منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By عبدالعزيز العسكر 20
#64338
بدأت الحركة الثورية في روسيا في الربع الأول من القرن التاسع عشر. وسارت في محورين:

المحور الأول: انتفاضات الفلاحين

المحور الثاني: حركة الديسمبريين[1]

أمّا الانتفاضات الفلاحية فكان ينقصها الوعي السياسي. كان يُوحَى للفلاحين قروناً عديدة بالخضوع الكامل للقيصر، على أنه ممثل إلاّ له على الأرض. فهو الذي يستطيع أن يحميهم من جور الملاك ولذلك كانوا يناضلون لا ضد الحكم القيصري المطلق بل في سبيل استبدال القيصر بغيره أصلح منه. وكانت اضطرابات الفلاحين غير منظمة، وعفوية. وأمَّا الديسمبريون فقد كان لهم برنامجهم لتصفية نظام الحكم المطلق، وكانوا هم بداية الحركة الثورية في روسيا.

مرت الحركة الثورية في روسيا بثلاث مراحل

المرحلة الأولى: (من عام 1825 إلى عام 1861)

ووصفها لينين بعهد "ثورة الدفوريان" فقد خاض النضال ضد القيصر فريق من أفضل ممثلي طبقة الدفوريان، من أجل تحرير الشعب.

المرحلة الثانية: (من عام 1861 إلى عام 1895)

وصفها لينين بعهد الطبقات الاجتماعية المختلفة (رازنوتشينتسين)[2] أو المرحلة الثورية ـ الديموقراطية؛ إذ اشتركت في النضال أوساط أوسع من المثقفين. فكانوا أقرب إلى الشعب، وقدموا برنامجا أوسع للتحولات الثورية.

المرحلة الثالثة: (البروليتارية ـ من عام 1895 إلى عام 1917)

وانتهت بانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى. وصف لينين تاريخ الحركة الثورية في روسيا فذكر: "إننا نرى بكل وضوح ثلاثة أجيال، عملت في الثورة الروسية. في البدء ـ الدفوريان والملاك العقاريون ـ الديسمبريون وهرتزن. كانت حلقة هؤلاء الثوريين ضيقة. كانوا بعيدين عن الشعب بشكل هائل. ولكن قضيتهم لم تضع سدى. لقد أيقظ الديسمبريون هرتزن. ونشر هرتزن الدعاية الثورية.

وقد تلقفها ووسعها الثوريون المنتمون لمختلف المراتب الاجتماعية، ابتداء من تشيرنيشيفسكي وانتهاء بأبطال "إرادة الشعب"[3]. وأصبحت حلقة المناضلين أوسع وصلتهم بالشعب أقرب. سماهم هرتزن بـ "ملاحي العاصفة المقبلة الشباب". والعاصفة هي حركة الجماهير نفسها. سارت البروليتاريا، وهي الطبقة الثورية الوحيدة حتى النهاية، في طليعتها، ودفعت ملايين الفلاحين لأول مرة إلى النضال الثوري السافر. وكان هجوم العاصفة الأول في عام 1905.

أولاً: المرحلة الأولى

تميزت بظهور حركة الديسمبريين، وانتفاضتها ضد الحكم القيصري. والديسمبريون جماعة من أفضل ممثلي الدفوريان الشباب، وجلهم من الضباط، رأوا منذ طفولتهم مساوئ نظام العبيد. وامتلأت نفوسهم حقدا ضد كل أنواع الظلم، وأيقنوا أنه يستحيل على البلاد أن تتطور في المستقبل دون القضاء على الظلم.

كان ديسمبريو المستقبل، وهم ذوو ثقافة شاملة، على إطلاع بأعمال الكُتاب الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وقرأوا آداب أوروبا الغربية الثورية، وأدركوا أهمية الثورة البرجوازية الفرنسية، في نهاية القرن الثامن عشر، التي وضعت حداً للنظام الإقطاعي في فرنسا، وأثرت تأثيراً كبيراً على نشر الحركة التحررية في بلدان أوروبا. وقد سمى الديسمبريون أنفسهم بأبناء عام 1812. وكتب الديسمبري بيستوجيف: "لقد غزا نابليون روسيا، وآنذاك أحس الشعب الروسي بقوته، وآنذاك استيقظ في القلوب شعور الاستقلال، السياسي أولاً، وبالتالي الاستقلال الشعبي. هذه هي بداية الفكر الحر في روسيا".

اشترك الكثيرون من الديسمبريين في الحرب الوطنية وأظهروا بطولة حقيقية. لقد أدركوا أن بسالة الشعب الروسي أنقذت البلاد من الاستعباد، ورأوا، إضافة إلى ذلك، أن حالة الشعب بعد الحرب قد ساءت. فالفلاحون الذين حاربوا ببطولة ضد المحتلين، أعيدوا من جديد تحت سلطة الملاك. وأمعن الملاك في استغلال الفلاحين لتعويض خسائرهم في الحرب. وخيمت على روسيا فترة من الرجعية الحكومية الكالحة، سميت بالإراكتشييفية.

كان الجنرال أراكتشييف، وهو من المقريين إلى بافل الأول، قاسياً، ظالماً، ينافق القيصر، ومستعداً لتنفيذ جميع أوامره. وقد أعجبت هذه الصفات الكسندر الأول كذلك الذي تخلى بعد الحرب نهائياً عن الليبيرالية التظاهرية التي أبداها في بداية حكمه. فأصبح أراكتشييف بعد القيصر أول شخصية في روسيا والمنفذ الرئيسي للسياسة الرجعية.

