صفحة 1 من 1

مفهوم السلطة في تجربة النبي السياسية

مرسل: الأربعاء أكتوبر 30, 2013 10:49 pm
بواسطة عبدالعزيز السويلم704
مفهوم السلطة في تجربة النبي السياسية
هنالك قدر كبير من الاندماج في عالم الفكر والتجارب السياسية بين الأجيال السابقة والاحقة حسب ما يقتضيه ظرف الزمان والمكان ومقتضيات المصالح المرسلة، والصالح العام لذلك الجيل أو المجتمع، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن ظاهرة الاندماج العضوي في الفكر السياسي للوظائف الأساسية للدولة، أو عدم الاندماج بين تلك الوظائف ما هو إلا انعكاس للتفاعل الفكري السياسي مع البيئة ومستجدات عصره.

لذلك نجد أن قضية السلطة وتنظيم السلطات وتوزيعها في تجربة النبي السياسية من خلال قراءة تأويلية لمواد وبنود وثيقة المدينة السياسية، كانت تميل إلى مبدأ الفصل بين السلطات فصلا مرنا يتح الفرصة للتعاون والتداخل والمراقبة فيما بينهما، دون الميل إلى مبدأ الفصل الجامد والمطلق الذي يقود إلى مخاطر جمع السلطة في جهاز أو عند عضو واحد. ويبدو أن الوثيقة قامت على فكرة الاندماج الكامل بين البعد الاخلاقي والبعد القانوني من خلال سلطة الأمة والسلطة التنفيذية، في إطار قصدية قيم الاجتماع السياسي جلبا للمصالح ودرءا للمفاسد. فقد جاء في المادة (12)من الوثيقة(وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل)،وجاء في المادة(16)(وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم).وجاء في المادة(25)(وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته).وجاء في المادة(37) تقرير حقيقة الأبعاد الأخلاقية والحقوقية( وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الاثم، وأنه لا يأثم امرء بحليفه، وأن النصر للمظلوم).

ويبدو أن وثيقة المدينة قد جمعت للنبي صلى الله عليه وسلم السلطات الثلاث، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.نظرا لاجتماع خصلتين لا تجتمع لأحد من بعده وهما خصوصية الرسالة والقيادة(= البعد الرسالي – والبعد السياسي) وهذا ما لم ولن يجتمع لغيره لأن الله سبحانه قد خصه واصطفاه برسالته، وتبليغ دعوته.

ولكن لما بدأت تتسع فكرة دولة المدينة الاتحادية(= اتحاد قبائل) كما وكيفا؛ وأصبح لها حضور في أصقاع عدة من الارض، رأى النبي بجانبه القيادي السياسي أن يختار من رجاله الأقوياء الأمناء الاكفاء للتغطية هذا الانتشار والحضور الديني والسياسي في المنطقة، وقد كان اختياره لهؤلاء الأكفاء في إطار شعار الانسان المناسب في المكان المناسب، حيث كان صلى الله عليه وسلم يدرك مزايا وقدرات ومؤهلات أصحابه كل الادراك، بل أحيانا يصرح بتلك المميزات، وتلك المؤهلات على مسمع ومرأى من الناس. حيث كان يختار من يمثله في بعض السلطات السيادية، وكان يمنع من يرى فيه خصلة قد تكون سببا في إعاقة تنفيذ عمله السيادي كما ينبغي، وكان يعين الوالي على الولاية، ويجمع له بين السلطتين التنفيذبة والقضائية. وربما أرسل إلى الأطراف واليا وقاضيا؛ وأليا يرعى الشؤون السياسية للأمة، وقاضيا يقيم السلطة التنفيذية والتشريعية، كما صنع مع أبي موسى الاشعري ومعاذ عندما أرسلهما إلى اليمن.

