الصفويون و الدولة العثمانية
مرسل: السبت نوفمبر 16, 2013 9:08 pm
استوطنت إيران قبل عهد الصفويين قبيلتان من قبائل التركمان هما قراقويونلو أي أصحاب الخراف السوداء ، وآق قويونلو أي أصحاب الخراف البيضاء .
وكانت الفوضى تسود إيران في ذلك العصر حيث القتال مستمر بين القبيلتين ، وكان هذا بعد أن تجزأت إمبراطورية التيموريين بعد وفاة تيمور لنك [1] مما زاد الفوضى في المنطقة [2] .
وظهرت الدولة الصفوية في تلك الأثناء ليتغير مجرى الأحداث وتبزغ الصراعات الجسيمة كما سيأتي بعد ذلك .
نشأة الدولة الصفوية
مؤسس الدولة الصفوية الذي أقام كيانها وأرسى قواعدها وبنيانها وفرض فيها المذهب الشيعي بالقوة وأقام دولة ذات قوة وشوكة وحدود هو الشاه إسماعيل بن حيدر الصفوي. ويُنسب الصفويون إلى صفي الدين الأردبيلي – الذي ولد عام ( 650هـ ) – وهو الجد الخامس للشاه إسماعيل ، وقد كانت نشأته نشأه صوفية حيث كان صاحب طريقة وهذا ما ساعد في التفاف الكثير من المريدين حوله ، ومن ثم انتشار دعوته وكثرة أنصاره . وبعد وفاته خلفه في رئاسة أتباعه ابنه صدر الدين موسى الذي مشى على طريقة أبيه ، ثم انتقل الأمر إلى ابنه صدر الدين خواجة علي سياهبوش . وقد ساعدت الظروف السيئة التي حلت بإيران على أيدي التيموريين [3] في التفاف المريدين حوله وازديادهم وكانت علاقته بتيمور لنك علاقة جيدة وقوية .
ويعتبر صدر الدين أول من اعتنق المذهب الشيعي من الأسرة الصفوية ودعا إليه ، وهذا يعتبر نقطة تحول مسار هذه الأسرة التي كانت تدعي نسبها إلى الحسين بن علي بن أبي طالب t وبعد وفاة خواجة علي سياهبوش خلفه ابنه شيخ شاه ، ومشى على خطاه .
بعد وفاته خلفه ابنه السلطان جنيد ، وفي زمنه اكتسب مريدوه قدرة على الحركة حيث إنهم اتجهوا بأعداد كبيرة إلى مقر الأسرة وأحاطوا بالسلطان جنيد الذي بدأ يكشف عن رغبته في الملك تدريجياً وهذا ثاني أخطر تحول مسار الأسرة الصفوية بعد التشيع ، وكانوا بادعائهم الانتساب إلى آل البيت قد بدأوا يطالبون بالتاج والعرش إثباتاً لحقهم المزعوم .
وتبدلت الدعايات المذهبية إلى مطالب سياسية [4] وبدأ السلطان جنيد بإقامة حكم مستقل في أردبيل [5] وأخذ يتقوى ويعد الجيوش لغزو شروان [6] . وللتوسع وبسط السيطرة ، دخل في معركة مع حاكمها ولكنه هزمه وقتله ، ورغم الهزيمة التي حلت بالأسرة الصفوية إلا أن هذا التحول يعتبر تحولاً خطيراً في مسارها فهذه هي أول معركة حربية تخوضها .
ثم انتقلت الرئاسة من بعده إلى ابنه السلطان حيدر حيث أخذ يعد العدة لينتقم لمقتل أبيه من حاكم شروان وأعد جيشاً جعل أفراده يرتدون القبعات الحمراء ومنذ ذلك الوقت صار أتباع الشيخ حيدر يعرفون بـ القزلباش [7] أي حمر الرؤوس .
ولما رأى حاكم شروان أنه لا طاقة له بالسلطان حيدر طلب المساعدة من السلطان يعقوب من أسرة آق قويونلو[8] ، الذي كانت بينه وبين السلطان حيدر عداوة فاجتمعا عليه وهزماه وقتلاه .
ثم انتقل الأمر إلى ابن السلطان علي الذي ما لبث أن قتل ثم انتقل الأمر إلى ابن السلطان حيدر الثاني مؤسس الدولة الصفوية الشاه إسماعيل الصفوي.
التمكين للأسرة الصفوية ، وقيام دولتهم
كانت هناك محاولات لقتل أولاد حيدر جميعاً ومنهم الشاه إسماعيل ، ولكن يقال أنه اجتمع مائتان من أتباع ومريدي البيت الصفوي ونقلوا الشاه إسماعيل وأخاه إبراهيم بعد مقتل أخيهم عي خفية من أردبيل إلى كيلان [9] [10]
ثم استدعى كاركياميرزا حاكم لاهيجان [11] الأخوين وأقامهما عنده وكان حاكماً قوياً ، وقد قام بإعداد إسماعيل وتربيته تربية ثقافية وعلمية وعسكرية ليعده للملك . ومكث إسماعيل فترة الإعداد خمس سنوات أتاحت بدورها فرصة كبيرة لأتباع البيت الصفوي للاتصال ببعضهم البعض بمساندة حاكم المنطقة .
في هذه الأثناء كان الصراع والتفكك قد فشى في أسرة آق قويونلو فظهرت في الأفق الفرصة لأنصار الصفويين بتحريك الشاه إسماعيل وإعداد الجيش حوله واغتنام هذه الفرصة . فتكون جيش القزلباش وتحرك الشاه إسماعبل بجيش يقدر بحوالي سبعة آلاف مقاتل أشداء إلى شروان للانتقام من حاكمها الذي قتل أباه وجده ، واستطاع هزيمته وقتله ، وقد كان قاسياً جداً في معاملته للقتلى حيث حرق جثة حاكم شروان ونبش القبور وخرب ودمر كل ما حوله [12]
وخرج من هذه المعركة بمكسبين : الأول : كسبه قوة شعبية وسياسية حيث التف حوله كثير من الإيرانيين الشيعة الذين كانوا يرون في شخصيته منقذاً لهم من دوامات الأسر الحاكمة .
والمكسب الثاني : هو الغنائم التي غنمها في هذه المعركة وهذا كان له أثر كبير في تدعيم جيشه .
وهناك بدأ التقدم الصفوي القوي ضد أسرة آق قويونلو وشعر بذلك زعيمها في ذلك الوقت الوندميرزا ، الذي أرسل رسالة إلى الشاه إسماعيل يذكره فيها بالقرابة والصلة بين الأسرتين ويدعوه أن لا يقترب من حدوده وإلا فإن لديه ثلاثين ألف مقاتل سيكونون له بالمرصاد ، وكان جواب الشاه إسماعيل له إنه إما أن يدخل تحت حكمه ويتشيع وإما القتال [13].
وحدثت معركة قوية بين الطرفين عام 907هـ ، وتمكن الشاه إسماعيل من هزيمة الوندميرزا الذي هرب بدوره إلى أرزنجان [14] تاركاً الكثير من المعدات العسكرية للشاه إسماعيل ، ودخل الشاه إسماعيل تبريز [15] منتصراً .
وبعد هذه المعركة الفاصلة توج الشاه إسماعيل ملكاً على إيران ، وما إن تم له ذلك حتى أعلن فرض المذهب الشيعي مذهباً رسمياً في مختلف أنحاء إيران دون مقدمات ، وقد كان أكثر من ثلاثة أرباع إيران من السنة [16] وكل من عارض هذا الأمر لقي حتفه فانقاد الناس له .
ثم بدأ في التوسع في أنحاء إيران المختلفة فانتقل إلى همذان [17]، وهزم حاكمها السلطان مراد الذي خلف الوندميرزا ثم انتقل إلى شيراز[18] وفرض فيها المذهب الشيعي كذلك ، وخاض عدة معارك حتى استتب له أمر إيران .
عوامل قبول المذهب الشيعي في إيران
إنه من المفارقات والعجائب أن تتحول دولة بأكملها من دولة سنية إلى شيعية ، كما حصل ذلك في إيران ، التي كانت ذات أغلبية سنية ثم تحولت بسبب ظروف خاصة أحاطت بها إلى دولة شيعية تحارب السنة وأهلها .
أسباب التحول إلى المذهب الشيعي في إيران :
1. انتشار الفوضى والفتن :
بعد موت تيمور لنك تجزأت الإمبراطورية التيمورية إلى عدة أجزاء بعد صراعات متصلة وحروب دامية بين أبناء تيمور لنك الأربعة [19] .
وكان هناك صراع متصاعد بين أسرتي التركمان التي كانت تسيطر على منطقة غرب إيران وهما آق قويونلو و قراقويونلو والتي لم تدم سيطرة الحكم التيموري فيها طويلا ، فاستغلت هاتان الأسرتان الوضع لبسط نفوذهما وذلك كان سبب الصراع بينهما [20].
هذه الظروف السيئة مجتمعة ولدت الظلم والإجحاف من الحكام الذين كانوا يتنازعون السلطة في المنطقة ، ولم يكن لديهم الاهتمام بالرعايا ، ونعلم الأثر النفسي للحروب على السكان الذين ضاقوا ذرعاً بذلك وفقدوا الأمل في حياة مستقرة فلجأوا إلى الحلقات الصوفية للأسرة الصفوية بحثاً عن الراحة النفسية ولم يكتفوا بذلك بل أصبحوا مؤيدين وأتباعاً لها ، وكان الناس ينظرون بفارغ الصبر إلى اليوم الذي يتخلصون فيه من هذه النكبات فأخذوا في شد أزر الأسرة الصفوية ، وقد كان لتولي شيوخ الأسرة الصفوية القيادة الدينية والعسكرية معاً الأثر الكبير في إبراز قدرتهم ونفوذهم مما أكسبهم ثقة الناس وخاصة أنهم لم يكونوا قد أعلنوا تعصبهم للمذهب الشيعي وأنهم سيفرضونه بالقوة على رقاب الناس [21] .
2. نشاط دعاة الشيعة وانتشارهم بين القبائل
كان هؤلاء الدعاة يمهدون لقبول المذهب الشيعي ، وكانوا يتمركزون في مدن معينة مثل كامشان ، قُم ، الري ، وقد كانوا بعملهم هذا يهيئون الرأي العام الإيراني لمثل هذا التحول بنشر الأفكار والمعتقدات الشيعية بين عامة أفراد الشعب [22]، وقد كان إسماعيل مدركاً لمدى رسوخ العقيدة عند أتباع المذهب الشيعي الذي كانوا يتعصبون له مما جعله يستغل ذلك بتحريكهم وجمعهم [23].
3. القهر الذي مارسه الشاه إسماعيل ضد السنة
بعد أن تُوج الشاه إسماعيل ملكاً أعلن أن المذهب الشيعي هو المذهب والمعتقد الرئيسي لإيران ، وذلك بعد دخوله تبريز ، وكل من يخالف ذلك ويرفضه فإن مصيره القتل ، حتى إنه قد ذكر له أن عدد سكان تبريز السنة يزيدون على ثلاثة أرباع السكان .
فقال : إن من يقول حرفاً واحداً فإنه سيسحب سيفه ولن يترك أحداً يعيش [24] ، وحتى قيل إن عدد من قتلوا في مذبحة تبريز أكثر من عشرين ألف شخص ، وقد مورس ضد السكان السنة أبشع أنواع القتل والتنكيل حيث قطعت أوصال الرجال والنساء والأطفال ومُثل بالجثث [25], فاستسلم الناس لهذا التصميم على فرض المذهب الشيعي .
4. الدافع القومي لدى الشعوب التي كانت تسكن المنطقة
فقد تجمع في إيران بمرور الزمن أقوام وأجناس مختلفة فكان فيها الإيرانيون والعرب والأتراك والمغول فكان التعصب للجنس ظاهراً بينهم . وكان التنافس شديداً بين الأتراك والإيرانيون والخلاف مستمر .
وأيضاً كان موقعهم الجغرافي بين العثمانيين من الغرب والأزبك [26] من الشرق دافعاً لمثل هذا التعصب والحمية.
وقد استغل إسماعيل هذه النقاط حيث أذكى الحماس لدى هذه القبائل والتعصب ضد من حولهم وأوحى لهم بتكوين تجمع خاص يحفظ لهم قوتهم وسيطرتهم على المنطقة .
هذه العوامل التي ذكرناها مجتمعة كانت من أهم العوامل التي ساعدت على قيام هذه الدولة الشيعية في وسط غالبية من السنة .
