- الأحد نوفمبر 17, 2013 5:25 pm
#65535
لا شك أن الفكر السياسي العربي بشقيه الإسلامي وغيره متورطّ في أزمة لم يستطع الفكاك منها حتى الآن، فهو يعاني ازدواجية في الانتماء، وغياباً كاملاً لدور «الأمة»، وهكذا فالانشغال بتحليل تلك الأزمة كان ولا يزال مطلباً ملحاً، ومن هنا تأتي هذه الحلقة من (سلسلة حوارات لقرن جديد) المعروفة عن دار الفكر، من خلال متخصِّصَيْن بالفكر السياسي العربي والإسلامي لمناقشة هذه القضية في مستواها العميق.
يبدأ رضوان السيد أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية الكتاب ببحثه «أزمة الفكر السياسي الإسلامي» طارحاً قراءة تحليلية «تطورية» (تاريخية) لبنية الفكر الإسلامي السياسي، منذ الإصلاحية العربية حتى التسعينيات من القرن الماضي، ويرى السيد أن الإصلاحيين: الأفغاني وعبده ومن ينتمي إلى مدرستهم ينظرون إلى مبدأ السيادة «سيادة الأمة» على أنه إسلامي، مطابقين بين مفهوم الشورى والديمقراطية، كل ذلك تحت تأثير أفكار الثورة الفرنسية التي وصل إليهم إشعاعها. ورغم تنازع الإسلاميين بعد ذلك حول مبدأ «السيادة» ذاك، فإنه في الثمانينيات والتسعينيات عادت الفكرة إلى محط اهتمامهم، لكن في كل ذلك كانت السيادة تمرّ عبر «نخبة» (أهل الحل والعقد)، وظلت «المرجعية» العليا التي لابد أن يستند إليها الدستور والتي تميّز الفكر السياسي الإسلامي عما عداه دون مناقشة في العمق، إلى أن ظهرت أحداث سقوط الخلافة العثمانية وبروز الاستعمار، ثم صعود الدولة الوطنية العلمانية، فأفضى الحديث عن «المرجعية» إلى الحديث عن «الحاكمية» الذي اشتهرت نسبته منذ مطلع الستينيات إلى أبي الأعلى المودوي وسيد قطب.
وفي كل الأطوار كان يُنظر إلى «الدولة» (سواء من الإسلاميين أم من غيرهم) على أنها أداة ذات طابع وظيفي، امتداداً لفقه «السياسة الشرعية» الذي رأى واجتهد في شرعية السلطانية على أساس بقاء وظيفتيها: الكفاية والشوكة، وبذلك قامت الخلافة. وهكذا مع سقوط الخلافة (أو إسقاطها) وصعود الدولة العلمانية وتجربة الاستعمار المريرة أصبحت «الخلافة» أو استعادة الخلافة مطلباً طالما تأزم الفكر السياسي الإسلامي في طريقه إليه، وأنفق أكثر من عقدين لأجل تلك الاستعادة بصيغتها القديمة أو المؤوّلة (الدولة الإسلامية)، بل إن الشيخ تقي النبهاني وحزبه لم يتجاوزا هذه المسألة إلى اليوم!.
سقوط الخلافة كان فجيعةً حقيقية، بدا بعدها أن هناك تماهياً بين الخلافة والإسلام، وأن «الأمة» (القومية) توضعُ في مواجهتهما، لذا كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار لوضع الشريعة (الإسلام) في الواجهة، وليس «الأمة» حيث اتجهت «الأمة» في وعيهم للتماهي مع الدولة الوطنية العلمانية الجديدة.
كانت الأولوية لدى النخب الإسلامية والوطنية لمكافحة الاستبداد، ثم الاستعمار، ثم للحفاظ على الهوية في وجه تيارات التغريب والاستلاب والغزو، ولهذا فإن التحرير الثقافي والفكري الذي اقتضاه زوال الخلافة لم يتجه إلى اعتبار مبدأ سيادة «الأمة» بديلاً لمؤسسة الخلافة أو لاهوتها بل استبدل بلاهوت الخلافة تدريجياً قدسية القرآن، وهو معنى قول حسن البنا: القرآن دستورنا.
