- الأربعاء أكتوبر 23, 2013 12:26 pm
#64405
أُولَى خصائصِ النظام السياسي في الإسلام: الربانيةُ:
وهذه الربانيةُ تتمثل في رَبانيةِ المصدر وربانية الوِجهةِ؛ أما ربانيةُ المصدِر: فلها ثمارٌ عديدةٌ، ومعنى ربانية: يعني: أن هذا النظام جاء من عند الرب الخالق -جل في علاه- الالتزامُ بما جاء من عند الله سبحانه له ثمارٌ عديدة، منها:
العِصمةُ من التناقض، وأيضًا: البراءةُ من التحيز والميل لمصلحة طائفة من البشر، أو بلد دون آخر، وأيضًا: الاحترامُ وسهولةُ الانقيادِ، وأيضًا: التحرُّرُ من عُبُودية الإنسانِ للإنسان، والعبوديةُ هي: الذلُّ والخضوعُ والانقيادُ، وقد انحرفتِ الأنظمةُ السياسيةُ الوضعيةٌ بتذليل
الأَتْبَاع للمتبوعين، وانحرفت في جانب آخر من جوانب العبودية وهو أنَّ السادةَ قد يُحرِّمون على أَتْبَاعهم مَا يَشَاءُونَ، وَيُحِلِّلُون لهم ما يشاءون.
أما في الإسلامِ فالمشرعُ هو الله -تبارك وتعالى- فلا ربَّ سواه، ولا عبوديةَ لأحدٍ إلا لَهُ هو.
وهذا معنى رَبانيةِ المصدر.
أما ربانيةُ الوِجهة: فمعناها: أن يبتغي الإنسانُ بعمله ربَّ العزةِ والجلال - سبحانه وتعالى- فالإنسانُ المسلمُ هو الذي تكون أعمالُه كلُّها لله - سبحانه وتعالى- كما قال -جل ذكره-: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 161، 163) هكذا يُعلن الإنسانُ المؤمنُ تَوجُّهَهُ لله -سبحانه وتعالى- في جميعِ أمورهِ، ومن جملتها: منهجه السياسي الذي يسير عليه.
ولعلكم تلاحظون: أن الأمرَ في هذه الآية مُوجَّهٌ للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أولًا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وإذا كان إمام الدولة خاتَم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- الذي يتلقى الوحيَ من ربه، هو أولُ العابدين لله، هو أولُ الخاضعين لله، هو أولُ المستجيبينَ لله، فلا شكَّ أن غيرَه من بابِ أولى، والعملُ بالنظام السياسي الإسلامي أمرٌ يُتعبَّدُ اللهُ -تبارك وتعالى- به.
فالسياسيُّ المسلمُ هو الذي يسيرُ على شَرْعِ الله، مُخلصًا في ذلك نيتَه لله -تبارك وتعالى- ولا شكَّ أنه مأجورٌ عند الله -سبحانه وتعالى- على عملهِ، ويدل على ذلك حديثُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يقول فيه: ((سَبْعةٌ يُظلهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه ... )) وذكر منهم: ((الإمام العادل)).
وفي المقابل فإن مَن أعرَضَ عن السياسةِ الإسلاميةِ وعَمِلَ بخلافِها، فإنَّه ولا شك معرَّضُ للعقوبة من الله -سبحانه وتعالى- ويدل على ذلك قولُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ما مِن عبدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعَيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ، إلَّا لَمْ يَجِدْ رائحةَ الجنةِ)).
الخاصيةُ الثانيةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: الشمولُ:
النظامُ السياسيُّ في الإسلام كما أنه نِظامٌ رَبانيٌّ فهو أيضًا نظامٌ شاملٌ يشملُ الدنيا والآخِرةَ، يشمل جميعَ الأفرادِ والمجتمعاتِ، يلبي حاجاتِ المجتمعاتِ في أي عصرٍ، وفي أي مصرٍ، وفي أي زمانٍ، وفي أي مكانٍ؛ لأن مصدرَه اللهُ -تبارك وتعالى- الخالقُ، وهو القائل في كتابه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية: 38).