القوى المحيطة بالدولة الصفوية
كانت عناصر القوة المحيطة بإيران في ذلك العصر تتركز في ثلاثة محاور رئيسية : العثمانيين ، وقبائل وعشائر الأزبك وهي قبائل سنية ، والتيموريين الذين انهارت دولتهم بموت تيمور لنك – كما ذكرنا آنفاً .
أما العثمانيون فكانوا الند القوي للدولة الصفوية ، وخاضوا معها معارك وحروب عدة كما سيأتي :
وأما قبائل الأزبك فكانت تسعى للسيطرة على إيران وترى أنها أحق من الشاه إسماعيل الصفوي في الملك ، وبدايةً كان الشاه إسماعيل كان يريد أن يقيم علاقات ودية معهم ، وأرسل مبعوثين لذلك ، ولكن قائد الأزبك شيبك خان رد المبعوثين خائبين [27] قد كانت لقبائل الأزبك تحركات قوية في المنطقة توحي أنها تسعى للسيطرة عليها وخاصة أنها شعرت بخطر سيطرة الرافضة ، مما كان السبب في قيام الحروب والمعارك بين الطرفين التي كانت غالباً ما تنتهي بانتصار الصفويين [28].
الدولة العثمانية ودفاعها عن الإسلام ضد الصليبية
قامت الدولة العثمانية في القرن السابع في وقت كان المسلمون فيه متفرقين متشتتين متناحرين ، وبقيام الدولة العثمانية ظهرت دولة الإسلام وكان الجهاد في سبيل الله وتحكيم شرع الله هو قوامها وقد أقام العثمانيون دولتهم على أساس توحيد الأناضول الإسلامية والبلقان النصرانية تحت حكمهم [29] .
وقد كان قيام دولة العثمانيين قوة للإسلام وحماية للدول الإسلامية من الاستعمار ، باستثناء دولة المغرب التي لم تكن تخضع للعثمانيين ، فالهند وإندونيسيا وماليزيا دخلها المستعمرون لكونها أمصاراً بعيدة عن نطاق الدولة العثمانية [30] .
كانت أوروبا يقاتل العثمانيين على أنهم مسلمون وليس بصفتهم أتراكاً وكان الحقد الصليبي هو المحرك في حروب أوروبا مع العثمانيين ، وترى أوروبا في العثمانيين أنهم أحيوا الجهاد بعد أن أخمد في النفوس طويلاً ، وأن جهودهم التي كانوا يبذلونها في قتل روح الجهاد في المسلمين تمهيداً لإبادتهم وإنهاء أي شيء يمت إلى الإسلام بصلة قد تبددت بظهور هذه الدولة الفتية التي كانت تنظر إلى قتالها مع النصارى على أنه جهاد في سبيل الله وإحياء لهذه الشعيرة التي خمدت في نفوس المسلمين ، فكانت لها صولات وجولات مع النصارى في محاور عديدة ، وكان لها العديد من الفتوحات في بلادهم ونشرت الإسلام ومهدت الطريق أمام الدعوة بالجهاد في سبيل الله .
وكانت الدولة العثمانية تمثل الأمصار الإسلامية فهي مركز الخلافة ولا يوجد سوى خليفة واحد في ديار المسلمين ، وكان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخليفة نظرة احترام وتقدير ويعدون أنفسهم من أتباعه ورعاياه [31]
كانت الدولة العثمانية الممثلة لدولة الإسلام تقاتل أعدائها من الصليبيين الحاقدين على عده محاور ، فالروس من الشمال والنمسا من الغرب والإمارات الإيطالية ، فرنسا ، وانكلترا ، والبرتغاليون في البحار والمحيطات ، والكل يحقد على هذه الدولة التي قضت على الدولة البيزنطية إحدى قواعد النصرانية وتوغلت في بقية أوروبا ، والكل يرى في هذه الدولة أنها هي التي حالت دون انتشار النصرانية ودون امتداد النفوذ الاستعماري الصليبي وطلائعه من البرتغاليين ومنعت وصولهم إلى القدس وسيطرتهم عليها ، وعلى الأماكن المقدسة الأخرى .
وتحقد روسيا على العثمانيين لأنها ترى فيهم أنهم أعداء ألداء قضوا على الدولة البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية ، مركز المذهب النصراني الأرثوذكسي وقاعدته وحاميته ، وهو المذهب الذي تدين به روسيا[32] .
هذه الأسباب المتقدمة الذكر جعلت أوروبا تحقد على الدولة العثمانية وتدخل في حروب طاحنة معها ، ونلحظ في أيامنا هذه الحقد الدفين في نفوس الأوروبيين عليها ، ويظهر ذلك جلياً في كتاباتهم وسياستهم حتى في بعض الدول الأوروبية التي توجد فيها أقلية مسلمة ترجع إلى الأصول التركية المسلمة نرى فيها محاولات الإبادة والتصفية الجماعية مثل ما يحدث في بلغاريا وفي الدول ذات الأغلبية المسلمة كما في البوسنة والهرسك فإن أوروبا متحدة تسعى للقضاء على التجمع الإسلامي في هذه الدولة الصغيرة حتى لا يذكرهم بالفتوحات الإسلامية العثمانية .
ونرى في تاريخ الدولة العثمانية المجيد الكثير من المواجهات مع النصارى والمعارك التي كانت أكثرها تنتهي بانتصار العثمانيين وكانت لهم جهود لا بأس بها لاسترجاع الأندلس [33] .
إعاقة الدولة الصفوية للفتوحات العثمانية
لاحظنا في المبحث السابق ، جهود العثمانيين في الجهاد ضد قوى الصليب المختلفة ودفاعهم عن الإسلام في محاور عدة وأبرزها المحور الغربي حيث التجمع الصليبي الأوروبي الذي كان يتربص الدوائر بالإسلام والمسلمين وينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على دويلات الإسلام ليبتلعها دولة دولة ولكن ظهور الصفويين في المشرق كان عائقاً لتقدم العثمانيين في الغرب ، لأن مجهود الدولة كان موزعاً بين الشرق والغرب مما يقلل من قوة الهجوم للتقدم في وسط أوروبا [34] .
يقول الدكتور محمد عبد اللطيف هريدي في كتابة " الحروب العثمانية الفارسية " عندما ذكر أسباب تردي الدولة العثمانية وتحولها من القوة إلى الضعف ذكر عامل حروبها مع الدولة الصفوية فقال :
" أما أهم العوامل قاطبة فهو الحروب العثمانية الإيرانية ، إذ كانت هذه الحروب من الضراوة وطول الأمد ما يكفي لإنهاك العثمانيين وضعفهم ومن ثَمّ عدم قدرتهم على الصمود في الجبهة الأوربية مما يعني انحسار المد الإسلامي عن أوروبا .
لقد بدأ تراجع المسلمين عن البلقان حين اضطرت الدولة العثمانية إلى توقيع معاهدة قارلوفجه عام 1110هـ ، إذ بمقتضاها خرجت دولة المجر من قبضتها ثم توالت الهزائم وتوالت التنازلات ، فإذا تابعنا تاريخ الحروب العثمانية الإيرانية قبل هذا التوقيع لأدركنا تزامن هذه الحروب مع محاولات الدولة العثمانية الوقوف على قدميها أمام الصليبيين من ناحية ، وطول أمد هذه الحروب من ناحية أخرى فقد امتدت إحداها لتصل إلى أربعة وستين عاماً " [35] .
ويقول في موضع آخر . " وهكذا بدلاً من أن يضع الصفويون يدهم في يد العثمانيين لحماية الحرمين الشريفين من التهديد البرتغالي ولتطهير البحار الإسلامية منهم وضعوا أنفسهم في خدمة الأسطول البرتغالي ، لطعن الدولة العثمانية من الخلف ، ورغم انتصار العثمانيين عليهم فإن الحروب معهم كانت استنزافاً لجهود العثمانيين على الساحة الأوروبية وعرقلة للفتوح الإسلامية " .
لقد كان التحرك الصفوي في المشرق والمؤامرات التي كانوا يُديرونها مع أعداء الإسلام ضد الدولة العثمانية – كما سيأتي في المبحث القادم – والدأب على نشر مذهبهم الشيعي في المنطقة ، ومحاولتهم التوسعية على حساب أهل السنة ، والفظائع الوحشية التي كانوا يرتكبونها ضد أهل المنطقة ، كانت هذه العوامل كلها مجتمعة هي المحرك للعثمانيين للتوجه لقتال الصفويين وتأديبهم والحد من نشاطهم المشبوه . وقامت بين الطرفين معارك متعددة وكبيرة من أشهرها معركة جالديران التي انتصر فيها العثمانيون نصراً كبيراً .
ولا شك في أن هذه المعارك التي قامت بين الطرفين – وإن كان النصر في غالبها للعثمانيين – والمؤامرات التي كان يدبرها الصفويون ضد الدولة العثمانية كانت أحد أسباب ضعف الدولة العثمانية كما مر معنا سابقاً .
في بداية نشأة الدولة الصفوية كانت علاقتها بالدولة العثمانية علاقة ترقب وحذر وكان بينهما حسن جوار وخاصة عندما كان الحاكم للدولة العثمانية السلطان بايزيد الثاني حيث كان سلس الطبع يحب الأدب والفلسفة ولم يكن يفكر في الفتوحات ولا بالمعارك ، وكانت الرسائل الودية سارية بين الطرفين رغم التجاوزات الكثيرة التي قام بها الصفويون على المناطق المجاورة لهم والتي تخضع للسلطة العثمانية
ثم قام الصفويون بعمل اضطرابات في ولاية تكه ايلي [36] في الحدود الشرقية من الدولة العثمانية وبدأت العلاقات تسوء بين الطرفين ولكن دون نشوب قتال حتى جاء السلطان العثماني سليم الأول ، والمعروف بقوته وصلابته ، حيث شعر السلطان سليم بخطر دولة الرافضة الناشئة على المنطقة وعلى أهل السنة فيها وقد كان من المحتم على السلطان سليم القضاء على الصفويين وذلك حتى يؤمِّن ظهره ليتقدم بعد ذلك في الشرق ووسط أوروبا [37]،فجمع رجال الحرب والأدباء والوزراء وعلماء الدين في مدينة أدرنه في التاسع عشر من شهر المحرم عام 920هـ وذكر في هذا الاجتماع أن إسماعيل وحكومته الشيعية لإي إيران بمثابة خطر كبير على العالم الإسلامي ، وأن الجهاد ضد الزنادقة القزلباش واجب ديني على جميع المسلمين [38] .
وبهذا يكون السلطان سليم قد بدأ بالإعداد لمعركة فاصلة وقوية ضد الدولة الصفوية ، ثم تقدم السلطان سليم لقتال الدولة الصفوية في الثاني والعشرين من الشهر المحرم عام 920هـ التاسع عشر من مارس عام 1514 م وكان يسعى إلى المواجهة العسكرية مع الشاه إسماعيل ولكن الأخير كان يتهرب من ذلك ويحاول قطع الطريق وتخريبه ليحول دون وصول القوات العثمانية إلى داخل إيران حتى يأتي الشتاء فيهلك الجنود العثمانيون من البرد والجوع .
وعندما علم السلطان سليم بنوايا الشاه إسماعيل أرسل له وفداً بهدايا فيها ثياب نساء حتى يعلمه أن فعله من أفعال النساء فاستحثه للمواجهة حتى التقى الجمعان في صحراء جالديران ، وهزم الجيش العثماني الجيش الصفوي هزيمة نكراء ، وكان الجيش العثماني يتفوق بالعدد والعدة وكان يملك أحدث وسائل القتال التي لا يملكها الجيش الصفوي [39] .
وقد تمكن الشاه إسماعيل من الفرار إلى أذربيجان بعد هذه الهزيمة ودخلت الجيوش العثمانية تبريز عاصمة الدولة الصفوية ومهدت الطريق لدخول السلطان سليم ودخلها فاتحاً منتصراً وأحسن إلى أهلها من الشيعة رغم ما فعله الشاه إسماعيل بالسنة عند دخول تبريز .
وقد حدثت مؤامرة لاغتياله عند دخوله دبرها الشاه إسماعيل ولكن لم تنجح [40] ، وحاول إسماعيل إرسال وفد لإقرار صلح مع السلطان سليم ومعاهدة للسلام ولكنه رفض وأودع الوفد السجن [41] .