وهنا مسألة لابد من التنبيه عليها، وهي مسألة مكونات السلطة في تجربة النبي السياسية والتي تعد حجر الزاوية في فكرة الدولة أصلا، قد قامت على فكرة اقتناع الافراد ورضا الأمة بشقيها الديني والسياسي(الإجماع السياسي).ولهذا السبب يعتبر فقهاء القانون الدولي أن إرادة الأمة هي السلطة، أما ما يطلق عليه تجاوزا مصطلح(سلطات الدولة) فهو في الحقيقة أجهزة السلطة، وليست السلطة ذاتها.وهذه السلطة الأصلية والأصيلة Originaire هي سلطة واحدة لا تتجزأ ومن ثم فإذا مارست الهيئات الحاكمة اختصاصات مستقلة، فهي لا تتقاسم فيما بينها السلطة العامة، وإنما تتقاسم فقط الاختصاصات.

بيد أن تأسيس السلطة، وقيامها على إرادة الأفراد لا يعني أن الدولة لا تمتلك القوة المادية، إذ لا قيام للدولة دون القهر المادي، أي ألا تجد أمامها في الداخل قوة مادية أقوى منها أو منافسة لها، وأن تخلف هذه القوة المادية يعني تفكك الدولة وفناؤها.ولكن إذا كانت السلطة السياسية تقوم على رضا الأفراد، فمن هم هؤلاء الأفراد الذين تستمد السلطة من رضائهم ؟ يميز رجال القانون والسياسة بين الشعب كحقيقة اجتماعية realite sociologique أي بصفته يشكل كامل الأفراد الذين تتكون منهم الدولة، وبين الشعب السياسي، أي الشعب صاحب السلطة السياسية الذي تستمد منه النظم السياسية وجودها، وترتكز عليه كأساس فعلي لسلطتها، وهذا التطابق وعدمه، يختلف من نظام سياسي لآخر، تبعا لدرجة نضوج الشعب، وتقدمه الحضاري.(انظر:النظم السياسية لثروت بدوي)

وأحسب أن تجربة النبي السياسية كانت مرنة في فكرة تنظم السلطة أكثر من التجارب اللاحقة لها، حيث أعطت وثيقة المدينة السياسية لغير النبي حق التشريع الإبتنائي وتنظيم السلطتين القضائية والتنفيذية، وتوضيح ذلك أن الصحيفة في حد ذاتها عمل تشريعي نشأ تعبيرا عن إرادة الأمة، منضما إليها إرادة النبي(القيادي).على اعتبار أن هذا التشريع الابتنائي يصدر وفق معيارية الخطاب القرآني وسهمية القراءة باعتبار السياق والمساق.

ولعل النهج الذي سلكه النبي في تجربته السياسية في تقعيد قواعد وثيقته السياسية، كان منطلقا من قصدية الوحي، ومراعيا لعناصر البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية(=السياق والمساق)،آخذا في الاعتبار نقطة التقاء المصالح جلبها وتكميلها، ودرء للمفاسد العامة وتقليلها لكل مكونات المجتمع الجديد، الجماعة الدينية (=المهاجرين والانصارى ومن تابعهم)،والجماعة السياسية (=اليهود ومن تابعهم)، حيث جاء في الوثيقة (أن المؤمنين أمة من دون الناس)،( وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته ). وبالرغم من هذا الفكر السياسي المتقدم في تجربة النبي السياسية باعتبار السبق الزمكاني، إلا أنها ليست المثال الذي يخترق التاريخ والجغرافية بدون تعديل وإضافة وإلغاء كما يزعم أصحاب نظرية التماثل التاريخي (=النموذج التاريخي )، أو اصحاب نظرية التقديس التاريخي(=تقديس تجربة النبي،أو الخلفاء الراشدين).ولعل هذه التصورات والمفاهيم هي السائده والمتمكنة من العقل التقديسي القياسي الإحالي الذي لا يعتبر (السياق والمساق) بمعنى أن هذا العقل يطمس التعاقب التاريخي، والتمايز الثقافي والاجتماعي، ومن ثم فهو لا يمايز بين منطق السياسة والاعمال السياسية، ولا ريب أن ذلك يعد نوع من محاكمة الماضي للحاضر والمستقبل، واستمرارية للتاريخ دون انقطاع، وللاسف الشديد أن هذا هو ما يصنعه من ينادي بإعادة الخلافة أو يرفع شعار الإسلام هو الحل دون تمييز بين الإسلام المنزل وقصديته، والإسلام المؤول وإكراهاته.