فالنظامُ السياسيُّ في الإسلام لم يأتِ قاصرًا على ما يَهُم الحاكم، أو على ما يهم المحكوم؛ بل جاء شاملًا لكل ما يحتاجُه النظامُ من بيانٍ لواجبات الأمير وحقوقِه، وواجبات المأمور وحقوقه، وجاء أيضًا بما يُنظم علاقةَ الدولةِ الإسلاميةِ بغيرِها من الأمم والشعوب، من المسلمين وغير المسلمين، ويدل على هذا الشمول قولُ الحق -تبارك وتعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية: 89).
قال ابنُ الجوزيِّ -رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية-:
لكل شيء من أمور الدِّينِ إما بالنصِّ عليه، أو بالإحالةِ إلى ما يُوجِبُ العلم، مثل: بيانُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو إجماعُ المسلمين؛ وعن أبي ذر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: "لقد تركنا محمدٌ -صلى الله عليه وآله وسلم- وما يُحرِّكُ طائِرٌ جَناحَيْهِ في السماء إلا ذَكَرَ لنا منه عِلْمًا".
وهذا في الحقيقة واضحٌ من خلال التشريعاتِ الربانيةِ التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى- لأنه من المعلومِ أن اللهَ -عز وجل- أكملَ لنبيه الدينَ، وأتم بذلك علينا نعمتَه، ورضي لنا الإسلامَ دينًا، ولم يقبضْ ربُّ العزة والجلال نبيَّه وحبيبَه ومصطفَاهُ -صلوات الله وسلامه عليه- إليه إلا بعد أن بلغ البلاغَ المبينَ، واللهُ -عز وجل- أنْزَلَ عليه في عَرفاتٍ في حَجَّة الوداع قولَه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} (المائدة: من الآية: 3).
وهذا يدلُّ بوضوحٍ على أن الإسلامَ لم يدعْ شيئًا يحتاج إليه الفردُ أو الجماعةُ إلا وأتى به، ومن ذلك ما يتعلق بالنظام السياسي
الخاصيةُ الثالثةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام هي: العالميةُ:
النظامُ السياسيُّ في الإسلام له صفةُ العالميةِ؛ لأنه منزلٌ لجميع الناس على حدِّ سواء، وصالحٌ لهم جميعًا بِحَسَبِ طبيعتهمِ الإنسانيةِ، بغض النظر عن الجنسِ أو اللونِ أو اللغةِ، وبصرف النظر عن المكان والزمان، فالدينُ الإسلاميُّ وما جاء به من النُّظُمِ له هذه الخاصيةُ في الزمان والمكان، فعالميةُ الزمانِ تعني: أنها صالحةٌ إلى قيام الساعة، وعالمية المكان تعني: أنها صالحةٌ على أي جزء من أجزاء المعمورة، فهي صالحةٌ للناس جميعِهم على اختلافِ أجناسهِمْ ولغاتِهِمْ.
ولقد جاءتْ الآياتُ والأحاديثُ ببيان هذه الصفةِ، ومن ذلك: قولُ الحق -تبارك وتعالى- في كتابه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: من الآية: 158) وقال اللهُ -عز وجل- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وخاطَبَهُ بذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) صلوات الله وسلامه عليه.
فَبِعثَةُ النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- بِعثةٌ عامَّةٌ، بعثةٌ شاملةٌ، ليست محدودةً، ولَا لَقَوْمٍ دونَ قومٍ، كما كان الحالُ عليه الأنبياء السابقين قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك نجد أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكرَ في حديثهِ أنه فُضِّلَ على الأنبياءِ بفضائلَ، كقوله: ((فُضلتُ عَلَى الأنبياءِ بِخَمْسٍ ... )) وفي رواية: ((بِست ... )) وذكر منها -صلى الله عليه وآله وسلم- قوله: ((وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه خَاصةً، وبُعِثْتُ إلى الناس عَامةً)).