ورغم أن جالديران معركة قوية وهُزم فيها الصفويون هزيمة نكراء إلا أنها لم تكن حاسمة ولم تضع حداً للصراع بين الطرفين فقد ظل الطرفان يتربصان العداء ببعضهما البعض ، فبعد هزيمة إسماعيل نهض رؤساء كردستان وكانوا من السنة لمساندة السلطان سليم وطردوا الحاكم الإيراني من أراضيهم وطلبوا ضمها للعثمانيين بحيث إنه لم يمض وقت طويل حتى انضمت للعثمانيين خمسة وعشرون مدينة [42] ، وكانت هناك محاولات لإسماعيل لأخذ الثأر فحرك بعض قادة القزلباش بالإغارة على نواحي أرزنجان ولكن هزمهم العثمانيون ، واحتل العثمانيون ديار بكر [43] وماردين [44] وسائر مدن كردستان ، وأصبح الجزء الأكبر من أرض الأكراد في يد العثمانيين ، وتحدد الخط الفاصل بين الدولتين وبهذا أصبح من الصعب على إيران أن تتوسع في النواحي الغربية منها [45] .
وعلى الرغم من مرض السلطان سليم في 926هـ/1520م إلا أته فكر في الخروج من عاصمته على رأس جيش لغزو إيران مرة أخرى ولكنه مات في الطريق في الثامن من شوال من العام نفسه ، وقد شجعت وفاة السلطان سليم الأول إسماعيل على أن يبدأ شغبه من جديد وتملكته الرغبة في الانتقام لهزيمته من العثمانيين في السنوات الأربع التالية لوفاة السلطان سليم غير أن المنية عاجلته فمات متأثر بمرض السل [46] .
وبعد وفاة الشاه إسماعيل جاء عهد ابنه " طهماسب " من بعده وقد كان عصره امتداد لعصر أبيه من حيث الصراع مع المعسكر السُني بجناحيه العثماني والأوزبكي .
وكان الحاكم العثماني – في تلك الفترة – هو السلطان سليمان القانوني وكان شعوره بالخطر الشيعي على البلاد وشكايات أهل السُنة من ظُلم الشيعة واستبدادهم ، وواجبه في حماية أهل السنة بصفته خليفتهم ، كان ذلك هو المحرك للسلطان لقتال الصفويين ، فأعد العدة واستعد لغزو الدولة الصفوية ، وعند سماع الصفويين بذلك اتصلوا بملك المجر ليعاونوهم على العدو المشترك ، فرد عليهم السلطان سليمان بإعدام الأسرى الفرس الذين كانوا معتقلين لديه ، وقرر توجيه حملة قوية إلى إيران ، إلا أنه حوَّل قواته ضد المجر بدلاً من ذلك ، وذلك نظراً لحيوية تلك الجبهة وأهميتها للدولة والتي كانت الهدف الرئيسي لها في مواجهة الصليبيين [47] .
كانت العراق قد دانت للدولة العثمانية وذلك أن استرجعوها من أيدي الصفويين ، ولكن طهماسب دارت الأطماع في رأسه فغزا بغداد واحتلها وكان حاكمها قد دافع عنها دفاعاً مستميتاً .
ثم كانت هناك المحاولات من الشيعة لفرض مذهبهم علة أهل العراق الأوسط والجنوبي بما في ذلك بغداد والبصرة ، فانطلقت الصرخات من أهل السُنة في العراق مستغيثة بالسلطان سليمان القانوني ، فترك السلطان سليمان استانبول في ذي الحجة سنة 941هـ وعبر الحدود متجهاً إلى تبريز، وعين إبراهيم باشا قائداً للجيش الذي دخل تبريز دون صعوبة ولا سفك دماء [48]، ثم وصل السلطان سليمان إلى تبريز بعد ذلك وبذل العطايا بسخاء لأهلها وأكرمهم على عكس فعل الحكام الصفويين الذين كانوا إذا دخلوا بلداً للسُنة أعملوا فيها السيف وذبحوا أهلها واستباحوها .
وتحرك الجيش العثماني إلى بغداد في الشتاء ودخلها السلطان سليمان في 27 جمادي الأولى 941هـ ، وبدون مقاومة ، بعد أن قاد كبار علماء السُنة الشعب في جهاد قضى على زعماء الشيعة والجنود الإيرانيين الذين كانوا يضطهدون أهل السُنة ، وبقى السلطان سليمان في بغداد حتى الربيع لتنظيم الإدارة في الولايات الجديدة وتقوية وسائل الدفاع ، وأعلن إلحاق العراق الدائم بالدولة العثمانية، وفي ذلك الوقت انتهز طهماسب انشغال السلطان سليمان في العراق وعاد إلى تبريز وستولى عليها ، وأعمل القتل في كل من ساعد السلطان سليمان ، فأرسل السلطان سليمان فرقة من جيشه لاسترجاع تبريز ولكنها هُزمت من الجيش الصفوي[49] .
وقد كان السلطان سليمان رجلاً لا يقبل الهزيمة فتقدم إلى إيران بجيش كبير مزود بالعدة والعتاد ولما علم طهماسب بذلك فر إلى الجبال بجيشه كي ينقذه من الهلاك ، وكانت تلك عادته في كل مرة ودخل السلطان سليمان تبريز مرة أخرى ، وسيطر على كثير من المناطق حولها ، ثم استولت القوات العثمانية بعد ذلك على البصرة ، وامتد الحكم العثماني بعد ذلك إلى الإحساء وتم إنقاذ المذهب السُني من الخطر الشيعي وتأكدت زعامة الدولة العثمانية على العالم الإسلامي [50] ، واستمر الوضع على ذلك كرَّ وفرَّ من الطرفين .
بعد ذلك قام السلطان سليمان بعقد اتفاقية صلح مع الشاه طهماسب في 8 رجب عام 963هـ واعترف طهماسب بموجب تلك الإتفاقية بالحدود العثمانية مثل ما كانت عليه في السابق شاملة آخر الفتوحات ، كما تعهد بالكف عن دعوته للتشيع ، وعدم غارته على الحدود العثمانية [51] . ولعل ما دفع العثمانيين لفعل ذلك هو محاولتهم لإيجاد استقرار عند حدودهم الشرقية لكي يتفرغوا للجبهة الغربية حيث القوات النصرانية ولمواصلة فتوحاتهم في أوروبا . وقد أسعد طهماسب أن تستقر العلاقات بينه وبين العثمانيين فذلك مكسب له ، فقد كانت الدولة العثمانية دولة قوية بأس مجهزة بأحدث التجهيزات .
ثم خلف الشاه طهماسب ابنه إسماعيل الثاني الذي يُذكر عنه أنه كانت لديه ميول سُنية فقد تلقى العلم على يد مُعلم سُني وكان يرغب في إعادة المذهب السُني إلى إيران [52] ، ولكن كانت نهايته القتل مسموماً على يد رجال القزلباش ، وفي فترة حكمه لم تحدث حروب مع الدولة العثمانية .
ثم خلفه أخاه الشاه محمد خُدابنده ، وفي عصره حدثت معارك عنيفة مع الدولة العثمانية ، وذلك عندما وجد السلطان العثماني مراد الثالث الأوضاع متردية في إيران فلاحت له فرصة للسيطرة على إيران والقضاء على الدولة الصفوية .
هذا وقد كانت بينهم معاهدة للصلح ولكنه يعلم أن الصفويين ينتظرون الفرصة للانقضاض على الدولة العثمانية ، فأمر بالهجوم على إيران بقيادة مصطفى باشا ، وتحرك الجيش في الأراضي الإيرانية وكان النصر حليفه في المعارك التي خاضها ، حتى احتل قلعة تفليس [53] .
وبعد وفاة الشاه محمد خلفه ابنه عباس الكبير والذي يُعد من القادة الأقوياء والذي تطورت في زمنه إيران تطوراً كبيراً ، وحقق في زمنه الكثير من الانتصارات على الدولة العثمانية التي كان قد بدء يدب فيها الضعف ، فهاجم القوات العثمانية في تبريز وأخرجهم منها وبدء بالزحف إلى المناطق الأخرى التي تليها ، وحدثت عدة عاهدات صلح بين على أن يبقى كل طرف في المناطق التي يسيطر عليها ولكن الجانب الصفوي كان دائم النقض لهذه المعاهدات لأنه كان يشعر بضعف الدولة العثمانية في ذلك الحين [54] .
وقد ساهمت تلك الحروب التي قادها الشاه عباس ضد الدولة العثمانية في إضعافها وتشتيت جهدها عن المواجهة في أوروبا .
وبموت الشاه عباس حدث الضعف والانهيار للدولة الصفوية ، تولى الحكم بعد الشاه عباس حفيده سام ميرزا والذي سمى نفسه " صفي " باسم أبيه الذي قتله جده الشاه عباس [55] وكان عمر سام ميرزا سبعة عشر عاما . وتولى الحكم عام 1038هـ .
وقد كان للشاه عباس أربعة أبناء قتلهم كلهم وسَمل أعينهم [56] خوفاً على منصبه من أن يزيلوه عنه [57] فلم يجد أمامه عند احتضاره إلا حفيده المذكور سابقاً .
وفي عهد صفي حدثت عدة اشتباكات بين الصفويين والعثمانيين ، فقد حاول العثمانيون استرداد بغداد مرتين خسروا في الأولى ونجحوا في الثانية عندما حاصروها عام 1048هـ بقيادة محمد باشا في عهد السلطان مراد واستسلمت بغداد بعد حصار دام خمسين يوماً [58].
وبعد وفاة الشاه صفي تولى ابنه عباس الثاني الملك في الخامس عشر من صفر عام 1052هـ وعمره تسع سنوات ، وكانت الوصاية عليه بيد ميرزا تقي أحد الأمراء الذين كانوا حول أبيه [59] وكان هذا الشاه مسالماً ولم تحدث في عهده اشتباكات مع الدول المحيطة بإيران .
وبعد وفاته تولى الحكم بعده ابنه صفي في عام 1077هـ وهو ابن عشرين عاماً ، ثم أطلقوا عليه اسم الشاه سليمان ويعد من أشد السلاطين الصفويين فساداً ، قضى حياته بين الخمر والنساء [60] ، ولم تحدث في عصره اشتباكات مع الدولة العثمانية .
وبعد وفاته تولى الحكم ابنه حسين ميرزا سنة1106هـ وفي عصره دار القتال بينه وبين الأفغان بعدما مارس ضدهم الظلم والاضطهاد ، وكذلك هاجم الروس إيران لضعف الدولة في ذلك الوقت فحملوا عليها مخترقين القفقاز واستولوا على سواحل بحر الخزر بدءاً من دربند [61] حتى حدود إستراباد [62] حتى اضطر الشاه إلى عقد اتفاقية مع الروس تنازل فيها رسمياً عن كثير من المناطق والمدن الإيرانية [63] وانتهى الأمر إلى قتله .
بعد ذلك تولى الحكم ابنه الشاه حسين طهماسب الثاني عام 1134هـ ، وفي عصره كان الامتداد للنفوذ الأفغاني وحصارهم للمدن الإيرانية ، وكانت الفرصة سانحة للعثمانيين للتقدم ، فهاجمت الجيوش العثمانية شمال وغرب إيران وسيطروا على أذربيجان و كرمانشاهان و همدان ، ولصد هذه الهجمات ولإنقاذ إيران عقد طهماسب حلفاً مع قائد الافشاريين [64] ناد شاه ، وكان هذا الحلف :الضربة القاضية لملك الصفويين فقد استبسل نادر شاه في القتال وكان محبوباً لدى القبائل وخاض معارك كثيرة على جميع الجبهات كان النصر حليفه فيها ، وعندما تمكن من الأمر وكان الجميع يعترف له بالفضل في إنقاذ إيران من الهجمات الخارجية طالب بعزل الشاه طهماسب وأقام ابنه الرضيع الشاه عباس الثالث مكانه على الحكم وأعلن نفسه وصياً عليه [65] ولم يمض عام على هذا الأمر حتى جمع القادة والأعيان في موقف واحد وقال لهم : من تختارون للحكم ؟ فأجمعوا على اختياره هو وعزل الشاه عباس الثالث الرضيع وكانوا يعلمون بأنه يريد هذا الإختيار[66] ، وكانت هذه هي نهاية الدولة الصفوية .
كان ذلك الذي مر معنا هو موقف الصفويين الشيعة في جميع مراحل حكمهم من الدولة العثمانية التي أخذت على عاتقها حماية المسلمين ونشر الإسلام في أوروبا لاسترداد الأندلس ، ولفتح المزيد من الأراضي الأوروبية الصليبية [67] .
