By احمد الاحمري 336 - الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 11:15 pm
- الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 11:15 pm
#64598
قراءات أخرى في كتاب "التاريخ السياسي والعسكري للآثوريين في العراق"
أبرم شبيرا
توطئة: كتاب وذكريات
قرأت موضوع الأخ والصديق المهندس خوشابا سولاقا عن كتاب "التاريخ السياسي والعسكري للآثوريين في العراق" للأستاذ عبد المجيد حسيب القيسي الذي نشر في موقعنا العزيز عنكاوه. وأول تأثيراته كانت أنه فتح خزانة عقلي عن ذكريات تزيد عن أربعين عاماً حينما كنًا معاً في المراحل الأولية الرومانسية من الفكر والعمل السياسي نجاهد جهاداً مضنياً من أجل الحصول على كتاب أو مقالة عن الآشوريين ومن ثم تداوله سرياً بيننا ومع مجموعة من أصدقاء تلك المرحلة مؤمنين بأن المطالعة والعلم والثقافة وإغتراف المعارف في تاريخنا القومي هو السبيل الأمثل لإمتلاك وعي قومي صحيح يبنى عليه آمال لبناء تنظيم سياسي يكون أداة لتحقيق طموحاتنا القومية. وبطبيعة الحال وبسبب الظروف الإستبدادية والكبت الفكري في تلك الفترة كان مثل هذه الكتب والمقالات نادرة الوجود والتداول، لا بل كان إمتلاكها وتعميم نشرها نوع من المخاطرة وقد تسبب لمتداوليها التعرض لإستبداد السلطة ولعواقبها الوخيمة. كان أشهر كتب تلك المرحلة "الآشوريون في التاريخ" جمعه إيشو ماليك خليل جوارو وترجمه وأشرف عليه سليم واكيم وطبع في بيروت عام 1962، والثاني "تاريخ الآثوريين" – الجزء الأول، ترجمه من الروسية أسامة نعمان وطبع في مطبعة الجاحظ في بغداد عام 1970، وهي ترجمة محرفة وغير دقيقة لكتاب "المسألة الآشورية أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى 1914- 1933" للبرفسور الآشوري بار متي ماتييف لا بل تعتبر الترجمة قرصنة فكرية لأن المترجم لم يحصل موافقة المؤلف كما ذكر ذلك لي شخصياً. المهم، بمجرد أن أنتهيت من قراءة موضوع صديقي خوشابا حتى هرعت إلى مكتبتي الصغيرة وأجد الكتابين المذكورين راكنان في الرفوف العالية وقد أصفرت وتيبست أطراف بعض من أوراقهما وتكسرت ولكن الأمر الذي حزً في صدري هو أن أجد في الصفحة الأخيرة من كتاب "الآشوريون في التاريخ" كلمة شكر وإمتنان مني ومن بقية الأصدقاء مؤرخة بتاريخ 7/8/1969 إلى المرحوم إيشعيا هرمز يونان الذي فارق الحياة قبل سنتين أو أكثر لكونه هو الذي عثر على هذا الكتاب وعممه علينا ولا أتذكر فيما اذا كان هذا التاريخ الذي أقر في السنة اللاحقة كيوم للشهيد الآشوري مصادفة أم مقصود. وهذه مناسبة أن نترحم على روح شاعرنا الكبير دنخا إيشا الذي كان يلهمنا في تلك الفترة بأشعاره ويزيدنا همة وصلابة ونحن سائرين على الطريق الصعب المليء بالمخاطر. وعلى العموم وكما يقال: على الحياة أن تستمر... وهكذا أجد اليوم في صديقي خوشابا إستمراراً لهذه الحياة ولهذه العادة في "النبش" في الكتب والبحوث وعلى نفس مسار أربعة عقود وأكثر من الزمن في البحث والدراسة وإغتراف المعارف في كل ما يتعلق بأمتنا. وأرجو المعذرة من القراء الأعزاء في الإطالة في هذه التوطئة وظهورها كأنها مسألة أو ذكريات شخصية ولكن في الحقيقة ليست هكذا فحسب بل تمثل جانب من بداية مسيرة شباب على منوال طويل من الوعي القومي والسياسي التقدمي قائم على الإستقامة والتواصل والنزاهة والإخلاص ونكران الذات من أجل هذه الأمة رغم الظروف الإستبدادية الصعبة التي كانت تحيط بهم ورغم سياسة "الجزرة والعصى" التي كان يمارسها النظام البعثي الإستبدادي ولكن كل هذا وذاك لم تقوى هذه السياسة الإستبدادية على لوي أذرع هؤلاء الشباب فأستمروا المسيرة وهم يحملون سلاحاً قوياً تمثل في نقاء ضميرهم الحي وتوجهاتهم النزيهة تجاه هذه الأمة، وهذا كنز لا يفنى حتى بفناء الحياة.
من هو مؤلف الكتاب ؟:
مؤلف الكتاب هو الإستاذ عبد المجيد حسيب القيسي، عراقي عمل كمستشار قانوني في الدوائر العسكرية والمدنية في العهد الملكي والجمهوري في العراق وبعد إشتداد الكبت الفكر والقهر السياسي في نهاية الستينيات من القرن الماضي لم تتحمل سعة أفكاره وحبه للحرية والدفاع عن الحق والعدالة إلا أن يترك العراق ويجد في أبو ظبي – الإمارات العربية المتحدة موطناً له للإستقرار وقضاء بقية حياته وعائلته في هذا البلد المضياف حيث عمل كغيره من العراقيين المبدعين في تأسيس وإدارة النظام الفيدرالي في هذه الدولة. لقد كانت فرصة إستثنائية أن ازوره في بيته في أبو ظبي أنا والدكتور سعدي المالح في أواخر عام 2000 وأن نقضي ساعات طويلة معه في نقاشات مفيدة عن كتابه بشكل خاص وعن الآشوريين ومسألتهم في العراق بشكل عام وكان إهتمامه الكبير ظاهراً عليه بشكل واضح حيث أكد لنا بأنه آخر مرة ألتقى بالآشوريين كان أثناء أحداث سميل عام 1933. ثم في السنوات اللاحقة قمت بزيارته أكثر من مرة وتهاتفنا العديد من المرات في المستجدات المتعلقة بالآشوريين في العراق وقد كانت السنين الطويلة المتعبة من العمل الجاد والدفاع عن الحق والعدالة بادية عليه وأهرمته حتى زارته المنية فتوفي في عام 2006. لقد كان رحمة الله إنساناً طيباً رؤوفاً واسع الصدر ومنشرح الفكر في تقبل أي نقد موجه إلى أفكاره أو كتابه موضوع البحث لهذا السبب كان يسعده جداً اللقاء بي والدخول في مناقشات معه. وأود هنا أن أوضح بأن السيد القيسي ليس بباحث أو أكاديمي أو مؤرخ بل شاهد عيان لأحداث حاسمة وخطيرة مرة على العراق ومنها حادثة مذبحة سميل حيث عايش كموظف بسيط في الدولة أثناء المذبحة والمأساة التي رافقتها والإرهاصات التي أعقبتها على المستوى العراقي وبضمير حي وبعدالة وإحقاق حق الآشوريين في تلك الفترة، وما هذا الكتاب إلا نموذج لتلك المعايشة.
كيف صدر الكتاب؟:
خلال عمل الكاتب في خدمة دولة العراق وإهتمامه بالأحداث التاريخية وتدوينها ومن ثم إصداره بعض الكتب بهذا الشأن تكونت لديه أفكار وآراء حول الآشوريين ومسألتهم في العراق وجمع عنهم معلومات كانت من الكفاية لتأليف كتاب خاص بهم. وبعد إكماله أتصل بصديقه السيد سعد صالح جبر الذي كان رئيساً للمجلس العراقي الحر في لندن والمعارض لنظام البعث العراقي يسأله عن إمكانية مساعدته في طبع الكتاب ونشره، فأتصل هذا الأخير بالسيد سركون داديشو رئيس "المجلس القومي الآشوري" الذي كان له معرفة به عارضاً عليه الفكرة فكانت نتيجتها طبع الكتاب وصدوره من قبل المؤتمر القومي الآشوري في عام 1996 وتحت عنوان "هوامش على تاريخ العراق السياسي الحديث في رؤيـة جديدة - تاريخ القضية الآثـورية ". وفي أحدى لقاءاتي مع السيد القيسي بينً عدم رضاءه عن طبع ونشر الكتاب بالطريقة التي طبع ونشر بها حيث أولاً: لم يتم تزويده غير بثلاثة نسخ من الكتاب في الوقت الذي كان يطلب بحدود ثلاثين نسخة فقط لتوزيعها على أصدقاءه. وثانيا، وجد القيسي حذف بعض الكلمات من الكتاب وحشر أسم السيد سركون داديشو في متن الكتاب من دون أخذ موافقة المؤلف، لذا أعتقد بأن السيد القيسي وجد في إعادة طبعه ونشره من قبل دار نشر معروفة سبيلاً لتعميم الفائدة للجهد الذي بذله في هذا المجال. هكذا قامت الدار العربية للموسوعات في بيروت (صاحبها العراقي خالد العاني) بطبعه في عام 2004 وتحت عنوان "التاريخ السياسي والعسكري للآثوريين في العراق: 1921 - 1999" وهو الكتاب الذي أعتمد عليه صديقنا خوشابا. ومن الجدير بالذكر أن الكتاب كان قد طبع أيضا من قبل "دار الموسوعات العالمية" في عام 1999 ولكن السيد القيسي يجهل تماماً هذه الطبعة ولم يسمع عن هذا الدار، هذا ما ذكره لي شخصيا. علما بأن جميع هذه الطبعات تشير إلى كونها "الطبعة الأولى". والمأخذ الذي يؤخذ على هذه الطبعة الأخيرة هو عنوان الكتاب. فإذا كان التاريخ السياسي للآثوريين عنواناً مقبولاً لكون قضيتهم القومية سياسية طغت على السطح السياسي العراقي في الثلث الأول من القرن الماضي إلا إنه لم يكن لهم تاريخ عسكري فالإشتباكات المسلحة بين مجموعة من الآشوريين مع بعض من قطاعات الجيش العراقي لا يمكن تدوينها كتاريخ عسكري. والمأخذ الثاني هو أن تمديد هذا التاريخ لغاية 1999 لا معنى له طالما لم يتطرق السيد القيسي إلى أية أحداث تاريخية، خاصة العسكرية منها لهذه الفترة والفترة التي سبقتها غير صفحة أو صفحتين، لهذا لم يكن أي معنى لهذا التاريخ. فصفحة واحدة أو أكثر لا تكفي لتكون مادة تاريخية للكتابة وتؤخذ عنواناً للكتاب. ومن المصادفة أن تكون صفحات كل الطبعات الثلاث للكتاب (332) صفحة رغم إختلاف حجم صفحات الكتب التي تطبع في أميركا ولكن بقت الفصول والعناوين نفسها. فالكتاب موزع على أحد عشر فصلاً مع مقدمة. يستهل الكتاب بفصل في أصل الآشوريين وتاريخهم قبل نشوء دولة العراق ثم يتناول القضية الآشورية في العراق بشكل عام والملابسات التي أحيطت بها ويحلل تحليلاً مفصلاً وعميقاً سياسة النخبة الحاكمة تجاهها وأساليب معالجتها بعد استقصاء وبحث ومناقشة الكتب والمراجع والمذكرات التي كتبت عنها، ولا أريد قراءة كل فصول الكتاب حيث قام وسيقوم الصديق خوشابا بهذه المهمة، ولكن أكتفي ببيان بعض الملاحظات على الكتاب.
مناقشات وسجالات بيني وبين مؤلف الكتاب:
بمجرد ما أن أهدى لي السيد سركون داديشو نسخة من هذا الكتاب، طلب مني بعض الأصدقاء كتابة نقد وتحليل له وفعلاً لبيت طلبهم فكتبت موضوعاً نقدياً للكتاب تحت عنوان "تكرار أخطاء المؤرخين السابقين ضيع إيجابية القيسي في فهم تاريخ الآشوريين" ونشر في جريدة الحياة اللندنية بعددها المؤرخ في 02 شباط 2000 حيث كان موضوعي قد أحتل أكثر من نصف صفحة الجريدة. ثم قام بعض من المجلات والدوريات الآِشورية التي كانت تصدر في الخارج بإعادة نشره تعميماً للفائدة. وفي هذا النقد والتحليل بينت بكل وضوح إيجابية الكتاب والمواضيع التي تطرق إليها السيد القيسي بكل شجاعة وأعتبرته من الأوائل الذين كتبوا بإنصاف وعدل في بيان إستبدادية السلطة في العراق أثناء مذبحة سميل تجاه الآشوريين ولكن من جانب آخر أبرزت سلبيات كثيرة في الكتاب بحيث كان قاصراً في فهم تاريخ الآشوريين وأصلهم وقضيتهم القومية في تلك الفترة واعتماد المؤلف على الكثير من المصادر الرسمية والمعادية للآشوريين وفي عين الوقت عجزه عن الحصول على المصادر الأجنبية أو المحايدة تجاه هذه القضية. ويظهر بأن السيد القيسي قرأ موضوع نقدي وتحليلي للكتاب فكتب رداً على ردي تحت عنوان طويل (رد على نقد أبرام شبيرا لـ "تطور قضية الآشوريين في العراق" – وعنوان رئيسي "لو نظر إلى الكتاب راضيا... لكن عين السخط تبدي المساويا" ونشر في في نفس جريدة الحياة اللندنية بعددها المؤرخ في 01 حزيران 2000 وكان الموضوع طويلاً بحيث أحتل ثلاثة أرباع صفحة الجريدة.
