منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

By عبدالله سليمان ٣٣٦
#65766
الملكة زباء

صورة

اشتهر من العرب نساء كثيرات عرفن بالحزم والشهامة والتدبير ورجاعة العقل ؛ حتى فقن بعض عظماء الرجال في ذلك ، ومن هؤلاء بلقيس ملكة سبأ ، والزباء ملكة تدمر ، حيث استطاعت كل منهما أن تبني لها مجدا قل مثيله بين الرجال ، وحديثي الآن عن الزباء ، ولا أقصد من الحديث عنها مجرد القص الذي يتخذ للتسلية ، وإنما أقصد استنباط العبرة وأخذ العظة وتقديم نموذج للنساء في بعد الهمة والقدرة على مواجهة التحدي من أعتى الأعداء .
وتتفق المصادر العربية والعجمية على أن الزباء هذه قد حكمت "تدمر" ردحا من الزمن ، وأنها أقامت حضارة عظيمة بها وشيدت المدن وعمرت شاطئ الفرات وأقامت عليه السدود وتحته الأنفاق ، غير أنها تختلف اختلافا كليا في ذكر تفاصيل حياتها وكيف كانت نهايتها ..
فبينما تذكر المصادر العربية والتي اعتمدت اعتمادا كليا على الروايات الشفهية التي كانت تتناقل شفهيا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ( لأن العرب وقتها كانت أمة أمية ولا يعرفون شيئا عن المصنفات العلمية ) وهذه بالطبع عرضة للتحريف والزيادة والنقصان وربما غزتها الأساطير ـ أقول تذكر تلك الروايات أنه كان يملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام رجل يسمى "عمرو بن ظرب بىن حسان بن أذينة " فجمع رجل من ملوك العراق يسمى " جذيمة " جموعا كثيرة من العرب ، فسار إليه يريد غزاته ..
وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل عمرو بن ظرب ، وانفضت جموعه ، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين .(1).
فملكت من بعد عمرو ابنته "الزباء " صاحبة قصتنا ، وكان جنودها بقايا من العماليق والعرب العاربة الأولى ، وأنه كان لها أخت يقال لها زبيبة فبنت لها قصرا حصينا على شاطئ الفرات الغربي ، وكانت تشتو عند أختها وتربع ببطن النجار وتصير إلى تدمر ، فلما أن استجمع لها أمرها واستحكم لها ملكها أجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها ، فقالت لها أختها زبيبة ، وكانت ذات رأي ودهاء وإرب : يا زباء إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده ، إن ظفرت أصبت ثأرك ، وإن قتلت ذهب ملكك ، والحرب سجال وعثراتها لا تستقال ، وإن كعبك لم يزل ساميا على من ناوأك وساماك ، ولم تري بؤسا ولا غيرا ، ولا تدرين لمن تكون العاقبة ، وعلى من تكون الدائرة ، فقالت لها الزباء : قد أديت النصيحة ، وأحسنت الروية ، وإن الرأي ما رأيت ، والقول ما قلت ..
فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة ، ورفضت ذلك ، وأتت أمرها من وجوه الختل والخدع والمكر ، فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها ، وأن يصل بلاده ببلادها ، وكان فيما كتبت به أنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع وضعف في السلطان وقلة ضبط المملكة ، وإنها لم تجد لملكها موضعا ولا لنفسها كفئا غيرك ، فأقبل إلي فأجمع ملكي إلى ملكك ، وصل بلادي ببلادك ، وتقلد أمري مع أمرك ..
فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة ، وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته إليه ، ورغب فيما أطمعته فيه ، وجمع إليه أهل الحجى والنهى من ثقات أصحابه وهو بالبقة من شاطئ الفرات ، فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء وعرضته عليه ، واستشارهم في أمره ، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ، ويستولي على ملكها ، وكان فيهم رجل يقال له : قصير بن سعد بن عمر بن جذيمة بن قيس ، وكان أريبا حازما أثيرا عند جذيمة ناصحا ، فخالفهم فيما أشاروا به عليه ، وقال : رأي فاتر ، وغدر حاضر ، فذهبت مثلا ، فرادوه الكلام ونازعوه الرأي ، فقال : إني لأرى أمرا ليس بالخسا ولا الزكا ، فذهبت مثلا ، وقال لجذيمة : اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك ، وإلا لم تمكنها من نفسك ، ولم تقع في حبالها ، وقد وترتها وقتلت أباها ، فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير .(2).
فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجعه على المسير ، وقال : إن نمارة قومي مع الزباء ، ولو قدروا لصاروا معك فأطاعه وعصى قصيرا...
واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه ، وجعل عمرو بن عبد الجن الجرمي معه على خيوله ، وسار في وجوه أصحابه فأخذ على الفرات من الجانب الغربي ، فلما نزل الفرضة استقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف ، فقال : يا قصير كيف ترى ؟ قال : خطر يسير في خطب كبير ، فذهبت مثلا ، وستلقاك الخيول ، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة ، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك فإن القوم غادرون ، فاركب العصا ( وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى ) فإني راكبها ومسايرك عليها ، فلقيته الخيول والكتائب فحالت بينه وبين العصا ، فركبها قصير وفر ..
وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزباء ، فأظهرت له الغدر : وقالت إني أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب ثم أجلسته على نطع وقطعت أوردته وتركته ينزف حتى مات .
فقال قصير لعمرو بن عدي : تهيأ واستعد ، ولا تطل دم خالك ، قال : وكيف لي بها ، وهي أمنع من عقاب الجو .. وكان أبوها قد اتخذ لها ولأختها النفق فلا يمكن الوصول إليها ..
ثم قال لقصير أنت أبصر ، فجدع قصير أنفه وأثر بظهره ، وأظهر كأنه هارب ، وأظهر أن عمرا فعل به ذلك ، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء ، ثم سار حتى قدم على الزباء ، فقيل لها : إن قصيرا بالباب فأمرت به فأدخل عليها ، فإذا أنفه قد جدع ، وظهره قد ضرب ، فقالت : ما الذي أرى بك يا قصير ؟ فقال : زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله وزينت له السير إليك وغششته ومالأتك عليه ، ففعل بي ما ترين ، فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك ، فألطفته وأكرمته ، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك ، فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به قال لها : إن لي بالعراق أموالا كثيرة وبها طرائف وثياب وعطر فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزوزها وطرائف ثيابها وصنوف ما يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات فتصيبين في ذلك أرباحا عظاما وبعض مالا غنى بالملوك عنه فإنه لا طرائف كطرائف العراق ، فلم يزل يزين لها ذلك حتى سرحته ، ودفعت معه عيرا فقالت : انطلق إلى العراق فبع بها ما جهزناك به ، وابتع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها ، فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق ، وأتى الحيرة متنكرا فدخل على عمرو بن عدي فأخبره بالخبر ، وقال : جهزني بالبز والطرف والأمتعة ؛ لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك ، فأعطاه حاجته وجهزه بصنوف الثياب وغيرها ، فرجع بذلك كله إلى الزباء فعرضه عليها ، فأعجبها ما رأت وسرها ما أتاها به ، وازدادت به ثقة وإليه طمأنينة ، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى فسار حتى قدم العراق ، ولقي عمرو بن عدي ، وحمل من عنده ما ظن أنه موافق للزباء ، ولم يترك جهدا ، ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه إلا حمله إليها ، ثم عاد الثالثة إلى العراق فأخبر عمرا الخبر ، وقال : اجمع لي ثقات أصحابك وجندك ، وهيء لهم الغرائر والمسوح ، واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين ، واجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها ، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها ، وخرجت الرجال من الغرائر ، فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه ، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف ...
ففعل عمرو بن عدي وعمل الرجال في الغرائر على ما وصفه له قصير ثم وجه الإبل إلى الزباء عليها الرجال وأسلحتهم ، فلما كانوا قريبا من مدينتها تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف ، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل وما عليها من الأحمال..
فأبصرت الزباء الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها ، فقالت يا قصير: ما للجمال مشيها وئيدا ** أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفانا باردا شديدا
فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت ودل قصير عمرا على باب النفق قبل ذلك وأراه إياه ، وخرجت الرجال من الغرائر وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح ، وقام عمرو بن عدي على باب النفق ، وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله ، وأبصرت عمرا قائما فعرفته بالصورة التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها وكان فيها سم وقالت بيدي لا بيدك يا عمرو فذهبت مثلا ، وتلقاها عمرو بن عدي فجللها بالسيف فقتلها ، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة ، وانكفأ راجعا إلى العراق بعد أن ضم ملكها إلى مكله ..
هذا ملخص القصة كما وردت في المصادر العربية وهي تبين أن حياة العرب قبل الإسلام كانت قائمة على الخيانة والغدر .
أما في المصادر الأعجمية فتذكر أنها ورثت الملك بعد مقتل زوجها ، فأظهرت مقدرة فائقة في إدراة شؤون الملك، وكانت تتكلم اليونانية وتحسن "اللاتينية"، وتتقن اللغة المصرية ، وتتحدث بها بكل طلاقة، وتهتم بشؤون المملكة، وتقطع المسافات الطويلة سيرًا على الأقدام في طليعة رجال جيشها، كما ذكر المؤرخ "تريبليوس يوليو" " Trebellius Pollio.(3)
وأنها استقدمت مشاهير رجال الفكر إلى عاصمتها، مثل الفيلسوف الشهير "كاسيوس ديونيسيوس لونجينوس" "Cassius Lunginus" "220 - 273م" بعد الميلاد. وكان فيلسوفًا على مذهب الأفلاطونية الحديثة ومن أصدقاء الفيلسوف "فرفوريس" "Phorphyrios"، استقدمته إلى عاصمتها واستضافته عندها وجعلته مستشارًا لها، فأخلص لها في مشورته، فكان ذلك سببًا في قتله ، حيث قتله القيصر "أوريليانوس" "Aurelianus"، لاتهمامه أنه كان يحرض الملكة على الرومان.
