منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#64451
دت مقولة " نهاية التاريخ" لصاحبها فرانسيس فوكوياما الساحة الفكرية السياسية حتى ظهور مقولة "صدام الحضارات" على يد صموئيل هنتنغتون والتي انتزعت الأضواء من فوكويوما ونظريتة في "نهاية التاريخ". والأسباب التي دعت إلى سطوع نجم هنتنجتون وأطروحته حول صدام الحضارات ليست أسبابا تتعلق بالقوة والحجية المعرفية وتماسك البناء النظري. بل أنها تعني بكل بساطة التحول الذي طرأ على السياسة الأمريكية في هذه المرحلة التي يقودها اليمين المتطرف أو( النيوليبراليون)
ومن البدهي أن أي فكر أو فلسفة لا يمكن أن يوجد ويحيا في فراغ.بل هو يعبّر بالضرورة عن إيدلوجية جماعة أو شريحة أو طبقة معينة أو حتى شعب. فإن نظرية "صدام الحضارات" قد جاءت معبرة تماماً عن التوجه الجديد للنيوليبرالين في أمريكا وناطقة أمينة ومرافقة للتحول المرحلي الذي إتضحت ملامحهُ في الفترة الأخيرة، وقد كانت مقولة نهاية التاريخ في فترة ما هي المعبر الحقيقي عن سياسة النيوليبراليين في أمريكا. وسوف نكون مضطرين في أماكن متعددة في هذه المقالة من عقد المقارنات بين صدام الحضارات ونهاية التاريخ عندما يكون ذلك ضرورياً.
والحقيقة أن مقولة (نهاية التاريخ) لم تعّمر أكثر من خمس سنوات حيث انزوت وتوارت لصالح مقولة (صدام الحضارات).
إن مقولة نهاية التاريخ كانت تتنبأ بنهاية الأنظمة الشمولية وكافة الأنظمة الشيوعية والاشتراكية، وتنبأت بحتمية انتصار النظام الليبرالي وتسيدّه وتفرّده كنظام سياسي واقتصادي وحيد في المستقبل. أي أن نهاية التاريخ ستكون نهاية ليبرالية بشكل حتمي.
والواقع أن الأحداث الدراماتيكية التي حصلت بعد صدور كتاب فوكوياما نهاية التاريخ، أكدت النبوءات التي جاء بها فوكويوما. أو أن السياسة الأمريكية إتخذت من مقولة "نهاية التاريخ" إنجيلاً وبرنامج عمل لها وقامت برسم خططها على هدي هذه المقولة. أو ربما أنها مهدت لسياستها بالترويج لها نظرياً على شكل نظرية "نهاية التاريخ". والواقع أن كل الفروض السابقة هي بالتالي تصب بنتيجة واحدة.
ويبدو أن النيوليبراليين تنبهوا فجأة إلى أمر خطير في مقولة نهاية التاريخ، هذا الأمر هو المصير المحتوم الذي تسير نحوه الأنظمة غير الليبرالية في العالم. أي أن انهيارها حتمي.
ولا يحتاج إلى حروب وحملات عسكرية. وبالتالي فإن الميزانية الأمريكية الضخمة للتسلح والتي بلغت مئات المليارات تصبح غير مبررة على الإطلاق، لماذا تصرف مئات المليارات لمحاربة أنظمة هي بالأساس أنظمة متهافتة تسير نحو موتها المحتوم أي أن (نهاية التاريخ) في جزء منها تبعث على الاطمئنان على مستقبل أمريكا الليبرالية باعتبارها تتحدث عن الأنظمة غير الليبرالية وكأنها أصبحت حتماً في ذمة الماضي
وهكذا جاءت نظرية صدام الحضارات لكي تتلافى هذا النقص الخطير وتصور الصراع بأنهُ لا زال حاضراً ومستقبلاً وتنذر بخطر المواجهة والحرب وتدعو صراحة إلى الاستعداد والاستنفار للدفاع عن النموذج الحضاري الأمريكي الليبرالي، وهكذا يصبح تخصيص أموال فلكية للتسليح له ما يبرره، وقد ضرب هنتنجتون على وتر حساس عندما صور الخطر القادم خطراً أخضر (إسلامي ) في أغلبه.
ومن الملاحظ أن هنتنغنتون قد نشر مقالتهُ في مجلة (شؤون خارجية) الأمريكية عام 1993 وهي مجلة معروفة بقربها من مراكز صنع القرار بالولايات المتحدة الأمريكية.