ولهذا أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا الدينَ سيبلغُ الآفاقَ، وذلك في قوله: ((ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنهارُ)) ويعني بهذا: ((الأمر)): الدينَ والوحيَ والتشريعَ الذي بُعثَ به -صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر أنَّ اللهَ -عز وجل-: ((لا يتركُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخلَهُ اللهُ هذا الدينَ، بِعِزِّ عَزيزٍ أو بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ اللهُ بهِ الكُفْرَ)).
ولأنَّ الإسلامَ هو آخرُ الأديانِ ولا دينَ بعده، فلا بد أن يكون صالحًا لكل زمانٍ ومكانٍ إلى قيام الساعةِ، كما أنَّ بقاءَ المصدرِ الأصليِّ لهذا الدين سليمًا لم يُحرَّفْ دليلٌ قاطِعٌ أيضًا على عالَميةِ هذا الدينِ وأنظمتِه باختلاف أنواعِها.
ويدل على هذه العالميةِ قولُ الحق -تبارك وتعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية: 89) كما يدل على بقاء هذا المصدرِ دونَ تحريفٍ أو تبديلٍ أو تغييرٍ ليلبيَ احتياجاتِ البشر على مدى الأزمانِ والعُصُورِ قولُ الحق -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
الخاصيةُ الرابعةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: الوسطيةُ:
جاء الإسلامُ وَسَطًا في عقيدتِه، ووسطًا في شريعتِه، وذلك بين الغُلُوِّ والتقصيرِ، وكذلك أيضًا وسطًا في أنظمتِه، ومن جُملتِها: النظامُ السياسيُ في الإسلام، فلا هو نِظامٌ دِيكْتَاتُوريٌّ مُفْرِطٌ، ولا نظامٌ دِيمُقراطيٌّ مُفَرِّطْ، وهو بهذا خيرُ نظامٍ عَرَفَتْهُ البشريةُ.
وسمةُ الوسطيةِ من السماتِ الجليلةِ العظيمةِ لدين الإسلام -تبارك وتعالى- والدينُ الإسلاميُّ وسطٌ في كلِّ الأمور بين الإفراطِ والتفريطِ، وقد وَصَفَ اللهُ -سبحانه وتعالى- هذه الأمةَ بالوسطيةِ في كتابه، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: من الآية: 143).
والوسطُ هو العدلُ الخِيارُ.
ولهذا، كانتْ هذه الأمةُ وكان هذا الدينُ متميزًا بهذه المَيزةِ الجليلةِ، ألا وهي الوسطيةُ، وبهذا ارتفعَ على جميعِ الأديانِ، وهيمنَ عليها، وهو بحقٍّ دينُ التوسطِ والاعتدالِ، ونحن إذ نُقدِّمُه للبشرية نقدمه بهذه السماتِ والصفاتِ الجليلةِ العظيمةِ الرفيعةِ العاليةِ.
الخاصيةُ الخامسةُ والأخيرةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: موافقةُ الفِطرةِ:
هذا الدينُ الذي جاء من عند الله -عز وجل- يتفقُ مع الفطرةِ البشريةِ، ويوافقُ
قدراتِ الإنسانِ وإمكانياتِه وحاجاتِه، ولذلك يمكن أن نقولَ بأنَّ الدينَ جاء موافقًا للفِطرة الإنسانيةِ، واللهُ -عز وجل- قد فَطَرَ عبادَه على الإسلام، فَإِذَنْ الإسلامُ -بِناءً على ذلك- يتفقُ ويوافقُ الفطرةَ؛ قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: من الآية: 30).
ويقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في حديث أبي هريرة: ((كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ ... )) والتغييرُ يأتي على الإنسانِ بعدَ ذلك نتيجةَ المجتمع الذي الذي يعيشُ فيه؛ ولذلك قال: ((فأبَواهُ يُهوِّدَانِهِ، أو يُنصرانِهِ، أو يُمجِّسانِهِ)).