وفي الوقت الذي كان فيه الإسلاميون يعرضون عن ائتمان الأمة على الإسلام، كانت الشريعة فيه (باعتبارها جوهرة) تتخذ في وعي الإسلاميين ما يشبه أيديولوجيا النُخبة، التي تتحشّد لاستعادة الإسلام؛ ليس إلى السلطة وحسب، بل إلى وعي الجمهور أيضاً، وهذا معنى الجاهلية السائدة، والحاكمية المنطلقة لاستعادة الأمور. وهكذا بدأ الصراع: صراعٌ بين الله جل وعلا و«الفتية الذين آمنوا بربهم»، وبين الطغاة الذين سلبوه أو سلبوا المسلمين، الألوهية والعبودية معاً إذ صاروا أرباباً بالتحكم بالتشريع الوضعي.
لا تعليل لغياب مبدأ «سيادة الأمة» تدريجياً في الفكر السياسي المعاصر غير هشاشته لدى الإصلاحيين ، تلك الهشاشة التي أصابها إلغاء الخلافة في الصميم، ثم ضربتها ضربةً قاصمةً صراعاتُ الأنظمة مع الإسلاميين.
لقد اعتُبر أن مبدأ سيادة الشعب وسلطته، لا يعطي الأمة حرية الاختيار حقاً، بدليل دفاع الجمهور وراء الفاشيين والنازيين ثم وراء القوميين، وقتها كانت «الشريعة» التي اتخذت أساساً للمشروعية، قد تحولت إلى أيديولوجيا نخبة، مثل الأيديولوجيات الأخرى، وصارت هذه الأيديولوجيا معياراً لإيمان الجماعة وعدمه، ولم يعد هناك حلول وسطية. وعندما تمّ التمييز بين الدين والأيديولوجيا (المذهبية الحزبية)، وبين الدعوة والجهاد، جنّب الإسلام أن يتحول إلى فكر مجموعة ضيقة الأفق، وفي المحصلة أبقى الدين ودعوته في يد نخبة هي نخبة الصحويين (الحالِّين محل الفقهاء). ويبقى أن ما لم يتعرض له الإسلاميون (غير الثوريين) بالنقد والتمحيص هو تلك الرؤية لـ «الأمة» وموقعها من الشريعة، وموقع «الشريعة» منها وفيها، ولذلك بقي الافتراق بين الطرفين وتجذر.
إنه بغياب الأمة من دائرة الاهتمام فإنه يبدو منطقياً أن لا يكون هناك تفكير كثير في الآليات التي تمكن الناس من صون مصالحهم، كما لم يكن هناك تفكير مقارن في التجارب الغربية الحديثة لتمكين الجمهور من مباشرة أمر مصالحه بنفسه.
باختصار الأمة حاضرة مبدئياً في الوعي والفقه القديم، لكن الخلافة «تختصرها»، والشريعة حاضرة في وعي النخبة الإسلامية المعاصرة، لكن الدولة هي التي تمكّن من وضعها موضع التطبيق، وهكذا حلت " الدولة " محل «الأمة» في وعي الإسلاميين، بعد أن حصرت ظروف التأزم: الدين في الشريعة، وتحولت الشريعة إلى أيديولوجيا. حتى ساد وعي لدى بعض الإسلاميين (خصوصاً في باكستان ومصر) أنهم لا يمثلون الأمة، بل «دينها»! كما غابت التفرقة بين الشريعة والفقه، عندما صارت الشريعة أيديولوجيا، أما السلوك العنيف الذي يظهر لدى بعض فئات الحزبيين الإسلاميين فتفسّره الظروف والبيئات المحيطة أكثر مما تفسّر التطورات الأيديولوجية (الفكرية الحزبية) التي ظهرت في تلك الظروف.