وفي الوقت الذي كان فيه ملوك هذه الأسرة فظين غليظين جبارين على أهل السنة كانوا رقيقين لينين مع النصارى كما يعترف بذلك ويُقره الكاتب المؤرخ الشيعي عباس إقبال حيث يقول : " ولم يكن الشاه عباس فظا على غير أهل السنة من دون أتباع سائر المذاهب لذا فقد جلب أثناء غزواته لأرمينية والكرج نحو ثلاثين ألف أسرة من مسيحي هذه الولايات إلى مازنداران وأسكنهم بها كما رحّل إلى أصفهان خمسين ألف أسرة من أرامنة جلفا وإيران وبنى لهم مدينة جلفا على شاطىء نهر زاينده رود وأنشأ لهم فيها الكنائس وشجعهم على التجارة مع الهند والبلاد الخارجية بأن أعطاهم الحرية الكاملة " [68] .
آثار الصدام بين الدولة العثمانية والصفويين
لقد أثر القتال الذي دار بين الدولة العثمانية والصفويين تأثيراً مباشراً على الدولة العثمانية سواء في المجال العسكري وتقدمها في الفتوحات في أرض أوروبا الصليبية أو في اقتصاد الدولة .
فقد أثر القتال على إيرادات الدولة العثمانية من الجمارك التي كانت تحصلها من الطرق القديمة في الأناضول ، إذ أُقفلت معظم الطرق التجارية القديمة التي سادها الخطر ، وصار التبادل التجاري بين الأقاليم الإيرانية والعثمانية محدوداً ؛ إذ انخفض إيراد الدولة العثمانية من الحرير الفارسي في حين تحولت سيطرة البرتغال على البحار الشرقية إلى حصار عام لكل الطرق القديمة بين الشرق والغرب – عبر الشرق الأوسط –التي كانت حينئذ تحت سيطرة الدولة العثمانية [69] .
ولقد استفادت أوروبا اقتصادياً استفادة كبيرة ، حيث كان الاقتصاد الأوروبي متأثرا كثيرا بسبب الحصار العثماني لقوافله ولمناطق النفوذ التجاري فكسدت التجارة الأوروبية في البر وهذا مما شجع البرتغاليين على سلوك جانب البحر لاكتشاف الطرق البحرية ، فكانت رحلة فاسكوديجاما .
حتى البحر كان الأوروبيون يجدون في سلوكه مشقة وكانت تجارتهم فيه تتعرض للحصار ، وكان العثمانيون قد استطاعوا قطع طريق التجارة القديم الذي يربط أوروبا بالشرق ولم يعد الأوروبيون قادرين على حمل بضاعتهم إلى الموانيء الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وكسد حال تجار أوروبا الذين كانوا يتاجرون مع آسيا [70] .
ويكفي قول بوسيك سفير فرديناند في بلاط السلطان محمد الفاتح حين صرح قائلاً : " إن ظهور الصفويين قد حال بيننا ( يقصد الأوروبيين ) وبين التهلكة ( يقصد الهلاك على أيدي العثمانيين ) [71] .
وقد تسببت الكثير من الحروب في أن يرجع القادة العثمانيون من فتوحاتهم في أوروبا ليوقفوا الزحف الصفوي على الأراضي السُنية ، كما حدث مع السلطان سليم العثماني حينما عاد من فتوحاته في أوروبا ليواجه إسماعيل الصفوي ، وكما حدث مع السلطان حينما حاصر النمسا وكان يدك أسوارها لمدة ستة أشهر وكاد أن يفتحها ، ولكن طارت إليه أنباء من الشرق جعلته يُكر راجعاً إلى استانبول ، لقد كانت نذر الخطر الصفوي [72] .
اتفاقيات ومؤامرات الصفويين مع النصارى ضد الدولة العثمانية
في حين كانت الدولة العثمانية رافعة راية الإسلام غازية في أوروبا فاتحة للقسطنطينية مدافعة عن الدول الإسلامية من الهجمات الصليبية ، وتخشاها جميع دول ومماليك أوروبا ، كانت الدولة الصفوية تُحيك المؤامرات ضدها وتدخل في اتفاقيات مع دول أوروبا الصليبية لمحاولة القضاء على القوة العثمانية الإسلامية .
وبشهادة الجميع كان عهد الدولة الصفوية هو عهد إدخال قوى الاستعمار في المنطقة حيث مهدت له الطريق .
ولقد شهد التاريخ كثيراً من تلك المؤامرات وخاصة التي كانت في عهد الشاه إسماعيل الصفوي ، فبعد الهزيمة المرة التي لحقت به في موقعة جالديران أمام السلطان سليم تحرك للتحالف مع البرتغاليين لتغطية الهزيمة التي لحقت به في هذه الموقعة فأقام العلاقات معهم والذين هم أنفسهم كانوا يبحثون عنها فقد كانوا جزءاً من أوروبا التي فرحت بظهور الدولة الصفوية حين لاحت لهم بظهورها فرصة انفراج الضغط العثماني عليهم وعلى تجارتهم ، ولذلك فقد سعت الدول الأوروبية إلى إسماعيل تعرض عليه تثبيت عُرى الصداقة والمودة لحضه على إيجاد علاقات سياسية واقتصادية [73] .
وأما البرتغاليون فقد تمت اتفاقية بين الشاه إسماعيل والبوكرك ، الحاكم البرتغالي في الهند نصت على أربع نقاط هي :
1. تصاحب قوة بحرية برتغالية حملة إيران على البحرين والقطيف
2. تتعاون البرتغال مع إيران في إخماد حركات التمرد في بلوجستان ومكران .
3. تتحد الدولتان في مواجهة الدولة العثمانية .
4. تصرف حكومة إيران النظر عن جزيرة هرمز ، وتوافق على أن يبقى حاكمها تابعاً للبرتغال وأن لا تتدخل في أمورها الداخلية [74] .
وأما اتفاقهم مع جمهورية فينيسيا ( البندقية ) فكانت مخزية كذلك ، فقد كانت فينيسيا من الدول المتأثرة تجاريا بسبب قضاء العثمانيين على الدولة البيزنطية وإغلاقها الطريق الرئيس للتجارة بين أوروبا وآسيا ، فأرسل الشاه إسماعيل السفراء إلى بلاط فينيسيا طالباً الهجوم على العثمانيين عن طريق البحر ، وأن يقوم هو بالهجوم من ناحية البر ، بشرط أن تسترد فينيسيا قواعدها التي فقدتها في البحر الأبيض المتوسط [75] .
ومن الدول التي كانت إيران تسعى لإيجاد علاقات معها للتخلص من الدولة العثمانية أسبانيا والمجر حيث بعث الشاه إسماعيل برسالتين إلى أسبانيا والمجر ، طلب فيها عقد معاهدة صداقة وتعاون بينهم وعرض فكرة اتحاد بغرض سحق الأتراك ، حسب تعبيره [76] .
وكانت للشاه عباس كذلك اتصالات ومؤامرات مع الجانب الصليبي ؛ فقد قدم الشاه عروضا للأسبان عن طريق البنادقة لكي يتقاسما أراضي الدولة العثمانية فتحصل الأولى على الجزء الأوروبي وتستأثر الثانية بالآسيوي ولم يكن هذا العرض سوى واحد من عروض كثيرة حملها سفراء إيرانيون كانوا يقطعون المسافة بين أوروبا وإيران جيئة وذهابا [77] .
كان هذا هو المنهج الذي نهجه الصفويون في تعاملهم مع دولة السُنة ، منهج كيد وتآمر ، ولقد أثر ذلك في كثير من مجريات الأمور، واستفادت الدول الأوروبية منه أعظم استفادة كما مر معنا سابقاً .
ويرى الرافضة أن تقاربهم مع أهل السُنة كما يذكر ذلك ويقرره المؤرخ الشيعي عباس إقبال في كتابه " تاريخ إيران بعد الإسلام " حيث يقول في صفحة ( 647 )" يُعد الشاه إسماعيل بلا شبهة أحد أرشد وأكبر ملوك إيران ومع أنه تخطى جادة الإنصاف والمروءة في تحميل مذهب التشيع على شعب إيران وكان أغلبهم حتى ذاك الوقت من السُنة فسفك دماء كثير من الأبرياء بقسوة إلا أن سياسته في هذا السبيل أي إيجاد الوحدة المذهبية في إيران وجعل المذهب الشيعي مذهباً رسمياً واختيار السيرة التي سار عليها خلفاؤه قد أفضت إلى نتيجة هامة جداً ، هي حفظ المجتمع الإيراني من شر هجمات السلاطين العثمانيين المتعصبين الذين كانوا يسمون أنفسهم من أواخر عهد السلطان سليم أمراء المؤمنين وخلفاء جميع المسلمين وادعوا أن كافة المسلمين لابد أن يطيعوهم بحافز الإيمان كهد الناس في زمن العباسيين وأن يعترفوا بأن إجراء أوامر السلطان فيهم فريضة دينية بعد حكم الله ورسوله r ، وقد حالت سياسة الملوك الصفويين بعداوتهم الدينية للسلاطين العثمانيين دون انخداع أهل إيران بهذه الدعوة وانخراطهم بفقد استقلالهم في المجتمع السني بل إنهم خلافاً لذلك كانوا دائما يتوددون ويرتبطون ببلاد المسيحيين الأوروبية يستقبلون سفرائهم ويبعثون إليهم بمبعوثيهم ، وقد تعرفت إيران إلى حد ما بهذه الطريقة إلى أحوال أوروبا التي كانت في حالة من الرقي ، كما صارت مقدمات لانتقال بعض وسائل الحضارة الجديدة إلى إيران " .
نهاية وانهيار الدولة الصفوية
رغم أنه في عصر الشاه عباس الكبير وصلت الدولة الصفوية إلى درجة كبيرة من التقدم والازدهار إلا أنها أخذت تنحو نحو الانحدار بعد وفاته .
ورغم أن الشاه عباس الكبير قد دفع بإيران إلى التقدم إلا أنه قد زرع في نفس الوقت بذور الضعف في الدولة الصفوية فشرع السوس ينخر في عظامها [78].
وكان قد شاع في أواسط الأسرة الصفوية قتل بعضهم البعض خوفاً على المناصب ، فكانوا يقتلون كل من يتوجسون منه خيفة من أقاربهم حتى وصل الأمر بهم إلى قتل أبنائهم كما فعل الشاه عباس الكبير فقد قتل أبنائه الأربعة وسمل أعينهم كما مر معنا سابقاً .
وكانت كثرة العداوات مع الجيران المسلين سبباً قوياً في إنهاك الدولة وإضعافها ، فحروبهم التي كانوا يخوضونها مع الدولة العثمانية ومع الأُزبك والأكراد والأفغان كان الغرض منها ليس توحيد المسلمين تحت راية واحدة وإقامة خلافة إسلامية ، وإنما الغرض الأساسي هو السيطرة ومد النفوذ ونشر العقيدة والمذهب الشيعي بالقهر والقوة ، وقتل كل من يعارض ذلك فسفكوا الدماء في المدن السُنية التي كانوا يدخلونها ؛ لذلك استمرت الحروب مع الجيران حتى كانت مرحلة الضعف في الدولة الصفوية ومن ثم الانهيار .
وكان القهر الذي يمارس على الشعب والشطط في جباية الضرائب وظلم العمال سببا في قيام الثورات الداخلية ، وكذلك الضعف الاقتصادي الذي ألم بإيران في عصر الشاه عباس نتيجة النظام الإقطاعي الذي أوجده حيث أدى إلى حدوث مجاعات وقلة في المؤن حتى أن العسكر والمدنيين لم يجدوا الرواتب .
وكان من أسباب الانهيار كذلك ضعف الأمراء من بعد الشاه عباس الكبير وميولهم إلى الخمر والنساء وإهمال أمر الدولة ، فقد مرَّ في المباحث السابقة أنه تولى بعد الشاه عباس حفيده صفي ثم خلف صفيا ابنه عباس الثاني وبعده ابنه سليمان ، وخلف سليمان ابنه حسين ، ومن ثم ابن حسين طهماسب الثاني والذي انهار ملك الصفويين في عهده فقد كثُر الخارجين على الدولة من الداخل وكثر الهجوم من الخارج ، من الأفغان والعثمانيين والروس فلم يستطع السيطرة على المنطقة إلا بمساعدة نادر زعيم الافشاريين وعقد حلفاً معه ، فقد كان قائدا ذكيا شجاعا استطاع السيطرة على المنطقة والقضاء على الفتن الداخلية وإيقاف وصد الهجمات الخارجية ومن ثم قام بعزل طهماسب وأقام ابنه عباس الثالث الرضيع مكانه وأعلن نفسه وصيا على العرش ولم تمض ستة أشهر حتى أخذ الملك لنفسه باختيار القادة والأمراء حوله .