وموافقةُ الفطرةِ في المجالِ السياسيِّ الإسلاميِّ يَظهَرُ في أُمورٍ متعددةٍ؛ الإتيان بالأنظمة والتشريعات السياسية الممكنةِ التطبيقِ في واقعِ البشرِ، فالتشريعاتُ والأنظمةُ السياسيةُ ممكنةُ التطبيقِ في واقع البشرِ، كذلك أيضًا مما يُوافقُ الفِطرةَ في المجال السياسي الذي جاء به الإسلامُ هو أنَّ النظر إلى الحاكمِ في الإسلام على أنه بَشرٌ، له حقوقُهُ، وعليه واجِباتُهُ، ويُنظرُ أيضًا إلى المحكوم على أنَّه بشرٌ، له حقوقٌ، وعليه واجباتٌ، وهذا في الحقيقةِ أيضًا مِن سَمَاحةِ وعَدْلِ الإسلامِ.
هُناك خاصيةٌ أخرى من خصائص النظام السياسي في الإسلام، وهو أنه: نِظامٌ أخلاقيٌّ، ويشمل ذلك أمرينِ:
الأمرُ الأولُ: إتيانُهُ بالتشريعاتِ الأخلاقيةِ الفاضلةِ، وحثُّ الناس على الالتزام بها.
ثانيًا: أنَّ الغايةَ في الإسلامِ لا تُبِرِّرُ الوسيلةَ -كما هو الحالُ في كثيرٍ من الأنظمةِ السياسيةِ.
ومن المُلاحظِ: أنَّ الصِّبغةَ الأخلاقيةَ الظاهرةَ مَيْزَةٌ واضحةٌ للنظامِ السياسيِّ في الإسلامِ عن سائرِ الأنظمةِ السياسيةِ القديمةِ والمعاصرةِ، فالإسلامُ إلى جانبِ أنه أتى بأنظمةٍِ متعددةٍِ راعَى في هذه الأنظمةِ الأخلاقَ الكريمةَ التي جاء بها النبيُّ الأميُّ محمدُ بنُ عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه الربانيةُ تتمثل في رَبانيةِ المصدر وربانية الوِجهةِ؛ أما ربانيةُ المصدِر: فلها ثمارٌ عديدةٌ، ومعنى ربانية: يعني: أن هذا النظام جاء من عند الرب الخالق -جل في علاه- الالتزامُ بما جاء من عند الله سبحانه له ثمارٌ عديدة، منها:
العِصمةُ من التناقض، وأيضًا: البراءةُ من التحيز والميل لمصلحة طائفة من البشر، أو بلد دون آخر، وأيضًا: الاحترامُ وسهولةُ الانقيادِ، وأيضًا: التحرُّرُ من عُبُودية الإنسانِ للإنسان، والعبوديةُ هي: الذلُّ والخضوعُ والانقيادُ، وقد انحرفتِ الأنظمةُ السياسيةُ الوضعيةٌ بتذليل
الأَتْبَاع للمتبوعين، وانحرفت في جانب آخر من جوانب العبودية وهو أنَّ السادةَ قد يُحرِّمون على أَتْبَاعهم مَا يَشَاءُونَ، وَيُحِلِّلُون لهم ما يشاءون.
أما في الإسلامِ فالمشرعُ هو الله -تبارك وتعالى- فلا ربَّ سواه، ولا عبوديةَ لأحدٍ إلا لَهُ هو.
وهذا معنى رَبانيةِ المصدر.
أما ربانيةُ الوِجهة: فمعناها: أن يبتغي الإنسانُ بعمله ربَّ العزةِ والجلال - سبحانه وتعالى- فالإنسانُ المسلمُ هو الذي تكون أعمالُه كلُّها لله - سبحانه وتعالى- كما قال -جل ذكره-: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 161، 163) هكذا يُعلن الإنسانُ المؤمنُ تَوجُّهَهُ لله -سبحانه وتعالى- في جميعِ أمورهِ، ومن جملتها: منهجه السياسي الذي يسير عليه.