بدأت نقاشات الخروج من المأزق في الثمانينيات، وعاد كثير من الإسلاميين للحديث عن كيفيات الخروج من العنف، والخروج من الانفصام بين الأمة والشريعة، وسادت أخيراً الفكرة القائلة بأن مرجعية الشريعة لا تتنافى والديمقراطية الإجرائية المعنية بتولّي الناس لأمورهم.. وهكذا عاد التواصل بين «نظام الشورى» لدى المفكرين الإسلاميين و«النظام الديمقراطي» لا على سبيل التماهي والتماثل، بل على أساس أنهما نظامان مختلفان، لكنهما يتلاقيان في أمور كثيرة، وقد استتبع هذا التطور في النظر إلى مسألة المشروعية (الأمة مصدر السلطات)، المصير للقول بالتعددية السياسية والحزبية، وإمكان المشاركة في الآليات التي تقتضيها الحياة السياسية الحديثة. وهناك اجتهادات يتقدم بها فقهاء كبار على تفاوت في أشكال التأسيس وآلياته، ومع ذلك فإن التأزم في التفكير والتصرف السياسيَّين لم ينته بعد، وليست تلك مسؤولية جماعات الإسلام السياسي وحدها، فالتغيير السياسي باتجاه «الأمة» لا يحول دونه الإسلاميون.
أما عبد الإله بلقزيز أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني في المغرب الذي قدم بحثه بعنوان «الفكر السياسي العربي: التكوين والعوائق»، فإنه يرى أن الفكر العربي الحديث برمته ولد مع ولادة الفكر السياسي، حيث تكاد المقالة السياسية فيه تختصر تاريخه منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، حتى الكتابات الفقهية لم تكن بعيدة جداً عن أجواء «نوازل» السياسة، بل إنه يعزو مركزية الفكر السياسي تلك إلى الحقبة الوسيطة التي ازدهرت فيها موضوعات «السياسة الشرعية» مع الفقهاء (الماوردي، والغزالي وابن تيمية، وابن قيم الجوزية) والفلسفة السياسية (مع الفارابي)، و«الآداب السلطانية» (مع كتاب الدواوين والفقهاء..)، وإذا كانت في العصر الوسيط نشأت تحت تأثيرات ذاتية داخلية، فإنها في العصر الحديث ولدت بتأثيرات برانية تتلخص في صورة الحداثة التي أطلعتها على نموذج الدولة الحديثة، وتأثيرات مارسها فكر غربي وافد على وعي تلك النخبة ثم حاجات داخلية فرضها منزع الدولة الإسلامية في القرن التاسع عشر أي (التنظيمات الإسلامية)، وسيظل الفكر العربي بتياراته المختلفة رهيناً لتلك الأطر العامة طيلة تاريخه الحديث.
يقوم بحث بلقزيز على أساس التفريق بين مرحلتين نوعيتين في الفكر السياسي العربي، أولاهما مرحلة فكر النهضة والثانية الثورية العربية.
اكتشف الجيل الأول (من فكر النهضة) الإصلاحي الدولة فيما اكتشف الثاني (من فكر النهضة) (عبده ومدرسته) الدولة والمجتمع، وفيما تلقى الأول الدولة الأوروبية في صورتها القهرية الاستعمارية، تلقى الثاني الدولة الأوروبية في صورتها المنظمة والعادلة، فقد أتيح له رؤيتها من داخلها وعن قرب.
يجمع بين المرحلتين: الانشداد إلى ذات المنظومة النهضوية بثوابتها الفكرية المتكررة، لكن أولى الاختلاف بينهما هو في المقالة الفكرية، فالأولى كانت متفتحة على العصر ومعتدلة، فيما أوغلت الثانية في الانشداد إلى المصادر الذاتية الإسلامية معرضةً عن العصر، أي أن الاختلاف يكمن في نوعية الصلة بين كل واحدة منهما وبين منظومة الفكر الإسلامي السياسي التقليدي.
دشن رشيد رضا القطيعة بين الإصلاحية والمرحلة التي تلتها، وهو الوحيد الذي انفرد بعد سقوط الخلافة العثمانية بمقاطعة المنظومة المفاهيمية الحديثة، والعودة إلى مفردات السياسة الشرعية في سياق اكتشافه لابن تيمية. ما فعلته هذه النقلة مع رشيد رضا هو أنها أزاحت موضوعة الدولة الحديثة التي كرستها الإصلاحية استعاضت عنها بفكرة «الخلافة» ذات الجذور الإسلامية، واستدعت منظومة المفاهيم السياسية الشرعية مجدداً واعتمادها على مرجعية وحيدة.. لقد قدم رضا بانقلابه على الفكر الإصلاحي دليلاً على إخفاق الفكرة الإصلاحية حول مفهوم الدولة.