وكانت هذه نهاية طبيعية لدولة قامت على الظلم والتفريق بين الأمة والتحالف مع أعدائها ، وقد كانت الفترة التي قضتها الأسرة على كرسي الحكم قرنين ونصف القرن .
وكانت الفوضى تسود إيران في ذلك العصر حيث القتال مستمر بين القبيلتين ، وكان هذا بعد أن تجزأت إمبراطورية التيموريين بعد وفاة تيمور لنك [1] مما زاد الفوضى في المنطقة [2] .
وظهرت الدولة الصفوية في تلك الأثناء ليتغير مجرى الأحداث وتبزغ الصراعات الجسيمة كما سيأتي بعد ذلك .
نشأة الدولة الصفوية
مؤسس الدولة الصفوية الذي أقام كيانها وأرسى قواعدها وبنيانها وفرض فيها المذهب الشيعي بالقوة وأقام دولة ذات قوة وشوكة وحدود هو الشاه إسماعيل بن حيدر الصفوي. ويُنسب الصفويون إلى صفي الدين الأردبيلي – الذي ولد عام ( 650هـ ) – وهو الجد الخامس للشاه إسماعيل ، وقد كانت نشأته نشأه صوفية حيث كان صاحب طريقة وهذا ما ساعد في التفاف الكثير من المريدين حوله ، ومن ثم انتشار دعوته وكثرة أنصاره . وبعد وفاته خلفه في رئاسة أتباعه ابنه صدر الدين موسى الذي مشى على طريقة أبيه ، ثم انتقل الأمر إلى ابنه صدر الدين خواجة علي سياهبوش . وقد ساعدت الظروف السيئة التي حلت بإيران على أيدي التيموريين [3] في التفاف المريدين حوله وازديادهم وكانت علاقته بتيمور لنك علاقة جيدة وقوية .
ويعتبر صدر الدين أول من اعتنق المذهب الشيعي من الأسرة الصفوية ودعا إليه ، وهذا يعتبر نقطة تحول مسار هذه الأسرة التي كانت تدعي نسبها إلى الحسين بن علي بن أبي طالب t وبعد وفاة خواجة علي سياهبوش خلفه ابنه شيخ شاه ، ومشى على خطاه .
بعد وفاته خلفه ابنه السلطان جنيد ، وفي زمنه اكتسب مريدوه قدرة على الحركة حيث إنهم اتجهوا بأعداد كبيرة إلى مقر الأسرة وأحاطوا بالسلطان جنيد الذي بدأ يكشف عن رغبته في الملك تدريجياً وهذا ثاني أخطر تحول مسار الأسرة الصفوية بعد التشيع ، وكانوا بادعائهم الانتساب إلى آل البيت قد بدأوا يطالبون بالتاج والعرش إثباتاً لحقهم المزعوم .
وتبدلت الدعايات المذهبية إلى مطالب سياسية [4] وبدأ السلطان جنيد بإقامة حكم مستقل في أردبيل [5] وأخذ يتقوى ويعد الجيوش لغزو شروان [6] . وللتوسع وبسط السيطرة ، دخل في معركة مع حاكمها ولكنه هزمه وقتله ، ورغم الهزيمة التي حلت بالأسرة الصفوية إلا أن هذا التحول يعتبر تحولاً خطيراً في مسارها فهذه هي أول معركة حربية تخوضها .
ثم انتقلت الرئاسة من بعده إلى ابنه السلطان حيدر حيث أخذ يعد العدة لينتقم لمقتل أبيه من حاكم شروان وأعد جيشاً جعل أفراده يرتدون القبعات الحمراء ومنذ ذلك الوقت صار أتباع الشيخ حيدر يعرفون بـ القزلباش [7] أي حمر الرؤوس .
ولما رأى حاكم شروان أنه لا طاقة له بالسلطان حيدر طلب المساعدة من السلطان يعقوب من أسرة آق قويونلو[8] ، الذي كانت بينه وبين السلطان حيدر عداوة فاجتمعا عليه وهزماه وقتلاه .
ثم انتقل الأمر إلى ابن السلطان علي الذي ما لبث أن قتل ثم انتقل الأمر إلى ابن السلطان حيدر الثاني مؤسس الدولة الصفوية الشاه إسماعيل الصفوي.
التمكين للأسرة الصفوية ، وقيام دولتهم
كانت هناك محاولات لقتل أولاد حيدر جميعاً ومنهم الشاه إسماعيل ، ولكن يقال أنه اجتمع مائتان من أتباع ومريدي البيت الصفوي ونقلوا الشاه إسماعيل وأخاه إبراهيم بعد مقتل أخيهم عي خفية من أردبيل إلى كيلان [9] [10]
ثم استدعى كاركياميرزا حاكم لاهيجان [11] الأخوين وأقامهما عنده وكان حاكماً قوياً ، وقد قام بإعداد إسماعيل وتربيته تربية ثقافية وعلمية وعسكرية ليعده للملك . ومكث إسماعيل فترة الإعداد خمس سنوات أتاحت بدورها فرصة كبيرة لأتباع البيت الصفوي للاتصال ببعضهم البعض بمساندة حاكم المنطقة .
في هذه الأثناء كان الصراع والتفكك قد فشى في أسرة آق قويونلو فظهرت في الأفق الفرصة لأنصار الصفويين بتحريك الشاه إسماعيل وإعداد الجيش حوله واغتنام هذه الفرصة . فتكون جيش القزلباش وتحرك الشاه إسماعبل بجيش يقدر بحوالي سبعة آلاف مقاتل أشداء إلى شروان للانتقام من حاكمها الذي قتل أباه وجده ، واستطاع هزيمته وقتله ، وقد كان قاسياً جداً في معاملته للقتلى حيث حرق جثة حاكم شروان ونبش القبور وخرب ودمر كل ما حوله [12]
وخرج من هذه المعركة بمكسبين : الأول : كسبه قوة شعبية وسياسية حيث التف حوله كثير من الإيرانيين الشيعة الذين كانوا يرون في شخصيته منقذاً لهم من دوامات الأسر الحاكمة .
والمكسب الثاني : هو الغنائم التي غنمها في هذه المعركة وهذا كان له أثر كبير في تدعيم جيشه .
وهناك بدأ التقدم الصفوي القوي ضد أسرة آق قويونلو وشعر بذلك زعيمها في ذلك الوقت الوندميرزا ، الذي أرسل رسالة إلى الشاه إسماعيل يذكره فيها بالقرابة والصلة بين الأسرتين ويدعوه أن لا يقترب من حدوده وإلا فإن لديه ثلاثين ألف مقاتل سيكونون له بالمرصاد ، وكان جواب الشاه إسماعيل له إنه إما أن يدخل تحت حكمه ويتشيع وإما القتال [13].
وحدثت معركة قوية بين الطرفين عام 907هـ ، وتمكن الشاه إسماعيل من هزيمة الوندميرزا الذي هرب بدوره إلى أرزنجان [14] تاركاً الكثير من المعدات العسكرية للشاه إسماعيل ، ودخل الشاه إسماعيل تبريز [15] منتصراً .
وبعد هذه المعركة الفاصلة توج الشاه إسماعيل ملكاً على إيران ، وما إن تم له ذلك حتى أعلن فرض المذهب الشيعي مذهباً رسمياً في مختلف أنحاء إيران دون مقدمات ، وقد كان أكثر من ثلاثة أرباع إيران من السنة [16] وكل من عارض هذا الأمر لقي حتفه فانقاد الناس له .
ثم بدأ في التوسع في أنحاء إيران المختلفة فانتقل إلى همذان [17]، وهزم حاكمها السلطان مراد الذي خلف الوندميرزا ثم انتقل إلى شيراز[18] وفرض فيها المذهب الشيعي كذلك ، وخاض عدة معارك حتى استتب له أمر إيران .
عوامل قبول المذهب الشيعي في إيران
إنه من المفارقات والعجائب أن تتحول دولة بأكملها من دولة سنية إلى شيعية ، كما حصل ذلك في إيران ، التي كانت ذات أغلبية سنية ثم تحولت بسبب ظروف خاصة أحاطت بها إلى دولة شيعية تحارب السنة وأهلها .
أسباب التحول إلى المذهب الشيعي في إيران :
1. انتشار الفوضى والفتن :
بعد موت تيمور لنك تجزأت الإمبراطورية التيمورية إلى عدة أجزاء بعد صراعات متصلة وحروب دامية بين أبناء تيمور لنك الأربعة [19] .
وكان هناك صراع متصاعد بين أسرتي التركمان التي كانت تسيطر على منطقة غرب إيران وهما آق قويونلو و قراقويونلو والتي لم تدم سيطرة الحكم التيموري فيها طويلا ، فاستغلت هاتان الأسرتان الوضع لبسط نفوذهما وذلك كان سبب الصراع بينهما [20].
هذه الظروف السيئة مجتمعة ولدت الظلم والإجحاف من الحكام الذين كانوا يتنازعون السلطة في المنطقة ، ولم يكن لديهم الاهتمام بالرعايا ، ونعلم الأثر النفسي للحروب على السكان الذين ضاقوا ذرعاً بذلك وفقدوا الأمل في حياة مستقرة فلجأوا إلى الحلقات الصوفية للأسرة الصفوية بحثاً عن الراحة النفسية ولم يكتفوا بذلك بل أصبحوا مؤيدين وأتباعاً لها ، وكان الناس ينظرون بفارغ الصبر إلى اليوم الذي يتخلصون فيه من هذه النكبات فأخذوا في شد أزر الأسرة الصفوية ، وقد كان لتولي شيوخ الأسرة الصفوية القيادة الدينية والعسكرية معاً الأثر الكبير في إبراز قدرتهم ونفوذهم مما أكسبهم ثقة الناس وخاصة أنهم لم يكونوا قد أعلنوا تعصبهم للمذهب الشيعي وأنهم سيفرضونه بالقوة على رقاب الناس [21] .
2. نشاط دعاة الشيعة وانتشارهم بين القبائل
كان هؤلاء الدعاة يمهدون لقبول المذهب الشيعي ، وكانوا يتمركزون في مدن معينة مثل كامشان ، قُم ، الري ، وقد كانوا بعملهم هذا يهيئون الرأي العام الإيراني لمثل هذا التحول بنشر الأفكار والمعتقدات الشيعية بين عامة أفراد الشعب [22]، وقد كان إسماعيل مدركاً لمدى رسوخ العقيدة عند أتباع المذهب الشيعي الذي كانوا يتعصبون له مما جعله يستغل ذلك بتحريكهم وجمعهم [23].
3. القهر الذي مارسه الشاه إسماعيل ضد السنة
بعد أن تُوج الشاه إسماعيل ملكاً أعلن أن المذهب الشيعي هو المذهب والمعتقد الرئيسي لإيران ، وذلك بعد دخوله تبريز ، وكل من يخالف ذلك ويرفضه فإن مصيره القتل ، حتى إنه قد ذكر له أن عدد سكان تبريز السنة يزيدون على ثلاثة أرباع السكان .
فقال : إن من يقول حرفاً واحداً فإنه سيسحب سيفه ولن يترك أحداً يعيش [24] ، وحتى قيل إن عدد من قتلوا في مذبحة تبريز أكثر من عشرين ألف شخص ، وقد مورس ضد السكان السنة أبشع أنواع القتل والتنكيل حيث قطعت أوصال الرجال والنساء والأطفال ومُثل بالجثث [25], فاستسلم الناس لهذا التصميم على فرض المذهب الشيعي .
4. الدافع القومي لدى الشعوب التي كانت تسكن المنطقة
فقد تجمع في إيران بمرور الزمن أقوام وأجناس مختلفة فكان فيها الإيرانيون والعرب والأتراك والمغول فكان التعصب للجنس ظاهراً بينهم . وكان التنافس شديداً بين الأتراك والإيرانيون والخلاف مستمر .
وأيضاً كان موقعهم الجغرافي بين العثمانيين من الغرب والأزبك [26] من الشرق دافعاً لمثل هذا التعصب والحمية.
وقد استغل إسماعيل هذه النقاط حيث أذكى الحماس لدى هذه القبائل والتعصب ضد من حولهم وأوحى لهم بتكوين تجمع خاص يحفظ لهم قوتهم وسيطرتهم على المنطقة .
هذه العوامل التي ذكرناها مجتمعة كانت من أهم العوامل التي ساعدت على قيام هذه الدولة الشيعية في وسط غالبية من السنة .
القوى المحيطة بالدولة الصفوية
كانت عناصر القوة المحيطة بإيران في ذلك العصر تتركز في ثلاثة محاور رئيسية : العثمانيين ، وقبائل وعشائر الأزبك وهي قبائل سنية ، والتيموريين الذين انهارت دولتهم بموت تيمور لنك – كما ذكرنا آنفاً .
