنوات تحت حكم يلتسن [أول رئيس لروسيا الإتحادية بعد انهيار الإتحاد السوفيتي]، الذي تحالف هو وأسرته مع المافيا؛ خاصة الصهيونية منها، وتعاونوا على نهب البلاد إلى أن ظهر في الأفق رجل المخابرات الروسية فلاديمير بوتين، الذي تسلم الحكم بمساندة الجيش والأجهزة الأمنية، في إطار صفقة بينهم وبين يلتسن تقضي بأن يترك يلتسن الحكم لبوتين مقابل أن لا تتم ملاحقة يلتسن وأسرته قضائيًّا بشأن النهب الذي شاركوا فيه لثروات البلاد.
وهذا الإتفاق لم يعط أي حصانة لغير يلتسن وأسرته، وبالتالي ما إن تولى بوتين الحكم حتى استخدم كل الأساليب الأمنية والقضائية ضد رجال الأعمال اليهود، وعملاء الغرب الذين نهبوا أموال روسيا واستحوذوا على ثرواتها؛ كي يستخلص منهم الشركات الروسية العملاقة التي كانوا استحوذوا عليها في صفقات مشبوهة، وهكذا ما كاد بوتين ينهي فترتي حكمه اللتين استغرقتا ثماني سنوات، حتى كانت روسيا قد وقفت على قدميها مرة أخرى، وأصبحت عملاقًا اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا من جديد.
وساعد بوتين على إعادة بناء الإقتصاد الروسي من جديد، الإرتفاع غير المسبوق في أسعار النفط والغاز، والذي تصدر منهما روسيا كميات هائلة يوميًّا تقدر بأكثر من 7 آلاف برميل نفط، فضلًا عن صادرات الغاز؛ حيث تحتل صادرات الغاز والنفط نحو 54 % من صادرات روسيا، وهكذا وقفت روسيا على أرض صلبة اقتصاديًّا تتمثل في ناتج قومي إجمالي يزيد عن 700 مليار دولار سنويًّا، واحتياطي من النقد الأجنبي والذهب ما يزيد عن 547 مليار دولار، يمثل ثالث احتياطي على مستوى العالم بعد الصين واليابان، فضلًا عن تخلصها من الديون الخارجية الضخمة، التي خلفها عصر يلتسن، والتي كانت تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
ولذلك؛ فمن السهل أن نلاحظ أن روسيا لم تعد كقوة دولية عظمى بمجرد الشعارات أو حتى القدرات العسكرية، وإنما بتخطيط ونجاح إقتصادي أوصلها لهذه الدرجة من النفوذ.
وبدأ الجميع يلاحظ تأثير روسيا في مجريات السياسة الدولية سواء في الملف النووي الإيراني أو الكوري الشمالي أو في منطقة القوقاز، وبدأ الجميع يشعر بأن روسيا يمكنها أن تقول لا في أي شيء، بغض النظر عن توجهات وإرادات الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
وما فعلته روسيا من تحركها المخطط الذي أفضى بها للنهوض من كبوتها واحتلال مكان في النظام الدولي الجديد، الذي هو الآن في طور التشكل هو تصرف طبعي؛ لأن الطبعي أن تسعى الدولة ـ أي دولة ـ لتحقيق مصالحها وأمنها القومي، بعيدًا عن أي هيمنة أجنبية.
أما غير الطبعي فهو ما تفعله دول العالم الإسلامي من الركود في هوة التخلف الإقتصادي والتكنولوجي والسياسي والعسكري، والذهاب في سبات عميق ليس له آخر، لا يعبأ بما يجري على ساحة السياسة الدولية من نظام دولي جديد في طور التشكل، وقد حجزت دول مثل روسيا والصين مكانهما في هذا النظام، وقبلهما اليابان والإتحاد الأوروبي، بينما تسعى دول أخرى جاهدة للحاق بهم، مثل: الهند و"إسرائيل" وجنوب إفريقيا والبرازيل وإيران وغيرها. وسوف يصبح هذا النظام العالمي الجديد عندما يتم تشكله نظامًا متعدد الأقطاب، مماثل للنظام الذي كان سائدًا عشية الحرب العالمية الثانية، ويمثل كل تراجع أو إخفاق للدور الأمريكي إفساحًا لهذا النظام الجديد، الذي يمشي قدمًا نحو الصدارة مُزيحًا النظام العالمي الحالي أحادي القطبية، الذي تحتل فيه الولايات المتحدة موضع القطب الأوحد المتحكم في العالم.