وبالرغم من اعتراف حسن البنا بالدستور، وسلوكه الاعتدالي والواقعي في الدعوة إلى «فكر الأخوان المسلمين» إلاّ أنه من رحم هذه المؤسسة وفكرها، ومن رحم فكرة «الدولة الإسلامية» (للبنا) خرجت أفكار «الحاكمية» و«جاهلية القرن العشرين» و«الفريضة الغائبة» والتكفير... من منتصف القرن العشرين!.
تزامن صعود الخطاب الإسلامي المعاصر (الصحوي) مع البنا وحركة الإخوان المسلمين، مع خطاب نهضوي جديد في التشكل؛ من خلال تيارين فكريين صاعدين: التيار القومي والتيار الاشتراكي، كانت فكرة التقدم هي الحاكمة للخطاب الإصلاحي أو النهضوي الأول، ولم تختلف الفكرة في النهضوي الجديد لكنها تحددت أيديولوجياً في مطلبين: التوحيد القومي والاشتراكية.
وفيما نجحت الإصلاحية النهضوية في تأصيل موضوعاتها الفكرية في النسيج الثقافي العربي الإسلامي على نحوٍ لم يعد فيه خطابها برّانياً، فشلت النهضوية القومية والماركسية في ذلك، فبدا خطابها غربياً في السياق الثقافي الإسلامي العربي. واليوم لا تمثل عودة بعض الخطابات القومية إلى إعادة تأسيس موضوعاتها على قاعدة استيعاب الجامع الديني في بنيته، إلا محاولة ولو متأخرة لتدارك ثغرة الانفصال عن الأصول الثقافية والدينية لأمّة انتدب الخطاب إياه نفسه لخدمة قضيتها.
وبالرغم من أن بعض الإسلاميين عاد وقطع شوطاً باتجاه طريق المصالحة مع الديمقراطية والنظام الدستوري لكنه على كل حال لم يكن أطول من الشوط الذي كان قد قطعه حسن البنا.
ينتهي بلقزيز في بحثه إلى أن المعضلة قائمة في الفكر السياسي العربي نفسه، في بنية تكوينه وآليات اشتغاله، فهو ينتج تنظيرات مبنية على منظومات فكرية مسبقة الصنع، ويحاول دوماً «إجبار» الواقع على الدخول في قوالبها بناءً على «حتميات» و«كوننة مفاهيم» (أي جعل مفاهيم ما كونية وليست محلية؛ إشارة إلى الفكر الغربي الوافد). لقد تحدث الفكر العربي بمجموعه عن «دولة مثالية» لا علاقة لها بالواقع، وهكذا ذهب بلقزيز يحلل سمات الفكر العربي وخطابه، وانتهى إلى ضرورة بناء فكري سياسي قائم على معرفة سياسية، لا على أيديولوجيا سياسية، التي طالما شكلته وأعاقت تقدمه، بحيث أن مستقبل فكر سياسي عربي متوقف على تحرره من هذه الأيديولوجيا المستحكمة في نظام اشتغاله، لكن بلقزيز ما يلبث حتى يسقط في حل «توحيدي»، أي البحث عن فكر واحد يختزل التلوينات المتنوعة للفكر العربي بما فيه الإسلامي، بدل أن يطرح إمكانية صياغة لفكر عربي متعدد، لأن ذلك سيؤدي إلى السقوط في الأيديولوجيا ثانية بالرغم من تحرزه الشديد منها. على كل حال يقترح بلقزيز أن نأخذ «الهوية الثقافية» من الإسلاميين و«المسألة الكيانية» من القوميين، ومسألتي التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة من الماركسيين ، ومن الليبراليين «مسألة الديمقراطية والدولة الوطنية» من أجل صياغة مقالة جديدة، لبدء فكر عربي سياسي جديد متحرر من معضلته السابقة! لكن هذا الحل، الذي يبدو حالماً جداً وتوفيقياً، يتعامل مع تجميع لحل مشكلات في الواقع، ولكنه لا يقوم على أمراض بنيوية مزمنة في العمق كما يقول رضوان السيد.