بطبيعة الحال لم يكن السيد القيسي راضياً عن إتهامي له في تقصيره في فهم أصل وتاريخ الآشوريين وقضيتهم في العراق على حقيقتها وتقييم قيادتها إلى درجة أعتقد بأنني جرحت مشاعره وأسيئ فهمه فشرع بتبرير وتعليل كل ما تم إنتقاده ودافع عن بعض من الأفكار التي طرحها حتى وإن تبينت بأنها غير صحيحة، نذكر منها على سبيل المثال موقفه من قوات الليفي الآشورية حيث يقول "... إذا ذهبنا مع الأستاذ الناقد – يقصد أنا – من عدم ضلوع الآشوريين في قمع الثورة العراقية – يقصد ثورة العشرين – في الجنوب فلا يستطيع ولا نستطيع أن ننكر دورهم في إحتلال مدينة بعقوبة ونهبها ..." طبعاً هذه مخالطة كبيرة من المؤلف. فالآشوريون المهجرون من منطقة هيكاري بعد الحرب الكونية الأولى لم يحتلوا بعقوبة بل أسكنوهم في مخيمات للاجئين من قبل القوات البريطانية قرب مدينة بعقوبة وكانت القبائل العربية البدوية في منطقة ديالي هم الذين يغارون على مخيم اللاجئين وينهبون ممتلكاتهم ويهجمون على سكانه ... إلخ". على أية حال موضوع ردي على الكتاب ورد السيد القيسي سيأتي ضمن سياق تقييمي المختصر للكتاب. لكن المهم من كل هذا وذاك فالسيد القيسي يبين مدى سعة صدره ومدى أفقه ورفعة أخلاقه ودماثة طبعه وتقبله للنقد ومعالجة الأخطاء التي وردت في الكتاب، إذ يقول في خاتمة رده على ردي بالقول "وختاماً نتقدم بالإعتذار من الأستاذ شبيرا على ما وجد في كتابنا من سلبيات لم نقصد بها إلى الإساءة والتجريح، ونتقدم منه بالشكر إصالة عنا ونيابة عن الناشرين...". وقد كانت هذه السجالات والمناطحات الفكرية عاملاً مؤثرا في نفسية القيسي الطيبة وخلقت فيه نوع التوق والرغبة لللقاء بي وهذا ما تم فعلاً في نهاية عام 2000 في أبو ظبي والسنوات التي لحقتها... رحمه الله لقد كان إنسان نبيلاً ومحقاً في إحقاق الحق خاصة بالنسبة لأقلية صغير لم يكن في دفاعه عنهم أية مصلحة غير إنصاف عدالة قضية الآشوريين في العراق الذين ظلموا قهراً وبهتاناً وأسيء فهم هذه القضية من قبل الأنظمة المتعاقبة على السلطة في العراق.
تقييم الكتاب:
بغنـى عن محتويات وأفكار واجتهادات أي كتاب عن الآشـوريين، سواء أكان مجحفاً وظالمـاً بحقهم أو منصفا ومساندا لطموحاتهم القومية والوطنيــة المشروعة، فهو يعتبر إضافة جديدة يساهم بشكل أو بأخر في تفعيل الدراسات والبحوث عن الآشوريين ويزيد من فاعلية المسألة الآشورية ومن إثارتها، وبالتالي يؤكد حيويتها، تلك الحيوية التي تحالف الإنسان الباغي مع الزمان القاسي تحالفاً غير مقدساً على طمسها في عالم النسيان، وهو التحالف الذي كان قد تجسدت نتائجه في سياسة حزب البعث الحاكم في العراق في منتصف السبعينات تجاه الآشوريين عندما قام بسحب كافة الكتب التي كانت تتناول تاريخ الآشوريين من المكتبات العامة أو منع طبعها أو نشرها أو حصر تداول البعض منها على نطاق خاص وضيق ولاعتبارات أمنية وحزبية. وكتاب رياض رشيد الحيــدري (وهو كردي الأصل مستعرب) المعنون " الآثوريــون في العراق 1918 - 1933 "، والذي اعتبره القيسي مرجعاً أساسيا أقتبس منه معظم معلوماته عن الآشوريين، هو مثال من بين عشرات الأمثلة على ذلك. فهذا الكتاب الذي كان بالأساس أطروحة ماجستير في التاريخ الحديث ، طبع في القاهرة ومنع تسويقه في العراق وحتى النسخ القليلة التي أتيحت لطلاب الدراسات العليا والباحثين الإطلاع عليها في المكتبة المركزية لجمامعة بغداد ختمت بعبارة "للتداول المحدود" من قبل مديرية رقابة المطبوعات ثم أختفى من المكتبة كغير من الكتب التي كانت تتناول تاريخ الاشوريين ومسألتهم في العراق على أثر سياسة حزب البعث الإستبدادية في حملة "إعادة كتابة التاريخ" في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع مؤلف الكتاب موضوع البحث ، نؤكد التقدير والتثمين له على هذه الإضافة الجديدة لجدول الكتب التي تبحث في تاريخ الآشوريين وفي مسألتهم القومية في العراق. ولكن حتى لا نخون مبادئنا القومية الإنسانية التي تولدت من مخاض مأساة الآشوريين المستديمة ونبقــى أوفياء للحق الآشوري الذي غبــن كثيراً، وحتى نكون أيضا مخلصين للأمانة العلمية والتاريخية يجب أن لا يلغي هذا التثمين والتقدير واجبنا في تدقيق محتويات الكتاب ودراستها دراسة علمية صحيحة وتقييمها وإظهار عيوبها وقصورها ثم محاولة تقويم اعوجاجها. كما يجب أن لا يمحي طموحنا المشروع في قراءة كتاب يضع الحق الآشوري في نصابه الصحيح ويعالج وقائع تاريخ الآشوريين ومسألتهم القومية معالجة علمية سـليمة. وفي سياق هذه المهمة سنحاول وبقدر الإمكان التخلي عن الأسلوب التقليدي الأكاديمي في عرض وتقييم الكتاب شكلا ومضمونا ومتابعة محتوياته خطوة فخطوة وتقييم معلوماته المسهبة، فهذه المسالة يتطلبها مجلدا كاملاً ، لذلك سنكتفي بمعالجته بشكل عام ومن زاويتين : الأولى ، من حيث المراجع المعتمد عليها، والثانية، من حيث بعض المضامين والأفكار والاجتهادات لأحداث مهمة أشار الكاتب إليها في كتابه هذا مختصرين بقدر الإمكان.
أولا : من حيث المراجـــع
معظم مراجع الكتاب هي المراجع العراقية الرسمية ومذكرات وأوراق رجال النخبة العراقية الحاكمة الذين اشتركوا بشكل أو بآخر في تأجيج أحداث المسألة الآشورية والمذبحة التي أعقبتها في سميل عام 1933 أو هي مراجع لكُتاب ساهموا في ترسيخ وتعميم القيم والمفاهيم والسياسات الاستبدادية التي تبنتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على السلطة في العراق في تعاملها مع الآشوريين. والكتاب الأجنبـي الوحيد الذي أعتمه هو كتاب " العراق 1900 - 1950 " لمؤلفه البريطاني ســتيفن لونكـرك الذي عمل في خدمة وزارة الداخلية العراقية أثناء تلك الفترة وهو معروف بمواقفه وتعاطفه مع الحكومة العراقية حينذاك والذي ظل " يحب العراق " كما يدعي، حتى بعد تسريحه من الخدمة والانعكاف لإنجاز كتابه هذا والذي ظهر فيه عدم تأثره بالدماء الآشورية الطاهرة التي أريقت في ســميل مثلما "تأثر" زميلـه البريطاني لونارد ستافورد، وأنبه ضميره لدوره القذر في تعقيــد الأحداث، فاستقال من منصبه كمفتش إداري في لواء الموصل التابع لوزارة الداخلية، أو الأصح صرف من مهمته بعد انتهاءها بانتهاء مذبحة سميل، فعاد الى أهلـه في بريطانيا ليكتب كتابه المعروف " مأساة الآشوريين " والذي تعذر على القيسـي الإطلاع عليه وقراءته رغم توفره لدى بعض الأشخاص والمكتبات الرئيسية.
أما بالنسبة لكتاب رياض رشيد، السالف الذكر، والذي اعتمده السيد القيسي اعتماداً رئيسياً في اقتباسه للمعلومات وأقر له الكثير من الفضل والامتنان لكونه كتاب جامع لتاريخ الآشوريين وملم بجميع أو أغلب ما كتب عنهم، فأنه، على الرغم من إشارة القيسي الى السلبيات الواردة في هذا الكتاب إلا أنه لم يأخذه مأخذ الجد وبالاعتبار المطلوب في فهم تاريخ الآشوريين عندما اقتبس منه معظم معلوماته. ولبيان حجم أعتماد السيد القيسي على هذا الكتاب فأنه ذكره في (70) هامش هذا إضافة إلى إقتباسات وإشارات كثيرة له في متن الكتاب. وحتى نضع أمور هذا " المرجع الأساس"، كما يسميه السيد القيسي، في نصابه الصحيح نود أن نبين بشأنه ما يلي :
أ - الكتاب بالأصل أطروحة جامعية من القاهرة أهل انضمام الكاتب الى حزب البعث الحاكم ميزة الحصول على البعثة الدراسية للكتابة عن هذا الموضوع ونيل الشهادة الأكاديمية عنه فهو، أي الكتاب، "إيفاء والتزام" من الكاتب تجاه فضل حزبه .
ب - زار الحيدري أثناء فترة جمع المعلومات وإعداد أطروحته النادي الثقافي الآشوري في بغداد، مركز استقطاب المثقفين الآشوريين في السبعينيات من القرن الماضي، وحصل على معلومات وبيانات مفيدة لمشروعه العلمي ثم تبين بعد إنجازه بأنه خان الأمانة العلمية وزيف الكثير من الحقائق وأخفى أو أهمل تلك التي كانت تتعارض مع منهجه البعثي في دراسة تاريخ الآشوريين في العراق وتبرير شرعية إستبداد السلطة تجاه المسألة الآشورية.
ج - صحيح أن كتاب الحيدري جامع وملم بكل ما كتب عن الآشوريين "ويكشف عن حقائق لم يجرؤ أحد قبله على كشفها" كما يدعي السيد القيسي، إلا أن لهذه الميزة أسباب : أولهما : الأهمية المخابراتية للموضوع من جهة، وانتماء الكاتب للحزب الحاكم من جهة أخرى، منحتا له ميزة أو تسهيلات للتنقيب والبحث في الوثائق والمستندات والمراسلات المهمة والسرية المتعلقة بالمسألة الآشورية التي تكتظ بها خزائن الدوائر الأمنية في العراق. وثانيهما : كون الكتاب بالأساس أطروحة جامعية تشكل صفتا الشــمول والإلمام من الصفات الأساسية لكل أطروحة جامعية، كما وان الكتاب كان آخر ما كتب عن الآشوريين في العراق ، فاستفاد المؤلف من كل ما سبق وكتب عن هذا الموضوع.
د - كتاب الحيدري ، كما يقول السيد القيسـي، "هو أول كتاب باللغة العربية يكسر طوق الحجر الفكري ويخرج عن الإجماع التاريخي والرسمي والوطني بشأن المسألة الآشورية" غير أنه لم يخرج أيضا عن ، بل التزم التزاماً كاملاً، بأيديولوجية حزب البعث الحاكم في تزييف تاريخ الآشوريين وامحاء أساسهم القومي والتاريخي في العراق والتعامل معهم كطائفة مسيحية بهدف تحقيق سياساته الاستبدادية تجاههم. وهو ما أكده السيد القيسي بنفسه عندما ذكر انجرار الحيدري خلف التفسير الرسمي لحزب البعث وعدم قدرته الخروج منه مما أوقع نفسه في تناقض واضح تجاه استقامة رأيه حول هذا المصدر الذي اعتبره أهم مصادره في تأليف كتابه عن الآشوريين.
هـ - وأخيراً ، قد تجدر الإشارة الى النتائج التي آلت الى الحيدري من وراء كتابه هذا عن الآشوريين. تجاريا، الكتاب منع تسويقه في العراق كما سبق ذكره. أكاديمياً ، لم يؤهله موضوع الكتاب ارتقاء مناصب علمية سوى تدريس مادة "الثقافة القوميــة" في أحدى كليات جامعة بغداد والتي كان الطلاب يسخرون منها ويطلقون عليها "السخافة القومية" لأنها لم تكن أكثر من تطبيل وتزمير لأفكار حزب البعث الحاكم. ولا أدري فيما بعد إذا كانت "حيدريتـه" قد سمحت له في ظل نظام البعث العشائري الاستبدادي ارتقاء مناصب علمية أخرى.