كل هذا يجري والعرب والمسلمون نائمون، لا يستطيع أحد أن يتكهن لهم بموضع ذي قيمة في النظام العالمي الجديد، بالضبط كما كان حالهم في كل النظم العالمية طوال العصر الحديث.
كانت الحرب الروسية الجورجية مجرد إعلان عن أن روسيا لن ترضى بعد اليوم إلا أن تكون قوة عظمى دولية، تملي إرادتها السياسية والإستراتيجية والاقتصادية، وفقًا فقط لـمصلحتها القومية وأمنها القومي. صحيح أن الإعلان الروسي هذا كان خشنًا خشونة تجللت بسحق الجيش الجورجي بلا رحمة تحت حوافر الدب الروسي الرهيب، ولكن هذا الإعلان الخشن كان لازمًا ليستفيق العم سام، الذي كان مازال سكرانًا بنشوة القدرات التسليحية والتكنولوجية غير المسبوقة، التي يحوزها ضمن قوات الولايات المتحدة العملاقة.
لقد أفاق العم سام وحلفاؤه في الناتو، ليجدوا أنفسهم عاجزين عن إيقاف الدب الروسي؛ لأن قواتهم مازالت متورطة ومستنزفة في الحرب على القاعدة في كل بحار العالم ومطاراته وموانيه، فضلًا عن خسائر أمريكا والحلفاء في العراق وأفغانستان، أضف إلى ذلك قواته التي في لبنان "اليونيفيل"، وقبالة سواحل الصومال وسواحل إيران.
فعملية انتشار قوات الولايات المتحدة البرية بلغت حدها الأقصى، بينما حبست قدرتاها البحرية والجوية في مهماتها العديدة حول العالم.
لقد فهم الدب الروسي المعادلات الدولية الجديدة، وأعد عدته جيدًا ليعود قطبًا دوليًّا فاعلًا، يملي إرادته على العالم من منظور أمنه ومصلحته القومية، وتحرك الدب الروسي ليغير الواقع الجيواستراتيجي والجيوسياسي بكل حزم وقوة، ووقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين مبهوتين من فاعلية واتساع حركة الدب الروسي حول العالم؛ فها هي القطع البحرية الروسية تعود للإنتشار في البحر المتوسط، وتتردد على المواني السورية مذكرة بالعصر الذهبي للقوة العسكرية السوفياتية، أيام كان الإتحاد السوفيتي قوة عظمى دولية، وقطبًا دوليًّا يتقاسم مع الولايات المتحدة السيطرة على العالم.
وتلك قطع بحرية أخرى من أسطول الشمال بينها سفينة القيادة الطراد "بيار لو غران"، الذي يتحرك بالدفع النووي والقاذف للصواريخ، والمدمرة "إميرال شابانينكو"، وسفن مواكبة تتحرك لتصل إلى فنزويلا لتجري مناورات بحرية مشتركة معها، رغم أن فنزويلا هذه تقع فيما تعتبره الولايات المتحدة فنائها الخلفي، الذي لم تسمح فيه طوال تاريخها بوجود معادٍ لها حتى أيام الحرب الباردة، لكن روسيا الآن تتحرك لتغيير الواقع الجيواستراتيجي والجيوسياسي وفقًا لمصالحها وأمنها القومي.
وهاهما القاذفتان الإستراتيجيتان من نوع "تو-160" تقيما أسبوعين في منتصف سبتمبر في فنزويلا لإجراء طلعات تدريبية، وبعد ذلك تطيران في طلعات تدريبية فوق المياه الدولية قبالة البرازيل، قبل أن تعودا إلى قواعدهما في روسيا، ويمثل هذا النوع من الطائرات القاذفة القوة الضاربة الأخطر في القوات الجوية الروسية الإستراتيجية، أي القوات التي تسخدم لإطلاق الأسلحة النووية الإستراتيجية.