يبدأ رضوان السيد أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية الكتاب ببحثه «أزمة الفكر السياسي الإسلامي» طارحاً قراءة تحليلية «تطورية» (تاريخية) لبنية الفكر الإسلامي السياسي، منذ الإصلاحية العربية حتى التسعينيات من القرن الماضي، ويرى السيد أن الإصلاحيين: الأفغاني وعبده ومن ينتمي إلى مدرستهم ينظرون إلى مبدأ السيادة «سيادة الأمة» على أنه إسلامي، مطابقين بين مفهوم الشورى والديمقراطية، كل ذلك تحت تأثير أفكار الثورة الفرنسية التي وصل إليهم إشعاعها. ورغم تنازع الإسلاميين بعد ذلك حول مبدأ «السيادة» ذاك، فإنه في الثمانينيات والتسعينيات عادت الفكرة إلى محط اهتمامهم، لكن في كل ذلك كانت السيادة تمرّ عبر «نخبة» (أهل الحل والعقد)، وظلت «المرجعية» العليا التي لابد أن يستند إليها الدستور والتي تميّز الفكر السياسي الإسلامي عما عداه دون مناقشة في العمق، إلى أن ظهرت أحداث سقوط الخلافة العثمانية وبروز الاستعمار، ثم صعود الدولة الوطنية العلمانية، فأفضى الحديث عن «المرجعية» إلى الحديث عن «الحاكمية» الذي اشتهرت نسبته منذ مطلع الستينيات إلى أبي الأعلى المودوي وسيد قطب.
وفي كل الأطوار كان يُنظر إلى «الدولة» (سواء من الإسلاميين أم من غيرهم) على أنها أداة ذات طابع وظيفي، امتداداً لفقه «السياسة الشرعية» الذي رأى واجتهد في شرعية السلطانية على أساس بقاء وظيفتيها: الكفاية والشوكة، وبذلك قامت الخلافة. وهكذا مع سقوط الخلافة (أو إسقاطها) وصعود الدولة العلمانية وتجربة الاستعمار المريرة أصبحت «الخلافة» أو استعادة الخلافة مطلباً طالما تأزم الفكر السياسي الإسلامي في طريقه إليه، وأنفق أكثر من عقدين لأجل تلك الاستعادة بصيغتها القديمة أو المؤوّلة (الدولة الإسلامية)، بل إن الشيخ تقي النبهاني وحزبه لم يتجاوزا هذه المسألة إلى اليوم!.
سقوط الخلافة كان فجيعةً حقيقية، بدا بعدها أن هناك تماهياً بين الخلافة والإسلام، وأن «الأمة» (القومية) توضعُ في مواجهتهما، لذا كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار لوضع الشريعة (الإسلام) في الواجهة، وليس «الأمة» حيث اتجهت «الأمة» في وعيهم للتماهي مع الدولة الوطنية العلمانية الجديدة.
كانت الأولوية لدى النخب الإسلامية والوطنية لمكافحة الاستبداد، ثم الاستعمار، ثم للحفاظ على الهوية في وجه تيارات التغريب والاستلاب والغزو، ولهذا فإن التحرير الثقافي والفكري الذي اقتضاه زوال الخلافة لم يتجه إلى اعتبار مبدأ سيادة «الأمة» بديلاً لمؤسسة الخلافة أو لاهوتها بل استبدل بلاهوت الخلافة تدريجياً قدسية القرآن، وهو معنى قول حسن البنا: القرآن دستورنا.
وفي الوقت الذي كان فيه الإسلاميون يعرضون عن ائتمان الأمة على الإسلام، كانت الشريعة فيه (باعتبارها جوهرة) تتخذ في وعي الإسلاميين ما يشبه أيديولوجيا النُخبة، التي تتحشّد لاستعادة الإسلام؛ ليس إلى السلطة وحسب، بل إلى وعي الجمهور أيضاً، وهذا معنى الجاهلية السائدة، والحاكمية المنطلقة لاستعادة الأمور. وهكذا بدأ الصراع: صراعٌ بين الله جل وعلا و«الفتية الذين آمنوا بربهم»، وبين الطغاة الذين سلبوه أو سلبوا المسلمين، الألوهية والعبودية معاً إذ صاروا أرباباً بالتحكم بالتشريع الوضعي.
لا تعليل لغياب مبدأ «سيادة الأمة» تدريجياً في الفكر السياسي المعاصر غير هشاشته لدى الإصلاحيين ، تلك الهشاشة التي أصابها إلغاء الخلافة في الصميم، ثم ضربتها ضربةً قاصمةً صراعاتُ الأنظمة مع الإسلاميين.
لقد اعتُبر أن مبدأ سيادة الشعب وسلطته، لا يعطي الأمة حرية الاختيار حقاً، بدليل دفاع الجمهور وراء الفاشيين والنازيين ثم وراء القوميين، وقتها كانت «الشريعة» التي اتخذت أساساً للمشروعية، قد تحولت إلى أيديولوجيا نخبة، مثل الأيديولوجيات الأخرى، وصارت هذه الأيديولوجيا معياراً لإيمان الجماعة وعدمه، ولم يعد هناك حلول وسطية. وعندما تمّ التمييز بين الدين والأيديولوجيا (المذهبية الحزبية)، وبين الدعوة والجهاد، جنّب الإسلام أن يتحول إلى فكر مجموعة ضيقة الأفق، وفي المحصلة أبقى الدين ودعوته في يد نخبة هي نخبة الصحويين (الحالِّين محل الفقهاء). ويبقى أن ما لم يتعرض له الإسلاميون (غير الثوريين) بالنقد والتمحيص هو تلك الرؤية لـ «الأمة» وموقعها من الشريعة، وموقع «الشريعة» منها وفيها، ولذلك بقي الافتراق بين الطرفين وتجذر.
إنه بغياب الأمة من دائرة الاهتمام فإنه يبدو منطقياً أن لا يكون هناك تفكير كثير في الآليات التي تمكن الناس من صون مصالحهم، كما لم يكن هناك تفكير مقارن في التجارب الغربية الحديثة لتمكين الجمهور من مباشرة أمر مصالحه بنفسه.
باختصار الأمة حاضرة مبدئياً في الوعي والفقه القديم، لكن الخلافة «تختصرها»، والشريعة حاضرة في وعي النخبة الإسلامية المعاصرة، لكن الدولة هي التي تمكّن من وضعها موضع التطبيق، وهكذا حلت " الدولة " محل «الأمة» في وعي الإسلاميين، بعد أن حصرت ظروف التأزم: الدين في الشريعة، وتحولت الشريعة إلى أيديولوجيا. حتى ساد وعي لدى بعض الإسلاميين (خصوصاً في باكستان ومصر) أنهم لا يمثلون الأمة، بل «دينها»! كما غابت التفرقة بين الشريعة والفقه، عندما صارت الشريعة أيديولوجيا، أما السلوك العنيف الذي يظهر لدى بعض فئات الحزبيين الإسلاميين فتفسّره الظروف والبيئات المحيطة أكثر مما تفسّر التطورات الأيديولوجية (الفكرية الحزبية) التي ظهرت في تلك الظروف.
بدأت نقاشات الخروج من المأزق في الثمانينيات، وعاد كثير من الإسلاميين للحديث عن كيفيات الخروج من العنف، والخروج من الانفصام بين الأمة والشريعة، وسادت أخيراً الفكرة القائلة بأن مرجعية الشريعة لا تتنافى والديمقراطية الإجرائية المعنية بتولّي الناس لأمورهم.. وهكذا عاد التواصل بين «نظام الشورى» لدى المفكرين الإسلاميين و«النظام الديمقراطي» لا على سبيل التماهي والتماثل، بل على أساس أنهما نظامان مختلفان، لكنهما يتلاقيان في أمور كثيرة، وقد استتبع هذا التطور في النظر إلى مسألة المشروعية (الأمة مصدر السلطات)، المصير للقول بالتعددية السياسية والحزبية، وإمكان المشاركة في الآليات التي تقتضيها الحياة السياسية الحديثة. وهناك اجتهادات يتقدم بها فقهاء كبار على تفاوت في أشكال التأسيس وآلياته، ومع ذلك فإن التأزم في التفكير والتصرف السياسيَّين لم ينته بعد، وليست تلك مسؤولية جماعات الإسلام السياسي وحدها، فالتغيير السياسي باتجاه «الأمة» لا يحول دونه الإسلاميون.
أما عبد الإله بلقزيز أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني في المغرب الذي قدم بحثه بعنوان «الفكر السياسي العربي: التكوين والعوائق»، فإنه يرى أن الفكر العربي الحديث برمته ولد مع ولادة الفكر السياسي، حيث تكاد المقالة السياسية فيه تختصر تاريخه منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، حتى الكتابات الفقهية لم تكن بعيدة جداً عن أجواء «نوازل» السياسة، بل إنه يعزو مركزية الفكر السياسي تلك إلى الحقبة الوسيطة التي ازدهرت فيها موضوعات «السياسة الشرعية» مع الفقهاء (الماوردي، والغزالي وابن تيمية، وابن قيم الجوزية) والفلسفة السياسية (مع الفارابي)، و«الآداب السلطانية» (مع كتاب الدواوين والفقهاء..)، وإذا كانت في العصر الوسيط نشأت تحت تأثيرات ذاتية داخلية، فإنها في العصر الحديث ولدت بتأثيرات برانية تتلخص في صورة الحداثة التي أطلعتها على نموذج الدولة الحديثة، وتأثيرات مارسها فكر غربي وافد على وعي تلك النخبة ثم حاجات داخلية فرضها منزع الدولة الإسلامية في القرن التاسع عشر أي (التنظيمات الإسلامية)، وسيظل الفكر العربي بتياراته المختلفة رهيناً لتلك الأطر العامة طيلة تاريخه الحديث.
يقوم بحث بلقزيز على أساس التفريق بين مرحلتين نوعيتين في الفكر السياسي العربي، أولاهما مرحلة فكر النهضة والثانية الثورية العربية.
اكتشف الجيل الأول (من فكر النهضة) الإصلاحي الدولة فيما اكتشف الثاني (من فكر النهضة) (عبده ومدرسته) الدولة والمجتمع، وفيما تلقى الأول الدولة الأوروبية في صورتها القهرية الاستعمارية، تلقى الثاني الدولة الأوروبية في صورتها المنظمة والعادلة، فقد أتيح له رؤيتها من داخلها وعن قرب.
يجمع بين المرحلتين: الانشداد إلى ذات المنظومة النهضوية بثوابتها الفكرية المتكررة، لكن أولى الاختلاف بينهما هو في المقالة الفكرية، فالأولى كانت متفتحة على العصر ومعتدلة، فيما أوغلت الثانية في الانشداد إلى المصادر الذاتية الإسلامية معرضةً عن العصر، أي أن الاختلاف يكمن في نوعية الصلة بين كل واحدة منهما وبين منظومة الفكر الإسلامي السياسي التقليدي.
دشن رشيد رضا القطيعة بين الإصلاحية والمرحلة التي تلتها، وهو الوحيد الذي انفرد بعد سقوط الخلافة العثمانية بمقاطعة المنظومة المفاهيمية الحديثة، والعودة إلى مفردات السياسة الشرعية في سياق اكتشافه لابن تيمية. ما فعلته هذه النقلة مع رشيد رضا هو أنها أزاحت موضوعة الدولة الحديثة التي كرستها الإصلاحية استعاضت عنها بفكرة «الخلافة» ذات الجذور الإسلامية، واستدعت منظومة المفاهيم السياسية الشرعية مجدداً واعتمادها على مرجعية وحيدة.. لقد قدم رضا بانقلابه على الفكر الإصلاحي دليلاً على إخفاق الفكرة الإصلاحية حول مفهوم الدولة.