أعترف بأنني أسهبت بعض الشيء في كتاب الحيدري وقصدي من ذلك كان بيان حقائق أخرى عنه طالما أسرف السيد القيسي في اعتماده كمرجع أساسي في دراسته عن القضية الآشورية في العراق. كما قد يأتي إسرافي في التعليق على كتاب الحيدري في هذه المناسبة كرد جزء من الدين المترتب على اعناقي منذ أمد بعيد لكتابة بعض الملاحظات الانتقادية حوله والذي طالما طالبوني بها بعض الأصدقاء والقراء.
ومن الملاحظات الأخرى على المراجع التي اعتمدها السيد القيسي ، هي كون جميعها مصادر معروفة ومنشورة وســبقه الكثير من الكتاب والباحثين اعتمادها وتحليلها ونشرها لذلك لم يأتي أو يذكر مرجع جديد أو بحث أو اعتمد على بعض المراجع القيمة والنزيهة في المسألة الآشورية ولكتاب وباحثين معروفين بالنزاهة والاستقامة العلمية والموضوعية، مثل كتاب الأستاذ عبد الغني الملاح المعنون " تاريخ الحركة الديموقراطية في العراق " في طبعته الأولى ، وليس الثانية التي أخضعها حزب البعث الحاكم الى سياسته الشوفينية في منهجه الخاص بـ "إعادة كتابة التاريخ" وحذف منه صفحات مهمة تشير إلى صلة آشوريي اليوم بالأشوريين القدماء. كما هناك كتب ومراجع علمية وموضوعية عالجت وحللت إستبدادية السلطة في العراق تجاه المسألة الآشورية بكل نزاهة وأخص بالذكر هنا كتاب "جمهورية الخوف" للكاتب والأكاديمي العراقي "سمير الخليل" وأسمه الحقيقي كنعان مكية.
يعترف السيد القيسي بأن ما اعتمده من مصادر ليست بالشاملة والوافية حيث يقول بأنه لم يتسنى له الإطلاع على مراجع مهمة وعديدة صدرت حول الموضوع وباللغتين الآشورية والإنكليزية ولغات أخرى رغم ترجمة العديد منها الى العربية. كما تعذر عليه الإطلاع على أهم المراجع قاطبة بهذا الشأن، وأقصد الوثائق البريطانية، وهو عذرُ أقبح من الفعل نفسه، لان جميع هذه المراجع متوفرة ومتاحة ولا نجد إطلاقا العثور عليها والإطلاع عليها مشقة أو صعوبة تذكر، سيما وأن الكثير منها متوفرة في المكتبات وعند بعض الآشوريين أو غيرهم سواء أكانوا أفراد أو مؤسسات. وعلى الرغم من اعتراف الكاتب إهماله لهذه المراجع المهمة وعدم إطلاعه عليها ، فان هذا بحد ذاته يعتبر مسألة غير مقبولة من الناحية العلمية والمنطقية وإلا لما استوجب تأليف ونشر هذا الكتاب طالما أفتقر الى المراجع المهمة والى الأساس العلمي والموضوعي المطلوب في البحث، خاصة عند البحث عن تاريخ شعب من شعوب المنطقة وعن مسألته السياسية والقومية التي شغلت العراق وطغت على سطحه السياسي في النصف الأول من القرن الماضي. لهذا السبب ستنعكس مشكلة المراجع على مضمون محتويات الكتاب، وهذا ما سيتأكد لنا فيما بعد .
المرجع الآشوري اليتيم الذي اعتمده القيسي في كتابه هو مقالتنا المنشورة في جريدة " الشرق الأوســط" اللندنيــة عدد 5375 في 16/8/1993 والمعنونة بـ "التعامل مع الأقليات في مسار تاريخ العراق السياسي" والتي كتبتها بمناسبة مرور ستين عاماً على مذبحة الآشوريين في سميل. وحتى هذا المرجع البسيط فأنه لم يكن استخدامه موفقاً ومناسباً وإنما يبدو وكأنه حشر حشراً في الكتاب ولم يتسق مع سياق الموضوع. كما وأن اقتباس صفحتين أو أكثر من أي مرجع مسألة غير صحيحة تفقد التوازن العلمي للكتاب، وهي الصفة الطاغية على الكتاب حيث هناك نصوص طويلة من ذكريات رجال الحكم في العراق وبيانات رسمية ومقاطع كتب مقتبسة من المراجع المعتمدة معظمها منشورة في السابق ومعروفة للباحث أو للقارئ في تاريخ العراق السياسي الحديث وبدت كأنها تكرار لما سبق نشره. وإذا كان اعتماد الكاتب على المراجع التي ذكرها ينحصر على اقتباس وقائع تاريخية أو مراسلات رسمية ووثائق وبيانات وأحاديث أو ذكريات لرجال الحكم والسياسة لكان الأمر مقبولاً من الناحية الشكلية، وإن كانت المصداقية العلمية والأمانة التاريخية لأصحاب هذه المراجع مهزوزة أو مفقودة في أحيان كثيرة، إلا إن السيد القيسي تجاوز ذلك كثيراً في اعتماده على هذه المراجع وبلغ به الأمر الى درجة اعتماده اعتماداً كلياً على آراءهم وتفسيراتهم واجتهاداتهم حول الآشوريين وأصلهم ومسألتهم في العراق في بناء تصوراته وأفكاره عنهم، وهي ظاهرة غير علمية وغير سليمة، بل هو أسلوب انتقائي، طالما أقر الكاتب نفسه سلفا موقفه الفكري المعارض من هؤلاء الكتاب. فلا يجوز، كما يقول السيد القيسي، اعتبار عبد الرزاق الحسني فاقداً للحيدة والموضوعية والحس التاريخي والتحليل الصائب أو وصف عبد الرحمن البزاز بالمنساق وراء أوهام العزة والكرامة والمندفع الى تجاهل واقع الحال والقفز فوق الحقائق، كما لا يجوز القول بأن غلبة التفسير التآمري للأحداث على تفكير رياض الحيدري واعتماده التفسير الرسمي لحزب البعث الحاكم في العراق لأحداث التاريخ ومن ثم رجوع القيسي نفسه واعتماد آراء هؤلاء الكتاب واستنساخها في أصل الآشوريين وفي تاريخهم ومسألتهم القومية في العراق واعتبارها مراجع مهمة له في كتابه في الوقت الذي هو نفسه أقر بمواقف هؤلاء المعادية للآشوريين. لهذا السبب لم يستطيع الكاتب الخروج من طوق هذه الآراء طالما كان اعتماده الرئيسي عليها، وهذا ما سيظهر وبكل وضوح في بحث مضمون محتويات الكتاب. وقد يكون من الطرافة أن نذكر عجز السيد القيسي في فهم أصل الآشوريين وقضيتهم من خلال عجزه عن كتابة أسمي عند الإشارة إلى مقالتي أعلاه حيث ذكره عدة مرات بصيغ عديدة ومختلفة.
ثانياً : من حيث المحتوى:
بين اعتماد الكاتب اعتماداً كلياً على المراجع المعادية للآشوريين وإغفاله للمراجع الآشورية والمحايدة أوقع نفسه في تناقض كبير يقوم على الإيجاب والسلب. يتمثل جانب الإيجاب في قدرة الكاتب على تحليل المراجع العراقية والرسمية المعتمدة ومن ثم الوصول الى نتائج موفقة في فهم السلوك السياسي للنخبة الحاكمة تجاه القضية الآشورية. وكان الكاتب منطقيا وموضوعيا في الاجتهادات التي توصل إليها في تفسيره لتعسف وتضليل الحكومة العراقية للمسألة الآشورية وأقترب كثيرا من الحقيقية، لا بل واندمج بها اندماجاً تاماً عندما فهم السياسة العراقية الحقيقية الرامية الى تصعيد الأحداث وتوصيلها الى الحافات الهاوية بهدف ذبح الآشوريين في سميل مسجلاً بذلك بادرة تثلج قلوب الآشوريين المكتويين بنيران الأنظمة الاستبدادية وسياساتها الفاشية تجاه طموحاتهم القومية والوطنية المشروعة، وهي بادرة سيتحسسها القارئ اللبيب ابتداءً من الصفحات الأولى للكتاب، لذلك لا نرى سبباً في الإطناب فيها سوى تأكيد الثناء والتقدير لهذا الموقف الإيجابي.
أما الجانب السلبي لمحتوى الكتاب فيتمثل في إخفاق الكاتب في فهم أصل وتاريخ الآشوريين، لا بل وتجاوز في أحيان كثيرة حدود الإساءة والتجريح لهم ولتاريخهم ولزعامتهم الدينية والقومية، وهي نتيجة منطقية وحتمية توصل إليها الكاتب بسبب اعتماده الكلي على المراجع المعادية للآشوريين وإغفاله المراجع الآشورية والمحايدة وهو الإغفال الذي لا يمكن قبول أعذاره لأنــه يفقد الدراسة موضوعيتها ويحرفها نحو جانب واحد بعد أن تكون قد فقدت أهم جوانبها المتمثل في الحس الآشوري أو رأي الآشوريين في أصلهم وتاريخهم ومضامين مسألتهم القومية في العراق والذي كان يجب أن يشكل الركن أو الأساس الآخر لموضوع الكتاب. فالمنطق يقول لا يمكن دراسة الظواهر من دون معرفتها، لذلك فدراسة السيد القيسي للقضية الآشورية جاءت من خلال معرفته للجانب المعادي لها وليس من خلال صاحب القضية نفسه فبالتالي جاءت كدراسة "عرجاء" لا تستقيم مع المسار الحقيقي للقضية الآشورية كما هي في حقيقتها الموضوعية.
من هذا المنطق نقول لو توفرت للكاتب المراجع الآشورية والمحايدة واطلع عليها لوجد بأن آشوريي اليوم يرتبطون بآشوريي الأمس بجملة صلات وروابط حضارية ولغوية وتراثيـة لا يزال يمارسونها منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا وليسوا مجرد "مجموعة قبائل مسيحية الدين ونسطورية المذهب" كما يدعي الكاتب مقلداً بذلك معظم مفكري ومؤرخي تاريخ العراق الحديث، وهو الادعاء نفسه الذي كان يتبناه حزب البعث الحاكم في العراق في تعامله مع الآشوريين. فمن الظلم والجور والتجاوز على الحقيقية الموضوعية عندما يتم تحجيم تاريخ الآشوريين بتاريخ طائفة واحدة من طوائفـه الدينية المتعددة، فمثله كمثل من يُعرف العرب بطائفة السنة أو الكرد بالطريقة النقشبندية ... وهكذا. فمن المعروف بأن الآشوريين، كغيرهم من الشعوب والأقوام، ينتمون الى طوائف دينية مختلفة والى وحدات عشائرية اجتماعية متعددة. فلو أتيحت للكاتب فرصة الإطلاع على بعض المصادر الآشورية التي أرخت نشؤ الحركة القومية الآشورية، لعرف بأن معظم زعماء هذه الحركة ومفكريها كانوا من طوائف غير الطائفة النسطورية كالطائفة السريانية الأرثوذكسية والطائفة الكلدانية الكاثوليكية. فجميع هؤلاء الزعماء والمفكرين ناضلوا وكتبوا عن الحركة القومية الآشورية وأسسوا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية قرن العشرين مؤسسات قومية لا زال البعض منها قائماً حتى الوقت الحاضر. واليوم ، وبنفس الوعي والإدراك يناضل الكثير من الآشوريين ومن مختلف طوائفهم ويقدمون الشهداء من أجل مواصلة هذه الحركة نحو تحقيق أهدافها القومية والوطنية النبيلة. لو اطلع الكاتب على مرجع آشوري أو محايد يتناول الفترة الحرجة التي خلدت اسم الشهيد مار بنيامين شمعون بطريريك كنيسة المشرق قبل وأثناء الحرب الكونية الأولى لأنصدم من الفرق الشاسع من أن يكون هذا المغدور "رجلاً ضعيف الرأي والإرادة واهن العزم" كما يدعي الكاتب، وبين أن يكون مار بنيامين الشهيد بطلاً من أبطال التاريخ الآشوري قاد شعبه في أصعب وأحلك الظروف وضحى بأخيه وبنفسه من أجل كرامة وعزة شعبه. وقصة هذا البطل الخالد، الذي يعتبر رمزاً قومياً ودينياً عند الآشوريين، ملحمة بطولية نادرة ليس في تاريخ الآشوريين فحسب بل في تاريخ شعوب المنطقة أيضا، يصعب، لا بل يستحيل فهمها، على من لم يطلع على كتاب آشوري أو محايد واحد يتناول تلك المرحلة.