أما العثمانيون فكانوا الند القوي للدولة الصفوية ، وخاضوا معها معارك وحروب عدة كما سيأتي :
وأما قبائل الأزبك فكانت تسعى للسيطرة على إيران وترى أنها أحق من الشاه إسماعيل الصفوي في الملك ، وبدايةً كان الشاه إسماعيل كان يريد أن يقيم علاقات ودية معهم ، وأرسل مبعوثين لذلك ، ولكن قائد الأزبك شيبك خان رد المبعوثين خائبين [27] قد كانت لقبائل الأزبك تحركات قوية في المنطقة توحي أنها تسعى للسيطرة عليها وخاصة أنها شعرت بخطر سيطرة الرافضة ، مما كان السبب في قيام الحروب والمعارك بين الطرفين التي كانت غالباً ما تنتهي بانتصار الصفويين [28].
الدولة العثمانية ودفاعها عن الإسلام ضد الصليبية
قامت الدولة العثمانية في القرن السابع في وقت كان المسلمون فيه متفرقين متشتتين متناحرين ، وبقيام الدولة العثمانية ظهرت دولة الإسلام وكان الجهاد في سبيل الله وتحكيم شرع الله هو قوامها وقد أقام العثمانيون دولتهم على أساس توحيد الأناضول الإسلامية والبلقان النصرانية تحت حكمهم [29] .
وقد كان قيام دولة العثمانيين قوة للإسلام وحماية للدول الإسلامية من الاستعمار ، باستثناء دولة المغرب التي لم تكن تخضع للعثمانيين ، فالهند وإندونيسيا وماليزيا دخلها المستعمرون لكونها أمصاراً بعيدة عن نطاق الدولة العثمانية [30] .
كانت أوروبا يقاتل العثمانيين على أنهم مسلمون وليس بصفتهم أتراكاً وكان الحقد الصليبي هو المحرك في حروب أوروبا مع العثمانيين ، وترى أوروبا في العثمانيين أنهم أحيوا الجهاد بعد أن أخمد في النفوس طويلاً ، وأن جهودهم التي كانوا يبذلونها في قتل روح الجهاد في المسلمين تمهيداً لإبادتهم وإنهاء أي شيء يمت إلى الإسلام بصلة قد تبددت بظهور هذه الدولة الفتية التي كانت تنظر إلى قتالها مع النصارى على أنه جهاد في سبيل الله وإحياء لهذه الشعيرة التي خمدت في نفوس المسلمين ، فكانت لها صولات وجولات مع النصارى في محاور عديدة ، وكان لها العديد من الفتوحات في بلادهم ونشرت الإسلام ومهدت الطريق أمام الدعوة بالجهاد في سبيل الله .
وكانت الدولة العثمانية تمثل الأمصار الإسلامية فهي مركز الخلافة ولا يوجد سوى خليفة واحد في ديار المسلمين ، وكان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخليفة نظرة احترام وتقدير ويعدون أنفسهم من أتباعه ورعاياه [31]
كانت الدولة العثمانية الممثلة لدولة الإسلام تقاتل أعدائها من الصليبيين الحاقدين على عده محاور ، فالروس من الشمال والنمسا من الغرب والإمارات الإيطالية ، فرنسا ، وانكلترا ، والبرتغاليون في البحار والمحيطات ، والكل يحقد على هذه الدولة التي قضت على الدولة البيزنطية إحدى قواعد النصرانية وتوغلت في بقية أوروبا ، والكل يرى في هذه الدولة أنها هي التي حالت دون انتشار النصرانية ودون امتداد النفوذ الاستعماري الصليبي وطلائعه من البرتغاليين ومنعت وصولهم إلى القدس وسيطرتهم عليها ، وعلى الأماكن المقدسة الأخرى .
وتحقد روسيا على العثمانيين لأنها ترى فيهم أنهم أعداء ألداء قضوا على الدولة البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية ، مركز المذهب النصراني الأرثوذكسي وقاعدته وحاميته ، وهو المذهب الذي تدين به روسيا[32] .
هذه الأسباب المتقدمة الذكر جعلت أوروبا تحقد على الدولة العثمانية وتدخل في حروب طاحنة معها ، ونلحظ في أيامنا هذه الحقد الدفين في نفوس الأوروبيين عليها ، ويظهر ذلك جلياً في كتاباتهم وسياستهم حتى في بعض الدول الأوروبية التي توجد فيها أقلية مسلمة ترجع إلى الأصول التركية المسلمة نرى فيها محاولات الإبادة والتصفية الجماعية مثل ما يحدث في بلغاريا وفي الدول ذات الأغلبية المسلمة كما في البوسنة والهرسك فإن أوروبا متحدة تسعى للقضاء على التجمع الإسلامي في هذه الدولة الصغيرة حتى لا يذكرهم بالفتوحات الإسلامية العثمانية .
ونرى في تاريخ الدولة العثمانية المجيد الكثير من المواجهات مع النصارى والمعارك التي كانت أكثرها تنتهي بانتصار العثمانيين وكانت لهم جهود لا بأس بها لاسترجاع الأندلس [33] .
إعاقة الدولة الصفوية للفتوحات العثمانية
لاحظنا في المبحث السابق ، جهود العثمانيين في الجهاد ضد قوى الصليب المختلفة ودفاعهم عن الإسلام في محاور عدة وأبرزها المحور الغربي حيث التجمع الصليبي الأوروبي الذي كان يتربص الدوائر بالإسلام والمسلمين وينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على دويلات الإسلام ليبتلعها دولة دولة ولكن ظهور الصفويين في المشرق كان عائقاً لتقدم العثمانيين في الغرب ، لأن مجهود الدولة كان موزعاً بين الشرق والغرب مما يقلل من قوة الهجوم للتقدم في وسط أوروبا [34] .
يقول الدكتور محمد عبد اللطيف هريدي في كتابة " الحروب العثمانية الفارسية " عندما ذكر أسباب تردي الدولة العثمانية وتحولها من القوة إلى الضعف ذكر عامل حروبها مع الدولة الصفوية فقال :
" أما أهم العوامل قاطبة فهو الحروب العثمانية الإيرانية ، إذ كانت هذه الحروب من الضراوة وطول الأمد ما يكفي لإنهاك العثمانيين وضعفهم ومن ثَمّ عدم قدرتهم على الصمود في الجبهة الأوربية مما يعني انحسار المد الإسلامي عن أوروبا .
لقد بدأ تراجع المسلمين عن البلقان حين اضطرت الدولة العثمانية إلى توقيع معاهدة قارلوفجه عام 1110هـ ، إذ بمقتضاها خرجت دولة المجر من قبضتها ثم توالت الهزائم وتوالت التنازلات ، فإذا تابعنا تاريخ الحروب العثمانية الإيرانية قبل هذا التوقيع لأدركنا تزامن هذه الحروب مع محاولات الدولة العثمانية الوقوف على قدميها أمام الصليبيين من ناحية ، وطول أمد هذه الحروب من ناحية أخرى فقد امتدت إحداها لتصل إلى أربعة وستين عاماً " [35] .
ويقول في موضع آخر . " وهكذا بدلاً من أن يضع الصفويون يدهم في يد العثمانيين لحماية الحرمين الشريفين من التهديد البرتغالي ولتطهير البحار الإسلامية منهم وضعوا أنفسهم في خدمة الأسطول البرتغالي ، لطعن الدولة العثمانية من الخلف ، ورغم انتصار العثمانيين عليهم فإن الحروب معهم كانت استنزافاً لجهود العثمانيين على الساحة الأوروبية وعرقلة للفتوح الإسلامية " .
لقد كان التحرك الصفوي في المشرق والمؤامرات التي كانوا يُديرونها مع أعداء الإسلام ضد الدولة العثمانية – كما سيأتي في المبحث القادم – والدأب على نشر مذهبهم الشيعي في المنطقة ، ومحاولتهم التوسعية على حساب أهل السنة ، والفظائع الوحشية التي كانوا يرتكبونها ضد أهل المنطقة ، كانت هذه العوامل كلها مجتمعة هي المحرك للعثمانيين للتوجه لقتال الصفويين وتأديبهم والحد من نشاطهم المشبوه . وقامت بين الطرفين معارك متعددة وكبيرة من أشهرها معركة جالديران التي انتصر فيها العثمانيون نصراً كبيراً .
ولا شك في أن هذه المعارك التي قامت بين الطرفين – وإن كان النصر في غالبها للعثمانيين – والمؤامرات التي كان يدبرها الصفويون ضد الدولة العثمانية كانت أحد أسباب ضعف الدولة العثمانية كما مر معنا سابقاً .
في بداية نشأة الدولة الصفوية كانت علاقتها بالدولة العثمانية علاقة ترقب وحذر وكان بينهما حسن جوار وخاصة عندما كان الحاكم للدولة العثمانية السلطان بايزيد الثاني حيث كان سلس الطبع يحب الأدب والفلسفة ولم يكن يفكر في الفتوحات ولا بالمعارك ، وكانت الرسائل الودية سارية بين الطرفين رغم التجاوزات الكثيرة التي قام بها الصفويون على المناطق المجاورة لهم والتي تخضع للسلطة العثمانية
ثم قام الصفويون بعمل اضطرابات في ولاية تكه ايلي [36] في الحدود الشرقية من الدولة العثمانية وبدأت العلاقات تسوء بين الطرفين ولكن دون نشوب قتال حتى جاء السلطان العثماني سليم الأول ، والمعروف بقوته وصلابته ، حيث شعر السلطان سليم بخطر دولة الرافضة الناشئة على المنطقة وعلى أهل السنة فيها وقد كان من المحتم على السلطان سليم القضاء على الصفويين وذلك حتى يؤمِّن ظهره ليتقدم بعد ذلك في الشرق ووسط أوروبا [37]،فجمع رجال الحرب والأدباء والوزراء وعلماء الدين في مدينة أدرنه في التاسع عشر من شهر المحرم عام 920هـ وذكر في هذا الاجتماع أن إسماعيل وحكومته الشيعية لإي إيران بمثابة خطر كبير على العالم الإسلامي ، وأن الجهاد ضد الزنادقة القزلباش واجب ديني على جميع المسلمين [38] .
وبهذا يكون السلطان سليم قد بدأ بالإعداد لمعركة فاصلة وقوية ضد الدولة الصفوية ، ثم تقدم السلطان سليم لقتال الدولة الصفوية في الثاني والعشرين من الشهر المحرم عام 920هـ التاسع عشر من مارس عام 1514 م وكان يسعى إلى المواجهة العسكرية مع الشاه إسماعيل ولكن الأخير كان يتهرب من ذلك ويحاول قطع الطريق وتخريبه ليحول دون وصول القوات العثمانية إلى داخل إيران حتى يأتي الشتاء فيهلك الجنود العثمانيون من البرد والجوع .
وعندما علم السلطان سليم بنوايا الشاه إسماعيل أرسل له وفداً بهدايا فيها ثياب نساء حتى يعلمه أن فعله من أفعال النساء فاستحثه للمواجهة حتى التقى الجمعان في صحراء جالديران ، وهزم الجيش العثماني الجيش الصفوي هزيمة نكراء ، وكان الجيش العثماني يتفوق بالعدد والعدة وكان يملك أحدث وسائل القتال التي لا يملكها الجيش الصفوي [39] .
وقد تمكن الشاه إسماعيل من الفرار إلى أذربيجان بعد هذه الهزيمة ودخلت الجيوش العثمانية تبريز عاصمة الدولة الصفوية ومهدت الطريق لدخول السلطان سليم ودخلها فاتحاً منتصراً وأحسن إلى أهلها من الشيعة رغم ما فعله الشاه إسماعيل بالسنة عند دخول تبريز .
وقد حدثت مؤامرة لاغتياله عند دخوله دبرها الشاه إسماعيل ولكن لم تنجح [40] ، وحاول إسماعيل إرسال وفد لإقرار صلح مع السلطان سليم ومعاهدة للسلام ولكنه رفض وأودع الوفد السجن [41] .
ورغم أن جالديران معركة قوية وهُزم فيها الصفويون هزيمة نكراء إلا أنها لم تكن حاسمة ولم تضع حداً للصراع بين الطرفين فقد ظل الطرفان يتربصان العداء ببعضهما البعض ، فبعد هزيمة إسماعيل نهض رؤساء كردستان وكانوا من السنة لمساندة السلطان سليم وطردوا الحاكم الإيراني من أراضيهم وطلبوا ضمها للعثمانيين بحيث إنه لم يمض وقت طويل حتى انضمت للعثمانيين خمسة وعشرون مدينة [42] ، وكانت هناك محاولات لإسماعيل لأخذ الثأر فحرك بعض قادة القزلباش بالإغارة على نواحي أرزنجان ولكن هزمهم العثمانيون ، واحتل العثمانيون ديار بكر [43] وماردين [44] وسائر مدن كردستان ، وأصبح الجزء الأكبر من أرض الأكراد في يد العثمانيين ، وتحدد الخط الفاصل بين الدولتين وبهذا أصبح من الصعب على إيران أن تتوسع في النواحي الغربية منها [45] .
وعلى الرغم من مرض السلطان سليم في 926هـ/1520م إلا أته فكر في الخروج من عاصمته على رأس جيش لغزو إيران مرة أخرى ولكنه مات في الطريق في الثامن من شوال من العام نفسه ، وقد شجعت وفاة السلطان سليم الأول إسماعيل على أن يبدأ شغبه من جديد وتملكته الرغبة في الانتقام لهزيمته من العثمانيين في السنوات الأربع التالية لوفاة السلطان سليم غير أن المنية عاجلته فمات متأثر بمرض السل [46] .
وبعد وفاة الشاه إسماعيل جاء عهد ابنه " طهماسب " من بعده وقد كان عصره امتداد لعصر أبيه من حيث الصراع مع المعسكر السُني بجناحيه العثماني والأوزبكي .
وكان الحاكم العثماني – في تلك الفترة – هو السلطان سليمان القانوني وكان شعوره بالخطر الشيعي على البلاد وشكايات أهل السُنة من ظُلم الشيعة واستبدادهم ، وواجبه في حماية أهل السنة بصفته خليفتهم ، كان ذلك هو المحرك للسلطان لقتال الصفويين ، فأعد العدة واستعد لغزو الدولة الصفوية ، وعند سماع الصفويين بذلك اتصلوا بملك المجر ليعاونوهم على العدو المشترك ، فرد عليهم السلطان سليمان بإعدام الأسرى الفرس الذين كانوا معتقلين لديه ، وقرر توجيه حملة قوية إلى إيران ، إلا أنه حوَّل قواته ضد المجر بدلاً من ذلك ، وذلك نظراً لحيوية تلك الجبهة وأهميتها للدولة والتي كانت الهدف الرئيسي لها في مواجهة الصليبيين [47] .
كانت العراق قد دانت للدولة العثمانية وذلك أن استرجعوها من أيدي الصفويين ، ولكن طهماسب دارت الأطماع في رأسه فغزا بغداد واحتلها وكان حاكمها قد دافع عنها دفاعاً مستميتاً .
ثم كانت هناك المحاولات من الشيعة لفرض مذهبهم علة أهل العراق الأوسط والجنوبي بما في ذلك بغداد والبصرة ، فانطلقت الصرخات من أهل السُنة في العراق مستغيثة بالسلطان سليمان القانوني ، فترك السلطان سليمان استانبول في ذي الحجة سنة 941هـ وعبر الحدود متجهاً إلى تبريز، وعين إبراهيم باشا قائداً للجيش الذي دخل تبريز دون صعوبة ولا سفك دماء [48]، ثم وصل السلطان سليمان إلى تبريز بعد ذلك وبذل العطايا بسخاء لأهلها وأكرمهم على عكس فعل الحكام الصفويين الذين كانوا إذا دخلوا بلداً للسُنة أعملوا فيها السيف وذبحوا أهلها واستباحوها .
وتحرك الجيش العثماني إلى بغداد في الشتاء ودخلها السلطان سليمان في 27 جمادي الأولى 941هـ ، وبدون مقاومة ، بعد أن قاد كبار علماء السُنة الشعب في جهاد قضى على زعماء الشيعة والجنود الإيرانيين الذين كانوا يضطهدون أهل السُنة ، وبقى السلطان سليمان في بغداد حتى الربيع لتنظيم الإدارة في الولايات الجديدة وتقوية وسائل الدفاع ، وأعلن إلحاق العراق الدائم بالدولة العثمانية، وفي ذلك الوقت انتهز طهماسب انشغال السلطان سليمان في العراق وعاد إلى تبريز وستولى عليها ، وأعمل القتل في كل من ساعد السلطان سليمان ، فأرسل السلطان سليمان فرقة من جيشه لاسترجاع تبريز ولكنها هُزمت من الجيش الصفوي[49] .
وقد كان السلطان سليمان رجلاً لا يقبل الهزيمة فتقدم إلى إيران بجيش كبير مزود بالعدة والعتاد ولما علم طهماسب بذلك فر إلى الجبال بجيشه كي ينقذه من الهلاك ، وكانت تلك عادته في كل مرة ودخل السلطان سليمان تبريز مرة أخرى ، وسيطر على كثير من المناطق حولها ، ثم استولت القوات العثمانية بعد ذلك على البصرة ، وامتد الحكم العثماني بعد ذلك إلى الإحساء وتم إنقاذ المذهب السُني من الخطر الشيعي وتأكدت زعامة الدولة العثمانية على العالم الإسلامي [50] ، واستمر الوضع على ذلك كرَّ وفرَّ من الطرفين .
بعد ذلك قام السلطان سليمان بعقد اتفاقية صلح مع الشاه طهماسب في 8 رجب عام 963هـ واعترف طهماسب بموجب تلك الإتفاقية بالحدود العثمانية مثل ما كانت عليه في السابق شاملة آخر الفتوحات ، كما تعهد بالكف عن دعوته للتشيع ، وعدم غارته على الحدود العثمانية [51] . ولعل ما دفع العثمانيين لفعل ذلك هو محاولتهم لإيجاد استقرار عند حدودهم الشرقية لكي يتفرغوا للجبهة الغربية حيث القوات النصرانية ولمواصلة فتوحاتهم في أوروبا . وقد أسعد طهماسب أن تستقر العلاقات بينه وبين العثمانيين فذلك مكسب له ، فقد كانت الدولة العثمانية دولة قوية بأس مجهزة بأحدث التجهيزات .
ثم خلف الشاه طهماسب ابنه إسماعيل الثاني الذي يُذكر عنه أنه كانت لديه ميول سُنية فقد تلقى العلم على يد مُعلم سُني وكان يرغب في إعادة المذهب السُني إلى إيران [52] ، ولكن كانت نهايته القتل مسموماً على يد رجال القزلباش ، وفي فترة حكمه لم تحدث حروب مع الدولة العثمانية .
ثم خلفه أخاه الشاه محمد خُدابنده ، وفي عصره حدثت معارك عنيفة مع الدولة العثمانية ، وذلك عندما وجد السلطان العثماني مراد الثالث الأوضاع متردية في إيران فلاحت له فرصة للسيطرة على إيران والقضاء على الدولة الصفوية .
هذا وقد كانت بينهم معاهدة للصلح ولكنه يعلم أن الصفويين ينتظرون الفرصة للانقضاض على الدولة العثمانية ، فأمر بالهجوم على إيران بقيادة مصطفى باشا ، وتحرك الجيش في الأراضي الإيرانية وكان النصر حليفه في المعارك التي خاضها ، حتى احتل قلعة تفليس [53] .
وبعد وفاة الشاه محمد خلفه ابنه عباس الكبير والذي يُعد من القادة الأقوياء والذي تطورت في زمنه إيران تطوراً كبيراً ، وحقق في زمنه الكثير من الانتصارات على الدولة العثمانية التي كان قد بدء يدب فيها الضعف ، فهاجم القوات العثمانية في تبريز وأخرجهم منها وبدء بالزحف إلى المناطق الأخرى التي تليها ، وحدثت عدة عاهدات صلح بين على أن يبقى كل طرف في المناطق التي يسيطر عليها ولكن الجانب الصفوي كان دائم النقض لهذه المعاهدات لأنه كان يشعر بضعف الدولة العثمانية في ذلك الحين [54] .
وقد ساهمت تلك الحروب التي قادها الشاه عباس ضد الدولة العثمانية في إضعافها وتشتيت جهدها عن المواجهة في أوروبا .
وبموت الشاه عباس حدث الضعف والانهيار للدولة الصفوية ، تولى الحكم بعد الشاه عباس حفيده سام ميرزا والذي سمى نفسه " صفي " باسم أبيه الذي قتله جده الشاه عباس [55] وكان عمر سام ميرزا سبعة عشر عاما . وتولى الحكم عام 1038هـ .
وقد كان للشاه عباس أربعة أبناء قتلهم كلهم وسَمل أعينهم [56] خوفاً على منصبه من أن يزيلوه عنه [57] فلم يجد أمامه عند احتضاره إلا حفيده المذكور سابقاً .
وفي عهد صفي حدثت عدة اشتباكات بين الصفويين والعثمانيين ، فقد حاول العثمانيون استرداد بغداد مرتين خسروا في الأولى ونجحوا في الثانية عندما حاصروها عام 1048هـ بقيادة محمد باشا في عهد السلطان مراد واستسلمت بغداد بعد حصار دام خمسين يوماً [58].
وبعد وفاة الشاه صفي تولى ابنه عباس الثاني الملك في الخامس عشر من صفر عام 1052هـ وعمره تسع سنوات ، وكانت الوصاية عليه بيد ميرزا تقي أحد الأمراء الذين كانوا حول أبيه [59] وكان هذا الشاه مسالماً ولم تحدث في عهده اشتباكات مع الدول المحيطة بإيران .
وبعد وفاته تولى الحكم بعده ابنه صفي في عام 1077هـ وهو ابن عشرين عاماً ، ثم أطلقوا عليه اسم الشاه سليمان ويعد من أشد السلاطين الصفويين فساداً ، قضى حياته بين الخمر والنساء [60] ، ولم تحدث في عصره اشتباكات مع الدولة العثمانية .
وبعد وفاته تولى الحكم ابنه حسين ميرزا سنة1106هـ وفي عصره دار القتال بينه وبين الأفغان بعدما مارس ضدهم الظلم والاضطهاد ، وكذلك هاجم الروس إيران لضعف الدولة في ذلك الوقت فحملوا عليها مخترقين القفقاز واستولوا على سواحل بحر الخزر بدءاً من دربند [61] حتى حدود إستراباد [62] حتى اضطر الشاه إلى عقد اتفاقية مع الروس تنازل فيها رسمياً عن كثير من المناطق والمدن الإيرانية [63] وانتهى الأمر إلى قتله .
بعد ذلك تولى الحكم ابنه الشاه حسين طهماسب الثاني عام 1134هـ ، وفي عصره كان الامتداد للنفوذ الأفغاني وحصارهم للمدن الإيرانية ، وكانت الفرصة سانحة للعثمانيين للتقدم ، فهاجمت الجيوش العثمانية شمال وغرب إيران وسيطروا على أذربيجان و كرمانشاهان و همدان ، ولصد هذه الهجمات ولإنقاذ إيران عقد طهماسب حلفاً مع قائد الافشاريين [64] ناد شاه ، وكان هذا الحلف :الضربة القاضية لملك الصفويين فقد استبسل نادر شاه في القتال وكان محبوباً لدى القبائل وخاض معارك كثيرة على جميع الجبهات كان النصر حليفه فيها ، وعندما تمكن من الأمر وكان الجميع يعترف له بالفضل في إنقاذ إيران من الهجمات الخارجية طالب بعزل الشاه طهماسب وأقام ابنه الرضيع الشاه عباس الثالث مكانه على الحكم وأعلن نفسه وصياً عليه [65] ولم يمض عام على هذا الأمر حتى جمع القادة والأعيان في موقف واحد وقال لهم : من تختارون للحكم ؟ فأجمعوا على اختياره هو وعزل الشاه عباس الثالث الرضيع وكانوا يعلمون بأنه يريد هذا الإختيار[66] ، وكانت هذه هي نهاية الدولة الصفوية .
كان ذلك الذي مر معنا هو موقف الصفويين الشيعة في جميع مراحل حكمهم من الدولة العثمانية التي أخذت على عاتقها حماية المسلمين ونشر الإسلام في أوروبا لاسترداد الأندلس ، ولفتح المزيد من الأراضي الأوروبية الصليبية [67] .
وفي الوقت الذي كان فيه ملوك هذه الأسرة فظين غليظين جبارين على أهل السنة كانوا رقيقين لينين مع النصارى كما يعترف بذلك ويُقره الكاتب المؤرخ الشيعي عباس إقبال حيث يقول : " ولم يكن الشاه عباس فظا على غير أهل السنة من دون أتباع سائر المذاهب لذا فقد جلب أثناء غزواته لأرمينية والكرج نحو ثلاثين ألف أسرة من مسيحي هذه الولايات إلى مازنداران وأسكنهم بها كما رحّل إلى أصفهان خمسين ألف أسرة من أرامنة جلفا وإيران وبنى لهم مدينة جلفا على شاطىء نهر زاينده رود وأنشأ لهم فيها الكنائس وشجعهم على التجارة مع الهند والبلاد الخارجية بأن أعطاهم الحرية الكاملة " [68] .