وبالرغم من اعتراف حسن البنا بالدستور، وسلوكه الاعتدالي والواقعي في الدعوة إلى «فكر الأخوان المسلمين» إلاّ أنه من رحم هذه المؤسسة وفكرها، ومن رحم فكرة «الدولة الإسلامية» (للبنا) خرجت أفكار «الحاكمية» و«جاهلية القرن العشرين» و«الفريضة الغائبة» والتكفير... من منتصف القرن العشرين!.
تزامن صعود الخطاب الإسلامي المعاصر (الصحوي) مع البنا وحركة الإخوان المسلمين، مع خطاب نهضوي جديد في التشكل؛ من خلال تيارين فكريين صاعدين: التيار القومي والتيار الاشتراكي، كانت فكرة التقدم هي الحاكمة للخطاب الإصلاحي أو النهضوي الأول، ولم تختلف الفكرة في النهضوي الجديد لكنها تحددت أيديولوجياً في مطلبين: التوحيد القومي والاشتراكية.
وفيما نجحت الإصلاحية النهضوية في تأصيل موضوعاتها الفكرية في النسيج الثقافي العربي الإسلامي على نحوٍ لم يعد فيه خطابها برّانياً، فشلت النهضوية القومية والماركسية في ذلك، فبدا خطابها غربياً في السياق الثقافي الإسلامي العربي. واليوم لا تمثل عودة بعض الخطابات القومية إلى إعادة تأسيس موضوعاتها على قاعدة استيعاب الجامع الديني في بنيته، إلا محاولة ولو متأخرة لتدارك ثغرة الانفصال عن الأصول الثقافية والدينية لأمّة انتدب الخطاب إياه نفسه لخدمة قضيتها.
وبالرغم من أن بعض الإسلاميين عاد وقطع شوطاً باتجاه طريق المصالحة مع الديمقراطية والنظام الدستوري لكنه على كل حال لم يكن أطول من الشوط الذي كان قد قطعه حسن البنا.
ينتهي بلقزيز في بحثه إلى أن المعضلة قائمة في الفكر السياسي العربي نفسه، في بنية تكوينه وآليات اشتغاله، فهو ينتج تنظيرات مبنية على منظومات فكرية مسبقة الصنع، ويحاول دوماً «إجبار» الواقع على الدخول في قوالبها بناءً على «حتميات» و«كوننة مفاهيم» (أي جعل مفاهيم ما كونية وليست محلية؛ إشارة إلى الفكر الغربي الوافد). لقد تحدث الفكر العربي بمجموعه عن «دولة مثالية» لا علاقة لها بالواقع، وهكذا ذهب بلقزيز يحلل سمات الفكر العربي وخطابه، وانتهى إلى ضرورة بناء فكري سياسي قائم على معرفة سياسية، لا على أيديولوجيا سياسية، التي طالما شكلته وأعاقت تقدمه، بحيث أن مستقبل فكر سياسي عربي متوقف على تحرره من هذه الأيديولوجيا المستحكمة في نظام اشتغاله، لكن بلقزيز ما يلبث حتى يسقط في حل «توحيدي»، أي البحث عن فكر واحد يختزل التلوينات المتنوعة للفكر العربي بما فيه الإسلامي، بدل أن يطرح إمكانية صياغة لفكر عربي متعدد، لأن ذلك سيؤدي إلى السقوط في الأيديولوجيا ثانية بالرغم من تحرزه الشديد منها. على كل حال يقترح بلقزيز أن نأخذ «الهوية الثقافية» من الإسلاميين و«المسألة الكيانية» من القوميين، ومسألتي التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة من الماركسيين ، ومن الليبراليين «مسألة الديمقراطية والدولة الوطنية» من أجل صياغة مقالة جديدة، لبدء فكر عربي سياسي جديد متحرر من معضلته السابقة! لكن هذا الحل، الذي يبدو حالماً جداً وتوفيقياً، يتعامل مع تجميع لحل مشكلات في الواقع، ولكنه لا يقوم على أمراض بنيوية مزمنة في العمق كما يقول رضوان السيد.