صفحة 1 من 1

النتائج السياسية والأمنية والقضائية لأزمة دارفور

مرسل: الخميس أكتوبر 24, 2013 12:47 am
بواسطة عبدالعزيز العسكر 20
النتائج السياسية والأمنية والقضائية للأزمة

أولاً. النتائج السياسية للأزمة

تعددت، وتنوعت الآثار والنتائج السياسية التي خلفتها الأزمة في دارفور، واتخذت أبعاداً داخلية وخارجية، منها:

1. الأبعاد الداخلية

أ. التوظيف السياسي للنزاعات

ينبغي، في إطار التعامل مع الصراع في دارفور، أن لا يغفل تدخل الدولة في مراحله المختلفة، وتوظيفها العسكري لفئات وقبائل بعينها، مثل توظيف الحكومة التركية والحكم الاستعماري لفرق الجهادية السود من قبائل تمتلك تقاليد حربية بدوية، مثل النوبة والدينكا والنوير والجوامعة. وأيضاً توظيف بادي أبو دقن للنوبة نواة لجيشه حول سنار، وفعل الشيء نفسه سلطان الفور تيراب. وعلى الرغم من أن مثل ذلك تكرر، على أساس فردي، إلا أن بعض الأحداث توحد الجماعات من المنطلق القبلي، كما حدث، في نوفمبر 1924، حينما تحركت عناصر النوبة في الخرطوم، بصفة قبلية، رداً على قمع الإنجليز لتمرد وقع في تلودي.

ومثال آخر هو تمكين عناصر البقارة العسكرية سلطة الخليفة عبد الله من إدارة البلاد لحسابها، ومثله توظيف الحكومات الوطنية لقبائل التماس العربية لمواجهة الأنانيا والجيش الشعبي لتحرير السودان. لقد قادت هذه العسكرة إلى بروز تيارات حربية مضادة داخل القبائل الأخرى، مثل المسيرية والحوازمة والرزيقات وبعد ذلك ارتبطت هذه المؤسسات العسكرية التقليدية بالمحاور السياسية المركزية من أحزاب وحكومات. هذا الوضع يعكس ارتباط الصراع القبلي بمؤسسات الدولة، وأهمية دراسة هذا الواقع المعقد لمسارات التحالفات الإقليمية. ومن أبرز الأمثلة لما يحدث اليوم في دارفور حيث تختلط ظواهر النزاع القبلي حول المرعي بسبب هجرة القبائل المستعربة إلى إقليم جبل مرة، واصطدامها مع الفور والمجموعات غير المستعربة، وما تبع ذلك من استخدام للأيديولوجية الدينية والقوة المسلحة، واستقطاب المجموعات المناوئة، يحدث هذا أيضا باستخدام مجموعات الفلاتة في جنوب النيل الأزرق في مواجهة بعض عناصر البرتا والانقسنا ـ وهكذا يتحول ما هو صراع حول الموارد إلى حروب إثنية، وما هو قبلي تقليدي إلى مشروع الحرب الشاملة. وهذا يعزز أهمية السلام والتعايش السلمي والتنمية الريفية التي تشمل الموارد والبشر.

ب. تسييس الخلافات

عاشت دارفور دولة مستقلة، خلال الفترة 1650 – 1916، وكانت تسمي سلطنة الفور. وأسهم التجاهل الذي عانت منه دارفور في عزلتها عن باقي الوطن، كما أسهم نظام الحكم الإقليمي المطبق في دارفور، عام 1982، في تكريس تخلف التنمية الاقتصادية. وفى العام 1991، قسمت دارفور إلى ولايات ثلاث: شمال دارفور (الفاشر)، وجنوب دارفور (نيالا)، وغرب دارفور (الجنينة). وعلى الرغم من هذا التقسيم، برزت تعقيدات جعلت دارفور الكبرى أقل أجزاء السودان اندماجاً في الوطن، وذلك للتخلف التنموي الذي عانته، إضافة لبعدها عن المركز، وضعف شبكة الموصلات، ووعورة الطرق.

وما فتئت الحكومات المتعاقبة في السودان، والقوى والأحزاب السياسية، ولسنوات طويلة، تنزع إلى تسييس الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية، واستغلالها إما لتسوية بعض القضايا القومية، أو لتحقيق أهداف حزبية وعقدية، ما أدى إلى تنامي الصراع وتصاعده، وزاد من طابعه العسكري العنيف.

ج. تنامي الولاءات التحتية لدى قوى المعارضة

(1) تنامي الوعي السياسي عند القوى المعارضة

أزمة دارفور واحدة من الأزمات العديدة، التي تواجهها الدولة السودانية وتعاني منها، وقد ترتب على اشتعال تلك الأزمة واستمرارها، وتعدد الأطراف المتورطة فيها، الكثير من الآثار والنتائج التي تأثر بها إقليم دارفور خاصة، والدولة السودانية عامة.

(2) تنامي الشعور الجهوي

في ظل عدم اكتراث الحكومات المتتالية على السودان بترويج برنامج ثقافي جامع لتوحيد النسيج الاجتماعي، أعني نشر الثقافة الإسلامية، وتأكيد أنها الرابط الوحيد القادر على جمع هذا الشتات، إضافة إلى فشل هذه الحكومات في نشر مشروعات التنمية في كل القطر.. أدى ضعف روح التدين والفهم السليم للإسلام، ومن ثَم غياب أثره في السلوك الاجتماعي للكيانات القبلية: عربية كانت أم أفريقية؛ وجعل ذلك القبائل تقدم اعتدادها بالانتماء العرقي والقبلي على كل شيء، فحين يضاف إلى ذلك غياب مشروعات التنمية والخدمات الأساسية لمجتمع بشري في ظل دولة متمدنة، فلا بد أن يتولد عن ذلك شعور بالغبن... هذا الغبن يترجم إلى شعور متنامٍ بأن مجموعة القبائل الشمالية ظلت تحتكر الحكم والثروة، وتسعى إلى تحطيم من سواها من الإثنيات الأخرى بزرع الخلافات والتهميش وغيره.. وهكذا سمعنا بمؤتمر البجا في الشرق.. ورأينا الفونج في الأنقسنا في جنوب النيل الأزرق يتحالفون مع متمردي الجنوب..وسمعنا في الغرب بدولة الزغاوة الكبرى.. وحينا بدولة البقارة.