أما المسائل المثار في الكتاب مثل هجرة الآشوريين الى العراق وانضمامهم الى قوات الليفي ودورهم في ضرب الحركة الوطنية وغيرها من المسائل المكررة أيضا من قبل معظم مؤرخي تاريخ العراق الحديث ومفكري النخبات الحاكمة في العراق والتي تنم عن حقد وكراهية تجاه الآشوريين، فأنني كامل اليقين بأنه لو تسنى للكاتب الإطلاع على جزء يسير من الوثائق البريطانية الضخمة التي تناولت هذه المسائل بشكل مفصل ودقيق لكان قد توصل الى قناعات أخرى تخالف مخالفة كبيرة لتلك التي توصل إليها وكان قد أكتشف بأن الآشوريين لم يهاجروا من تركيا الى العراق بل أن القسم الأعظم منهم كان يعيش ولا يزال في المناطق التي أصبحت عراقية بعد رسم الحدود بين العراق وتركيا. وحتى الآشوريون (النساطرة) الذين نزحوا من منطقة هيكاري التي اصبحت ضمن أراضي تركيا بعد رسم الحدود، فانهم لم ينزحوا من تركيا الى دولة العراق التي لم تكن قائمة في تلك الفترة بل أنهم انتقلوا، أو بالأحرى هُجــروا بسبب الحرب، من منطقة الى منطقة أخرى ضمن بلاد كانت تعرف بـ "بلاد ما بين النهريــن"، موطنهم الأصلي، والذي كان خاضعاً للدولة العثمانية قبل تأسيس كيان العراق ثم أصبحوا ضحية للمناورات السياسية الخبيثة وثمناً رخيصاً لتسويات الحدود الغادرة التي تمت بين بريطانيا وتركيا لصالح ضمان حدود كيان العراق الفتي، نتيجة ذلك تحولوا الى " أقلية وافدة " حسب المفهوم العراقي السائد عن الآشوريين، وهو المفهوم الذي لو تم تطبيقه على بقية العراقيين لوجدنا بأن ملك العراق المغفور له فيصل الأول وأبناءه وأهله أقل عراقية من الآشوريين الهيكاريين، وأن قسم كبير من عشائر سكان العراق الجنوبي والشمالي كان قد نزح الى العراق واستقر فيه بعد تأسيس كيانه السياسي، فهل يقبلون هؤلاء أن ننعتهم بشعب وافد الى العراق ؟؟ .
أما مسألة قوات الليفـي " المرتزقة " هي الأخرى مسألة عويصة ومعقدة يفتح التطرق إليها صفحات سلبية ومؤلمة في تاريخ العراق الحديث لا يملك الكثير من المؤرخين العراقيين الشجاعة الأدبية الكافية لمناقشتها مناقشة موضوعية كما هي موثقة ذلك لأنها ستكشف بكل وضوح بأن قوات الليفي العربية والكردية هي التي ساهمت في ضرب ثورة العشرين في العراق وفي قمع تمرد شــيوخ العشائر وأن الآشوريين في تلك الفترة كانوا منهكين مشردين في مخيم بعقوبــة للاجئين لا حولة لهم ولا قوة وأنهم لم ينضموا رسمياً الى هذه القوات إلا بعد تأسيس دولة العراق والجيش العراقي وتسريح قوات الليفي العربية والكردية وانضمامهم الى الجيش الجديد حيث أن الإنكليز، لا بل حتى الحكومة العراقية، كانوا بحاجة شديدة الى قوات متمرسة في حروب الجبال لضمان حدود العراق الشمالية من أطماع تركيا في ولاية الموصل لأن جيش العراق الناشئ لم يكن يملك خبرة قتالية في الجبال العاصية فاستطاع الإنكليز استغلال الآشوريين في تثبيت كيان العراق السياسي واستقرار حدوده على حساب تعاظم مأساتهم ومعاناتهم في العراق. هذه المسائل التي يطول الحديث عنها مفصلة تفصيلاً أكثر إقناعاً في بعض المقالات والبحوث التي نشرتها في بعض الجرائد والمجلات وفي كتابي الأخير المعنون "الآشوريون في السياسة والتاريخ المعاصر " الذي أصدره اتحاد الأندية الآشورية في السويد وقد قمت بأهداء السيد القيسي نسخة منه.
لقد حاولت جلّ جهدي أن اكتفــي بهذا القدر من الملاحظات عن هذا الكتاب ، إلا أن كثرة المخالطات الواردة فيه ولدت لدي حوافز للاستمرار في إبداء ملاحظات أخرى مهمة على المسألة الآشورية. ومن هذه المخالطات التي وقع فيها السيد القيسي في كتابه، موقف الإنكليز المساند لاغا بطرس ولمشروعه السياسي في إقامة كيان آشوري شامل لجميع الطوائف الآشورية في شمال بيت نهرين. فالعكس هو الصحيح، فالإنكليز كانوا يمقتون اغا بطرس مقتاً شديداً ولأسباب مختلفة منها طائفية، لأنه كان كاثوليكياً، ومنها ثقافية ، لأنه كان فرنسي الثقافة والتوجه، ومنها سياسية، لأنه كان عارفاً بحيل وألاعيب الإنكليز تجاه الآشوريين من جهة، وملما بفنون لعبة المساومات السياسية بين الدول العظمى حينذاك خاصة بريطانيا وفرنسا وروسيا من جهة أخرى، وهذا كان يزعج الإنكليز ويزيد قلقهم تجاه ذكاءه وفطنته وتجاه طموحاته القومية. صحيح أن الإنكليز أظهروا في البداية تأييدهم لمشروع اغا بطرس لا لشيء إلا بهدف استغلاله لضرب الحركة الكردية وضمان حدود العراق الشمالية من أطماع تركيا غير أنه بعد قرار مؤتمر القاهرة لعام 1921 والقاضي بتأسيس دولة عربية في العراق ونصب الأمير فيصل بن الشريف حسين على عرشها أنقلب الإنكليز على اغا بطرس لأن مشروعه كان يتناقض مع قرار مؤتمر القاهرة لذلك حاربوه وأفشلوا مشروعه. وإزاء إصرار اغا بطرس على النضال لتحقيق مشروعه دبر الإنكليز قراراً لنفيــه من العراق الى فرنسا، فلم يهرب كما يدعي السيد القيسي في كتابه، وعندما تصاعدت وثائــر الحركة الآشورية في العراق وازدادت حالة التوتر مع الحكومة العراقية ومستشاريها الإنكليز حاول اغا بطرس العودة الى العراق إلا إن القنصلية البريطانية في مدينة بوردو الفرنسية رفضت ذلك ومنعته رغم إصراره على ضرورة العودة إلى العراق والالتحاق بالحركة الآشورية. غير أنه بعد أيام وُجــد ميتاً في أحد شــوارع مدينة تولوز الفرنسية وفي ظروف غامضة ومثيرة للتساؤل وجهت أصابع الاتهــام في حينها إلى الإنكليز وأعوانهم لتقول بأنهم دبروا أمر تسميمه وقتله. هكذا نحن الآشوريون نفهم اغا بطرس كرمز من رموز النضال القومي وبطلاً من أبطال التاريخ الآشوري ومن لا يفهم رموز الآشوريين وأبطالهم لا يمكن إطلاقاً أن يفهم قضيتهم ويدرس تاريخهم بموضوعية نزيهة.
أما بالنسبة لمواضيع مشروع إسكان الآشوريين والتفاصيل المعلقة بالحركة الآشورية وزعماؤهم ومن ثم رفضهم لمشروع الإسكان ، فهي مسائل تتطلب صفحات طويلة لإبداء الملاحظات عليها، إلا أننا نؤكــد بأن ما أورده الكاتب فيه الكثير من المخالطات والتي رددها غيره من المؤرخين العراقيين. ولعل أهم المهمات في هذه الملاحظات الذي أود بيانه هو السبب الذي دفع بزعماء الآشوريين رفض مشروع الإسكان. فمن الحقائق الموثقة في أرشيف عصبة الأمم في جنيف بهذا الشأن والتي تبيــن بأن توصية مجلس العصبة في جلسته الرابع عشرة في 15/10/1932 كانت تقضي بإسكان الآشوريين في وحده اجتماعية متجانسة كأساس للحفاظ على تراثهم وتقاليدهم، غير أن اللجنة الثلاثية التي شكلتها عصبة الأمم بخصوص مشروع الإسكان، وبتأثير من الإنكليز، تبنت قراراً مخالفاً لذلك يقضي بإسكان الآشوريين النازحين من هيكاري في مجموعات أو أقسام مختلفة وبعيدة عن مناطق أخوتهم الآشوريين العراقيين بحجة عدم توفر الأراضي الكافية لهم، مما سبب ذلك امتعاض قادة الآشوريين ورفض هذه الصيغة لقرار توزيعهم على أراضٍ متباعدة والتي تبينت في ما بعد بأنها أراضٍ جدباء ومبؤة بالأمراض المعدية فكان هذا السـبب الرئيسي الذي دفع بزعماء الآشوريين الى رفض مشروع الإسكان بصيغته العراقية - الإنكليزية وليس السبب الذي أورده القيسي في "طبع الآشوريين المشاكس وافتقاد زعمائهم الحس التاريخي في تفسير الأحداث وتغليب التطرف والعناد على العقل والاعتدال". لا بل على العكس من هذا تماماً، فزعماء الآشوريين كانوا يملكون الحس التاريخي والمنطقي في تفسير الأحداث خاصة في تفسير سلوك النخبة الحاكمة ونوايا الإنكليز في التخلص من الآشوريين وفي قمعهم و "تأديبهم" خاصة بعد إستنفاذ حاجتهم الى خدماتهم العسكرية. فلو تسنى للسيد القيسي أن يطلع على الكتب التي كتبها هؤلاء الزعماء أمثال مار شمعون إيشاي وماليك ياقو ماليك اسماعيل والمفكر يوسف ماليك التلكيفي لأدرك بأن نظرتهم لمجريات الأمور كانت صحيحة وأن مخاوفهم كانت مشــروعة، تلك المخاوف الناشئة من ترك الإنكليز سلطة البلاد بيد نخبة سياسية متعطشة للسلطة همها الوحيد مواصلة تلك السياسة الاستبدادية التي بدأتها عندما كانت في خدمة الجيش العثماني، تلك المخاوف التي كانت تؤكد بأن الكارثة لا محال واقعة بالشعب الآشوري، سواء أكانت الكارثة على الفريق المؤيد للحكومة العراقية ومشروعها الإسكاني أم كانت على الفريق الرافض، والتي تحققت فعلاً عندما أزهقت أرواح أكثر من ثلاثة آلاف آشــوري في سـميل عام 1933 من دون أي تمييـز بين هذا الفريق أو ذاك. وهنا يجب أن نسجل تقديرنا وتثميننا العظيمين للسيد القيسي في تأكيده لهذا العدد من الضحايا أثناء مذبحة سميل لأنه كان شاهد عيان في تلك الفترة وفي الوقت الذي تشير الوثائق الرسمية العراقية إلى ثلاثمائة ضحية فقط ووثائق أخرى تشير إلى أقل من هذا العدد. ومن المشاهد المأساوية لهذا الحادث ذكر لي السيد القيسي شخصياً في أحدى لقاءاتنا وكشاهد عيان بأنه أحضر بعض الجنود العراقيين شخصين أشوريين كانا يعملان في مهنة الفلاحة في الموصل إلى حجي رمضان مساعد بكر صدقي وقيل له بأنهما جاسوسان للإنكليز فما كان من حجي رمضان إلا أن سحب مسدسه وأطلق النار عليهما فقتلهما في الوقت الذي كان يقف خلفه أثنان من المستشاريين الإنكليز اللذان كانا يعملان في خدمة الحكومة العراقية في الموصل.
وقصة المنكوب كوريال يونان ، الذي خدم الحكومة العراقية فترة طويلة وكان من أشد أنصارها وأكثرهم حماساً لمشروعها الإسكاني، قصة مأساوية معروفة تدمــى لها القلوب حيث وجد مذبوحاً في داره مع ابنه الوحيد وليم والجنسية العراقية معلقة في رقبته وملطخة بدماءه الزكية وعلم العراق يرفرف فوق سطح داره لبيان مدى وطنيته كما ذبح معه مجموعة تزيد عن الثمانين شخصاً من الآشوريين المؤيدين للحكومة بين نساء وأطفال ورجال دين لجأوا الى داره طلباً للحماية. هذه القصة هي نموذج من نماذج كثيرة كان زعماء الآشوريين يتخوفون منها قبل وقوعها، غير أن النخبة السياسية الحاكمة ومفكريها عجزوا عن فهمهما وتقديرها.
وأخيراً ، بقى أن نقول بأن الأستاذ القيسي اجتهد في كتابه وأظهر في جوانب منه موقفه الشجاع غير أنه أيضا أخطأً في اجتهاده في فهم تاريخ الآشوريين وقضيتهم القومية. فهذه الحقيقة النبيلة التي أقرها الكاتب نفسه في مقدمة الكتاب هي التي منحتني أجر الاجتهاد الصادق في ملاحظاتي هذه. وضمن هذا الاجتهاد اختم الحديث بالقول بأن الكاتب وفق كثيراً في أن يكون وكيل الاتهام للحكومة العراقية والجيش العراقي بخصوص دورهما في تصعيد الأحداث وارتكاب مذبحة ســميل بحق الآشوريين الأبرياء، ولكن مع الأسف الشديد فشل في أن يكون محامي الدفاع عن القضية الآشورية، كما حاول البعض وصفه، ومرد فشله يعود الى عدم إطلاعه على أوراق القضية وعدم سماعه لأقوال أصحاب القضية والاكتفاء في دفاعه عن الآشوريين على أوراق الخصم وأقواله وأفكاره، وهو منطق غير مقبول إطلاقاً لأننا متأكدين تأكيداً قاطعاً بأنه لا يتم من خلاله إحقاق الحق الآشوري الذي غبن كثيراً وان تتحقق العدالة وسيادة القانون وإشاعة الحرية والديمقراطية والتي ننشدها جميعاً لوطننا الحبيب وهي الأهداف التي كرس الأستاذ عبد المجيد القيسي حياته من أجلها وما هذا الكتاب إلا تأكيداً على ذلك... رحمه الله فذاكرته ستبقى مع بقاء هذا الكتاب القيم.