ولعلكم تلاحظون: أن الأمرَ في هذه الآية مُوجَّهٌ للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أولًا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وإذا كان إمام الدولة خاتَم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- الذي يتلقى الوحيَ من ربه، هو أولُ العابدين لله، هو أولُ الخاضعين لله، هو أولُ المستجيبينَ لله، فلا شكَّ أن غيرَه من بابِ أولى، والعملُ بالنظام السياسي الإسلامي أمرٌ يُتعبَّدُ اللهُ -تبارك وتعالى- به.
فالسياسيُّ المسلمُ هو الذي يسيرُ على شَرْعِ الله، مُخلصًا في ذلك نيتَه لله -تبارك وتعالى- ولا شكَّ أنه مأجورٌ عند الله -سبحانه وتعالى- على عملهِ، ويدل على ذلك حديثُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يقول فيه: ((سَبْعةٌ يُظلهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه ... )) وذكر منهم: ((الإمام العادل)).
وفي المقابل فإن مَن أعرَضَ عن السياسةِ الإسلاميةِ وعَمِلَ بخلافِها، فإنَّه ولا شك معرَّضُ للعقوبة من الله -سبحانه وتعالى- ويدل على ذلك قولُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ما مِن عبدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعَيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ، إلَّا لَمْ يَجِدْ رائحةَ الجنةِ)).
الخاصيةُ الثانيةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: الشمولُ:
النظامُ السياسيُّ في الإسلام كما أنه نِظامٌ رَبانيٌّ فهو أيضًا نظامٌ شاملٌ يشملُ الدنيا والآخِرةَ، يشمل جميعَ الأفرادِ والمجتمعاتِ، يلبي حاجاتِ المجتمعاتِ في أي عصرٍ، وفي أي مصرٍ، وفي أي زمانٍ، وفي أي مكانٍ؛ لأن مصدرَه اللهُ -تبارك وتعالى- الخالقُ، وهو القائل في كتابه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية: 38).
فالنظامُ السياسيُّ في الإسلام لم يأتِ قاصرًا على ما يَهُم الحاكم، أو على ما يهم المحكوم؛ بل جاء شاملًا لكل ما يحتاجُه النظامُ من بيانٍ لواجبات الأمير وحقوقِه، وواجبات المأمور وحقوقه، وجاء أيضًا بما يُنظم علاقةَ الدولةِ الإسلاميةِ بغيرِها من الأمم والشعوب، من المسلمين وغير المسلمين، ويدل على هذا الشمول قولُ الحق -تبارك وتعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية: 89).
قال ابنُ الجوزيِّ -رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية-:
لكل شيء من أمور الدِّينِ إما بالنصِّ عليه، أو بالإحالةِ إلى ما يُوجِبُ العلم، مثل: بيانُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو إجماعُ المسلمين؛ وعن أبي ذر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: "لقد تركنا محمدٌ -صلى الله عليه وآله وسلم- وما يُحرِّكُ طائِرٌ جَناحَيْهِ في السماء إلا ذَكَرَ لنا منه عِلْمًا".
وهذا في الحقيقة واضحٌ من خلال التشريعاتِ الربانيةِ التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى- لأنه من المعلومِ أن اللهَ -عز وجل- أكملَ لنبيه الدينَ، وأتم بذلك علينا نعمتَه، ورضي لنا الإسلامَ دينًا، ولم يقبضْ ربُّ العزة والجلال نبيَّه وحبيبَه ومصطفَاهُ -صلوات الله وسلامه عليه- إليه إلا بعد أن بلغ البلاغَ المبينَ، واللهُ -عز وجل- أنْزَلَ عليه في عَرفاتٍ في حَجَّة الوداع قولَه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} (المائدة: من الآية: 3).