ولم يقتصر الزحف الروسي على أمريكا اللاتينية والقوقاز والشرق الأوسط، بل نجد أن الزحف الروسي يسير حثيثًا في قارة أفريقيا، حيث الشراكة في التصنيع العسكري بين روسيا ودولة جنوب إفريقيا منذ عام 2002م، كما شاركت روسيا في المعرض الدولي للسلاح في جنوب إفريقيا بجناح كبير، يشمل كل أنواع السلاح تقريبًّا، وذلك في الفترة من 17 إلى 21 سبتمبر 2008م، وتأتي هذه المشاركة في ظل إعلان روسيا عن استعدادها لمقايضة الدول الإفريقية السلاح بالمواد الخام الإفريقية؛ كالماس والقطن والأخشاب والبن.
وعلى الصعيد العسكري أيضًا، بدأت القوات المسلحة الروسية في 22 سبتمبر تدريبًا استراتيجيًّا واسعًا، يشمل جميع الأراضي الروسية وأيضًا الأراضي البيلوروسية، ويشترك فيه أكثر من 50 ألف جندي وضابط، وعدة آلاف من الآلات العسكرية بما فيها الطائرات والسفن والغواصات العسكرية، سيشاركون في هذا التدريب الذي يعرف باسم "مناورة استقرار 2008"، ويستمر حتى 21 أكتوبر، وتتركز المناورات على صد هجوم جوي وفضائي على الأراضي الروسية.
ولم يقتصر النشاط الروسي على ما ذكرنا، بل يمكننا أن نجد في أخبار هذا الشهر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
• أعلنت روسيا عن نجاح تجربة إطلاق الصاروخ "بولافا" الاستراتيجي من على متن الغواصة دميتري دونسكوي.
• أبرمت روسيا وتركيا صفقة تبلغ قيمتها حوالي 70 مليون دولار، لتزويد الجيش التركي بمنظومات "كورنيت-إي" الصاروخية المضادة للدبابات.
• اتفقت روسيا وكوبا على تفعيل التعاون المتبادل في معظم المجالات الاقتصادية بين البلدين، وذلك على هامش زيارة إيغور سيتشين نائب رئيس الوزراء الروسي إلى هافانا، وبعد زيارته إلى كوبا يبدأ إيغور سيتشين زيارة عمل إلى فنزويلا، برفقة عدد من المسئولين ورجال الأعمال الروس.
• اجتاز صاروخ "براموس" الروسي ـ الهندي الصنع 15 تجربة ناجحة؛ إذ تميز بالسرعة الفائقة التي تكسر حاجز الصوت، والقدرة التدميرية العالية، وإصابته للأهداف الثابتة والمتحركة بدقة بالغة.
• عقد مجلس الأمن الروسي اجتماعًا في أرض "فرانس جوزيف" تحت عنوان "ضمان المصالح الوطنية لروسيا في منطقة القطب الشمالي".
لكن ما هي الأسس التي بنى عليها الروس تحركهم؟ هل هو فهمهم للمعادلات الدولية فقط، أم أن هناك أسس أخرى؟ إن الوقوف على حقيقة هذه الأسس يستلزم الرجوع قليلًا إلى الوراء، عندما انهار الإتحاد السوفيتي السابق، وبدأت القوى الروسية المرتبطة بالغرب وبالصهيونية العالمية بنهب ثرواته، والاستحواذ على مؤسساته بثرواتها وإمكاناتها الضخمة، خاصة شركات البترول والغاز الضخمة، وظهر للجميع أن نهب أموال روسيا قائم على قدم وساق ليل نهار؛ حيث كان تهريب مليارات الدولارات من روسيا إلى الخارج يتم يوميًّا بلا رحمة، وتجرع الشعب مرارات التضخم والغلاء الفاحش لسنوات تحت حكم يلتسن [أول رئيس لروسيا الإتحادية بعد انهيار الإتحاد السوفيتي]، الذي تحالف هو وأسرته مع المافيا؛ خاصة الصهيونية منها، وتعاونوا على نهب البلاد إلى أن ظهر في الأفق رجل المخابرات الروسية فلاديمير بوتين، الذي تسلم الحكم بمساندة الجيش والأجهزة الأمنية، في إطار صفقة بينهم وبين يلتسن تقضي بأن يترك يلتسن الحكم لبوتين مقابل أن لا تتم ملاحقة يلتسن وأسرته قضائيًّا بشأن النهب الذي شاركوا فيه لثروات البلاد.