أبرم شبيرا
توطئة: كتاب وذكريات
قرأت موضوع الأخ والصديق المهندس خوشابا سولاقا عن كتاب "التاريخ السياسي والعسكري للآثوريين في العراق" للأستاذ عبد المجيد حسيب القيسي الذي نشر في موقعنا العزيز عنكاوه. وأول تأثيراته كانت أنه فتح خزانة عقلي عن ذكريات تزيد عن أربعين عاماً حينما كنًا معاً في المراحل الأولية الرومانسية من الفكر والعمل السياسي نجاهد جهاداً مضنياً من أجل الحصول على كتاب أو مقالة عن الآشوريين ومن ثم تداوله سرياً بيننا ومع مجموعة من أصدقاء تلك المرحلة مؤمنين بأن المطالعة والعلم والثقافة وإغتراف المعارف في تاريخنا القومي هو السبيل الأمثل لإمتلاك وعي قومي صحيح يبنى عليه آمال لبناء تنظيم سياسي يكون أداة لتحقيق طموحاتنا القومية. وبطبيعة الحال وبسبب الظروف الإستبدادية والكبت الفكري في تلك الفترة كان مثل هذه الكتب والمقالات نادرة الوجود والتداول، لا بل كان إمتلاكها وتعميم نشرها نوع من المخاطرة وقد تسبب لمتداوليها التعرض لإستبداد السلطة ولعواقبها الوخيمة. كان أشهر كتب تلك المرحلة "الآشوريون في التاريخ" جمعه إيشو ماليك خليل جوارو وترجمه وأشرف عليه سليم واكيم وطبع في بيروت عام 1962، والثاني "تاريخ الآثوريين" – الجزء الأول، ترجمه من الروسية أسامة نعمان وطبع في مطبعة الجاحظ في بغداد عام 1970، وهي ترجمة محرفة وغير دقيقة لكتاب "المسألة الآشورية أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى 1914- 1933" للبرفسور الآشوري بار متي ماتييف لا بل تعتبر الترجمة قرصنة فكرية لأن المترجم لم يحصل موافقة المؤلف كما ذكر ذلك لي شخصياً. المهم، بمجرد أن أنتهيت من قراءة موضوع صديقي خوشابا حتى هرعت إلى مكتبتي الصغيرة وأجد الكتابين المذكورين راكنان في الرفوف العالية وقد أصفرت وتيبست أطراف بعض من أوراقهما وتكسرت ولكن الأمر الذي حزً في صدري هو أن أجد في الصفحة الأخيرة من كتاب "الآشوريون في التاريخ" كلمة شكر وإمتنان مني ومن بقية الأصدقاء مؤرخة بتاريخ 7/8/1969 إلى المرحوم إيشعيا هرمز يونان الذي فارق الحياة قبل سنتين أو أكثر لكونه هو الذي عثر على هذا الكتاب وعممه علينا ولا أتذكر فيما اذا كان هذا التاريخ الذي أقر في السنة اللاحقة كيوم للشهيد الآشوري مصادفة أم مقصود. وهذه مناسبة أن نترحم على روح شاعرنا الكبير دنخا إيشا الذي كان يلهمنا في تلك الفترة بأشعاره ويزيدنا همة وصلابة ونحن سائرين على الطريق الصعب المليء بالمخاطر. وعلى العموم وكما يقال: على الحياة أن تستمر... وهكذا أجد اليوم في صديقي خوشابا إستمراراً لهذه الحياة ولهذه العادة في "النبش" في الكتب والبحوث وعلى نفس مسار أربعة عقود وأكثر من الزمن في البحث والدراسة وإغتراف المعارف في كل ما يتعلق بأمتنا. وأرجو المعذرة من القراء الأعزاء في الإطالة في هذه التوطئة وظهورها كأنها مسألة أو ذكريات شخصية ولكن في الحقيقة ليست هكذا فحسب بل تمثل جانب من بداية مسيرة شباب على منوال طويل من الوعي القومي والسياسي التقدمي قائم على الإستقامة والتواصل والنزاهة والإخلاص ونكران الذات من أجل هذه الأمة رغم الظروف الإستبدادية الصعبة التي كانت تحيط بهم ورغم سياسة "الجزرة والعصى" التي كان يمارسها النظام البعثي الإستبدادي ولكن كل هذا وذاك لم تقوى هذه السياسة الإستبدادية على لوي أذرع هؤلاء الشباب فأستمروا المسيرة وهم يحملون سلاحاً قوياً تمثل في نقاء ضميرهم الحي وتوجهاتهم النزيهة تجاه هذه الأمة، وهذا كنز لا يفنى حتى بفناء الحياة.
من هو مؤلف الكتاب ؟:
مؤلف الكتاب هو الإستاذ عبد المجيد حسيب القيسي، عراقي عمل كمستشار قانوني في الدوائر العسكرية والمدنية في العهد الملكي والجمهوري في العراق وبعد إشتداد الكبت الفكر والقهر السياسي في نهاية الستينيات من القرن الماضي لم تتحمل سعة أفكاره وحبه للحرية والدفاع عن الحق والعدالة إلا أن يترك العراق ويجد في أبو ظبي – الإمارات العربية المتحدة موطناً له للإستقرار وقضاء بقية حياته وعائلته في هذا البلد المضياف حيث عمل كغيره من العراقيين المبدعين في تأسيس وإدارة النظام الفيدرالي في هذه الدولة. لقد كانت فرصة إستثنائية أن ازوره في بيته في أبو ظبي أنا والدكتور سعدي المالح في أواخر عام 2000 وأن نقضي ساعات طويلة معه في نقاشات مفيدة عن كتابه بشكل خاص وعن الآشوريين ومسألتهم في العراق بشكل عام وكان إهتمامه الكبير ظاهراً عليه بشكل واضح حيث أكد لنا بأنه آخر مرة ألتقى بالآشوريين كان أثناء أحداث سميل عام 1933. ثم في السنوات اللاحقة قمت بزيارته أكثر من مرة وتهاتفنا العديد من المرات في المستجدات المتعلقة بالآشوريين في العراق وقد كانت السنين الطويلة المتعبة من العمل الجاد والدفاع عن الحق والعدالة بادية عليه وأهرمته حتى زارته المنية فتوفي في عام 2006. لقد كان رحمة الله إنساناً طيباً رؤوفاً واسع الصدر ومنشرح الفكر في تقبل أي نقد موجه إلى أفكاره أو كتابه موضوع البحث لهذا السبب كان يسعده جداً اللقاء بي والدخول في مناقشات معه. وأود هنا أن أوضح بأن السيد القيسي ليس بباحث أو أكاديمي أو مؤرخ بل شاهد عيان لأحداث حاسمة وخطيرة مرة على العراق ومنها حادثة مذبحة سميل حيث عايش كموظف بسيط في الدولة أثناء المذبحة والمأساة التي رافقتها والإرهاصات التي أعقبتها على المستوى العراقي وبضمير حي وبعدالة وإحقاق حق الآشوريين في تلك الفترة، وما هذا الكتاب إلا نموذج لتلك المعايشة.
كيف صدر الكتاب؟:
خلال عمل الكاتب في خدمة دولة العراق وإهتمامه بالأحداث التاريخية وتدوينها ومن ثم إصداره بعض الكتب بهذا الشأن تكونت لديه أفكار وآراء حول الآشوريين ومسألتهم في العراق وجمع عنهم معلومات كانت من الكفاية لتأليف كتاب خاص بهم. وبعد إكماله أتصل بصديقه السيد سعد صالح جبر الذي كان رئيساً للمجلس العراقي الحر في لندن والمعارض لنظام البعث العراقي يسأله عن إمكانية مساعدته في طبع الكتاب ونشره، فأتصل هذا الأخير بالسيد سركون داديشو رئيس "المجلس القومي الآشوري" الذي كان له معرفة به عارضاً عليه الفكرة فكانت نتيجتها طبع الكتاب وصدوره من قبل المؤتمر القومي الآشوري في عام 1996 وتحت عنوان "هوامش على تاريخ العراق السياسي الحديث في رؤيـة جديدة - تاريخ القضية الآثـورية ". وفي أحدى لقاءاتي مع السيد القيسي بينً عدم رضاءه عن طبع ونشر الكتاب بالطريقة التي طبع ونشر بها حيث أولاً: لم يتم تزويده غير بثلاثة نسخ من الكتاب في الوقت الذي كان يطلب بحدود ثلاثين نسخة فقط لتوزيعها على أصدقاءه. وثانيا، وجد القيسي حذف بعض الكلمات من الكتاب وحشر أسم السيد سركون داديشو في متن الكتاب من دون أخذ موافقة المؤلف، لذا أعتقد بأن السيد القيسي وجد في إعادة طبعه ونشره من قبل دار نشر معروفة سبيلاً لتعميم الفائدة للجهد الذي بذله في هذا المجال. هكذا قامت الدار العربية للموسوعات في بيروت (صاحبها العراقي خالد العاني) بطبعه في عام 2004 وتحت عنوان "التاريخ السياسي والعسكري للآثوريين في العراق: 1921 - 1999" وهو الكتاب الذي أعتمد عليه صديقنا خوشابا. ومن الجدير بالذكر أن الكتاب كان قد طبع أيضا من قبل "دار الموسوعات العالمية" في عام 1999 ولكن السيد القيسي يجهل تماماً هذه الطبعة ولم يسمع عن هذا الدار، هذا ما ذكره لي شخصيا. علما بأن جميع هذه الطبعات تشير إلى كونها "الطبعة الأولى". والمأخذ الذي يؤخذ على هذه الطبعة الأخيرة هو عنوان الكتاب. فإذا كان التاريخ السياسي للآثوريين عنواناً مقبولاً لكون قضيتهم القومية سياسية طغت على السطح السياسي العراقي في الثلث الأول من القرن الماضي إلا إنه لم يكن لهم تاريخ عسكري فالإشتباكات المسلحة بين مجموعة من الآشوريين مع بعض من قطاعات الجيش العراقي لا يمكن تدوينها كتاريخ عسكري. والمأخذ الثاني هو أن تمديد هذا التاريخ لغاية 1999 لا معنى له طالما لم يتطرق السيد القيسي إلى أية أحداث تاريخية، خاصة العسكرية منها لهذه الفترة والفترة التي سبقتها غير صفحة أو صفحتين، لهذا لم يكن أي معنى لهذا التاريخ. فصفحة واحدة أو أكثر لا تكفي لتكون مادة تاريخية للكتابة وتؤخذ عنواناً للكتاب. ومن المصادفة أن تكون صفحات كل الطبعات الثلاث للكتاب (332) صفحة رغم إختلاف حجم صفحات الكتب التي تطبع في أميركا ولكن بقت الفصول والعناوين نفسها. فالكتاب موزع على أحد عشر فصلاً مع مقدمة. يستهل الكتاب بفصل في أصل الآشوريين وتاريخهم قبل نشوء دولة العراق ثم يتناول القضية الآشورية في العراق بشكل عام والملابسات التي أحيطت بها ويحلل تحليلاً مفصلاً وعميقاً سياسة النخبة الحاكمة تجاهها وأساليب معالجتها بعد استقصاء وبحث ومناقشة الكتب والمراجع والمذكرات التي كتبت عنها، ولا أريد قراءة كل فصول الكتاب حيث قام وسيقوم الصديق خوشابا بهذه المهمة، ولكن أكتفي ببيان بعض الملاحظات على الكتاب.
مناقشات وسجالات بيني وبين مؤلف الكتاب:
بمجرد ما أن أهدى لي السيد سركون داديشو نسخة من هذا الكتاب، طلب مني بعض الأصدقاء كتابة نقد وتحليل له وفعلاً لبيت طلبهم فكتبت موضوعاً نقدياً للكتاب تحت عنوان "تكرار أخطاء المؤرخين السابقين ضيع إيجابية القيسي في فهم تاريخ الآشوريين" ونشر في جريدة الحياة اللندنية بعددها المؤرخ في 02 شباط 2000 حيث كان موضوعي قد أحتل أكثر من نصف صفحة الجريدة. ثم قام بعض من المجلات والدوريات الآِشورية التي كانت تصدر في الخارج بإعادة نشره تعميماً للفائدة. وفي هذا النقد والتحليل بينت بكل وضوح إيجابية الكتاب والمواضيع التي تطرق إليها السيد القيسي بكل شجاعة وأعتبرته من الأوائل الذين كتبوا بإنصاف وعدل في بيان إستبدادية السلطة في العراق أثناء مذبحة سميل تجاه الآشوريين ولكن من جانب آخر أبرزت سلبيات كثيرة في الكتاب بحيث كان قاصراً في فهم تاريخ الآشوريين وأصلهم وقضيتهم القومية في تلك الفترة واعتماد المؤلف على الكثير من المصادر الرسمية والمعادية للآشوريين وفي عين الوقت عجزه عن الحصول على المصادر الأجنبية أو المحايدة تجاه هذه القضية. ويظهر بأن السيد القيسي قرأ موضوع نقدي وتحليلي للكتاب فكتب رداً على ردي تحت عنوان طويل (رد على نقد أبرام شبيرا لـ "تطور قضية الآشوريين في العراق" – وعنوان رئيسي "لو نظر إلى الكتاب راضيا... لكن عين السخط تبدي المساويا" ونشر في في نفس جريدة الحياة اللندنية بعددها المؤرخ في 01 حزيران 2000 وكان الموضوع طويلاً بحيث أحتل ثلاثة أرباع صفحة الجريدة.
بطبيعة الحال لم يكن السيد القيسي راضياً عن إتهامي له في تقصيره في فهم أصل وتاريخ الآشوريين وقضيتهم في العراق على حقيقتها وتقييم قيادتها إلى درجة أعتقد بأنني جرحت مشاعره وأسيئ فهمه فشرع بتبرير وتعليل كل ما تم إنتقاده ودافع عن بعض من الأفكار التي طرحها حتى وإن تبينت بأنها غير صحيحة، نذكر منها على سبيل المثال موقفه من قوات الليفي الآشورية حيث يقول "... إذا ذهبنا مع الأستاذ الناقد – يقصد أنا – من عدم ضلوع الآشوريين في قمع الثورة العراقية – يقصد ثورة العشرين – في الجنوب فلا يستطيع ولا نستطيع أن ننكر دورهم في إحتلال مدينة بعقوبة ونهبها ..." طبعاً هذه مخالطة كبيرة من المؤلف. فالآشوريون المهجرون من منطقة هيكاري بعد الحرب الكونية الأولى لم يحتلوا بعقوبة بل أسكنوهم في مخيمات للاجئين من قبل القوات البريطانية قرب مدينة بعقوبة وكانت القبائل العربية البدوية في منطقة ديالي هم الذين يغارون على مخيم اللاجئين وينهبون ممتلكاتهم ويهجمون على سكانه ... إلخ". على أية حال موضوع ردي على الكتاب ورد السيد القيسي سيأتي ضمن سياق تقييمي المختصر للكتاب. لكن المهم من كل هذا وذاك فالسيد القيسي يبين مدى سعة صدره ومدى أفقه ورفعة أخلاقه ودماثة طبعه وتقبله للنقد ومعالجة الأخطاء التي وردت في الكتاب، إذ يقول في خاتمة رده على ردي بالقول "وختاماً نتقدم بالإعتذار من الأستاذ شبيرا على ما وجد في كتابنا من سلبيات لم نقصد بها إلى الإساءة والتجريح، ونتقدم منه بالشكر إصالة عنا ونيابة عن الناشرين...". وقد كانت هذه السجالات والمناطحات الفكرية عاملاً مؤثرا في نفسية القيسي الطيبة وخلقت فيه نوع التوق والرغبة لللقاء بي وهذا ما تم فعلاً في نهاية عام 2000 في أبو ظبي والسنوات التي لحقتها... رحمه الله لقد كان إنسان نبيلاً ومحقاً في إحقاق الحق خاصة بالنسبة لأقلية صغير لم يكن في دفاعه عنهم أية مصلحة غير إنصاف عدالة قضية الآشوريين في العراق الذين ظلموا قهراً وبهتاناً وأسيء فهم هذه القضية من قبل الأنظمة المتعاقبة على السلطة في العراق.
تقييم الكتاب:
بغنـى عن محتويات وأفكار واجتهادات أي كتاب عن الآشـوريين، سواء أكان مجحفاً وظالمـاً بحقهم أو منصفا ومساندا لطموحاتهم القومية والوطنيــة المشروعة، فهو يعتبر إضافة جديدة يساهم بشكل أو بأخر في تفعيل الدراسات والبحوث عن الآشوريين ويزيد من فاعلية المسألة الآشورية ومن إثارتها، وبالتالي يؤكد حيويتها، تلك الحيوية التي تحالف الإنسان الباغي مع الزمان القاسي تحالفاً غير مقدساً على طمسها في عالم النسيان، وهو التحالف الذي كان قد تجسدت نتائجه في سياسة حزب البعث الحاكم في العراق في منتصف السبعينات تجاه الآشوريين عندما قام بسحب كافة الكتب التي كانت تتناول تاريخ الآشوريين من المكتبات العامة أو منع طبعها أو نشرها أو حصر تداول البعض منها على نطاق خاص وضيق ولاعتبارات أمنية وحزبية. وكتاب رياض رشيد الحيــدري (وهو كردي الأصل مستعرب) المعنون " الآثوريــون في العراق 1918 - 1933 "، والذي اعتبره القيسي مرجعاً أساسيا أقتبس منه معظم معلوماته عن الآشوريين، هو مثال من بين عشرات الأمثلة على ذلك. فهذا الكتاب الذي كان بالأساس أطروحة ماجستير في التاريخ الحديث ، طبع في القاهرة ومنع تسويقه في العراق وحتى النسخ القليلة التي أتيحت لطلاب الدراسات العليا والباحثين الإطلاع عليها في المكتبة المركزية لجمامعة بغداد ختمت بعبارة "للتداول المحدود" من قبل مديرية رقابة المطبوعات ثم أختفى من المكتبة كغير من الكتب التي كانت تتناول تاريخ الاشوريين ومسألتهم في العراق على أثر سياسة حزب البعث الإستبدادية في حملة "إعادة كتابة التاريخ" في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع مؤلف الكتاب موضوع البحث ، نؤكد التقدير والتثمين له على هذه الإضافة الجديدة لجدول الكتب التي تبحث في تاريخ الآشوريين وفي مسألتهم القومية في العراق. ولكن حتى لا نخون مبادئنا القومية الإنسانية التي تولدت من مخاض مأساة الآشوريين المستديمة ونبقــى أوفياء للحق الآشوري الذي غبــن كثيراً، وحتى نكون أيضا مخلصين للأمانة العلمية والتاريخية يجب أن لا يلغي هذا التثمين والتقدير واجبنا في تدقيق محتويات الكتاب ودراستها دراسة علمية صحيحة وتقييمها وإظهار عيوبها وقصورها ثم محاولة تقويم اعوجاجها. كما يجب أن لا يمحي طموحنا المشروع في قراءة كتاب يضع الحق الآشوري في نصابه الصحيح ويعالج وقائع تاريخ الآشوريين ومسألتهم القومية معالجة علمية سـليمة. وفي سياق هذه المهمة سنحاول وبقدر الإمكان التخلي عن الأسلوب التقليدي الأكاديمي في عرض وتقييم الكتاب شكلا ومضمونا ومتابعة محتوياته خطوة فخطوة وتقييم معلوماته المسهبة، فهذه المسالة يتطلبها مجلدا كاملاً ، لذلك سنكتفي بمعالجته بشكل عام ومن زاويتين : الأولى ، من حيث المراجع المعتمد عليها، والثانية، من حيث بعض المضامين والأفكار والاجتهادات لأحداث مهمة أشار الكاتب إليها في كتابه هذا مختصرين بقدر الإمكان.
أولا : من حيث المراجـــع
معظم مراجع الكتاب هي المراجع العراقية الرسمية ومذكرات وأوراق رجال النخبة العراقية الحاكمة الذين اشتركوا بشكل أو بآخر في تأجيج أحداث المسألة الآشورية والمذبحة التي أعقبتها في سميل عام 1933 أو هي مراجع لكُتاب ساهموا في ترسيخ وتعميم القيم والمفاهيم والسياسات الاستبدادية التي تبنتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على السلطة في العراق في تعاملها مع الآشوريين. والكتاب الأجنبـي الوحيد الذي أعتمه هو كتاب " العراق 1900 - 1950 " لمؤلفه البريطاني ســتيفن لونكـرك الذي عمل في خدمة وزارة الداخلية العراقية أثناء تلك الفترة وهو معروف بمواقفه وتعاطفه مع الحكومة العراقية حينذاك والذي ظل " يحب العراق " كما يدعي، حتى بعد تسريحه من الخدمة والانعكاف لإنجاز كتابه هذا والذي ظهر فيه عدم تأثره بالدماء الآشورية الطاهرة التي أريقت في ســميل مثلما "تأثر" زميلـه البريطاني لونارد ستافورد، وأنبه ضميره لدوره القذر في تعقيــد الأحداث، فاستقال من منصبه كمفتش إداري في لواء الموصل التابع لوزارة الداخلية، أو الأصح صرف من مهمته بعد انتهاءها بانتهاء مذبحة سميل، فعاد الى أهلـه في بريطانيا ليكتب كتابه المعروف " مأساة الآشوريين " والذي تعذر على القيسـي الإطلاع عليه وقراءته رغم توفره لدى بعض الأشخاص والمكتبات الرئيسية.
أما بالنسبة لكتاب رياض رشيد، السالف الذكر، والذي اعتمده السيد القيسي اعتماداً رئيسياً في اقتباسه للمعلومات وأقر له الكثير من الفضل والامتنان لكونه كتاب جامع لتاريخ الآشوريين وملم بجميع أو أغلب ما كتب عنهم، فأنه، على الرغم من إشارة القيسي الى السلبيات الواردة في هذا الكتاب إلا أنه لم يأخذه مأخذ الجد وبالاعتبار المطلوب في فهم تاريخ الآشوريين عندما اقتبس منه معظم معلوماته. ولبيان حجم أعتماد السيد القيسي على هذا الكتاب فأنه ذكره في (70) هامش هذا إضافة إلى إقتباسات وإشارات كثيرة له في متن الكتاب. وحتى نضع أمور هذا " المرجع الأساس"، كما يسميه السيد القيسي، في نصابه الصحيح نود أن نبين بشأنه ما يلي :
أ - الكتاب بالأصل أطروحة جامعية من القاهرة أهل انضمام الكاتب الى حزب البعث الحاكم ميزة الحصول على البعثة الدراسية للكتابة عن هذا الموضوع ونيل الشهادة الأكاديمية عنه فهو، أي الكتاب، "إيفاء والتزام" من الكاتب تجاه فضل حزبه .
ب - زار الحيدري أثناء فترة جمع المعلومات وإعداد أطروحته النادي الثقافي الآشوري في بغداد، مركز استقطاب المثقفين الآشوريين في السبعينيات من القرن الماضي، وحصل على معلومات وبيانات مفيدة لمشروعه العلمي ثم تبين بعد إنجازه بأنه خان الأمانة العلمية وزيف الكثير من الحقائق وأخفى أو أهمل تلك التي كانت تتعارض مع منهجه البعثي في دراسة تاريخ الآشوريين في العراق وتبرير شرعية إستبداد السلطة تجاه المسألة الآشورية.
ج - صحيح أن كتاب الحيدري جامع وملم بكل ما كتب عن الآشوريين "ويكشف عن حقائق لم يجرؤ أحد قبله على كشفها" كما يدعي السيد القيسي، إلا أن لهذه الميزة أسباب : أولهما : الأهمية المخابراتية للموضوع من جهة، وانتماء الكاتب للحزب الحاكم من جهة أخرى، منحتا له ميزة أو تسهيلات للتنقيب والبحث في الوثائق والمستندات والمراسلات المهمة والسرية المتعلقة بالمسألة الآشورية التي تكتظ بها خزائن الدوائر الأمنية في العراق. وثانيهما : كون الكتاب بالأساس أطروحة جامعية تشكل صفتا الشــمول والإلمام من الصفات الأساسية لكل أطروحة جامعية، كما وان الكتاب كان آخر ما كتب عن الآشوريين في العراق ، فاستفاد المؤلف من كل ما سبق وكتب عن هذا الموضوع.
د - كتاب الحيدري ، كما يقول السيد القيسـي، "هو أول كتاب باللغة العربية يكسر طوق الحجر الفكري ويخرج عن الإجماع التاريخي والرسمي والوطني بشأن المسألة الآشورية" غير أنه لم يخرج أيضا عن ، بل التزم التزاماً كاملاً، بأيديولوجية حزب البعث الحاكم في تزييف تاريخ الآشوريين وامحاء أساسهم القومي والتاريخي في العراق والتعامل معهم كطائفة مسيحية بهدف تحقيق سياساته الاستبدادية تجاههم. وهو ما أكده السيد القيسي بنفسه عندما ذكر انجرار الحيدري خلف التفسير الرسمي لحزب البعث وعدم قدرته الخروج منه مما أوقع نفسه في تناقض واضح تجاه استقامة رأيه حول هذا المصدر الذي اعتبره أهم مصادره في تأليف كتابه عن الآشوريين.
هـ - وأخيراً ، قد تجدر الإشارة الى النتائج التي آلت الى الحيدري من وراء كتابه هذا عن الآشوريين. تجاريا، الكتاب منع تسويقه في العراق كما سبق ذكره. أكاديمياً ، لم يؤهله موضوع الكتاب ارتقاء مناصب علمية سوى تدريس مادة "الثقافة القوميــة" في أحدى كليات جامعة بغداد والتي كان الطلاب يسخرون منها ويطلقون عليها "السخافة القومية" لأنها لم تكن أكثر من تطبيل وتزمير لأفكار حزب البعث الحاكم. ولا أدري فيما بعد إذا كانت "حيدريتـه" قد سمحت له في ظل نظام البعث العشائري الاستبدادي ارتقاء مناصب علمية أخرى.
أعترف بأنني أسهبت بعض الشيء في كتاب الحيدري وقصدي من ذلك كان بيان حقائق أخرى عنه طالما أسرف السيد القيسي في اعتماده كمرجع أساسي في دراسته عن القضية الآشورية في العراق. كما قد يأتي إسرافي في التعليق على كتاب الحيدري في هذه المناسبة كرد جزء من الدين المترتب على اعناقي منذ أمد بعيد لكتابة بعض الملاحظات الانتقادية حوله والذي طالما طالبوني بها بعض الأصدقاء والقراء.
ومن الملاحظات الأخرى على المراجع التي اعتمدها السيد القيسي ، هي كون جميعها مصادر معروفة ومنشورة وســبقه الكثير من الكتاب والباحثين اعتمادها وتحليلها ونشرها لذلك لم يأتي أو يذكر مرجع جديد أو بحث أو اعتمد على بعض المراجع القيمة والنزيهة في المسألة الآشورية ولكتاب وباحثين معروفين بالنزاهة والاستقامة العلمية والموضوعية، مثل كتاب الأستاذ عبد الغني الملاح المعنون " تاريخ الحركة الديموقراطية في العراق " في طبعته الأولى ، وليس الثانية التي أخضعها حزب البعث الحاكم الى سياسته الشوفينية في منهجه الخاص بـ "إعادة كتابة التاريخ" وحذف منه صفحات مهمة تشير إلى صلة آشوريي اليوم بالأشوريين القدماء. كما هناك كتب ومراجع علمية وموضوعية عالجت وحللت إستبدادية السلطة في العراق تجاه المسألة الآشورية بكل نزاهة وأخص بالذكر هنا كتاب "جمهورية الخوف" للكاتب والأكاديمي العراقي "سمير الخليل" وأسمه الحقيقي كنعان مكية.
يعترف السيد القيسي بأن ما اعتمده من مصادر ليست بالشاملة والوافية حيث يقول بأنه لم يتسنى له الإطلاع على مراجع مهمة وعديدة صدرت حول الموضوع وباللغتين الآشورية والإنكليزية ولغات أخرى رغم ترجمة العديد منها الى العربية. كما تعذر عليه الإطلاع على أهم المراجع قاطبة بهذا الشأن، وأقصد الوثائق البريطانية، وهو عذرُ أقبح من الفعل نفسه، لان جميع هذه المراجع متوفرة ومتاحة ولا نجد إطلاقا العثور عليها والإطلاع عليها مشقة أو صعوبة تذكر، سيما وأن الكثير منها متوفرة في المكتبات وعند بعض الآشوريين أو غيرهم سواء أكانوا أفراد أو مؤسسات. وعلى الرغم من اعتراف الكاتب إهماله لهذه المراجع المهمة وعدم إطلاعه عليها ، فان هذا بحد ذاته يعتبر مسألة غير مقبولة من الناحية العلمية والمنطقية وإلا لما استوجب تأليف ونشر هذا الكتاب طالما أفتقر الى المراجع المهمة والى الأساس العلمي والموضوعي المطلوب في البحث، خاصة عند البحث عن تاريخ شعب من شعوب المنطقة وعن مسألته السياسية والقومية التي شغلت العراق وطغت على سطحه السياسي في النصف الأول من القرن الماضي. لهذا السبب ستنعكس مشكلة المراجع على مضمون محتويات الكتاب، وهذا ما سيتأكد لنا فيما بعد .
المرجع الآشوري اليتيم الذي اعتمده القيسي في كتابه هو مقالتنا المنشورة في جريدة " الشرق الأوســط" اللندنيــة عدد 5375 في 16/8/1993 والمعنونة بـ "التعامل مع الأقليات في مسار تاريخ العراق السياسي" والتي كتبتها بمناسبة مرور ستين عاماً على مذبحة الآشوريين في سميل. وحتى هذا المرجع البسيط فأنه لم يكن استخدامه موفقاً ومناسباً وإنما يبدو وكأنه حشر حشراً في الكتاب ولم يتسق مع سياق الموضوع. كما وأن اقتباس صفحتين أو أكثر من أي مرجع مسألة غير صحيحة تفقد التوازن العلمي للكتاب، وهي الصفة الطاغية على الكتاب حيث هناك نصوص طويلة من ذكريات رجال الحكم في العراق وبيانات رسمية ومقاطع كتب مقتبسة من المراجع المعتمدة معظمها منشورة في السابق ومعروفة للباحث أو للقارئ في تاريخ العراق السياسي الحديث وبدت كأنها تكرار لما سبق نشره. وإذا كان اعتماد الكاتب على المراجع التي ذكرها ينحصر على اقتباس وقائع تاريخية أو مراسلات رسمية ووثائق وبيانات وأحاديث أو ذكريات لرجال الحكم والسياسة لكان الأمر مقبولاً من الناحية الشكلية، وإن كانت المصداقية العلمية والأمانة التاريخية لأصحاب هذه المراجع مهزوزة أو مفقودة في أحيان كثيرة، إلا إن السيد القيسي تجاوز ذلك كثيراً في اعتماده على هذه المراجع وبلغ به الأمر الى درجة اعتماده اعتماداً كلياً على آراءهم وتفسيراتهم واجتهاداتهم حول الآشوريين وأصلهم ومسألتهم في العراق في بناء تصوراته وأفكاره عنهم، وهي ظاهرة غير علمية وغير سليمة، بل هو أسلوب انتقائي، طالما أقر الكاتب نفسه سلفا موقفه الفكري المعارض من هؤلاء الكتاب. فلا يجوز، كما يقول السيد القيسي، اعتبار عبد الرزاق الحسني فاقداً للحيدة والموضوعية والحس التاريخي والتحليل الصائب أو وصف عبد الرحمن البزاز بالمنساق وراء أوهام العزة والكرامة والمندفع الى تجاهل واقع الحال والقفز فوق الحقائق، كما لا يجوز القول بأن غلبة التفسير التآمري للأحداث على تفكير رياض الحيدري واعتماده التفسير الرسمي لحزب البعث الحاكم في العراق لأحداث التاريخ ومن ثم رجوع القيسي نفسه واعتماد آراء هؤلاء الكتاب واستنساخها في أصل الآشوريين وفي تاريخهم ومسألتهم القومية في العراق واعتبارها مراجع مهمة له في كتابه في الوقت الذي هو نفسه أقر بمواقف هؤلاء المعادية للآشوريين. لهذا السبب لم يستطيع الكاتب الخروج من طوق هذه الآراء طالما كان اعتماده الرئيسي عليها، وهذا ما سيظهر وبكل وضوح في بحث مضمون محتويات الكتاب. وقد يكون من الطرافة أن نذكر عجز السيد القيسي في فهم أصل الآشوريين وقضيتهم من خلال عجزه عن كتابة أسمي عند الإشارة إلى مقالتي أعلاه حيث ذكره عدة مرات بصيغ عديدة ومختلفة.
ثانياً : من حيث المحتوى:
بين اعتماد الكاتب اعتماداً كلياً على المراجع المعادية للآشوريين وإغفاله للمراجع الآشورية والمحايدة أوقع نفسه في تناقض كبير يقوم على الإيجاب والسلب. يتمثل جانب الإيجاب في قدرة الكاتب على تحليل المراجع العراقية والرسمية المعتمدة ومن ثم الوصول الى نتائج موفقة في فهم السلوك السياسي للنخبة الحاكمة تجاه القضية الآشورية. وكان الكاتب منطقيا وموضوعيا في الاجتهادات التي توصل إليها في تفسيره لتعسف وتضليل الحكومة العراقية للمسألة الآشورية وأقترب كثيرا من الحقيقية، لا بل واندمج بها اندماجاً تاماً عندما فهم السياسة العراقية الحقيقية الرامية الى تصعيد الأحداث وتوصيلها الى الحافات الهاوية بهدف ذبح الآشوريين في سميل مسجلاً بذلك بادرة تثلج قلوب الآشوريين المكتويين بنيران الأنظمة الاستبدادية وسياساتها الفاشية تجاه طموحاتهم القومية والوطنية المشروعة، وهي بادرة سيتحسسها القارئ اللبيب ابتداءً من الصفحات الأولى للكتاب، لذلك لا نرى سبباً في الإطناب فيها سوى تأكيد الثناء والتقدير لهذا الموقف الإيجابي.
أما الجانب السلبي لمحتوى الكتاب فيتمثل في إخفاق الكاتب في فهم أصل وتاريخ الآشوريين، لا بل وتجاوز في أحيان كثيرة حدود الإساءة والتجريح لهم ولتاريخهم ولزعامتهم الدينية والقومية، وهي نتيجة منطقية وحتمية توصل إليها الكاتب بسبب اعتماده الكلي على المراجع المعادية للآشوريين وإغفاله المراجع الآشورية والمحايدة وهو الإغفال الذي لا يمكن قبول أعذاره لأنــه يفقد الدراسة موضوعيتها ويحرفها نحو جانب واحد بعد أن تكون قد فقدت أهم جوانبها المتمثل في الحس الآشوري أو رأي الآشوريين في أصلهم وتاريخهم ومضامين مسألتهم القومية في العراق والذي كان يجب أن يشكل الركن أو الأساس الآخر لموضوع الكتاب. فالمنطق يقول لا يمكن دراسة الظواهر من دون معرفتها، لذلك فدراسة السيد القيسي للقضية الآشورية جاءت من خلال معرفته للجانب المعادي لها وليس من خلال صاحب القضية نفسه فبالتالي جاءت كدراسة "عرجاء" لا تستقيم مع المسار الحقيقي للقضية الآشورية كما هي في حقيقتها الموضوعية.
من هذا المنطق نقول لو توفرت للكاتب المراجع الآشورية والمحايدة واطلع عليها لوجد بأن آشوريي اليوم يرتبطون بآشوريي الأمس بجملة صلات وروابط حضارية ولغوية وتراثيـة لا يزال يمارسونها منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا وليسوا مجرد "مجموعة قبائل مسيحية الدين ونسطورية المذهب" كما يدعي الكاتب مقلداً بذلك معظم مفكري ومؤرخي تاريخ العراق الحديث، وهو الادعاء نفسه الذي كان يتبناه حزب البعث الحاكم في العراق في تعامله مع الآشوريين. فمن الظلم والجور والتجاوز على الحقيقية الموضوعية عندما يتم تحجيم تاريخ الآشوريين بتاريخ طائفة واحدة من طوائفـه الدينية المتعددة، فمثله كمثل من يُعرف العرب بطائفة السنة أو الكرد بالطريقة النقشبندية ... وهكذا. فمن المعروف بأن الآشوريين، كغيرهم من الشعوب والأقوام، ينتمون الى طوائف دينية مختلفة والى وحدات عشائرية اجتماعية متعددة. فلو أتيحت للكاتب فرصة الإطلاع على بعض المصادر الآشورية التي أرخت نشؤ الحركة القومية الآشورية، لعرف بأن معظم زعماء هذه الحركة ومفكريها كانوا من طوائف غير الطائفة النسطورية كالطائفة السريانية الأرثوذكسية والطائفة الكلدانية الكاثوليكية. فجميع هؤلاء الزعماء والمفكرين ناضلوا وكتبوا عن الحركة القومية الآشورية وأسسوا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية قرن العشرين مؤسسات قومية لا زال البعض منها قائماً حتى الوقت الحاضر. واليوم ، وبنفس الوعي والإدراك يناضل الكثير من الآشوريين ومن مختلف طوائفهم ويقدمون الشهداء من أجل مواصلة هذه الحركة نحو تحقيق أهدافها القومية والوطنية النبيلة. لو اطلع الكاتب على مرجع آشوري أو محايد يتناول الفترة الحرجة التي خلدت اسم الشهيد مار بنيامين شمعون بطريريك كنيسة المشرق قبل وأثناء الحرب الكونية الأولى لأنصدم من الفرق الشاسع من أن يكون هذا المغدور "رجلاً ضعيف الرأي والإرادة واهن العزم" كما يدعي الكاتب، وبين أن يكون مار بنيامين الشهيد بطلاً من أبطال التاريخ الآشوري قاد شعبه في أصعب وأحلك الظروف وضحى بأخيه وبنفسه من أجل كرامة وعزة شعبه. وقصة هذا البطل الخالد، الذي يعتبر رمزاً قومياً ودينياً عند الآشوريين، ملحمة بطولية نادرة ليس في تاريخ الآشوريين فحسب بل في تاريخ شعوب المنطقة أيضا، يصعب، لا بل يستحيل فهمها، على من لم يطلع على كتاب آشوري أو محايد واحد يتناول تلك المرحلة.
أما المسائل المثار في الكتاب مثل هجرة الآشوريين الى العراق وانضمامهم الى قوات الليفي ودورهم في ضرب الحركة الوطنية وغيرها من المسائل المكررة أيضا من قبل معظم مؤرخي تاريخ العراق الحديث ومفكري النخبات الحاكمة في العراق والتي تنم عن حقد وكراهية تجاه الآشوريين، فأنني كامل اليقين بأنه لو تسنى للكاتب الإطلاع على جزء يسير من الوثائق البريطانية الضخمة التي تناولت هذه المسائل بشكل مفصل ودقيق لكان قد توصل الى قناعات أخرى تخالف مخالفة كبيرة لتلك التي توصل إليها وكان قد أكتشف بأن الآشوريين لم يهاجروا من تركيا الى العراق بل أن القسم الأعظم منهم كان يعيش ولا يزال في المناطق التي أصبحت عراقية بعد رسم الحدود بين العراق وتركيا. وحتى الآشوريون (النساطرة) الذين نزحوا من منطقة هيكاري التي اصبحت ضمن أراضي تركيا بعد رسم الحدود، فانهم لم ينزحوا من تركيا الى دولة العراق التي لم تكن قائمة في تلك الفترة بل أنهم انتقلوا، أو بالأحرى هُجــروا بسبب الحرب، من منطقة الى منطقة أخرى ضمن بلاد كانت تعرف بـ "بلاد ما بين النهريــن"، موطنهم الأصلي، والذي كان خاضعاً للدولة العثمانية قبل تأسيس كيان العراق ثم أصبحوا ضحية للمناورات السياسية الخبيثة وثمناً رخيصاً لتسويات الحدود الغادرة التي تمت بين بريطانيا وتركيا لصالح ضمان حدود كيان العراق الفتي، نتيجة ذلك تحولوا الى " أقلية وافدة " حسب المفهوم العراقي السائد عن الآشوريين، وهو المفهوم الذي لو تم تطبيقه على بقية العراقيين لوجدنا بأن ملك العراق المغفور له فيصل الأول وأبناءه وأهله أقل عراقية من الآشوريين الهيكاريين، وأن قسم كبير من عشائر سكان العراق الجنوبي والشمالي كان قد نزح الى العراق واستقر فيه بعد تأسيس كيانه السياسي، فهل يقبلون هؤلاء أن ننعتهم بشعب وافد الى العراق ؟؟ .
أما مسألة قوات الليفـي " المرتزقة " هي الأخرى مسألة عويصة ومعقدة يفتح التطرق إليها صفحات سلبية ومؤلمة في تاريخ العراق الحديث لا يملك الكثير من المؤرخين العراقيين الشجاعة الأدبية الكافية لمناقشتها مناقشة موضوعية كما هي موثقة ذلك لأنها ستكشف بكل وضوح بأن قوات الليفي العربية والكردية هي التي ساهمت في ضرب ثورة العشرين في العراق وفي قمع تمرد شــيوخ العشائر وأن الآشوريين في تلك الفترة كانوا منهكين مشردين في مخيم بعقوبــة للاجئين لا حولة لهم ولا قوة وأنهم لم ينضموا رسمياً الى هذه القوات إلا بعد تأسيس دولة العراق والجيش العراقي وتسريح قوات الليفي العربية والكردية وانضمامهم الى الجيش الجديد حيث أن الإنكليز، لا بل حتى الحكومة العراقية، كانوا بحاجة شديدة الى قوات متمرسة في حروب الجبال لضمان حدود العراق الشمالية من أطماع تركيا في ولاية الموصل لأن جيش العراق الناشئ لم يكن يملك خبرة قتالية في الجبال العاصية فاستطاع الإنكليز استغلال الآشوريين في تثبيت كيان العراق السياسي واستقرار حدوده على حساب تعاظم مأساتهم ومعاناتهم في العراق. هذه المسائل التي يطول الحديث عنها مفصلة تفصيلاً أكثر إقناعاً في بعض المقالات والبحوث التي نشرتها في بعض الجرائد والمجلات وفي كتابي الأخير المعنون "الآشوريون في السياسة والتاريخ المعاصر " الذي أصدره اتحاد الأندية الآشورية في السويد وقد قمت بأهداء السيد القيسي نسخة منه.
لقد حاولت جلّ جهدي أن اكتفــي بهذا القدر من الملاحظات عن هذا الكتاب ، إلا أن كثرة المخالطات الواردة فيه ولدت لدي حوافز للاستمرار في إبداء ملاحظات أخرى مهمة على المسألة الآشورية. ومن هذه المخالطات التي وقع فيها السيد القيسي في كتابه، موقف الإنكليز المساند لاغا بطرس ولمشروعه السياسي في إقامة كيان آشوري شامل لجميع الطوائف الآشورية في شمال بيت نهرين. فالعكس هو الصحيح، فالإنكليز كانوا يمقتون اغا بطرس مقتاً شديداً ولأسباب مختلفة منها طائفية، لأنه كان كاثوليكياً، ومنها ثقافية ، لأنه كان فرنسي الثقافة والتوجه، ومنها سياسية، لأنه كان عارفاً بحيل وألاعيب الإنكليز تجاه الآشوريين من جهة، وملما بفنون لعبة المساومات السياسية بين الدول العظمى حينذاك خاصة بريطانيا وفرنسا وروسيا من جهة أخرى، وهذا كان يزعج الإنكليز ويزيد قلقهم تجاه ذكاءه وفطنته وتجاه طموحاته القومية. صحيح أن الإنكليز أظهروا في البداية تأييدهم لمشروع اغا بطرس لا لشيء إلا بهدف استغلاله لضرب الحركة الكردية وضمان حدود العراق الشمالية من أطماع تركيا غير أنه بعد قرار مؤتمر القاهرة لعام 1921 والقاضي بتأسيس دولة عربية في العراق ونصب الأمير فيصل بن الشريف حسين على عرشها أنقلب الإنكليز على اغا بطرس لأن مشروعه كان يتناقض مع قرار مؤتمر القاهرة لذلك حاربوه وأفشلوا مشروعه. وإزاء إصرار اغا بطرس على النضال لتحقيق مشروعه دبر الإنكليز قراراً لنفيــه من العراق الى فرنسا، فلم يهرب كما يدعي السيد القيسي في كتابه، وعندما تصاعدت وثائــر الحركة الآشورية في العراق وازدادت حالة التوتر مع الحكومة العراقية ومستشاريها الإنكليز حاول اغا بطرس العودة الى العراق إلا إن القنصلية البريطانية في مدينة بوردو الفرنسية رفضت ذلك ومنعته رغم إصراره على ضرورة العودة إلى العراق والالتحاق بالحركة الآشورية. غير أنه بعد أيام وُجــد ميتاً في أحد شــوارع مدينة تولوز الفرنسية وفي ظروف غامضة ومثيرة للتساؤل وجهت أصابع الاتهــام في حينها إلى الإنكليز وأعوانهم لتقول بأنهم دبروا أمر تسميمه وقتله. هكذا نحن الآشوريون نفهم اغا بطرس كرمز من رموز النضال القومي وبطلاً من أبطال التاريخ الآشوري ومن لا يفهم رموز الآشوريين وأبطالهم لا يمكن إطلاقاً أن يفهم قضيتهم ويدرس تاريخهم بموضوعية نزيهة.
أما بالنسبة لمواضيع مشروع إسكان الآشوريين والتفاصيل المعلقة بالحركة الآشورية وزعماؤهم ومن ثم رفضهم لمشروع الإسكان ، فهي مسائل تتطلب صفحات طويلة لإبداء الملاحظات عليها، إلا أننا نؤكــد بأن ما أورده الكاتب فيه الكثير من المخالطات والتي رددها غيره من المؤرخين العراقيين. ولعل أهم المهمات في هذه الملاحظات الذي أود بيانه هو السبب الذي دفع بزعماء الآشوريين رفض مشروع الإسكان. فمن الحقائق الموثقة في أرشيف عصبة الأمم في جنيف بهذا الشأن والتي تبيــن بأن توصية مجلس العصبة في جلسته الرابع عشرة في 15/10/1932 كانت تقضي بإسكان الآشوريين في وحده اجتماعية متجانسة كأساس للحفاظ على تراثهم وتقاليدهم، غير أن اللجنة الثلاثية التي شكلتها عصبة الأمم بخصوص مشروع الإسكان، وبتأثير من الإنكليز، تبنت قراراً مخالفاً لذلك يقضي بإسكان الآشوريين النازحين من هيكاري في مجموعات أو أقسام مختلفة وبعيدة عن مناطق أخوتهم الآشوريين العراقيين بحجة عدم توفر الأراضي الكافية لهم، مما سبب ذلك امتعاض قادة الآشوريين ورفض هذه الصيغة لقرار توزيعهم على أراضٍ متباعدة والتي تبينت في ما بعد بأنها أراضٍ جدباء ومبؤة بالأمراض المعدية فكان هذا السـبب الرئيسي الذي دفع بزعماء الآشوريين الى رفض مشروع الإسكان بصيغته العراقية - الإنكليزية وليس السبب الذي أورده القيسي في "طبع الآشوريين المشاكس وافتقاد زعمائهم الحس التاريخي في تفسير الأحداث وتغليب التطرف والعناد على العقل والاعتدال". لا بل على العكس من هذا تماماً، فزعماء الآشوريين كانوا يملكون الحس التاريخي والمنطقي في تفسير الأحداث خاصة في تفسير سلوك النخبة الحاكمة ونوايا الإنكليز في التخلص من الآشوريين وفي قمعهم و "تأديبهم" خاصة بعد إستنفاذ حاجتهم الى خدماتهم العسكرية. فلو تسنى للسيد القيسي أن يطلع على الكتب التي كتبها هؤلاء الزعماء أمثال مار شمعون إيشاي وماليك ياقو ماليك اسماعيل والمفكر يوسف ماليك التلكيفي لأدرك بأن نظرتهم لمجريات الأمور كانت صحيحة وأن مخاوفهم كانت مشــروعة، تلك المخاوف الناشئة من ترك الإنكليز سلطة البلاد بيد نخبة سياسية متعطشة للسلطة همها الوحيد مواصلة تلك السياسة الاستبدادية التي بدأتها عندما كانت في خدمة الجيش العثماني، تلك المخاوف التي كانت تؤكد بأن الكارثة لا محال واقعة بالشعب الآشوري، سواء أكانت الكارثة على الفريق المؤيد للحكومة العراقية ومشروعها الإسكاني أم كانت على الفريق الرافض، والتي تحققت فعلاً عندما أزهقت أرواح أكثر من ثلاثة آلاف آشــوري في سـميل عام 1933 من دون أي تمييـز بين هذا الفريق أو ذاك. وهنا يجب أن نسجل تقديرنا وتثميننا العظيمين للسيد القيسي في تأكيده لهذا العدد من الضحايا أثناء مذبحة سميل لأنه كان شاهد عيان في تلك الفترة وفي الوقت الذي تشير الوثائق الرسمية العراقية إلى ثلاثمائة ضحية فقط ووثائق أخرى تشير إلى أقل من هذا العدد. ومن المشاهد المأساوية لهذا الحادث ذكر لي السيد القيسي شخصياً في أحدى لقاءاتنا وكشاهد عيان بأنه أحضر بعض الجنود العراقيين شخصين أشوريين كانا يعملان في مهنة الفلاحة في الموصل إلى حجي رمضان مساعد بكر صدقي وقيل له بأنهما جاسوسان للإنكليز فما كان من حجي رمضان إلا أن سحب مسدسه وأطلق النار عليهما فقتلهما في الوقت الذي كان يقف خلفه أثنان من المستشاريين الإنكليز اللذان كانا يعملان في خدمة الحكومة العراقية في الموصل.
وقصة المنكوب كوريال يونان ، الذي خدم الحكومة العراقية فترة طويلة وكان من أشد أنصارها وأكثرهم حماساً لمشروعها الإسكاني، قصة مأساوية معروفة تدمــى لها القلوب حيث وجد مذبوحاً في داره مع ابنه الوحيد وليم والجنسية العراقية معلقة في رقبته وملطخة بدماءه الزكية وعلم العراق يرفرف فوق سطح داره لبيان مدى وطنيته كما ذبح معه مجموعة تزيد عن الثمانين شخصاً من الآشوريين المؤيدين للحكومة بين نساء وأطفال ورجال دين لجأوا الى داره طلباً للحماية. هذه القصة هي نموذج من نماذج كثيرة كان زعماء الآشوريين يتخوفون منها قبل وقوعها، غير أن النخبة السياسية الحاكمة ومفكريها عجزوا عن فهمهما وتقديرها.
وأخيراً ، بقى أن نقول بأن الأستاذ القيسي اجتهد في كتابه وأظهر في جوانب منه موقفه الشجاع غير أنه أيضا أخطأً في اجتهاده في فهم تاريخ الآشوريين وقضيتهم القومية. فهذه الحقيقة النبيلة التي أقرها الكاتب نفسه في مقدمة الكتاب هي التي منحتني أجر الاجتهاد الصادق في ملاحظاتي هذه. وضمن هذا الاجتهاد اختم الحديث بالقول بأن الكاتب وفق كثيراً في أن يكون وكيل الاتهام للحكومة العراقية والجيش العراقي بخصوص دورهما في تصعيد الأحداث وارتكاب مذبحة ســميل بحق الآشوريين الأبرياء، ولكن مع الأسف الشديد فشل في أن يكون محامي الدفاع عن القضية الآشورية، كما حاول البعض وصفه، ومرد فشله يعود الى عدم إطلاعه على أوراق القضية وعدم سماعه لأقوال أصحاب القضية والاكتفاء في دفاعه عن الآشوريين على أوراق الخصم وأقواله وأفكاره، وهو منطق غير مقبول إطلاقاً لأننا متأكدين تأكيداً قاطعاً بأنه لا يتم من خلاله إحقاق الحق الآشوري الذي غبن كثيراً وان تتحقق العدالة وسيادة القانون وإشاعة الحرية والديمقراطية والتي ننشدها جميعاً لوطننا الحبيب وهي الأهداف التي كرس الأستاذ عبد المجيد القيسي حياته من أجلها وما هذا الكتاب إلا تأكيداً على ذلك... رحمه الله فذاكرته ستبقى مع بقاء هذا الكتاب القيم.