يعتقد الجابري أن مقولة (صدام الحضارات) من حيث مستواها الفكري والمعرفي لا تتناسب ومكانة هنتنجتون العلمية ومنهجيته العالية. وهي على صعيد المستوى الفني من أردأ ما أنتج هنتنجتون من فكر. مما يشي بأنها قد كتبت باستعجال كبير وبقصدية واضحة أو بتكليف مباشر من الإدارة الأمريكية. فالأفكار تتكرر وتتدافع والشواهد تتداخل في غير نظام والتحليل مضطرب والاستدلال متهافت والأمثلة تعّج بالمغالطات. كل ذلك يدل على أن المبدأ الذي يحكم النص هو المبدأ المعروف (الغاية تبرر الوسيلة).
ومن أهم عيوب النظرية اللجوء إلى التعميم وإصطناع الغموض، والقفز من قضية إلى أخرى ومن مثال إلى مثال آخر بمناسبة وبدون مناسبة وذلك هو أسلوب المغالطة كما هو معروف في المنطق.
بعد سلسلة من الاستدلالات المبررة ينتهي هنتجنتنون بأن الصراع القادم لن يكون أيدلوجياً أو اقتصاديا باعتبار أن هذين الصراعين قد انتهيا بإنهيار المعسكر الاشتراكي. وأن الصراع القادم سيكون حضارياً، والصراعات الرئيسية في السياسة الدولية ستنشب بين مجموعة من الحضارات المخلتفة وستكون حدود التوتر الفاصلة بين تلك الحضارات هي خطوط المعارك الكبرى في المستقبل.
وهنتنجتون يخلص إلى أن الصراع المستقبلي سيكون بين ثلاث حضارات رئيسية الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية والحضارة الغربية. ومع أن أرنولدتوينبي مؤرخ الحضارات الشهير قد شخص ثماني حضارات لا زالت قائمة وحية وفاعلة هي (الحضارة الغربية، الكونفوشية، واليابانية، والإسلامية، الهندية، السلاجقية والأرثوذوكسية والأمريكية اللاتينية، (وربما) الحضارت الإفريقيه )
فإن هنتنغنتون ينطلق من مقولة توينبي لكي يقرر بشكل تعسفي غير مبرر استبعاد كافة الحضارات في صراعها مع الغرب والإبقاء على الحضارة الصينية والإسلامية فقط. فيقول أن اليابان قد أصبح جزءً من
الغرب سياسياً وتكنولوجياً، والشعوب السلافية هي جزء من أوروبا وهي تقترب من الغرب وترغب في الاندماج فيه مثلها مثل أمريكا اللاتينية. أما الهند فهي تتراجع عن تراث نهرو وتعود إلى الهندوسية وستعاني من التمزق الداخلي بسبب وجود طوائف وأقليات متناحرة مما يجعلها خارج دائرة الصراع مع الغرب لإنشغالها بالصراع الداخلي أما أفريقيا فهو لا يدخلها في الحساب بسبب عبارة تويبيني (ربما) . ولا يبقى إلاّ على الحضارة الصينية والإسلامية و هو يعتقد أن هاتين الحضارتين هما حضارتين طامحتين فهما تسعيان إلى التحديث والعصرنة ولكنهما ترفضان النموذج الغربي، وهكذا سيكون الصراع بينهما وبين الغرب.
إن هنتنجتون يستعمل معايير مختلفة في تصنيف الحضارات فهو مثلاً جعل من الحضارة اللاتينية والغربية حضارتان مختلفتان مع أنهما تشتركان في الدين واللغة والثقافة والتراث والتاريخ وهو لا يعتمد الدين كأساس في تصنيف الحضارات إلا في حالة الحضارة الإسلامية فقط. وإلا لكان اعتبر الحضارة اللاتينية والغربية حضارة واحدة وأعتبر الحضارة الهندية والصينية واليابانية حضارة واحدة تدين بالبوذية. هنا نجده مغرضاً في تصنيفه للحضارات فتارة يعتمد الدين وتارة يعتمد الهوية الثقافية وتارة يعتمد ما أسماه بالوعي الحضاري،ولكنهُ بالنهاية يلجأ إلى عملية ترقيع فكري متعدد لنظريته ليصل في النهاية إلى النتيجة المسبقة التي أراد الوصول لها أو التي كلفته الإدارة الأمريكية الوصول لها وهي وضع الحضارة الصينية والإسلامية كحضارتين معاديتين للحضارة الغربية والواقع أن هذا التصنيف على أساس الحضارات هو تصنيف زائف ومضلل تماماً , فنحن نعلم أن هناك صراعا داخل الحضارة الواحدة أهم وأعمق من كل الصراعات المدعاة وهو الصراع الطبقي والذي شكل التاريخ الحديث بشكل رئيسي فالثورة الصينية عام 47 كانت ثورة داخل الحضارة الواحدة ولكنها كانت تحمل في طياتها الصراع الطبقي بين المستغل والمستغل.
