منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#64411
من تاريخ المغرب الدبلوماسي حول الشريف العباسي


كانت الدول ذات المصلحة في المغرب لا تكتفي فقط بما ينقله إليها سلكها الدبلوماسي بالطرق المتعارف عليها بين الدول، ولكنها كانت تعمد إلى جيش آخر من المغامرين والمخبرين يختلطون بالمجتمع المغربي من قاعدته إلى قيادته يتحسسون الأصداء ويتقفون التطورات حتى يكملوا بتلك التحركات ما يبقى في تقارير السفراء من فقرات، وبالتالي حتى تحكم القبضة على المغرب ولا يفوت شيء من مسيرته.
وفي أولئك المغامرين من كان يرد للمغرب في شكل سواح يتقدمون عن طريق القنصليات إلى دار النيابة (الفسينة) بطنجة حيث يتوفرون على رسائل توصية، غير أن فيهم من كان يعتمد على طرقه الخاصة فيتخذ له اسما خاصا، وشكلا خاصا وناموسا خاصا يختفي وراء كل ذلك لينجز مهمته ويقضي الغرض الذي من أجله أتى!
وفي أبرز هؤلاء كان الجنرال دومينكو باديا ا. لوبليش Domingo Badia y Leblich الذي نزل بمرفأ طنجة يوم الأربعاء 9 ربيع الأول 1218 (29 يونيه 1803) تحت اسم علي بن الشريف العباسي الشامي الحلبي!
وقد استطاع أن يربط صلات طيبة مع السلطان المولى هشام ويقدم إليه مساعدات عسكرية، كما تمكن من الاجتماع الطويل بالسلطان المولى سليمان بمناسبة زيارة هذا الأخير لطنجة في خريف هذه السنة نفسها، ومن ثمة ربط صلاته بالوزراء والأمناء وكبار البلد، وقد كان مما حسن ظن الناس به إتقانه للعربية وتضلعه من فني التوقيت والتعديل.
وهكذا نزل الشريف العباسي إلى جامع القرويين فالتقى بعلمائها ومشايخها، وهو الذي شبه فاسا على عهده بأنها كانت في إفريقيا تماما كأثينا بالنسبة إلى أوربا... "ولقد حاولت – يقول العباس – أن أعمل على تطور أفكار العلماء فكانت خطواته الأولى أن قررت أن أقذف في قلوبهم الشك حول ما يعتقدونه في الكتب التي يتدارسونها فإذا تم لي النجاح في هذه الخطوة اتجهت بهم نحو الخطوة الثانية، لكن نفوسهم – يضيف قائلا – كانت تأبى عليهم أن يتحولوا عن مبادئهم الأولى ."(1)
هذا هو الشريف العباسي الذي تتحدث عنه التقارير والمذكرات أنه كان في الوقت ذاته يحاول أن يغذي بعض العناصر المتمردة بالمغرب آنذاك...

لقد كتب علي العباسي عن نفسه، وكتب عنه كثير من المؤرخين الأجانب لأنهم وجدوا في مذكراته مادة خصبة للحديث عن المغرب وإفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، ومن أهم من عنى بكشف أمره الفرنسيون بالرغم من أنهم كانوا يستفيدون منه كما أن البريطانيين كانوا في أول من أثار الشكوك حول مقام الشريف العباسي ببلادنا .(2)
وإذا كان الأستاذ عبد القادر الخلادي قد اشتكى من عدم وجود أثر للحديث عن هذا الرحالة المغامر في كتب التاريخ المغربي المؤلفة باللغة العربية (3)، فإن معه كامل الحق في ذلك وتلك ظاهرة نلاحظها ليس فقط فيما يتعلق بهذا الزائر وحده ولكن أيضا بالنسبة لزوار آخرين ساروا تقريبا في نفس الاتجاه من أمثال الحاج عبد الكريم باي الذي دافعت النمسا عن سلوكه عام 188، وأمثال عبد الحكيم الذي ادعت فرنسا في بداية القرن العشرين أنه مواطن تونسي..
ولكن المغاربة، على عادتهم حتى بالنسبة لرجالهم – كانوا لا يعيرون التفاتا لهؤلاء الواردين، وباستثناء تعريف مقتضب كان صدر عن الأستاذ عبد العزيز ابن عبد الله بمناسبة عيد جامعة القرويين، وحديث حرره الأستاذ محمد الخطيب بمجلة الثقافة المغربية (دجنبر 1970) فإننا لا نتوفر – فيما أعلم- على مزيد معلومات عن علي باي العباسي..
ولهذا فإن جل المصادر التي اعتمدت في المغرب كانت تتركز على ما حرره الأجانب، والأساتذة المذكورون، ابن عبد الله والخطيب، والخلادي بيد أن هناك وثيقة هامة لم أرد أن تفوت عن الزملاء الباحثين، وهذه الوثيقة صادرة عن الجانب الإسباني وهو الطرف الثاني في الموضوع، ويتعلق الأمر برسالة عن القنصل الإسباني بالعرائش تطلب معلومات عن ذرية الجنرال، من الجهات المغربية على عهد السلطان المولى الحسن(4) وهكذا فإن البعثة الدبلوماسية الإسبانية التي لم يظهر أي أثر في سجلاته الأولى للشريف العباسي عندما كان داخلا للمغرب: لا توصية، ولا إشعار، ولا أخبار، أقول أن تلك البعثة وجدت نفسها في حل للمطالبة – بعد ثمانين عاما خلت – من الحصول على معلومات دقيقة عن هذا "الموطن" الذي امتزج بالمجتمع المغربي وترك له هنا آثارا وأولادا..