وبأمر من الكسندر الأول أنشأ أراكتشييف تنظيمات عسكرية فلاحية. وتحولت قرى بكاملها إلى قرى عسكرية. وكان على الفلاحين أن يقضوا الخدمة العسكرية وأن يشتغلوا بالزراعة في آن واحد. وكان أبناء الفلاحين يبدأون التدريب العسكري منذ السابعة من العمر. وكان التدريب العسكري الشاق اللانهائي، والعمل المرهق والعقوبات القاسية وانتهاك الحرمة الشخصية والحرمان التام من الحقوق، سبباً في جعل حياة فلاحي القرى العسكرية جحيماً لا يطاق. ومن ثم قاموا مراراً بانتفاضات كانت القيصرية تقمعها بلا رحمة. واشتدت الكراهية للحكم المطلق وتأصلت روح الثورة لدى الديسمبريين ضد القيصرية ونظام الاستعباد.

منظمات الديسمبريين السرية الأولى

في عام 1816 تشكلت أول منظمة ديسمبرية سرية هي "اتحاد الإنقاذ" أو "جمعية أبناء الوطن المخلصين والأمناء". وكان هدف "اتحاد الإنقاذ" تصفية نظام الاستعباد والمطالبة بنظام ملكي دستوري.

وفي عام 1818 أنشأ الديسمبريون منظمة جديدة بدلاً من "اتحاد الإنقاذ" وهي "اتحاد الإقبال". كانت تضم زهاء 200 شخص. وقام أعضاء الاتحاد بنشر الدعاية للأفكار الثورية. وكانوا في خطبهم ومقالتهم الأدبية ينتقدون نظام الحكم المطلق ويفضحون استبداد الإقطاعيين وفساد الموظفين. وفي عام 1820 اتخذ "اتحاد الإقبال " قراراً بضرورة إقامة جمهورية في روسيا.

كان الديسمبريون من الثوريين الدفوريان يعتقدون أن الانقلاب الثوري يمكن تحقيقه بمساعدة الجيش فقط من دون اشتراك الجماهير الشعبية. ولكن الحكومة ألغت "اتحاد الإقبال".

وفي أعوام 1823 ـ 1825 وسع الديسمبريون نشاطهم. وازداد عدد المنتسبين إلى المنظمات السرية بشكل كبير.

انتفاضة 14 ديسمبر عام 1825

في نوفمبر عام 1825 مات الإمبراطور الكسندر الأول فجأة وكان قسطنطين، وهو الأخ الأكبر لالكسندر، قد تنازل قبل هذا الوقت، عن العرش لأخيه نيقولاي.

استعد الديسمبريون للانتفاضة بشجاعة وحزم. وفي عشية الحركة قصد بعض أعضاء الجمعية إلى ثكنات الجنود يدعونهم إلى رفض أداء اليمين لنيقولاي. وازدادت الحشود والمظاهرات وأمر نيقولاي باستخدام المدفعية ضد المنتفضين وقصفهم بالقنابل. وقبيل حلول الليل كانت الانتفاضة قد سحقت. تبع ذلك انتفاضة أخرى عام 1825 في أوكرانيا. ولكن الحكومة سحقتها وسقطت أعداد ضخمة قتلى.

وقد نكلت الحكومة القيصرية بالديسمبريين بوحشية. فجرى تحقيق مع (579) شخصاً، وحكم على أكثر من (100) منهم بالأشغال الشاقة والنفي إلى سيبيريا، وجرد الكثيرون من رتبهم أو أرسلوا إلى مختلف المحافظات ووضعوا تحت مراقبة الشرطة. أما الجنود الذين اشتركوا في الانتفاضة فقد جرى إمرارهم وسط الصفوف[4] وأرسلوا إلى كتائب التأديب في الجيش. وحكم على خمسة من الديسمبريين بتقطيع أجسامهم إلى أربعة أجزاء.

لقد وضع الديسمبريون بانتفاضتهم بداية الحركة الثورية في روسيا، وتأثرت بهم الأجيال اللاحقة من الثوريين.

ثانياً: المرحلة الثانية للحركة الثورية الروسية (1861 - 1895)

في نهاية العقد السادس من القرن التاسع عشر نشأ في روسيا وضع متوتر للغاية هدد بحدوث انفجار ثوري وبانتفاضة جماهيرية بين صفوف الفلاحين. فقد بلغت أزمة النظام الإقطاعي أقصى حدتها. وكشفت حرب القرم عن انهيار النظام القيصري وتخلف روسيا تكنيكياً واقتصادياً وازدادت حدة التناقضات الاجتماعية إلى أقصى حد. وقد وصف لينين هذه الفترة بأنها فترة المخاض الثوري في روسيا.

واتسعت حركة الفلاحين اتساعاً كبيراً فقد بلغت حوالي 80 إضراباً خلال أعوام 1855 ـ1860. ومع أن حركة الفلاحين كانت عفوية وغير منظمة، فقد سددت ضربات قاصمة للنظام الإقطاعي.

لم يكن الفلاحون الروس وحدهم في النضال. فلقد ساندهم معسكر الديموقراطية الثورية الذي نشأ في هذه المرحلة. وبدأت في روسيا مرحلة حركة تحرر ديموقراطية ثورية (1861 ـ 1895).

فقد هب للنضال صفوة ممثلي المثقفين الدفوريان وممثلو مختلف الطبقات الاجتماعية ـ من صغار البرجوازيين والموظفين ورجال الدين. وأصبح نشاطهم العملي موجها للدفاع عن مصالح الفلاحين.