وكذلك الصراع الأيديولوجي داخل الحضارة الأوروبية نفسها ممثلاً بالثورة الفرنسية في أوضح صوره والثورات في بريطانيا وأسبانيا وإيطاليا وألمانيا، وكذلك الثورة الروسية، وأن كافة الحضارات شهدت داخلها صراعات كثيرة إما طبقية أو أيديولوجية، كل هذا يسكت عنهُ هنتنغتون ويتجاهله في شطط ومغالطة منهجية من أجل التركيز على الصراع الحضاري فقط والذي يخدم التوجه الجديد لمن يقفون خلف هذه النظرية.
ويتحول هنتنغتون إلى ربط الكتل الاقتصادية بالكتل الحضارية فإن ما يجمع بين الكتل الاقتصادية اليوم هو اشتراكهم في حضارة واحدة، ويضرب أمثلة على ذلك، وهي بالتأكيد أمثلة انتقائية مختارة بشكل تعسفي، مثل السوق الأوروبية المشتركة وكذلك (الصين، هونج كونج تايوان سنغافورة) وهو يهمل إهمالاً متعمداً مثلاً لماذا لم تقم سوق مشتركة بين الدول العربية وهو يستند أيضاً على مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي التي تشكل عشر دول إسلامية، ( لاحظ أنه يعود هنا لاعتبار الدين كمعيار وليس الحضارة).
ومن الملاحظ أن هنتنغتون لا يستعمل الدين كمقياس في تصنيف الحضارات إلاّ عندما يتعلق الأمر بالإسلام فقط. ومع أن هنتنغتون يتكلم بإسهاب عن صدام الحضارات المختلفة مثل الصدام بين المسيحية الشرقية والغربية والصراع بين الغرب والحضارة الكونفوشية في الصين، وكذلك الصراع مع الهند وأوروبا الشرقية والصراع مع الحضارة الأمريكية اللاتينية وروسيا. إلاّ أننا نراه يلجأ بأسلوب يقترب من السذاجة والتلاعب باللغة والألفاظ إلى التقليل من شأن كافة الصراعات. مثل قوله عن الهند أن هذه الحضارة ستكون مشغولة بصراعاتها الداخلية وسوف لن تشكل خطراً على الغرب وكأن الحضارة الإسلامية ليس فيها صراعات داخلية وحروب (أنظر الشطط المنهجي) أو أن الحضارة الأمريكية اللاتينية هي قريبة من النموذج الغربي وهي في طريقها إلى الإندماج مع الحضارة الغربية عما قريب، وهو يتناسى ويتجاهل هرولة العديد من الدول الإسلامية وأوضحها تركيا نحو الغرب ومحاولة الانخراط في الحضارة الغربية. الواقع أن هنتنغتون يقع في مطب السذاجة واللجوء إلى الحيل هنا وهناك من أجل الوصول إلى النتيجة التي وضعها نصب عينية مقدماً وهي الترويج وإبراز جانب الصراع بين الغرب والإسلام وهنا التوجه لا يخدم سوى توجهات النيوليبراليين في أمريكا. ويتجلّى هذا التنظير المغرض في أوضح صوره حين يصل هنتنغتون إلى الهدف النهائي من نظريته والتي يصوغها في عبارات تفوح منها رائحة الأدلجة والأغراض السياسية المكشوفة وهي بيت القصيد في كل ما قاله هنتنغتون:
• إن الاختلاف بين الحضارات حقيقة واقعة وأن الصراع بين الحضارت سيحل محل الصراع الأيديولوجي وغيره من أشكال الصراع الأخرى .
• أن المحور البارز في السياسة الدولية سيكون الغرب وما عداه وأن البؤره المركزية للصراع العالمي سيكون بين الغرب والحضارتين الكونفوشية والإسلامية .
ثم ينتقل هنتنغتون بعد كل المغالطات السابقة التي ساقها إلى الحديث عن الاحتياطات الضرورية الواجب على الغرب أن يتخذها على المدى القريب والبعيد (وهذا هو الجزء الأهم والهدف من النظرية بكاملها).