وإن الطريف في الوثيقة المشار إليها أنها بالرغم مما تضمنته من إصرار الجهات الإسبانية على تسمية الجنرال دومينكو بالشريف العباسي، فإنها أي الرسالة تؤكد سائر المعلومات التي أبرزتها المقالات والبحوث المنشورة حول علي باي العباسي، وهي من جهة أخرى تضيف إلى معلوماتنا بعض العناصر التي لا تخلو من فائدة.
فالرسالة تعطي أن الجنرال أسهم في وضع مزولة شمسية بجامع القرويين على ذلك العهد، وأنه وضع في علم التنجيم ما لا يزال أثره إلى الآن بالجامع المذكور وبغيره، وهذا – إن كان صحيحا- فإن من شأنه أن يلفت النظر إلى الساعة الشمسية التي يذكر أن الذي تولى صنعها ونصبها بالسطح قبالة الداخل إليه من الباب الذي ينفذ إليه من"الغربفة"، أيام السلطان المولى سليمان، هو الفقيه الموقت السيد محمد الحبابي .(5)
وبعد هذا عرفنا عن (الصومعة العالية): الاسم الذي كانت تحمله الدار التي سكنها الشريف العباسي، وعرفنا عن زوجته أم هانئ، وكذلك وصيفتها "تيكمو".
لكن العنصر الثالث في الرسالة هو الذي يشير إلى عودة أم هانئ إلى فاس وإنجابها للطفل عثمان الذي التجأ إلى مهنة الخرازة والذي توفي في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وقد تقدم القنصل الإسباني بطلبه هذا على إثر إشعار من دولته قطعا حتى تعلم ما تركه الشريف من الأولاد ذكورا وإناثا وكم عددهم وما حرفتهم..".
ولعل من المفيد أن نسجل هذا النص الكامل للرسالة الإسبانية:
- * -
الحمد لله.
نسخة كتاب وارد لمولانا الخليفة أعزه الله من النائب عن جنس الصبنيول بالعرائش بعد الحمدلة والتصلية.
أبقى الله سعادة سيدنا سبط الأرومة السنية وفرع الدولة الحسنية الهاشمية الهمام الفاضل الذي حلى بمحاسن أيامه جيد الزمان العاطل نجل مولانا أمير المؤمنين وخليفته الميمون المبارك السعيد مولانا إسماعيل لا زال السعد يخدمه والمجد يقدمه وسلام الله الكريم البر العطر المبارك العميم ورحمة الله تعالى تثرى وتتوالى على مقامك الأسمى وجنابك الفرع الأحمى، وبعد فلينهى لكريم علم سيادتك أنه فيما مضى من الأزمنة سنة 1220 كان ورد للمغرب رجل يسمى علي بن الشريف العباسي من أرض الشام من مدينة حلب بقصد زيارة أمير المؤمنين مولانا سليمان قدس الله روحه وكان دخل فاس وهو الذي وضع ترجمة حصة الشمس بجامع القرويين وقد ألف في علم التنجيم ما لا زال بالمسجد الأعظم المذكور وبغيره وقد أخبر بما سيقع في السنين المستقبلة من أوقات الكسوف والخسوف وغير ذلك وبعد توجهه إلى مراكشة لزيارة مولانا سليمان فلما اجتمع معه واختبره وجده أحاط بجميع العلوم فاستحسن الملك حاله وبالغ في إكرامه وضيافته ثم نفذ له دارا بإزاء المدينة تسمى بالصومعة العالية وبداخل المدينة دارا كانت لأحد عمال دكالة، ثم أمر له بزوجة تسمى أم هانئ ووصيفة تيكمو، فأعرض الشريف عنهما لكونه آلى على نفسه ألا يقرب امرأة ما دام في سفره إلى أن يحل محله، فلا زال يساعده أخو الملك بقبولهما إلى أن أدخلهما الدار، فلما بلغ أبان الحج طلبه من السلطان المنصور بالله فأجابه إليه وبالغ في إكرامه وجهزه إليه، فلما بلغ مرسى العرائش نزل بها بأولاده، وتركهم بها والزوجة حاملة، وتوجه من البحر إلى حج بيت الله الحرام، فلما قضى مناسكه قصد مدينة إسطنبول فأكرمه أهلها ثم سار يجول في الأرض ويموج في المدائن والبلدان إلى أن أتاه اليقين رحمه الله فحاز من كان معه حاضر جميع متخلفه إلى أن ظهرت بمدينة مدريد بعض رسوم ما تركه من الأملاك ببعض المدائن. وأما الزوجة بقيت أياما بالعرائش وقصدت مدينة فاس فاستقرت بها إلى أن ازداد عندها صبي سمي عثمان بن علي الباي، فاشتغل بصنعة خراز البالي لضعفه وغربته فلا زال بها إلى أن توفي هذه نحو العشرين سنة أو خمس وعشرين. الآن سيدي فالمطلوب من سيادتك مبالغة البحث عنه ومطالعة علمنا بما ترك من الأولاد ذكورا وإناثا وكم عددهم وما حرفتهم وبأي محل سكناهم لتكونوا على بال منهم ربما يتعين لهم شيء ويغار عليهم برزق ونحن في هذا راجون الثواب من الملك الوهاب والختام.