وهذا الإتفاق لم يعط أي حصانة لغير يلتسن وأسرته، وبالتالي ما إن تولى بوتين الحكم حتى استخدم كل الأساليب الأمنية والقضائية ضد رجال الأعمال اليهود، وعملاء الغرب الذين نهبوا أموال روسيا واستحوذوا على ثرواتها؛ كي يستخلص منهم الشركات الروسية العملاقة التي كانوا استحوذوا عليها في صفقات مشبوهة، وهكذا ما كاد بوتين ينهي فترتي حكمه اللتين استغرقتا ثماني سنوات، حتى كانت روسيا قد وقفت على قدميها مرة أخرى، وأصبحت عملاقًا اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا من جديد.
وساعد بوتين على إعادة بناء الإقتصاد الروسي من جديد، الإرتفاع غير المسبوق في أسعار النفط والغاز، والذي تصدر منهما روسيا كميات هائلة يوميًّا تقدر بأكثر من 7 آلاف برميل نفط، فضلًا عن صادرات الغاز؛ حيث تحتل صادرات الغاز والنفط نحو 54 % من صادرات روسيا، وهكذا وقفت روسيا على أرض صلبة اقتصاديًّا تتمثل في ناتج قومي إجمالي يزيد عن 700 مليار دولار سنويًّا، واحتياطي من النقد الأجنبي والذهب ما يزيد عن 547 مليار دولار، يمثل ثالث احتياطي على مستوى العالم بعد الصين واليابان، فضلًا عن تخلصها من الديون الخارجية الضخمة، التي خلفها عصر يلتسن، والتي كانت تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
ولذلك؛ فمن السهل أن نلاحظ أن روسيا لم تعد كقوة دولية عظمى بمجرد الشعارات أو حتى القدرات العسكرية، وإنما بتخطيط ونجاح إقتصادي أوصلها لهذه الدرجة من النفوذ.
وبدأ الجميع يلاحظ تأثير روسيا في مجريات السياسة الدولية سواء في الملف النووي الإيراني أو الكوري الشمالي أو في منطقة القوقاز، وبدأ الجميع يشعر بأن روسيا يمكنها أن تقول لا في أي شيء، بغض النظر عن توجهات وإرادات الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
وما فعلته روسيا من تحركها المخطط الذي أفضى بها للنهوض من كبوتها واحتلال مكان في النظام الدولي الجديد، الذي هو الآن في طور التشكل هو تصرف طبعي؛ لأن الطبعي أن تسعى الدولة ـ أي دولة ـ لتحقيق مصالحها وأمنها القومي، بعيدًا عن أي هيمنة أجنبية.
أما غير الطبعي فهو ما تفعله دول العالم الإسلامي من الركود في هوة التخلف الإقتصادي والتكنولوجي والسياسي والعسكري، والذهاب في سبات عميق ليس له آخر، لا يعبأ بما يجري على ساحة السياسة الدولية من نظام دولي جديد في طور التشكل، وقد حجزت دول مثل روسيا والصين مكانهما في هذا النظام، وقبلهما اليابان والإتحاد الأوروبي، بينما تسعى دول أخرى جاهدة للحاق بهم، مثل: الهند و"إسرائيل" وجنوب إفريقيا والبرازيل وإيران وغيرها. وسوف يصبح هذا النظام العالمي الجديد عندما يتم تشكله نظامًا متعدد الأقطاب، مماثل للنظام الذي كان سائدًا عشية الحرب العالمية الثانية، ويمثل كل تراجع أو إخفاق للدور الأمريكي إفساحًا لهذا النظام الجديد، الذي يمشي قدمًا نحو الصدارة مُزيحًا النظام العالمي الحالي أحادي القطبية، الذي تحتل فيه الولايات المتحدة موضع القطب الأوحد المتحكم في العالم.
كل هذا يجري والعرب والمسلمون نائمون، لا يستطيع أحد أن يتكهن لهم بموضع ذي قيمة في النظام العالمي الجديد، بالضبط كما كان حالهم في كل النظم العالمية طوال العصر الحديث.