يقول أنه يتوجب على الغرب أن يعمل على تحقيق أكبر قدر من التعاون والوحدة بين مكونات حضارته الأوروبية الأمريكية وأن يعمل في الوقت نفسه على إدماج أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية في حضارته وأن يعمل على تعزيز التعاون مع روسيا واليابان وعدم الإقدام على تخفيض الأسلحة حفاظاً على التفوق العسكري على الرابطة الكونفوشية والإسلامية والتي يجب وضع حدود لتوسعها العسكري مع استغلال الخلافات بين الدول المكونة لهذه الرابطة، وعلى المستوى البعيد فيجب على الغرب أن يحافظ على قوته الاقتصادية والعسكرية اللازمة لحماية أمنه وحضارته. وفي الوقت نفسه يسعى إلى تحجيم وقهر هذه الحضارات وأن يسعى إلى احتواء هذه الحضارات عن طريق اختراقها من الداخل ومن الخارج.
والحقيقة أن هنتنغتون يتكلم عن الخطر الإسلامي بصفته هو الخطر الأهم والأخطر والذي يتمثل (بالإرهابيين الإسلاميين). وربما أن إقحام الحضارة الصينية الكونفوشية في نظريته كعدو للغرب كان من باب التموية والتغطية والألاعيب لكي لا ينكشف الهدف الحقيقي من هذه النظرية وهو الترويج لسياسة النيوليبراليين المتصهينين في معاداة الإسلام وحضارة الإسلام. ومع أن هنتنغتون صور هذا الصراع والصدام كأمر حتمي وحلّ وحيد لا مفرّ منه إلاّ أن الجابري يكشف هذه الحيلة التي لجأ إليها هنتنغتون ويقدم بدلاً منها بدائل محتملة لمستقبل العالم بعيداً عن الصراع والصدام ولا يخفى على أحد أن الترويج للصراع والصدام هو بالأساس يبرر الإبقاء على تطوير القوى العسكرية وبالتالي ضرورة صرف ما يلزم من الأموال في سبيل ذلك. علماً أن أمريكا لديها ميزانية تسليح هي الأضخم في العالم والتي تجاوزت النصف ترليون دولار وهي تدفع من أموال الشعب الأمريكي التي كان من المفترض أن تذهب لصرفها على التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والواقع أن الجابري يطرح بديلاً موضوعياً لنظرية صدام الحضارات يتمتع بحجية عالية وتماسك فكري أكثر من نظرية هنتنغتون وهو بالتأكيد ليس مغرضاً مثل هنتنغتون في السعي إلى تأجيج الصراع في العالم وجعل العالم أكثر شحونة وخطراً. وتتلخص مثلاً في المشروع الذي قدّمه غراهام فولر المسمى حوار الحضارات في ثلاث أمور: 1- مراجعة القيم والمفاهيم الغربية لجعلها تتلاءم أكثر مع التطورات الجديدة. 2- ترك العالم الثالث يسلك طريقه نحو التحديث. كل حسب الطريقة التي يختارها والتعامل بصورة إيجابية مع الدول التي تحقق تقدماً اقتصاديا في الإطار الغربي. 3- مساعدة الدول التي لا تستطيع تحقيق مثل ذلك التقدم حتى لا تجر النظام العالمي إلى مواجهة بين الغرب وغيره من الأنظمة.
ومع أن المشروع السابق لا زال ينطلق من نفس المنطلق وهو أن المستقبل سيشهد قيام أيدلوجيا معادية للغرب إلاّ أنهُ يدعو إلى الحوار وليس إلى الصدام والحروب.
والجابري يورد أدلة تؤكد أن ما يحرك الغرب في سياساته ليس الدوافع الحضارية بل أن المصالح هي التي تحرك الغرب وسياساته المستقبلية. وهو يقول (الغرب مصالح ولا شيء غير المصالح. والغرب لا يخاف من أي جهة دولية إلاّ بالقدر الذي تهدد مصالحه(
هكذا يفسّر الجابري العدوان الثلاثي على مصر 1956، وانقلاب الغرب على الدول الإسلامية بعد قطع النفط في 1973، وإطاحة الغرب بمصدق في إيران في الخمسينات الذي حاول استرجاع الثروة النفطية إذن ما يحرك الغرب هو المصالح. وبرأينا أن هذه الفرضية أكثر حجبة من فرضية صدام الحضارات المغرضة.
والجابري ينهي نقده لنظرية صدام الحضارات بالتركيز على الصراع الطبقي بدل الصراع الحضاري ويعتقد أن الصراع الطبقي بين المستغِلين والمستغَلين، بين الأسياد والعبيد هو الذي سيهيمن على مستقبل العالم. وهو يتجاوز صراع الحضارات وحتى حوار الحضارات إلى ما أسماه ( حوار النقابات مع أصحاب المؤسسات) وأن أي شيء عداه هو عبارة عن ذر الرماد في العيون.