بيان 19 فبراير عام 1861

إزاء ضغط التمرد، ولامتصاص الحماس الثوري صَّدق القيصر ألكسندر الثاني في 19 فبراير عام 1861 على مشاريع القوانين المتعلقة بتحرير الفلاحين ودعا الشعب إلى الهدوء والطاعة.

ونال الفلاحون حريتهم. فلم يعد الإقطاعيون من الآن فصاعداً يملكون شراءهم أو بيعهم أو التصرف فيهم كأنهم ممتلكات خاصة. وأصبح بإمكان الفلاحين أن يتزوجوا دون إذن من الملاك وأن يعقدوا اتفاقيات وصفقات تجارية...إلخ.

حوالي العقد الثامن من القرن التاسع عشر اشتدت الحركة الفلاحية من جديد. تفجرت اضطرابات في أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان ومنطقة الفولجا وفي غيرها من مناطق روسيا. وطالب الفلاحون بإلغاء جميع الضرائب وبإعادة الأراضي التي سلبت منهم من قبل.

وكان تأسيس الأممية الأولى، التي ترأسها المفكران والثوريان كارل ماركس وفريدريك أنجلس، في عام 1864 أهم عامل للحركة الثورية العالمية. في العالم بأسره.

وفي عام 1870 شكل فريق من المهاجرين الروس الفرع الروسي للأممية الأولى وطلبوا من ماركس رئاسة هذا الفرع في المجلس العام، فوافق. ولم تكن الظروف قد تهيأت لتقبل الأفكار الاشتراكية العلمية داخل البلاد. إلا إن تأسيس الفرع الروسي دل على ظهور اهتمام بالماركسية والحركة العالمية بين الثوريين الروس.

كان الشعبيون الثوريون هم ممثلي الحركة الديموقراطية الثورية آنذاك وقد سُموا بالشعبيين نظراً لتعاطفهم العميق مع آلام الشعب، ولدفاعهم عن مصالحه. فقد طالب الشعبيون بتوزيع الأرضكلها للفلاحين مجاناً وبإلغاء نظام الحكم المطلق، وكافة امتيازات طبقة الدفوريان، ووقف تسلط الشرطة وفساد الموظفين. وكان الشعبيون يرون أن النظام الشيوعي سيتيح لروسيا تخطي الرأسمالية.

انتشرت حركة الشعبيين انتشاراً واسعاً. شملت المحافظات الروسية إضافة إلى بيلوروسيا وأوكرانيا وجورجيا وغيرها، من المناطق القومية في البلاد. وتحرك الشباب الثوري يناضل من أجل الحرية. كان نضالاً بطولياً، ولكنه غير متكافئ، لحفنة من الثوريين ضد القيصرية المدججة بالسلاح. وقد أثار هذا النضال إعجاب الشعوب المحبة للحرية في العالم أجمع.

فشلت المحاولات لدفع الفلاحين للقيام بالثورة. فاعتقل قرابة 800 شخص وحكم على الكثيرين منهم. إلاّ أن الحكومة الروسية لم تستطع أن تقمع الحركة الثورية.

أسس الشعبيون منظمة ثورية سرية هي "الأرض والحرية" في عام 1876. وكانت منظمة ثورية. وقد وضعت مطالب يفهمها الفلاحون مثل: عدالة توزيع الأرض على الفلاحين وتخفيف الضرائب. وقد بث أعضاء "الأرض والحرية" أفكارهم بين العمال والمثقفين كذلك. إلاّ أن دعايتهم لم تحرز نجاحاً كبيراً.

دمرت الشرطة أكثر قرى الشعبيين هذه، أما ما بقي منها فقد اقتصر نشاطها على النشاط الثقافي فقط. بينما تزايد السخط بين صفوف الثوريين، وتحركت جماعات منهم لتنفيذ عمليات إرهابية ومن جملة الأسباب التي دفعتها إلى ذلك، سياسة الحكومة القيصرية. التي نكلت بقسوة بالثوريين فزجت مئات منهم في السجون، أو حكمت عليهم بالأشغال الشاقة، أو نفتهم.

في عام 1879 حدث انقسام داخل منظمة "الأرض والحرية". فقد تحول قسم من الشعبيين نهائياً إلى الإرهاب الفردي بعد أن رأى عدم جدوى المحاولات لاستنهاض الفلاحين للقيام بالثورة. وأسست منظمة مستقلة هي "إرادة الشعب". ووضعت برنامجاً واسعاً للإصلاحات الديموقراطية مطالبة بعقد المجلس التأسيسي، وإجراء الانتخابات العامة وحرية التعبير والنشر الخ.

بينما ظل الباقون على مواقفهم القديمة التي تنكر النضال السياسي، فأنشأوا منظمتهم باسم "التقسيم الأسود" التي ظلت ترى أن الدعاية بين الفلاحين هي المهمة الأساسية للثوريين. إلاّ أن هذه المنظمة لم تعمر طويلاً. فقد مالت أكثرية الشعبيين إلى الإرهاب. وجعلت منظمة "إرادة الشعب" مهمتها الرئيسية قتل القيصر على أمل أن يكون ذلك إشارة لبدء الثورة.

وقام أعضاء منظمة "إرادة الشعب" بعدد من الأعمال الإرهابية ضد القيصرية. ولكنهم لم يحققوا النتائج المتوخاة فقد ردت الحكومة على كل عمل إرهابي بالإعدام والأشغال الشاقة والسجن.

الاتحادات العمالية الأولى

قاد الشعبيون النشاط الدعائي بين الحلقات العمالية الثورية. وقد ساعد نشاط الشعبيين في زيادة وعي العمال سياسياً وجذبهم إلى النضال الثوري. كان حال العمال صعبا للغاية. فيوم العمل الطويل والأجور المنخفضة وظروف السكن الرديئة واستبداد الإدارة جعلت من حياة العمال جحيماً لا يطاق. فهب العمال للنضال ضد الرأسماليين. وكان الإضراب هو الشكل الأساسي للنضال، وكانت مطالب العمال هي: زيادة الأجور، تخفيض ساعات يوم العمل إلى 11 ـ 12 ساعة. إلغاء الغرامات الجائرة، وإعادة العمال المطرودين. وقد واجهت السلطات حركة العمال بالشدة، وزجت بأفرادها إلى السجون، أو أرسلت بهم إلى المنفى.

وكان إضراب عمال مانيفا كتورة كرينغولم في عام 1872 أضخم نضالات البروليتاريا في هذه المرحلة. وكان هذا أول عمل مشترك بين البروليتاريا الروسية والأستونية.

إلاّ أن دعاية الشعبيين التي كانت تعكس مصالح الفلاحين لم تكن كافية لإرضاء العمال، فأخذوا يبحثون عن أشكال تنظيم أخرى.

وفي عام 1875 تشكلت في أوديسا أول منظمة عمالية مستقلة هي "اتحاد العمال في جنوب روسيا" تضم 200 ـ250 عضواً ومؤيداً. ووضع "الاتحاد" مهمة له هي النضال ضد النظام السياسي القائم. قُضي عليها، وألقي بـ 15 من أعضائها النشيطين في السجون.

وإلى هذه المرحلة يعود تاريخ أولى المظاهرات السياسية في روسيا. فقد لعب عمال بطرسبورج دوراً كبيراً في مظاهرة كازان عام 1876. فتجمع بضع مئات من المتظاهرين، من العمال والمثقفين، في شارع نيفسكي بالقرب من كاتدرائية كازان. ورفع العامل الشاب بوتابوف فوق الحشد علماً أحمر. وأظهرت هذه المظاهرة السياسية الأولى في روسيا قوة العمال التقدميين ووعيهم، وأصبحت صورة بارزة في الحركة الديموقراطية والعمالية.

وفي عام 1878 تشكلت من حلقات عمال بطرسبورج منظمة عمالية أخرى أكبر، هي "الاتحاد الشمالي للعمال الروس". ووضع برنامج "الاتحاد الشمالي" مهمة له، هي "قلب نظام الدولة السياسي والاقتصادي القائم، باعتباره نظاماً غير عادل للغاية". وقد نسب البرنامج الدور الرئيسي في الثورة المقبلة للبروليتاريا. وأعلن البرنامج تضامن كافة عمال البلاد معترفاً بأهمية النضال من أجل الحرية السياسية.

الوضع الثوري في عامي 1879 ـ 1880 انهيار حركة الشعبيين

اشتدت الاضطرابات الفلاحية بشكل ملحوظ. وأصبحت الحركة العمالية عاملاً جديداً. وضاعف أعضاء "إرادة الشعب" من نشاطهم فقاموا بعدد من الأعمال الإرهابية ونصبوا كميناً حقيقياً للقيصر الكسندر الثاني. وقام أعضاء "إرادة الشعب" بخمس محاولات فاشلة لاغتيال القيصر ومنها تفجير المطعم في القصر الشتوي.

وفي مارس عام 1881 استطاع أعضاء "إرادة الشعب" اغتيال القيصر، وبذلوا كل ما لديهم من قوة لتنظيم هذا الاغتيال. وقد أثار مقتل القيصر انطباعاً كبيراً، لا في روسيا وحدها، بل وفي الخارج كذلك، ولكنه لم يجلب للشعب أية فائدة. فأخذ مكان القيصر القديم قيصر جديد. واستطاعت القيصرية أن تحافظ على مواقعها.

ثالثاً: المرحلة الثالثة : مرحلة البروليتاريا (1895 - 1917)

بعد اغتيال القيصر على يد أعضاء "إرادة الشعب"، تعرضت الحركة الثورية للقهر والملاحقات الشرطةية والقمع الوحشي واعتلى العرش ألكسندر الثالث (1881 ـ 1894) وهو الابن الأكبر لألكسندر الثاني. وكان محدود الفكر، رجعياً إلى أقصى حد. وقد صرح في بيانه أنه سيدافع، بكل ما أوتي من قوة، عن الحكم القيصري "ضد كل التطاولات عليه".

فرضت الحكومة حالة الطوارئ وأصبح من حق الحاكم اعتقال المشتبه فيهم وتقديمهم للمحكمة العسكرية أو نفيهم من المحافظة دون محاكمة أو تحقيق، وإغلاق المؤسسات الصناعية والتعليمية. وأصبحت الشرطة القوة المسيطرة على الأمور.

ومن ثم استمر نمو الحركة العمالية. وفجرت في روسيا خلال خمس سنوات (1890 ـ1894) 264 إضرابا اشترك فيها زهاء 200 ألف شخص.