وهذا يدلُّ بوضوحٍ على أن الإسلامَ لم يدعْ شيئًا يحتاج إليه الفردُ أو الجماعةُ إلا وأتى به، ومن ذلك ما يتعلق بالنظام السياسي
الخاصيةُ الثالثةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام هي: العالميةُ:
النظامُ السياسيُّ في الإسلام له صفةُ العالميةِ؛ لأنه منزلٌ لجميع الناس على حدِّ سواء، وصالحٌ لهم جميعًا بِحَسَبِ طبيعتهمِ الإنسانيةِ، بغض النظر عن الجنسِ أو اللونِ أو اللغةِ، وبصرف النظر عن المكان والزمان، فالدينُ الإسلاميُّ وما جاء به من النُّظُمِ له هذه الخاصيةُ في الزمان والمكان، فعالميةُ الزمانِ تعني: أنها صالحةٌ إلى قيام الساعة، وعالمية المكان تعني: أنها صالحةٌ على أي جزء من أجزاء المعمورة، فهي صالحةٌ للناس جميعِهم على اختلافِ أجناسهِمْ ولغاتِهِمْ.
ولقد جاءتْ الآياتُ والأحاديثُ ببيان هذه الصفةِ، ومن ذلك: قولُ الحق -تبارك وتعالى- في كتابه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: من الآية: 158) وقال اللهُ -عز وجل- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وخاطَبَهُ بذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) صلوات الله وسلامه عليه.
فَبِعثَةُ النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- بِعثةٌ عامَّةٌ، بعثةٌ شاملةٌ، ليست محدودةً، ولَا لَقَوْمٍ دونَ قومٍ، كما كان الحالُ عليه الأنبياء السابقين قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك نجد أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكرَ في حديثهِ أنه فُضِّلَ على الأنبياءِ بفضائلَ، كقوله: ((فُضلتُ عَلَى الأنبياءِ بِخَمْسٍ ... )) وفي رواية: ((بِست ... )) وذكر منها -صلى الله عليه وآله وسلم- قوله: ((وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه خَاصةً، وبُعِثْتُ إلى الناس عَامةً)).
ولهذا أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا الدينَ سيبلغُ الآفاقَ، وذلك في قوله: ((ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنهارُ)) ويعني بهذا: ((الأمر)): الدينَ والوحيَ والتشريعَ الذي بُعثَ به -صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر أنَّ اللهَ -عز وجل-: ((لا يتركُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخلَهُ اللهُ هذا الدينَ، بِعِزِّ عَزيزٍ أو بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ اللهُ بهِ الكُفْرَ)).
ولأنَّ الإسلامَ هو آخرُ الأديانِ ولا دينَ بعده، فلا بد أن يكون صالحًا لكل زمانٍ ومكانٍ إلى قيام الساعةِ، كما أنَّ بقاءَ المصدرِ الأصليِّ لهذا الدين سليمًا لم يُحرَّفْ دليلٌ قاطِعٌ أيضًا على عالَميةِ هذا الدينِ وأنظمتِه باختلاف أنواعِها.
ويدل على هذه العالميةِ قولُ الحق -تبارك وتعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية: 89) كما يدل على بقاء هذا المصدرِ دونَ تحريفٍ أو تبديلٍ أو تغييرٍ ليلبيَ احتياجاتِ البشر على مدى الأزمانِ والعُصُورِ قولُ الحق -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
الخاصيةُ الرابعةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: الوسطيةُ:
جاء الإسلامُ وَسَطًا في عقيدتِه، ووسطًا في شريعتِه، وذلك بين الغُلُوِّ والتقصيرِ، وكذلك أيضًا وسطًا في أنظمتِه، ومن جُملتِها: النظامُ السياسيُ في الإسلام، فلا هو نِظامٌ دِيكْتَاتُوريٌّ مُفْرِطٌ، ولا نظامٌ دِيمُقراطيٌّ مُفَرِّطْ، وهو بهذا خيرُ نظامٍ عَرَفَتْهُ البشريةُ.