د. تنامي الميول والنزعات الانفصالية

لقد أدى نجاح متمردي الجنوب المدعومين عالمياً في فرض مطالبهم بقوة السلاح، إلى خلق إحساس عام بأن السلاح هو القوة الكفيلة باسترجاع الحقوق وتحقيق المطالب.. إضافة إلى وجود بعض الأحلام القديمة لبعض القبائل التي تشكل امتداداً يفترش أراضي أكثر من دولة مجاورة للسودان، تلك الأحلام التي تُمني بقيام دولة منفصلة، ولكن هذه الأحلام أصبحت تدعمها حركة وسعي دؤوب، وتخطيط وتنظيم لتحقيقها واقعياً، هذا الأمر بطبيعة الحال يزعج الدولة، في المقام الأول، كما يزعج القبائل العربية، التي تعيش حالة تنافس مع تلك القبائل صاحبة الأحلام، فإن قيام كيان مثل هذا يمكن أن يمثل تهديداً لوجود العرب ومصالحهم.

هـ. تزايد القوى المتصارعة

هددت الحرب الانفصالية في جنوب السودان المراعي العربية التي تمتد في وسط الجنوب حتى بحر العرب وديم زبير وغيرها، إضافة إلى وجود العداء القديم بين العرب والدينكا وغيرها من القبائل النيلية.. كل ذلك أوجد نوعاً من التحالف، استثمرته الحكومة في القضاء على الانفصاليين في الجنوب، فأمدت العرب بالسلاح لهذا الغرض.. ولكن العرب لم يكتفوا بمعارك الجنوب، وإنما استخدموا السلاح في تصفية حساباتهم مع القبائل الزنجية في دارفور! وهكذا ظهرت المليشيات المعروفة ( بالجانجويد ) والتي نشرت الرعب واسعاً، وصارت تعرض نفسها جزءاً من الحكومة، وهكذا فقد وقع في روع غير العرب أن الدولة تحاربهم عبر تلك المليشيات.. وهكذا انفجر الوضع تمرداً ضد الدولة.

أُلقي في روع بعض القبائل العربية في الغرب بطرق متعددة التشبع بفكرة النقاء العرقي، والتفكير في خطورة وجود العنصر الزنجي إلى جنبها في دارفور، ما دفعها إلى العمل على إزاحة هذا الوجود عن كل الغرب. ففي منتصف التسعينيات ظهرت بعض الوثائق التي تحمل أسم قريش (1) وقريش (2). هذه الوثائق تحمل مخططات لبرنامج الإزاحة للنظام الحاكم القائم، إضافة إلى رؤية وبرنامج للسيطرة على حكم السودان!! وبغض النظر عن مدى انتشار القناعة بتلك الوثائق وما تحمله من مضامين، فإنها تؤكد أن هنالك من يحاول التلاعب باستثمار العصبية العربية ضد غير العرب في دارفور، وفي المقابل من الجانب غير العربي.. وخصوصاً بعد انفجار التمرد في دارفور، وظهور الحركات المتمردة.

و. الفشل في إدارة الصراع في دارفور

(1) تباين معاملة النظام الحاكم

تعامل النظام دائماً مع حملة السلاح من مخالفيه بدرجة من الاحترام ورد الحقوق. لكنه استخف بمخالفيه الذين اتخذوا أساليب سياسية ومدنية، هذه الحقيقة صارت أقوى حافز للاحتكام للسلاح، مضافاً إليها الواقع الداخلي المسهم في زرع العصبيات الإثنية وبث ثقافة العنف وآلياته تدريباً وتسليحاً. وترتب على ذلك ظهور العديد من التعقيدات والتناقضات داخل الكيان السياسي السوداني، وهي عبارة عن خليط من العصبيات الإثنية والحركات الداخلية ذات القدرات العسكرية، ومظلة الدعم الخارجية المؤازرة لها.

(2) تدني فاعلية الإدارة المدنية والأهلية

أدرك النظام الجديد قلة سنده الشعبي في الإقليم فلجأ إلى تكثيف الكوادر الإدارية، واستمالة زعماء العشائر، بالترهيب والترغيب، لمساندة النظام والانضمام لحزبه، والتأهب لخوض الحرب الأهلية الدائرة في البلاد. إن النظام الإداري، الذي أقامه النظام الجديد، زاد في عدد الولايات لتصبح 26 ولاية بدلاً من 9 ولايات، وزاد من المحافظات ليصبح عددها 121 محافظة بدلاً من 19 محافظة، وزاد من المحليات لتصبح674 وحدة محلية بدلا من 126 وحدة، ووجه الموارد المالية للإدارة والأمن على حساب الخدمات الاجتماعية، وحول الجهاز الإداري نفسه من الإدارة لمهام شبه عسكرية وأمنية على حساب الأداء الإداري. أضعفت هذه السياسات شرعية الأجهزة الإدارية؛ لأنها أقحمتها في مساندة برامج مختلف عليها، كما أودت بكفاءتها الإدارية.

ز. التنافس السياسي بين المؤتمرين الوطني والشعبي

حاول نظام "الإنقاذ" أن يجعل من إقليم دارفور سنداً شعبيا له، لأن الإقليم عرف بالحماسة الدينية في تاريخه الوسيط لدى سلاطين الفور، وفي تاريخه الحديث من خلال تأييده للدعوة المهدية. واتخذ النظام كثيراً من سياسات الاستقطاب عن طريق الخدمة المدنية والإدارة الأهلية. وكان للنظام سند واضح من بعض القوى الحديثة من أبناء الإقليم، ولكن أغلبية أهل الإقليم انقسموا مابين الوقوف إلى جانب المعارضة، أو مشايعة النظام الحاكم القائم. وحتى عناصر القوى الحديثة المؤيدة للمؤتمر الوطني انقسمت بين بقاء الانتماء والولاء للمؤتمر الوطني أو التحول للمؤتمر الشعبي، واستخدم الطرفان، في ذلك، الأساليب عينها، التي كانوا يمارسونها ضد الآخرين، وأدخلا في الساحة السياسية السودانية سجالاً لم تشهد مثله انقسامات الأحزاب الأخرى خشونة ومرارة. وإزاء ما يحدث في دارفور، في الوقت الراهن، يظهر جلياً أن الطرفين يحاولان تصفية حساباتهما على مسرح دارفور. إن النزاع في دارفور نزاع قبلي في المقام الأول، وإن تأثر ببعض المؤثرات السياسية، سواء في المؤتمر الشعبي أو غيره من المعارضين. والمراقب للوضع في دارفور، يجد أن المنطلق الأساسي لهذه الكارثة هو التوجه العنصري المتحيز والقبلي، الذي لا يقيم وزناً للمنطقة أو للوطن، بل هو متحيز للإقليمية والقبلية.

2. الأبعاد الخارجية

أ. ظهور أجندات إقليمية ودولية

بدأت في الظهور العديد من الأجندات الإقليمية والدولية، التي تسعى إلى إحداث التصدعات داخل الدولة، ابتداءً من النظام الحاكم والمعارضة، وحتى داخل الأقاليم السودانية المختلفة، وهو الأمر الذي ظهر جلياً في الجنوب السوداني، ويبدو واضحاً في الغرب السوداني في الوقت الراهن، ومرشح أيضاً للظهور في أقاليم أخرى.

ب. تعدد قرارات مجلس الأمن

لقد صدر عن مجلس الأمن العديد من القرارات المتلاحقة، وهي القرار الرقم ١٧٠٦ في ٣١ أغسطس ٢٠٠٦، والرقم ١٦٧٩ في 16 مايو 2006، والرقم 1665 في ٢٩ مارس 2006، والرقم 1663 في 24 مارس 2006،والرقم 1593 في 31 مارس 2005، والرقم 1591 في 29 مارس 2005، والرقم 1590 في 24 مارس 2005، والرقم 1574 في 19 نوفمبر 2004، والرقم 1564 في 18 سبتمبر 2004، والرقم 1556 في30 يوليه 2004. فضلاً عن القرار الرقم 1325 لسنة 2000. وهو أمر يبعث على الريبة والشك في صدقية هذا المجلس والقرارات الصادرة عنه، وهذه القرارات وإن كانت نتيجة مباشرة لتصاعد الأزمة في إقليم دارفور إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه، وهو الأمر الذي يمثل مزيداً من الضغوط على صانعي القرارات ومنفذي السياسات في الحكومة السودانية، إلا أن التمادي في ذلك، واقتران هذا التوجه بمنظومة أهداف ومصالح ومطامع الدول التي تدفع بقوة في هذا الاتجاه، قد لا يؤدي إلا لمزيد من التصميم من جانب النظام السياسي السوداني للوقوف بحزم أمام تلك الهجمة الأمريكية المدعومة من حلفائها، وهو ما يمكن أن يزيد من تعقيد تلك الأزمة وتفاقمها.

إن القرارات العديدة، التي صدرت عن مجلس الأمن، وتتعلق بمعالجة الأوضاع في إقليم دارفور، في فترة زمنية وجيزة، وبموجب أحكام الفصلين السادس والسابع من الميثاق، وتضمنت تدابير وإجراءات متداخلة ومتشعبة ـ تناولت موضوعات وقضايا كثيرة، بغير ما عهد في تاريخ تعامل مجلس الأمن مع السودان، والتي بلغت تقريباً ثمانية عشر قراراً، وتجدر الإشارة إلى أنه خلال أقل من أسبوع واحد صدرت ثلاثة قرارات بموجب الفصل السابع، في الفترة من 24 مارس 2005 وحتى 31 مارس 2005، وهو أمر غير مسبوق في ممارسات مجلس الأمن، وإن كل ذلك يثير العديد من التساؤلات، القانونية والسياسية، حول الطريقة التي يعالج بها مجلس الأمن أزمة دارفور.

ج. محاولة تدويل الأزمة السودانية

المخطط الأمريكي ضد السودان، في ملف دارفور، عماده وضع القضية في سياق واحد يجعل الحكومة السودانية متهمة بالتواطؤ لتصفية قبائل أفريقية، وإظهارها بأنها غير أمينة على شطر من سكانها وتستحق أن ترغم على رفع يدها عن الإقليم. إن الهدف، من كل ذلك، هو تدويل قضية دارفور، بما يفضي في النهاية "إما إلى الاستقلال أو إلى الانضمام إلى جنوب السودان الجديد، بعد أن يقرر، في استفتاء جنوبي، مصيره نحو الانفصال تطبيقاً لاتفاق ماشاكوس، الموقع عام 2003". لقد دأبت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على التحرك باتجاه تدويل أزمة دارفور، من خلال التركيز على المحاور التالية:

(1) المحور الأول

تمثل في الضغوط الدبلوماسية، التي أسفرت عن نقل الملف إلى مجلس الأمن، حتى أصدر قرارين يحذران من خطورة الموقف، وينذران الخرطوم بعقوبات صارمة، بل بتدخل دولي في الإقليم.

(2) المحور الثاني

أعدته واشنطن انطلاقاً من الكونجرس بإصدار قانون سلام السودان، وهو قانون يتعامل مع السودان، عموماً، في دارفور وغيرها.

(3) المحور الثالث

وهو ضغط منظمات حقوق الإنسان لإرسال فرق تقصي الحقائق، بحيث أصبح الموقف في دارفور وكأنه يتصدر الاهتمام الدولي، ويفوق في خطورته دمار العراق، حتى لاحظ بعض المراقبين أن تعمد واشنطن إبراز دارفور إنما هو لصرف الاهتمام بحلقات الفشل الأمريكية في العراق.

(4) المحور الرابع

هو الإعلام الأمريكي الذي حرك الملف ورسم هذه الصورة الساخنة لأحداث دارفور، والترويج الواسع لسياسات وممارسات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في التعامل مع تلك الأزمة، مع التركيز على تصوير الأزمة على كونها أزمة إنسانية كبيرة.

يلاحظ أن الكثيرين لم يقتربوا اقتراباً كافياً من تعبير تدويل المسألة السودانية اكتفاء بتعبير كارثة دارفور، على الرغم من أنها أصبحت كذلك بكل المعايير‏.‏ فالجنوب السوداني وإن كانت هناك اتفاقيات للسلام تحكم التعامل معه إلا أن جوهر المسألة يشير إلى أنها ليست بعيدة أيضاً عن التدويل، كما أن ما يرد عن بداية توترات في شرق السودان، أو طبيعة تحرك حركات التمرد الدارفورية من جنيف إلى واشنطن، مع عدم وضوح ذلك على الخريطة الإعلامية،‏ هو الذي يخفي عناصر تدويل المسألة السودانية‏.‏ لكن المتابع للشأن السوداني يلاحظ هذا الإجماع الأمريكي من حملة بوش بشأن المسألة السودانية‏.‏ ولابد أن احتفاظه بطابعها الإنساني هو لمجرد كسب الأفروـ أمريكيين والجمعيات الأهلية المانحة أو المتعاطفة مع المشكلات الإنسانية،‏ فضلاً عن تطلعات جماعات المصالح لاستكشاف المنطقة عبر وفود المراقبة والمتابعة‏.‏

وتساعد الحالة الدارفورية الأمريكيين والأوربيين، عموماً، على الانتقال من ضغوط المسألة الإرهابية في العالمَين: الإسلامي والآسيوي،‏ إلى نزوع إنساني، تمتد فيه عملية التدخل القسري، هذه المرة، إلى منطقة إسلامية، وتوظف فيها مساعدة المسلمين الذين تمتد مآسيهم في بلاد السودان التاريخية من سنار شرقاً حتى تشاد، بل والنيجر ومالي غرباً، ممن يعانون بدورهم مشكلات التمرد، وتعطل التنمية المستدامة‏.‏ وهنا سيمثل الضجيج الإعلامي الإنساني، والجهود الخيرية المزعومة للمانحين، الذين أصبحوا يشكلون طبقة عالمية، غطاءً للتدخل العسكري المحتمل‏.‏ وفي ظل غياب مساعدات عربية أو إسلامية فعالة‏، بل وغياب دور الدولة المسؤولة محلياً، بهذا الشكل المؤسف،‏ يظل هذا الدور الإنساني أكثر فائدة وأقل تكلفة مما تتحمله قوات التحالف في المستنقع الآسيوي، الممتد من كابول إلى بغداد والقدس‏.

ولذلك ظهرت جماعات كنسية، ومنظمات حقوق إنسان، ولوبيات إسرائيلية، ولوبيات برلمانية في كثير من الدول. هؤلاء كونوا مظلة مستعدة لاحتضان ضحايا تلك السياسات، وما برح الذين طردتهم تلك السياسات من السودان يخاطبون عناصر تلك المظلة، ويجدون عندها دعما مادياً ومعنوياً. كذلك أدت السياسات الخاطئة تجاه دول الجوار إلى خلق اتجاهات معادية للنظام في السودان في بعض تلك الدول. لقد غير النظام كثيراً من تلك السياسات، ولكن حدث ذلك بعد أن أصبح هناك أمراً واقعاً صعباً يعايشه النظام السياسي السوداني، وهذا الواقع أسوأ ما فيه أهداف الدول الأجنبية ومصالحها ومطامعها وآلياتها وتحالفاتها، وكذلك حرصها على البقاء في المنطقة.

إن الطابع الدولي، الذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية أن تضفيه على أزمة دارفور، يعني تداخل مصالح الدول‏‏ بالتنافس أو الاستغلال أو الإخضاع، أو تطويع المؤسسات الدولية نفسها لخدمة أغراض ومطامع محددة‏.‏ أما الحديث عن الجانب الإنساني الظاهر في مسألة دارفور، فهو مجرد واجهة وذريعة من الذرائع الكثيرة، التي تلجأ إليها الولايات المتحدة الأمريكية في كل مرة تحاول فيها التدخل السافر في صميم الشئون الداخلية لدولة ما،‏ ومن ثم، فإن أحداً لا يستطيع أن يغفل عن البعد الدولي الصراعي في هذا الموضوع‏. إن تدويل قضية دارفور لم يأت بطلب من حكومة السودان، ومن منظمة الإيجاد وبعض الدول العربية والأفريقية، كما حدث في قضية الجنوب، ولعل البديل عنه يفرض التحرك الجاد وفقاً للقواعد القانونية الدولية المرعية من جانب المجتمع الإقليمي والدولي، لوقف نزيف الدم وإعادة النازحين واللاجئين، وتقديم المساعدات الإنسانية والخدمات الضرورية، ومشاريع التنمية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة. وربما كان من الأسباب الدافعة إلى تحريك الأزمة باتجاه التدويل ما يلي:

وجود المشردين بأعداد كبيرة في المدن الأخرى، وتزايد أعداد اللاجئين في دولة تشاد، والاتهامات الموجهة إلى الحكومة السودانية بتجاهلها للأحوال الإنسانية المتردية والتعتيم الإعلامي، واستخدام السلاح في حل المشكلة،واضطلاع السودانيين المقيمين بالخارج بدور كبير في الدفع بالقضية للوصول بها إلى المنظمات الإنسانية، كما أن مجاورة دارفور للدول الناطقة بالفرنسية (الفرنكفونية)، أدى إلى تدخل فرنسا في تلك الأزمة. وتأثير وتأثر دارفور بدول غرب أفريقيا التي تقوم بدور كبير في القارة الإفريقية، ومن ثَم، فإنالتدخل الحميد هو التدخل المطلوب في المسألة السودانية، ويقترن بذلك رفض كل تدويل خبيث خارج منظمة الأمم المتحدة.

د. التحيز الدولي ضد الحكومة السودانية

لقد اتخذ المجتمع الدولي، عبر أبرز ممثليه موقفاً متحيزاً من نزاع دارفور، وهو ما يضر بأي جهود مخلصة لإنهاء النزاع سلمياً، فالضغوط المتواصلة على الحكومة، التي تقوم أمريكا بتنسيقها وإدارتها عالمياً، وفرت غطاء مناسباً لتنصل مسلحي دارفور من كافة الاتفاقات التي أبرمت معهم، ووضع العراقيل أمام سبل الحوار والتفاوض لتغليب خيار التدخل الدولي. إن أي دور دولي، في معالجة مشكلة دارفور، لا ينبغي له أن يتجاوز إرادة السودانيين، أو أن يكون بديلاً لها، بأن يكون مسانداً لما يتفق عليه السودانيون عبر الحوار الثنائي بين الحكومة ومسلحي دارفور برعاية الاتحاد الأفريقي، وعبر المؤتمر الجامع الذي يؤمن مشاركة كافة أبناء دارفور والقوى الوطنية في إيجاد حل عادل ودائم إلى جانب ما تتمخض عنه المباحثات التي يتعين أن يجريها السودان مع دول الجوار ذات الصلة، وفي مقدمتها تشاد، لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة. إن المجتمع الدولي لا يمكن أن يكون بديلاً لكل الأطراف المعنية بمشكلة دارفور.

كانت الحكومة السودانية تعطى اهتماماً خاصاً للآلية التي جددت لتنفيذ بنود الاتفاق مع الأمم المتحدة، في محاولة حثيثة لاستباق صدور أي قرارات من مجلس الأمن، كان من المفهوم سلفاً أنها لن تكون في صالح الحكومة السودانية المتهمة في كل وسائل الإعلام بالإبادة الجماعية. وهكذا أصبحت الضغوط الدولية تمثل الورقة الأولى لدى حركتي التمرد، ومن ثَم، فقد تحول إفشال جهود التسوية إلى هدف بحد ذاته من أجل كسب المزيد من الدعم الدولي والإقليمي، وإضعاف الموقف الحكومي بمجرد المراهنة على عامل الزمن.

ثانياً. النتائج الأمنية للأزمة

من الطبيعي، في ظل ذلك الصراع الدائر داخل إقليم دارفور، والذي يستند، بدرجة أساسية، في إدارته إلى القوة العسكرية، أن تترتب، على شيوع هذا الصراع واتصاله، العديد من التأثيرات العسكرية والأمنية السلبية، التي تنعكس نتائجها على مجمل الأوضاع داخل الإقليم، ومن تلك النتائج:

1. تفشي ظاهرة النهب المسلح

ظهر النهب المسلح، جلياً، في إقليم دارفور، منذ أوائل الثمانينيات، وخاضت العديد من القبائل الحرب في دارفور، وهو ما يعني أن هذه الظاهرة ربما تكون نتيجة من نتائج السياسات والممارسات السلبية، ومنها زيادة معدلات الفقر والبطالة، وضعف الوازع الديني، وتدني مستويات الوعي، وارتفاع معدلات الأمية، واستشراء التعصب القبلي، وغياب مشروعات التنمية، وضعف الاستثمارات في الإقليم، كما أن غياب هيبة الدولة، وغياب سيطرتها على مجمل مناطق الإقليم، ساعدت جماعات النهب المسلح على التمادي في القيام بأعمالها من دون رادع أمني حقيقي ومؤثر، كما أسهم في ذلك انتشار الأسلحة بين كثير من مواطني الإقليم، رد فعل لأعمال تلك الجماعات ونتيجة طبيعية لها، وترتب على تناميها إهدار الكثير من الأموال وإزهاق العديد من الأرواح، كما خلقت حالة من حالات الفوضى وعدم الاستقرار في الإقليم. كما أن معدلات حوادث النهب المسلح زادت، في منتصف عام 1984، مع اشتداد موجة الجفاف والتصحر، التي اجتاحت منطقة القرن الأفريقي، بما فيها إقليم دارفور، حيث تسببت تلك الظروف البيئية والتغيرات المناخية في القضاء على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، ونفوق أعداد كثيرة من الثروة الحيوانية، وهو ما دفع قطاعاً من السكان إلى ممارسة النهب المسلح، لتعويض ما فقدوه بفعل الجفاف والتصحر.

يرى البعض أن ظاهرة النهب المسلح، التي شاعت في إقليم دارفور عقب اندلاع الصراع المسلح، إنما ظهرت من طريق: جماعات من أصل قبيلة الزغاوة شردها الجفاف. وكذلك جماعات من أصل عربي، شردها الجفاف وركزت على مناطق جبل مرة. وجماعات مسلحة من أصل تشادي، وحيثما يضعف الأمن والنظام في تشاد تتأثر المناطق المجاورة سلباً في أمنها ونظامها، وهو ما يتيح لمثل تلك الجماعات القيام بذلك. كما يرجع البعض ذلك إلى آثار الحرب الليبية التشادية، حيث كانت هناك محاولة لإيقاع السودان في مستنقع عملياتها الحربية، ولكن الحكومة السودانية نأت عن ذلك؛ ما سبب بعض التوتر في العلاقات بدول الجوار. ومع ذلك، امتدت بعض آثار تلك الحرب المؤسفة نحو دارفور. كما أحدث تدفق بعض قبائل دول الجوار، نحو إقليم دارفور مهاجرين، كثيراً من المشكلات، ودخلوا طرفاً في النهب المسلح، كما دخلوا طرفاً في النزاع بين أصحاب الحواكير من القبائل السودانية والوافدين عليهم. هذا التدفق، الذي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، أشار البعض، في أوائل التسعينيات، إلى دخول 27 قبيلة من العرب مربي الماشية، من خارج السودان، واستقرارهم في منطقة الجنينة وحدها.

2. تعاظم توظيف القدرة القتالية في تسوية النزاعات داخل الإقليم

أ. تنامي القدرة القتالية للقبائل

لقد تسببت النزاعات والصراعات القبلية في الإقليم في ظهور العديد من التنظيمات القبلية أو تنشيطها، ومنها، مثلاً، تنظيمي الأرناق (للفور والمساليت والقبائل غير العربية)، وتنظيم العقيد العسكري (الرزيقات، الهبانية وبني هلبة والسلامات والتعايشة وقبائل الابالة). وهي تنظيمات قبلية قديمة وكان من نتيجة تنشيطها وتسليحها أن حدثت لها نقلة نوعية كبيرة، واستبدلت الأسلحة التقليدية البيضاء بالأسلحة النارية الحديثة. وأخذت القبيلة تتمحور حول نفسها في تنظيمات مدنية عسكرية دقيقة وحديثة في آن واحد. لقد شهدت فترة الحكم البريطاني نزعاً للأسلحة، ووضع اللوائح الصارمة لحيازة الأسلحة. ولكن برزت حيازة الأسلحة عند تفاقم النزاع، ابتداءً من عام 1968، (صراع الرزيقات والمعاليا)، وعام 1988 (الصراع بين العرب والفور). واستمرت الحيازة وتدفق السلاح من ليبيا وتشاد ومن الداخل، ما جعل توافره، بهذا الحجم، يسبب أضراراً بالغة وخطيرة، في الوقت الراهن.

ب. الاحتكام إلى السلاح في تسوية النزاعات داخل الإقليم

لقد أخطأت الحكومة بالصمت في عدة مواطن، ومنها الصمت عن ممارسات المليشيات العربية ضد غير العرب، ولم تتحرك، جادَّة، لنزع سلاح هذه المليشيات وتلك القبائل، وربما لم يكن ذلك في مقدورها، ولكن النتيجة واحدة، وكذلك أخطأت حينما سكتت عن الأزمة في بداية انفجارها، ورأت أن تصور الأمر على أنه ممارسات لبعض عصابات النهب المسلح، وليست حركة تمرد مسلح، وأدى ذلك إلى خروج الأمر برمته عن سيطرتها نسبياً، حين صار لهذه الحركات مكاتب سياسية في أوربا، وصارت لها أكثر من جهة تتحدث باسمها بما فيها المؤتمر الشعبي، لقد حاولت الحكومة سحق الحركة في صمت، ولكن الصمت انقلب ضجيجاً واسعاً، شغل كل العالم المتربص لفرصة كهذه. والآن وقد صارت قضية دارفور "مشكلة دولية وأزمة إنسانية لا مثيل لها في الوقت الحالي"، على حد تعبير كوفي عنان؛ فإن كثيراً من الأطراف صارت تتحرك استعداداً للتدخل. أولها أمريكا التي تطمع في توسيع وجودها العسكري والأمني والاقتصادي، في السودان خاصة، والمنطقة بصفة عامة. ولذلك، فهي تدفع المجتمع الدولي وتعبئه من أجل موافقتها على ذلك، والقبول بتدخلها نيابة عنه.

ويلاحظ، من جهة أخرى، وعلى المستوى الداخلي، أن الأطراف والقوى المسلحة في إقليم دارفور، والتي تحتكم إلى السلاح في تسوية نزاعاتها، تتكون من عناصر كثيرة أهمها: أجهزة الدولة النظامية، والدفاع الشعبي، والمليشيات القبلية الموالية للدولة، وقوات السلام التي أنشأتها الحكومة للقتال مع القوات المسلحة في الجنوب. وكذلك حركة تحرير السودان وحركة العدالة والمساواة، هما ترفعان شعارات سياسية باسم الإقليم كله، وباسم السودان، ولكن واقع حالهما يستند إلى قيادات وقواعد إثنية الانتماء. وكذلك، جماعات الجانجويد وهم في الغالب من أصول عربية، وهم من إفرازات شح الموارد والنزاع عليها، وإفرازات ثقافة العنف، وإفرازات التوتر العرقي الذي صحب النزاع على الموارد، وقد احترف الجانجويد النهب المسلح الانتقائي لأنه موجه في الغالب ضد قبيلة الفور. وهناك أيضاً جماعات النهب المسلح وبعضهم من قبائل سودانية وآخرون من قبائل وافدة من تشاد. وأيضاً توجد الميليشيات القبلية. وكان النظام الحاكم في السودان قد بدأ بإدانة التحرك العسكري المضاد في بداية الصراع، وسعى من أجل العمل على حسمه عسكرياً، وهذا المسعى بلغ ذروته، في مارس 2003، بعد الهجوم في الطينة، وإعلان النظام من الفاشر قرار حسم التمرد خلال أسبوعين، وإذا كان هذا التوجه قد أخفق حتى الآن، بل على العكس من ذلك فإن المساجلات العسكرية أعطت حملة السلاح انطباعاً بإمكان النصر على الحكومة، عبر عنه أحدهم وهو يخاطب وفد الوساطة الحكومي بقوله: "إن الجيش يهرب من ميدان أية معركة يخوضها ضده تاركاً وراءه الكثير من الغنائم حتى الدبابات". وكانت حركة تحرير السودان قد أعلنت ميثاق أهل دارفور، جاء فيه: "العمل على استمالة القوات المسلحة لصالح الحركة باعتبار أن القوات المسلحة تتكون من أبناء المناطق المهمشة".

ظلت الحالة الأمنية تتدهور باستمرار، خلال الفترة الماضية، ما أضر بجهود الإغاثة الإنسانية، ومحنة السكان المشردين داخلياً، وتعثرت كثيراً جهود البحث عن حل سياسي مناسب. إذ إن القتال المباشر بين الحكومة ومتمردي جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة قد استؤنف على أشده، في أواخر نوفمبر 2004، على الرغم من البروتوكول الأمني الموقع عليه، في التاسع من نوفمبر 2004، برعاية الاتحاد الأفريقي. وبدأ التصعيد بين الحكومة وجيش تحرير السودان في بلدة طويلة وحولها، وأعقبه حشد عسكري سريع. وبدأت الأسلحة تتدفق إلى المنطقة، في 5 ديسمبر 2004، وبعد يومين بدأت القوات الحكومية هجوماً كبيراً، استمر حتى منتصف ديسمبر 2004، وشمل الاستخدام المكشوف للجانجويد وعمليات القصف الجوي. وشهد شهري ديسمبر 2004 ويناير 2005، أيضاً ارتفاعاً حاداً في الهجمات على موظفي العمل الإنساني. واشتد القتال مرة أخرى بعد فترة وجيزة من التوقيع على اتفاق السلام الشامل، في يناير 2005. وكان قصف الحكومة لرهد كبولونغ، في 26 يناير 2005، الذي وردت تقارير عن أنه قتل فيه أكثر من 100 مدني، أشنع الانتهاكات لوقف إطلاق النار في ذلك الحين. وجاء بعد يوم واحد من التوقيع على اتفاق، من جانب الاتحاد الأوروبي وحكومة الخرطوم، يؤدي إلى الإفراج عن مبلغ 450 مليون يورو من أموال التنمية، كانت مجمدة، منذ عام 1990. وفي مراسم التوقيع أكد نائب الرئيس، علي عثمان طه، للاتحاد الأوروبي أن الحكومة ملتزمة بتنفيذ بروتوكولات أبوجا، التي تشمل حظراً على الطيران العسكري في دارفور. وحتى قبل هذه الأحداث، كان هناك تيار منتظم من انتهاكات وقف الإطلاق من جميع الأطراف، وكذلك زيادة في القتال بين القبائل والنهب المسلح.

في مواجهة ذلك ظلت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي يتبعان إستراتيجية "الحماية بالوجود" وهي إستراتيجية معيبة لعدة أسباب، منها:

أ. إن افتراض أن تصبح الحكومة، فجأة، راغبة عن طواعية، بطريقة ما، في حماية المدنيين الذين شردتهم، قبل شهور، المليشيات التي سلحتها هي لذلك الغرض، افتراض يتسم، في أحسن الأحوال، بالسذاجة. فقد نقضت الحكومة تقريباً كل الالتزامات التي تعهدت بها فيما يتعلق بدارفور، من اتفاق نجامينا لوقف إطلاق النار بتاريخ 8 أبريل 2004، مروراً باتفاق نجامينا، بتاريخ 25 أبريل 2004، فبيان 3 يوليه 2004 الذي وقعت عليه مع الأمم المتحدة وخطة العمل التي تلته في 5 أغسطس2004، إلى بروتوكول أبوجا الأمني الأخير. ونقضت، أيضاً مراراً وتكراراً، التزاماتها المتعلقة بحق الأشخاص المشردين، داخلياً، في العودة الطوعية والآمنة. ورغم الوعود والتهديدات الدولية المتكررة، لا يبدو أنها على استعداد أكبر لحماية مواطنيها في دارفور مما كانت عليه قبل سنة.

ب. إن الإستراتيجية تدع المجتمع الدولي عاجزاً عندما تحدث هجمات. وظهر هذا جلياً بعد أن اختطف أحد قادة جيش تحرير السودان في جبل مرة 18 رهينة من العرب في 27 أكتوبر 2004. وخوفاً من التصعيد العسكري، عقب إصدار القبائل العربية المحلية المسلحة دعوات إلى الانتقام، انسحبت الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية – الوجود الدولي الوحيد في المنطقة. وقد أعلنت الأمم المتحدة، مراراً، أن وجود موظفي الإغاثة الأجانب ينبغي يعتمد حلاً لمشكلة انعدام الأمن في دارفور. وهناك ميل متزايد، في مناطق الصراعات حول العالم، من الحكومات، إلى اتخاذ المساعدة الإنسانية و"الحماية بالوجود" بديلاً عن إتباع نهج أكثر قوة وواقعية لمنع حدوث الفظائع. إن "الحماية بالوجود" حماية جوفاء إذا كان ذلك الوجود يسحب عندما تتدهور الحالة، ليتعين على المدنيين الدفاع عن أنفسهم، ولكن الأمم المتحدة توضح، وهي محقة، أن العاملين في المجال الإنساني لا يمكنهم الوقوف بين قوتين متحاربتين. وتصبح الإستراتيجية فاشلة عندما تكون عناصر الاتحاد الأفريقي المسلحة، على قلتها، غير راغبة في التدخل لاحتواء الحالة أو غير قادرة على ذلك.

ثالثاً: النتائج القضائية للأزمة

لقد أفرز الصراع الدائر، في إقليم دارفور، بين القوات المسلحة للحكومة السودانية وحركات المعارضة المسلحة، نوعاً آخر من التأثيرات، يتمثل في التأثيرات القضائية للأزمة، والتي ارتبطت، بصفة عامة، بضرورة تقديم المتسببين في تفاقم الصراع، والمتهمين بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية للعدالة الدولية، ويمكن توضيح ذلك كالتالي:

1. تصاعد المطالبات بمحاكمة دولية لمسؤولين في الحكومة السودانية

إن إيجاد نظام دولي كفء وفاعل للمساءلة الجنائية عن الانتهاكات، التي تستهدف حقوق الإنسان، خاصة في أوقات الحروب أو النزاعات المسلحة، يُعَد من الضمانات المهمة، التي تكفل الاحترام الواجب لهذه الحقوق وعدم النيل منها، وذلك جنباً إلى جنب مع التشريعات الوطنية ذات الصلة، ذلك أن وجود مثل هذا النظام الجنائي الدولي من شأنه أن يحول دون إفلات الأشخاص المسؤولين عن هذه الانتهاكات من العقاب، أياً كانت مواقعهم أو مراكزهم القانونية. وإدراكاً لهذه الحقيقة المهمة فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان، وتعزيز الحريات الأساسية، من دون تمييز لأي اعتبار، فقد أولي المجتمع الدولي قدراً كبيراً من جهوده واهتماماته لوضع دعائم وطيدة لنظام المساءلة الجنائية الدولية، خاصة منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وقد قامت هذه الدعائم على مستويَين:

أ. المستوي الأول

يتمثل في إنشاء محاكم جنائية دولية، خاصة أو مؤقتة، للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ولقواعد القانون الدولي الإنساني، وذلك على نحو ما حدث في محكمتي يوجوسلافيا ورواندا، خلال النصف الأول من العقد المذكور.

ب. المستوي الثاني

يعكس مدي اهتمام المجتمع الدولي بإنشاء نظام كفء وفاعل للمساءلة الجنائية الدولية، فيتمثل في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة لإدارة العدالة الجنائية، وللتصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، خاصة أثناء النزاعات المسلحة: الدولية والداخلية، على حد سواء.

وقع نظام هذه المحكمة الأساسي في 17 يوليه 1998، ودخل حيز التنفيذ الفعلي في 1 يوليه 2002، وذلك بعد اكتمال العدد المطلوب من التصديقات. وبدخول هذا النظام حيز التنفيذ، صار ممكنا ـ بل أصبح لزاماً ـ إحالة الدعاوى الجنائية الناشئة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية إلى المحكمة الجنائية الدولية للنظر فيها، ولمحاكمة الأشخاص الذين ينسب إليهم ارتكاب مثل هذه الانتهاكات. من هنا جاء القرارالرقم 1593، الذي أصدره مجلس الأمن، في 31 مارس 2005، بإحالة الملف الخاص بالوضع في دارفور بالسودان إلى المحكمة الجنائية الدولية.

2. إحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية

في محاولة لتحريك الموقف، وتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أُبرم في نجامينا، والبروتوكولين الأمني والإنساني، الموقعين في أبوجا، انعقدت، في العاصمة نجامينا، قمة أفريقية مصغرة، في 16 فبراير 2005، لمناقشة الأوضاع في دارفور، بمشاركة رؤساء أربع دول، هي: السودان وتشاد والجابون والكونغو، ورئيس مالي السابق رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي ألفا عمر كوناكري. كما شارك ممثلون عن مصر وليبيا ونيجيريا، وأقرت القمة مجموعة من التوصيات المهمة، التي تسمح، في حالة تطبيقها، بفرض وقف إطلاق النار في الإقليم السوداني المضطرب، حيث أوصى البيان الختامي رئاسة اللجنة المشتركة لوقف إطلاق النار في دارفور بإرسال فريق ميداني، للتحقق من المواقع التي تحتلها القوى الموجودة، بهدف وضع خطة فصل بين هذه القوى. كما أوصوا مجلس السلام والأمن، التابع للاتحاد الأفريقي، بتحويل مهمة الاتحاد الأفريقي، في دارفور، إلى عملية حفظ سلام حقيقية، احتراماً لسيادة السودان، من أجل التوصل إلى تسوية لأزمة دارفور، في إطار أفريقي. وبخصوص هذه القمة، يمكن ملاحظة أن الحكومة السودانية سعت إلى إشراك دول الجوار الأفريقي المباشر لدارفور، بسبب التداعيات الناجمة عن التحركات الواسعة، عبر الحدود المفتوحة، لهذه الدول.