وكان للاحتفال بيوم الأول من مايو، عيد العمال العالمي، الذي أقره المؤتمر الأول للأممية الثانية في عام 1889، أهمية كبرى. ففي عام 1891 عقد عمال بطرسبورج لأول مرة اجتماعاً سرياً بمناسبة أول مايو في غابة خلف بوابة نارفا. وقد طبعت خطب العمال في هذا الاجتماع وصدرت في جنيف. ومنذ ذلك الوقت أصبح الاحتفال بأول مايو تقليداً ثورياً للبروليتاريا في روسيا.

وفي عام 1892 شمل إضراب أول مايو، الذي جرى في مدينة لودز، (30) ألف شخص. وانتهى باصطدام مع قوات الجيش والشرطة مما أدى إلى ثورة العمال. وقد استولى العمال الثائرون على السجن والثكنات. فوجهت القيصرية 40 ألف جندي ضد عمال مدينة لودز، وقتلت الكثيرين منهم.

نشاط لينين الثوري

ولد قائد البروليتاريا العمالية فلاديمير أيليتش لينين (أوليانوف) (1870 ـ 1924). في 22 أبريل 1870 في مدينة سيمبيرسك Simbrsk (أوليانوفسك حالياً). وكان شقيق لينين الأكبر الكسندر من جماعة "إرادة الشعب"، أُعدم في عام 1887 لاشتراكه في محاولة اغتيال القيصر الكسندر الثالث. أنهى لينين دراسته الثانوية وحصل على الميدالية الذهبية، والتحق بكلية الحقوق في جامعة قازان، ولكنه طرد منها، بعد وقت قصير، لاشتراكه في المظاهرات الطلابية. إلاّ أن لينين لم ينقطع عن الدراسة. فأثناء وجوده في المنفى، بقرية كوكوشكينو التابعة لمحافظة قازان، واصل لينين دراسته وفي عام 1891 اجتاز الامتحانات بنجاح في كلية الحقوق بجامعة بطرسبورج. وفي هذا الوقت بالذات بدأ يدرس الماركسية بتعمق، وقد اشترك لينين في الحلقات الماركسية في قازان أولاً ثم في ساماراً (مدينة كويبيشيف حالياً).

وفي عام 1893 انتقل لينين إلى بطرسبورج وأخذ، عن قريب، يلعب دوراً قيادياً في الأوساط الماركسية. فأخذ يتصل بالعمال ويدير بنفسه الدروس في الحلقات العمالية. وكانت أحاديثه تتميز بالبساطة والوضوح والمقدرة على ربط النظرية الماركسية بمطالب العمال.

وكانت لكتاب لينين "من هم "أصدقاء الشعب" وكيف يحاربون الاشتراكيين ـ الديموقراطيين؟ " (1894) أهمية بالغة. فقد بين لينين أن حركة الشعبيين قد تحولت من تيار ثوري إلى تيار ليبيرالي، وأنها تخلت عن النضال الثوري وأخذت تتفاهم مع الحكم المطلق، وأنها أصبحت أيديولوجية طبقة الكولاك في الريف. وكان لينين هو أول من قدم الفكرة القائلة بالتحالف الثوري بين الطبقة العاملة والفلاحين بقيادة البروليتاريا، بوصفه وسيلة رئيسية في النضال، ضد الحكم المطلق والرأسمالية.

تحت قيادة لينين تمت مهمة توحيد الاشتراكية مع الحركة العمالية. فمنذ عام 1894 بدأ ماركسيو بطرسبورج ينتقلون من الدعاية في الحلقات العمالية إلى التحريض السياسي، بين جماهير العمال، وأقاموا اتصالات أوثق مع الحركة العمالية. فتشكلت الحلقات في كل أحياء العاصمة تقريباً وكان لها نفوذ وسط العمال. ولدى كل حركة يقوم بها العمال أصدرت هذه الحلقات منشورات خاصة تتحدث فيها عن حاجات العمال وتصيغ مطالبهم.

وفي صيف 1895 سافر لينين إلى الخارج فأقام صلات وثيقة مع جماعة "تحرير العمل". وفي خريف 1895 توحدت، بمبادرة من لينين، الحلقات الاشتراكية ـ الديموقراطية المتفرقة في بطرسبورج، في منظمة موحدة، هي "اتحاد النضال في سبيل تحرير الطبقة العاملة". وكان على رأسها الفريق المركزي التنظيمي من 17 شخصاً الذي انتخب المكتب القيادي. ومن أعضاء المكتب لينين، كرجيجانوفسكي، وفانييف وغيرهم. وأصبح لينين كذلك محرر جميع مطبوعات "الاتحاد".

وأصبح "اتحاد النضال" قوة كبيرة في الحركة العمالية. وتبنى "الاتحاد" في المنشورات، التي أصدرها حول وضع العمال، المطالب الاقتصادية والسياسية للبروليتاريا وأصبحت الحركة العمالية الجماهيرية تحت القيادة الفكرية والتنظيمية للمنظمة الاشتراكية ـ الديموقراطية. وبدأت في روسيا مرحلة جديدة للحركة التحررية ـ المرحلة البروليتارية.

وفي ديسمبر عام 1895 اعتقلت الحكومة (88) عضواً من أعضاء "الاتحاد"، ومن بينهم لينين. وكانت هذه ضربة شديدة للحركة العمالية. ولكن "الاتحاد" لم يوقف نشاطه، السياسي وإصدار المنشورات. وكتب لينين، وهو في السجن، عدداً من المنشورات إلى العمال ومشروع برنامج الحزب وفي عام 1897 نُفى لينين لمدة ثلاث سنوات إلى سيبيريا.