وسمةُ الوسطيةِ من السماتِ الجليلةِ العظيمةِ لدين الإسلام -تبارك وتعالى- والدينُ الإسلاميُّ وسطٌ في كلِّ الأمور بين الإفراطِ والتفريطِ، وقد وَصَفَ اللهُ -سبحانه وتعالى- هذه الأمةَ بالوسطيةِ في كتابه، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: من الآية: 143).
والوسطُ هو العدلُ الخِيارُ.
ولهذا، كانتْ هذه الأمةُ وكان هذا الدينُ متميزًا بهذه المَيزةِ الجليلةِ، ألا وهي الوسطيةُ، وبهذا ارتفعَ على جميعِ الأديانِ، وهيمنَ عليها، وهو بحقٍّ دينُ التوسطِ والاعتدالِ، ونحن إذ نُقدِّمُه للبشرية نقدمه بهذه السماتِ والصفاتِ الجليلةِ العظيمةِ الرفيعةِ العاليةِ.
الخاصيةُ الخامسةُ والأخيرةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: موافقةُ الفِطرةِ:
هذا الدينُ الذي جاء من عند الله -عز وجل- يتفقُ مع الفطرةِ البشريةِ، ويوافقُ
قدراتِ الإنسانِ وإمكانياتِه وحاجاتِه، ولذلك يمكن أن نقولَ بأنَّ الدينَ جاء موافقًا للفِطرة الإنسانيةِ، واللهُ -عز وجل- قد فَطَرَ عبادَه على الإسلام، فَإِذَنْ الإسلامُ -بِناءً على ذلك- يتفقُ ويوافقُ الفطرةَ؛ قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: من الآية: 30).
ويقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في حديث أبي هريرة: ((كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ ... )) والتغييرُ يأتي على الإنسانِ بعدَ ذلك نتيجةَ المجتمع الذي الذي يعيشُ فيه؛ ولذلك قال: ((فأبَواهُ يُهوِّدَانِهِ، أو يُنصرانِهِ، أو يُمجِّسانِهِ)).
وموافقةُ الفطرةِ في المجالِ السياسيِّ الإسلاميِّ يَظهَرُ في أُمورٍ متعددةٍ؛ الإتيان بالأنظمة والتشريعات السياسية الممكنةِ التطبيقِ في واقعِ البشرِ، فالتشريعاتُ والأنظمةُ السياسيةُ ممكنةُ التطبيقِ في واقع البشرِ، كذلك أيضًا مما يُوافقُ الفِطرةَ في المجال السياسي الذي جاء به الإسلامُ هو أنَّ النظر إلى الحاكمِ في الإسلام على أنه بَشرٌ، له حقوقُهُ، وعليه واجِباتُهُ، ويُنظرُ أيضًا إلى المحكوم على أنَّه بشرٌ، له حقوقٌ، وعليه واجباتٌ، وهذا في الحقيقةِ أيضًا مِن سَمَاحةِ وعَدْلِ الإسلامِ.
هُناك خاصيةٌ أخرى من خصائص النظام السياسي في الإسلام، وهو أنه: نِظامٌ أخلاقيٌّ، ويشمل ذلك أمرينِ:
الأمرُ الأولُ: إتيانُهُ بالتشريعاتِ الأخلاقيةِ الفاضلةِ، وحثُّ الناس على الالتزام بها.
ثانيًا: أنَّ الغايةَ في الإسلامِ لا تُبِرِّرُ الوسيلةَ -كما هو الحالُ في كثيرٍ من الأنظمةِ السياسيةِ.
ومن المُلاحظِ: أنَّ الصِّبغةَ الأخلاقيةَ الظاهرةَ مَيْزَةٌ واضحةٌ للنظامِ السياسيِّ في الإسلامِ عن سائرِ الأنظمةِ السياسيةِ القديمةِ والمعاصرةِ، فالإسلامُ إلى جانبِ أنه أتى بأنظمةٍِ متعددةٍِ راعَى في هذه الأنظمةِ الأخلاقَ الكريمةَ التي جاء بها النبيُّ الأميُّ محمدُ بنُ عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم.