- الأحد نوفمبر 10, 2013 11:36 am
#65015
تحول السياسي إلى نجم شعبي ليس أمرا ً مستحدثا ً، المستحدث هو أن السياسيين بعدما ارتبط بقائهم في السلطة بالإرادة الشعبية، أصبحوا في هذا العصر بحاجة إلى تسويق ذواتهم وبرامجهم السياسية، وهو أمر لا أفهمه أبدا ً، وخاصة في الدول التي تكلف الحملات الانتخابية فيها ملايين الدولارات !! ما الذي يبحث عنه السياسي في مثل هذه الدول؟ السلطة ! ولكنها مقيدة تماما ً، المجد؟ ولكن المطلوب منه كثير جدا ً، ومشاكل البلاد غزيرة بحيث تمسح إخفاقاته في جانب، نجاحاته في جانب آخر، ما الذي يبحث عنه السياسيون بالضبط؟ لا أدري ولكن أظن أن جزء ً من الدوافع مرتبط برغبة الإنسان في التحدي والتفوق على المصاعب، الأمر لدى البعض لا يرتبط بالغاية وإنما مرتبط بالطريق إليها، وهؤلاء يأفل نجمهم حالما يصلون إلى الغاية، لقد انتهى الطريق، هذا ما لم يجدوا لهم طرقا ً أخرى يمضون فيها.وهذا الكتاب الذي ألفه (حسين بسلي) و(عمر أوزباي) هو عن أحد هؤلاء السياسيين النجوم، ورغم أن بعض السياسيين تتم صناعة نجوميتهم بحذق إعلامي مميز، إلا أن من يقرأ سيرة أردوغان يعرف أنه نجم غير مصنوع.لا أحب عادة ً البدء بذكر عيوب كتاب، ليس قبل أن أذكر محاسنه على الأقل، ولكني أريد أن أقول أن هذا الكتاب ليس أفضل ما يمكن أن تقرأه عن سيرة أردوغان، لأن الكتاب أولا ً يخوض في تفاصيل كثيرة قد لا تهم القارئ غير التركي، وثانيا ً لأن الكتاب يتناول حياة أردوغان حتى استلامه السلطة، فلذا يبدو الكتاب لنا نحن الذين لم نعرف إلا أردوغان الرئيس ناقصا ً، لأنه يحدثنا عن أردوغان الشاب، والعمدة، والسياسي المكافح، ولكن لا شيء عن أردوغان الرئيس، وهو أمر طبيعي لأن الكتاب صدر في بداية تولي أردوغان للسلطة، ويهدف إلى التعريف به، وقد كتبه معجبان بأردوغان، تنضح سطورهما بهذا الإعجاب، وهذا هو العيب الثالث.ما عدا هذا، الكتاب يتناول بدايات أردوغان ابن حي قاسم باشا، وهو أحد الأحياء الفقيرة في اسطنبول، ذلكم الشاب الطويل، الذي يجيد لعب كرة القدم، بل كادت تذهب به أحلامه إلى ذلكم الاتجاه، ولولا رفض والده، لكنا عرفنا أردوغان لاعبا ً في (فنار بخشه) بدلا ً منه سياسيا ً.تربية أردوغان والبيئة التي انحدر منها دينية، فهو قد تخرج من مدرسة (الأئمة والخطباء)، فلذا عندما بدأ حياته السياسية بدأها تحت جناح الإسلاميين الأتراك، وأبوهم الروحي (نجم الدين أربكان)، حيث انضم إلى حزب السلامة الوطني، قبل أن حضر الحزب في انقلاب 1980 م.من يعرف القليل عن تاريخ تركيا السياسي الحديث، يعرف هذا الكر والفر بين الإسلاميين والعلمانيين، أو لنقل بين الإسلاميين والجيش التركي حامي العلمانية في تركيا، وعلمانية تركيا غريبة جدا ً، فهي ليست علمانية تخرج الدين من الدولة، وإنما هي علمانية تحاول إخراج الدين من الناس أيضا ً، وهو أمر يبدو عبثيا ً، وقد أثبتت التجارب هذا.على أي حال، واجه أربكان والإسلاميون الأتراك هذه الحرب الشرسة، ينشئون حزبا ً، وحالما يبدأ في تحقيق انتصارات، ويحصد الأصوات، ينقلب عليه العسكر ويتم حضره، حدث هذا مع الحزب التالي، وهو الحزب الأشهر تقريبا ً في تاريخ الإسلاميين الأتراك، حزب الرفاه، عاش هذا الحزب أطول مما عاشت الأحزاب الأخرى، بل إن أربكان وصل عن طريق هذا الحزب إلى سدة الحكم، ولكن الانقلاب جزء سريعا ً، وأجبر الرجل على التنحي.حل حزب الرفاه كان له تداعيات كبيرة على الساحة الإسلامية في تركيا، ولكن لنؤجل الحديث عن هذا قليلا ً، ولنركز على النجم الصاعد في حزب الرفاه أردوغان، عمدة اسطنبول، حيث قام الرجل من خلال منصبه الخدمي هذا بإحداث نقلة حقيقية في المدينة العتيقة، كانت اسطنبول عندما تولى عمادتها أردوغان، مدينة مهملة، يقبع تحت جوها الملوث، وأكوام نفاياتها، وزحامها، وشواطئها الميتة، تاريخ زاهر لعاصمة العثمانيين والبيزنطيين قبلهم، كانت المدينة مع النمو السكاني في القرن العشرين، وسوء التخطيط قد تحولت إلى كابوس لسكانها، فلذا كانت أهداف أردوغان واضحة عندما تولى المنصب، تنظيف المدينة وإعادة تأهيلها لتكون لائقة، وهذا هو ما صنع مستقبل أردوغان السياسي، لقد أثبت أردوغان أنه رجل عمل، لا رجل شعارات، وهو سياسي ذكي جدا ً، يعرف أنه لا يمكنه أن يفرض ذاته على الناس، ولكن أعماله يمكنها أن تفرضه عليهم، وقد ظهر هذا بشكل واضح في قضية دخوله السجن.ففي عام 1998 م، والسياسيون القلقون من النجم اللامع في صفوف الرفاه، يتحينون أي فرصة للإيقاع به، قام أردوغان بجولة سياسية ألقى فيها أبياتا ً للشاعر التركي (ضياء غوك آلب) يقول فيها:قبابنا خوذاتنامآذننا حرابناوالمصلون جنودناهذا الجيش المقدس يحرس ديننالقد فعلها أردوغان، لقد ارتكب محظورا ً سياسيا ً في تركيا العلمانية، هذه الأبيات الأربعة كانت كافية لينتزع أردوغان من منصبه، وليزج به في سجن (بينار حصار) لأربعة أشهر.ولكن كان هذا كان خطئا ً سياسيا ً كبيرا ً، لأنه منح أردوغان دفعة كبيرة جدا ً، من يشاهد الفيلم الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية عن أردوغان، يشاهد عدد الناس الذين جاءوا ليودعوا أردوغان على بوابة السجن، جماهير حاصرت الحافلة التي أخذته إلى هناك، وألقى فيهم أردوغان كلمة مؤثرة، ثم دخل السجن، ولكن دخوله للسجن لم يكن كل شيء، لأننا نتعرف أولا على (حسن يشيلداغ)، صديق أردوغان الذي قام بإصدار شيك من دون رصيد متعمدا ً ليسجن مع أردوغان، حيث كانت هناك شكوك أن أردوغان سيتعرض لمحاولة اغتيال في السجن، وكان يشيلداغ يرغب في أن يكون إلى جانبه لحمايته، ربما تكون أيام أردوغان في السجن من أعجب فصول الكتاب، لأننا نتعرف فيها على رجل يعيش ولا يعيش في السجن، يأتيه زوار لا يكادون ينقطعون، وترده آلاف الرسائل فيتفرغ للرد عليها، إن سجن أردوغان أبرز شعبيته بين الناس، وخرج منه أقوى مما كان.ويبدو أن أردوغان أدرك هذا جيدا ً، فلذا عندما تم حل حزب الرفاه، حصل الانقسام في الحركة الإسلامية التركية، وهو فعل محرج جدا ً لأردوغان ومن معه، فهذا الفعل يبدو وكأنه رفض لمعلمهم وأستاذهم أربكان، الذي أسس حزبا ً جديدا ً باسم حزب (الفضيلة)، ولكن أردوغان وعبدالله غول مع مجموعة أخرى أسسوا حزبا ً آخر باسم حزب (العدالة والتنمية)، وهو الحزب الذي نعرفه الآن جيدا ً بعدما تولى رئيسه أردوغان رئاسة الوزراء، وعبدالله غول رئاسة الدولة.يختتم الكتاب بخاتمة جميلة، حيث نرى أردوغان المنتصر بالانتخابات والذي يتهيأ ليصبح رئيسا ً لتركيا، يطلب من الجميع تركه قليلا ً مستبقيا ً (مصطفى غوندوغان)، وهو الرجل الذي قال له في آخر يوم له في السجن "الحمد لله، لقد انتهى الأمر، وستستمر في طريقك وكأن شيئا ً لم يحدث، وإن شاء الله سوف تكون ذات يوم رئيس وزراء لهذه الدولة، لكننا آنذاك لن نكون بجانبك"، فرد عليه أردوغان "اسمع مني هذه الكلمات يا مصطفى، إذا قدر لي أن أكون رئيس وزراء تركيا ذات يوم، فأول شخص سأتحدث إليه سيكون أنت".