وفي أواسط العقد العاشر شهدت الحركة العمالية نمواً كبيراً. ففي مايو عام 1896 حدث إضراب عمال النسيج شمل (30) ألف شخص. وكان المطلب الرئيسي للعمال هو تخفيض ساعات العمل إلى عشر ساعات ونصف. وقد انضم إلى الإضراب عمال التعدين وغيرهم من عمال بطرسبورج. ولكن الحكومة أرغمت المضربين على العودة إلى العمل بعد أن اعتقلت بعضهم، ووعدت بتحقيق بعض مطالبهم.

وفي يناير عام 1897 حدث إضراب آخر في بطرسبورج اشترك فيه (20) ألف شخص. وقد نكلت الحكومة بلا رحمة بالمضربين واعتقلت أكثر من ألف شخص.

ولكن الحركة العمالية عمَّت محافظات كثيرة في الإمبراطورية الروسية. وكان عمال النسيج أكثر العمال نشاطاً. وتبعهم فئات العمال الأخرى. وبلغ مجموع الإضرابات، التي حدثت من عام 1899 (735) إضراباً، اشترك فيها أكثر من 220 ألف شخص. وكانت المطالب الرئيسية هي تخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور. وفي عام 1897 اضطرت الحكومة إلى إصدار قانون تخفيض ساعات العمل إلى 11 ساعة ونصف في النوبات النهارية، وإلى 10 ساعات في النوبات الليلية. وكان هذا انتصاراً كبيراً أحرزته الطبقة العاملة في روسيا.

وكانت الإضرابات التي وقعت تحت قيادة الاشتراكيين ـ الديمقراطيين، كما قال لينين، "بداية مرحلة إعداد الثورة الشعبية". وتشكيل ودعم الحلقات الاشتراكية ـ الديموقراطية التي اتخذت اسم "اتحادات النضال". ونظم الاشتراكيون ـ الديمقراطيون في بطرسبورج اجتماعات مع رفاقهم المحليين وزودوهم بالنصائح والمطبوعات.

تأسيس الحزب الثوري الماركسي

منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أخذ مركز الحركة العمالية العالمية ينتقل من بلدان أوروبا الغربية إلى روسيا. فقد أصيبت الحركة العمالية في بلدان أوروبا الغربية بالضعف. بعد موت ماركس وإنجلس. وأصبحت البروليتاريا في روسيا طليعة الحركة العمالية العالمية. وتحالف الفلاحون مع البروليتاريا في النضال ضد القيصر والرأسمالية.

قدمت الطبقة العاملة الروسية أكثر النظريات الثورية تقدمية، وهي اللينينية التي ترمز إلى مرحلة جديدة في تطور النظرية الماركسية وبناء الاشتراكية. وأسست الطبقة العاملة الروسية أكثر الأحزاب البروليتارية ثورية، وهو حزب البلاشفة الذي قاد نضال الطبقة العاملة في الثورة الاشتراكية.

وأسهم نشاط اللجان الاشتراكية ـ الديموقراطية وبنوع خاص الجريدة اللينينية "الأيسكرا" ("الشرارة")، التي صدرت في عام 1900، في نمو وعي العمال السياسي وتنظيم صفوفهم.

وكان الطابع المميز للحركة العمالية في ذلك الوقت هو امتزاج المطالب الاقتصادية بالمطالب السياسية بالحريات السياسية وتصفية الحكم المطلق.

وقعت في أول مايو 1900، و1901 مظاهرات وإضرابات ضخمة في عدد من مدن البلاد. وكانت مظاهرة أول مايو 1902 في مدينة سورموفو (بالقرب من نيجني نوفغورود) والإضرابات في باكو وروستوف على نهر الدون، من أكبر إضرابات العمال.

كذلك بدأ الإضراب في مدينة روستوف في نوفمبر 1902. وطالب العمال بمعاملة إنسانية وتخفيض ساعات العمل إلى 9 ساعات وزيادة الأجور 20 بالمائة وإنشاء مدارس للأطفال. إلا أن الإضراب ما لبث أن تحول إلى حركة سياسية ضخمة، واشتركت في الإضراب كافة مؤسسات المدينة وبلغ مجموع المضربين ثلاثين ألف شخص.

وكتب مراسل جريدة "الأيسكرا" عن أحد هذه الاجتماعات التي نظمها عمال روستوف على نهر الدون فقال إن المجتمعين يحاصرهم القوزاق والشرطة. وأمر قائد الشرطة العمال بالتفرق. ولكن العمال رفضوا فصدر أمر إلى القوزاق بضرب العمال بالسياط. ولكن ألوف العمال جلسوا أرضاً بناء على إشارة من الخطيب. فتوقفت الخيول. وتوجه أحد المجتمعين إلى القوزاق دعاهم فيه إلى عدم التصدي للشعب. فانسحبت قوات الشرطة.

ثم نشبت بين العمال والقوزاق معارك انتهت بإطلاق النار على العمال العزل من السلاح مما آثار سخط الشعب بأسره.

في عام 1903، تزايدت الإضرابات، وضمت ضعف العمال الذين شاركوا في إضراب 1902، أمّا الإضراب العام لعمال جنوب روسيا، الذي جرى في شهر يوليو عام 1903، فقد كان ضخماً بنوع خاص.