آثار الصدام بين الدولة العثمانية والصفويين
لقد أثر القتال الذي دار بين الدولة العثمانية والصفويين تأثيراً مباشراً على الدولة العثمانية سواء في المجال العسكري وتقدمها في الفتوحات في أرض أوروبا الصليبية أو في اقتصاد الدولة .
فقد أثر القتال على إيرادات الدولة العثمانية من الجمارك التي كانت تحصلها من الطرق القديمة في الأناضول ، إذ أُقفلت معظم الطرق التجارية القديمة التي سادها الخطر ، وصار التبادل التجاري بين الأقاليم الإيرانية والعثمانية محدوداً ؛ إذ انخفض إيراد الدولة العثمانية من الحرير الفارسي في حين تحولت سيطرة البرتغال على البحار الشرقية إلى حصار عام لكل الطرق القديمة بين الشرق والغرب – عبر الشرق الأوسط –التي كانت حينئذ تحت سيطرة الدولة العثمانية [69] .
ولقد استفادت أوروبا اقتصادياً استفادة كبيرة ، حيث كان الاقتصاد الأوروبي متأثرا كثيرا بسبب الحصار العثماني لقوافله ولمناطق النفوذ التجاري فكسدت التجارة الأوروبية في البر وهذا مما شجع البرتغاليين على سلوك جانب البحر لاكتشاف الطرق البحرية ، فكانت رحلة فاسكوديجاما .
حتى البحر كان الأوروبيون يجدون في سلوكه مشقة وكانت تجارتهم فيه تتعرض للحصار ، وكان العثمانيون قد استطاعوا قطع طريق التجارة القديم الذي يربط أوروبا بالشرق ولم يعد الأوروبيون قادرين على حمل بضاعتهم إلى الموانيء الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وكسد حال تجار أوروبا الذين كانوا يتاجرون مع آسيا [70] .
ويكفي قول بوسيك سفير فرديناند في بلاط السلطان محمد الفاتح حين صرح قائلاً : " إن ظهور الصفويين قد حال بيننا ( يقصد الأوروبيين ) وبين التهلكة ( يقصد الهلاك على أيدي العثمانيين ) [71] .
وقد تسببت الكثير من الحروب في أن يرجع القادة العثمانيون من فتوحاتهم في أوروبا ليوقفوا الزحف الصفوي على الأراضي السُنية ، كما حدث مع السلطان سليم العثماني حينما عاد من فتوحاته في أوروبا ليواجه إسماعيل الصفوي ، وكما حدث مع السلطان حينما حاصر النمسا وكان يدك أسوارها لمدة ستة أشهر وكاد أن يفتحها ، ولكن طارت إليه أنباء من الشرق جعلته يُكر راجعاً إلى استانبول ، لقد كانت نذر الخطر الصفوي [72] .
اتفاقيات ومؤامرات الصفويين مع النصارى ضد الدولة العثمانية
في حين كانت الدولة العثمانية رافعة راية الإسلام غازية في أوروبا فاتحة للقسطنطينية مدافعة عن الدول الإسلامية من الهجمات الصليبية ، وتخشاها جميع دول ومماليك أوروبا ، كانت الدولة الصفوية تُحيك المؤامرات ضدها وتدخل في اتفاقيات مع دول أوروبا الصليبية لمحاولة القضاء على القوة العثمانية الإسلامية .
وبشهادة الجميع كان عهد الدولة الصفوية هو عهد إدخال قوى الاستعمار في المنطقة حيث مهدت له الطريق .
ولقد شهد التاريخ كثيراً من تلك المؤامرات وخاصة التي كانت في عهد الشاه إسماعيل الصفوي ، فبعد الهزيمة المرة التي لحقت به في موقعة جالديران أمام السلطان سليم تحرك للتحالف مع البرتغاليين لتغطية الهزيمة التي لحقت به في هذه الموقعة فأقام العلاقات معهم والذين هم أنفسهم كانوا يبحثون عنها فقد كانوا جزءاً من أوروبا التي فرحت بظهور الدولة الصفوية حين لاحت لهم بظهورها فرصة انفراج الضغط العثماني عليهم وعلى تجارتهم ، ولذلك فقد سعت الدول الأوروبية إلى إسماعيل تعرض عليه تثبيت عُرى الصداقة والمودة لحضه على إيجاد علاقات سياسية واقتصادية [73] .
وأما البرتغاليون فقد تمت اتفاقية بين الشاه إسماعيل والبوكرك ، الحاكم البرتغالي في الهند نصت على أربع نقاط هي :
1. تصاحب قوة بحرية برتغالية حملة إيران على البحرين والقطيف
2. تتعاون البرتغال مع إيران في إخماد حركات التمرد في بلوجستان ومكران .
3. تتحد الدولتان في مواجهة الدولة العثمانية .
4. تصرف حكومة إيران النظر عن جزيرة هرمز ، وتوافق على أن يبقى حاكمها تابعاً للبرتغال وأن لا تتدخل في أمورها الداخلية [74] .
وأما اتفاقهم مع جمهورية فينيسيا ( البندقية ) فكانت مخزية كذلك ، فقد كانت فينيسيا من الدول المتأثرة تجاريا بسبب قضاء العثمانيين على الدولة البيزنطية وإغلاقها الطريق الرئيس للتجارة بين أوروبا وآسيا ، فأرسل الشاه إسماعيل السفراء إلى بلاط فينيسيا طالباً الهجوم على العثمانيين عن طريق البحر ، وأن يقوم هو بالهجوم من ناحية البر ، بشرط أن تسترد فينيسيا قواعدها التي فقدتها في البحر الأبيض المتوسط [75] .
ومن الدول التي كانت إيران تسعى لإيجاد علاقات معها للتخلص من الدولة العثمانية أسبانيا والمجر حيث بعث الشاه إسماعيل برسالتين إلى أسبانيا والمجر ، طلب فيها عقد معاهدة صداقة وتعاون بينهم وعرض فكرة اتحاد بغرض سحق الأتراك ، حسب تعبيره [76] .
وكانت للشاه عباس كذلك اتصالات ومؤامرات مع الجانب الصليبي ؛ فقد قدم الشاه عروضا للأسبان عن طريق البنادقة لكي يتقاسما أراضي الدولة العثمانية فتحصل الأولى على الجزء الأوروبي وتستأثر الثانية بالآسيوي ولم يكن هذا العرض سوى واحد من عروض كثيرة حملها سفراء إيرانيون كانوا يقطعون المسافة بين أوروبا وإيران جيئة وذهابا [77] .
كان هذا هو المنهج الذي نهجه الصفويون في تعاملهم مع دولة السُنة ، منهج كيد وتآمر ، ولقد أثر ذلك في كثير من مجريات الأمور، واستفادت الدول الأوروبية منه أعظم استفادة كما مر معنا سابقاً .
ويرى الرافضة أن تقاربهم مع أهل السُنة كما يذكر ذلك ويقرره المؤرخ الشيعي عباس إقبال في كتابه " تاريخ إيران بعد الإسلام " حيث يقول في صفحة ( 647 )" يُعد الشاه إسماعيل بلا شبهة أحد أرشد وأكبر ملوك إيران ومع أنه تخطى جادة الإنصاف والمروءة في تحميل مذهب التشيع على شعب إيران وكان أغلبهم حتى ذاك الوقت من السُنة فسفك دماء كثير من الأبرياء بقسوة إلا أن سياسته في هذا السبيل أي إيجاد الوحدة المذهبية في إيران وجعل المذهب الشيعي مذهباً رسمياً واختيار السيرة التي سار عليها خلفاؤه قد أفضت إلى نتيجة هامة جداً ، هي حفظ المجتمع الإيراني من شر هجمات السلاطين العثمانيين المتعصبين الذين كانوا يسمون أنفسهم من أواخر عهد السلطان سليم أمراء المؤمنين وخلفاء جميع المسلمين وادعوا أن كافة المسلمين لابد أن يطيعوهم بحافز الإيمان كهد الناس في زمن العباسيين وأن يعترفوا بأن إجراء أوامر السلطان فيهم فريضة دينية بعد حكم الله ورسوله r ، وقد حالت سياسة الملوك الصفويين بعداوتهم الدينية للسلاطين العثمانيين دون انخداع أهل إيران بهذه الدعوة وانخراطهم بفقد استقلالهم في المجتمع السني بل إنهم خلافاً لذلك كانوا دائما يتوددون ويرتبطون ببلاد المسيحيين الأوروبية يستقبلون سفرائهم ويبعثون إليهم بمبعوثيهم ، وقد تعرفت إيران إلى حد ما بهذه الطريقة إلى أحوال أوروبا التي كانت في حالة من الرقي ، كما صارت مقدمات لانتقال بعض وسائل الحضارة الجديدة إلى إيران " .
نهاية وانهيار الدولة الصفوية
رغم أنه في عصر الشاه عباس الكبير وصلت الدولة الصفوية إلى درجة كبيرة من التقدم والازدهار إلا أنها أخذت تنحو نحو الانحدار بعد وفاته .
ورغم أن الشاه عباس الكبير قد دفع بإيران إلى التقدم إلا أنه قد زرع في نفس الوقت بذور الضعف في الدولة الصفوية فشرع السوس ينخر في عظامها [78].
وكان قد شاع في أواسط الأسرة الصفوية قتل بعضهم البعض خوفاً على المناصب ، فكانوا يقتلون كل من يتوجسون منه خيفة من أقاربهم حتى وصل الأمر بهم إلى قتل أبنائهم كما فعل الشاه عباس الكبير فقد قتل أبنائه الأربعة وسمل أعينهم كما مر معنا سابقاً .
وكانت كثرة العداوات مع الجيران المسلين سبباً قوياً في إنهاك الدولة وإضعافها ، فحروبهم التي كانوا يخوضونها مع الدولة العثمانية ومع الأُزبك والأكراد والأفغان كان الغرض منها ليس توحيد المسلمين تحت راية واحدة وإقامة خلافة إسلامية ، وإنما الغرض الأساسي هو السيطرة ومد النفوذ ونشر العقيدة والمذهب الشيعي بالقهر والقوة ، وقتل كل من يعارض ذلك فسفكوا الدماء في المدن السُنية التي كانوا يدخلونها ؛ لذلك استمرت الحروب مع الجيران حتى كانت مرحلة الضعف في الدولة الصفوية ومن ثم الانهيار .
وكان القهر الذي يمارس على الشعب والشطط في جباية الضرائب وظلم العمال سببا في قيام الثورات الداخلية ، وكذلك الضعف الاقتصادي الذي ألم بإيران في عصر الشاه عباس نتيجة النظام الإقطاعي الذي أوجده حيث أدى إلى حدوث مجاعات وقلة في المؤن حتى أن العسكر والمدنيين لم يجدوا الرواتب .
وكان من أسباب الانهيار كذلك ضعف الأمراء من بعد الشاه عباس الكبير وميولهم إلى الخمر والنساء وإهمال أمر الدولة ، فقد مرَّ في المباحث السابقة أنه تولى بعد الشاه عباس حفيده صفي ثم خلف صفيا ابنه عباس الثاني وبعده ابنه سليمان ، وخلف سليمان ابنه حسين ، ومن ثم ابن حسين طهماسب الثاني والذي انهار ملك الصفويين في عهده فقد كثُر الخارجين على الدولة من الداخل وكثر الهجوم من الخارج ، من الأفغان والعثمانيين والروس فلم يستطع السيطرة على المنطقة إلا بمساعدة نادر زعيم الافشاريين وعقد حلفاً معه ، فقد كان قائدا ذكيا شجاعا استطاع السيطرة على المنطقة والقضاء على الفتن الداخلية وإيقاف وصد الهجمات الخارجية ومن ثم قام بعزل طهماسب وأقام ابنه عباس الثالث الرضيع مكانه وأعلن نفسه وصيا على العرش ولم تمض ستة أشهر حتى أخذ الملك لنفسه باختيار القادة والأمراء حوله .
وكانت هذه نهاية طبيعية لدولة قامت على الظلم والتفريق بين الأمة والتحالف مع أعدائها ، وقد كانت الفترة التي قضتها الأسرة على كرسي الحكم قرنين ونصف القرن .