الحركة الفلاحية

أسهمت النضالات العمالية الثورية في نمو الحركة الفلاحية. التي كانت لا تزال عفوية وغير منظمة. إذ كان الفلاحون يحرقون ممتلكات الدفوريان ويقطعون الأشجار ويتلفون مزارع الإقطاعيين وتحولت إضرابات الفلاحين في أوكرانيا في عام 1902 إلى ثورة علنية اشترك فيها زهاء 150 ألف شخص. ولم تتمكن الحكومة من قمع الثورة إلا بعد تدخل الجيش الذي جلد أفرادها وضرب الفلاحين واعتقل أكثر من ألف فلاح وألقى بهم في السجون.

تأسيس الحزب الثوري الماركسي في روسيا

أظهر تنامي الحركة العمالية والفلاحية أن الثورة أخذت تنضج في البلاد. وبرزت في هذه الظروف بقوة مهمة تأسيس حزب ثوري ماركسي، يستطيع أن يقود الطبقة العاملة إلى إسقاط نظام الحكم المطلق.

وفي نهاية العقد العاشر بدأ لينين وضع خطة لتأسيس حزب ماركسي يقود الحركة العمالية. خصص في المرحلة الأولى الدور الحاسم في توحيد القوى الحزبية وتجميعها في حزب بروليتاري له صحيفة سياسية ثورية تنتشر في روسيا كلها. تكون مركزا تنظيميا لجمع قوى الثوريين. وأصبحت "الأيسكرا" اللينينية تلك الجريدة. بدأت تصدر، تحت قيادة لينين، في ديسمبر 1900 في الخارج إلى أن عاد لينين من المنفى. وأصبح شعار جريدة "الأيسكرا": "ومن الشرارة سيندلع اللهيب" هذه الكلمات التي ترمز إلى تطور الثورة الروسية.

وكانت "الأيسكرا" تطبع على ورق رقيق، وتنقل إلى أنحاء روسيا سراً وتوزع بين التجمعات الثورية العمالية. ومن أجل تلبية الطلب المتزايد على الجريدة تأسست في روسيا مطابع محلية، كانت تعيد طباعة "الأيسكرا" لتوزيعها على قطاعات جماهيرية سراً، في ظروف صعبة للغاية، وتحت خطر الاعتقالات. وقد أسهمت "الأيسكرا" بدور فكري وتنظيمي ضخم في الإعداد لتأسيس حزب ماركسي في روسيا. ونشر أفكار الأممية البروليتارية وتربية العمال على النضال الطبقي بلا هوادة ضد الأيديولوجية البرجوازية والتيارات الانتهازية. ودعت الجريدة العمال إلى الكفاح ضد القيصرية وإلى جذب جماهير الفلاحين إلى جانبهم كحليف للبروليتاريا.

وكان لنشر مشروع برنامج الحزب أهمية كبرى في جمع الصفوف الثورية. ففي هذه الوثيقة صيغت مهام الحزب المباشرة والنهائية وتحددت طرق وأساليب البروليتاريا. وتكون حول "الأيسكرا" قطاع نشط من الثوريين الذين أصبحوا ممثليها في المنظمات الاشتراكية ـ الديموقراطية المحلية وقادة النضالات الثورية للبروليتاريا الروسية. وقد لعب دوراً بارزاً في نشر الأفكار اللينينية، وفي تأسيس حزب بلشفي، ثوريون أمثال بابوشكين، باومن، كالينين، زرجينسكي، سفيردلوف، شاوميان، كرجيجانوفسكي، فوروفسكي وكثيرون غيرهم. وأصبحت "الأيسكرا"، كما توقع لينين، "داعياً جماعياً ومنظماً جماعياً".

اعترفت أكثر اللجان المحلية في روسيا بـ "الأيسكرا" واعتمدت في نشاطها على إرشاداتها. ساهم انتصار الاتجاه الأيسكري اللينيني في عقد المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي ـ الديموقراطي الروسي الذي لعب دوراً تاريخياً في مصائر روسيا والحركة الثورية العالمية.

انعقد هذا المؤتمر في يوليه 1903 (في مدينة بروكسل ثم في لندن). وحضره 43 مندوبا يمثلون 26 منظمة. وكان أكثر المندوبين من أنصار اتجاه "الأيسكرا" اللينيني. وصادق المؤتمر على برنامج الحزب، الذي صيغت فيه الأهداف النهائية للبروليتاريا (برنامج الحد الأقصى)، وكذلك المهمات المباشرة (برنامج الحد الأدنى). وجاء في البرنامج أن الهدف النهائى لنضال البروليتاريا هو بناء الاشتراكية، عن طريق تحقيق الثورة الاشتراكية، وإقامة دكتاتورية البروليتاريا.

وحدد برنامج الحد الأدنى مهمات البروليتاريا، في مرحلة الثورة الديموقراطية البرجوازية : قلب نظام الحكم المطلق، وإقامة الجمهورية الديموقراطية، وإزالة جميع آثار نظام الاستعباد في الريف، وتحديد ساعات العمل بثمان ساعات، وتحقيق المساواة التامة في الحقوق. أما فيما يتعلق بمسألة القوميات، فقد تبنى المؤتمر الثاني البرنامج اللينيني وينص على حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها حتى الانفصال التام. وقد عكس هذا البرنامج مصالح كافة الشعوب التي كانت تدخل في قوام روسيا، وأسهم في تعزيز الصداقة بين الشعوب في النضال المشترك ضد القيصرية.

ولدى انتخاب اللجنة المركزية حصل أنصار لينين على أغلبية الأصوات. ومنذ ذلك الحين، سمى ذلك القسم من حزب العمال الاشتراكي ـ الديمقراطي الروسي، الذي تبع لينين وأيده، بالبلاشفة (أي الأغلبية)، أما الذين حصلوا على الأقلية لدى انتخاب قيادة الحزب فقد سموا بالمناشفة (أي الأقلية). وقد كتب لينين يقول: "أن البلشفية موجودة كتيار للفكر السياسي وكحزب سياسي منذ عام 1903".

وتحت قيادة هذا الحزب، أحرزت الطبقة العاملة النصر في الثورة الاشتراكية، وتبني الشيوعية في الاتحاد السوفيتي.

البرجوازية والقيصرية عشية ثورة 1905 ـ 1907

في نهاية القرن التاسع عشر أصبحت البرجوازية في روسيا تشكل قوة اقتصادية كبيرة، إذ ركزت في يدها ثروات عظيمة. ولم تكن هناك في روسيا هيئة تمثيلية ـ أي البرلمان ـ تستطيع البرجوازية فيها أن تعبر عن حاجاتها وتدافع عن مصالحها. إذ أن القيصرية كانت تتحكم بصورة مستبدة في مصائر الدولة الشاسعة. وهي وإن كانت تدافع عن مصالح البرجوازية، إلا أن البرجوازية الليبيرالية كانت تعتقد أنها تستطيع أن تقوم بهذا العمل بشكل أفضل، لو أنها اشتركت بنفسها في إدارة البلاد. لقد كان الطموح إلى السلطة السياسية أحد أسباب انتعاش الحركة الليبيرالية.

أما السبب الآخر فهو نمو الحركة العمالية وحركة الفلاحين، مما أنذر بثورة شعبية. وكانت البرجوازية تأمل عن طريق زيادة نشاطها السياسي أن تخضع لها الحركة الثورية وأن تحول، بهذا الشكل، دون وقوع الثورة. وكانت مستعدة للتفاهم مع الحكم المطلق، على أن يتنازل لهم عن شئ من سلطته، وقد ظنوا أنهم بهذه الطريقة يستطيعون، من جهة، تقوية نفوذهم في الدولة، وأن يصرفوا، من جهة أخرى، الطبقة العاملة والفلاحين عن إشعال الثورة.

في بداية القرن العشرين أخذت تتشكل في روسيا أحزاب برجوازية. ففي عام 1902 تشكل من بقايا جماعات الشعبيين حزب الاشتراكيين الثوريين. الذين حاولوا بعث نظرية الشعبيين حول الشيوعية وانتهجوا طريقة الإرهاب. وقد أتخذ هذا الحزب مسمى الاشتراكية. ولكنه كان في الواقع حزب البرجوازية الصغيرة. ولهذا خاض البلاشفة صراعاً عنيداً ضد الاشتراكيين الثوريين وبينوا بطلان نظريتهم وتكتيكهم.

وفي عام 1904 نشأت منظمة البرجوازية الليبيرالية الروسية، "اتحاد التحرر"، الذي تحول فيما بعد إلى حزب "الكاديت"، (وكلمة الكاديت تضم الأحرف الأولى للحزب الديمقراطي الدستوري)، الذي كان يهدف إلى الحصول على تنازلات من الحكم المطلق، وإلى إخضاع الحركة العمالية لنفوذه.

إلا أن هذه المحاولات لم تتكلل بالنجاح. فقد ناضلت الطبقة العاملة التي كان يوجهها الحزب البلشفي ضد نظام الحكم المطلق والرأسمالية.

سياسة الحكم المطلق الداخلية: (أزمة الفئات العليا)

انتهجت حكومة نيقولاي الثاني سياسة رجعية تستجيب لمصالح الإقطاعيين والبرجوازيين. فكانت تقمع بلا شفقة الحركة العمالية والفلاحية، ولا تتردد في اللجوء إلى السلاح لفض مظاهرات العمال السلمية، وكانت تؤجج النزاعات القومية وتشجع اضطهاد اليهود. وألقت المحكمة القيصرية بالألوف من الساخطين في السجون وحكمت عليهم بالأشغال الشاقة والنفي. إلاّ أن القيصرية لم تعد تستطيع في ظل تعاظم الحركة الثورية في البلاد أن تحكم بهذا الأسلوب القمعي. فاضطرت إلى أن تناور وتغدق الوعود لتخدع الشعب وتهدئ الرأي العام.

وبمبادرة من رئيس شعبة الأمن[5] في موسكو، أنشأت الحكومة "اتحادات عمالية" مزيفة على أمل تقويض الحركة العمالية من الداخل ووضعها تحت إشرافها. إلا أن هذه المنظمات لم تلق أي نجاح. فقد قاومها العمال ولم يستجيبوا لها. واضطرت الحكومة، تحت ضغط الحركة العمالية، إلى أن تعطي وعوداً مبهمة بإصلاحات. إلا أنها لم تتخذ أي إجراء عملي من أجل تحسين معيشة الشعب.

وكان تدهور وضع الشعب واتساع نطاق الحركة العمالية والفلاحية، وازدياد معارضة البرجوازية الروسية والإقطاعيين الليبيراليين يشير إلى أن الوضع الثوري قد تكون في روسيا. وحاول الحكم المطلق وقف الثورة الزاحفة عن طريق انتهاج سياسة القمع. وظن القيصر ومقربوه أن الحرب ستساعدهم على خنق الحركة الثورية. وقال وزير الداخلية أنه "لابد من حرب ظافرة سريعة لمنع وقوع الثورة". إلا أن هذه الحسابات باءت بالفشل: فلم تؤد الحرب إلا إلى نشوب الثورة.