ومثل الكاتب المؤرخ "كليكراتس الصوري"، و"لوبوكوس" البيروتي اللغوي الفيلسوف، و"بوسانياس" الدمشقي المؤرخ، و"نيوكوماخس" "Nicomachus" من زمرة الكتاب المؤرخين، المتضلعين بالإغريقية، ومن الفلاسفة، وقد تولى الكتابة باللغة الإغريقية، وصار من مستشاريها كذلك. ولذلك أمر به القيصر "أورليانوس" فقتل بعد محاكمته بمدينة حمص (4).
ورغم أنها كانت على الوثنية إلا أنها منحت لشعبها حرية الاعتقاد ، وسمحت بلجوء المضطهدين من اليهود والنصارى إلى مملكتها ، ورغم ذلك " وردت أخبار تفيد أن اليهود كانوا ناقمين على "تدمر" حاقدين عليها يرجون من الله أن يطيل في عمرهم ليروا نهايتها ، فهذا الحبر الكبير "يوحانان" "يوخانان" "Johanan" "Jochanan" رئيس "أكاديمية" "طبرية" والمعاصر لأذينة والزباء، يقول: "مخلد وسعيد من يدرك نهاية أيام تدمر". (5)
وأما بالنسبة للعرب من بني جنسها فقد اتبعت معهم سياسة اللين والتقرب إليهم ، وهي سياسة كان زوجها قد اتبعها معهم قبل مقتله ، واعتمدت عليهم في القتال والحروب " وذلك بعد أن رأت أن الرومان هم أعداء تدمر، وأنهم لا يفكرون إلا في مصالح الرومان الخاصة ، وبهذه السياسة تقربت أيضًا إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، وأخذت تعمل على تكوين دولة عربية قوية واحدة بزعامتها، وخاصة بعد أن أدركت أن الأعراب قوة لا يستهان بها، وأنهم لو نظموا واستغلوا استغلالًا جيدًا، صاروا قوة يحسب لها كل حساب، فأخذت تعمل لتكوين هذه القوة " (6)
ولما اتسعت دولتها خاف منها الرومان، وعزم "غاليانوس" بتحريض من شيوخ "رومة" على القضاء عليها قبل استفحال أمرها، فأرسل جيشًا إلى الشرق تظاهر أنه يريد من إرساله محاربة "سابور" غير أنه كان يريد في الواقع مهاجمة تدمر وإخضاع الملكة الزباء له ، فبلغ خبره مسامع "الزباء" فاستعدت لمقابلته وخرجت له، والتحمت فعلًا بكتائب الرومان، وانتصرت عليها انتصارًا باهرًا، وولت تلك الجيوش هاربة تاركة قائدها "هرقليانوس" "Heraclianus" قتيلًا في ساحة الحرب. (7)
وكما تصدت للرومان تصدت أيضا للفرس ، وقامت بتقوية حدود مملكتها من ناحية فارس ، فأمرت بإنشاء حصن "زنوبيا" "Zenobia" على نهر الفرات، ليقف أمام الهجمات التي قد يوجهها الساسانيون عليها من الشرق.
ثم عزمت على غزو مصر ـ وكانت وقتها محتلة من قبل الرومان ؛ لتقوي بها مملكتها وتضعف من شوكة الرومان، وخاصة بعد أن علمت أنهم يودون زوال مملكتها ،فقد جاء في الرسالة التي وجهها القيصر إلى مجلس الشيوخ ومدينة "رومة" "إن جبيني ليندى خجلًا كلما تذكرت أن جميع الرماة بالقسي هم في خدمة زنوبية".
وقد انتهزت فرصة الاضطرابات التي عمت روما وممالكها في هذا الحين وأرسلت جيشها لاحتلال مصر ، حيث كان القيصر قد أمر عامله على مصر المدعو "بروبوس" "Probus" بالخروج على رأس أسطول الأسكندرية إلى عرض البحر: لمطاردة "الغوط" "القوط" "Goths" ولمنعهم من الهرب عبر المضايق، فخرج على رأس قوة كبيرة من الرومان لمطاردتهم، فانتهز الوطنيون والمعارضون لحكم الرومان -وعلى رأسهم "تيماجينيس" "Timagenes"، وهو رجل يوناني الأصل مبغض للرومان- هذه الفرصة، فكتبوا على الملكة يحضونها على تحرير مصر من حكم "رومة" وتولى الحكم فيها. وأظهر "فيرموس" "Firmus"، وهو رجل ثري جدًّا، استعداده لمساعدة الملكة بالمال وبكل ما ينبغي إذا أرادت الاستيلاء على مصر.
فأمرت "الزباء" قائدها" "زبدا" بقصد مصر على رأس جيش قوامه سبعون ألف رجل. وقد قاتل الجيش الروماني الذي كان مؤلفًا من خمسين ألف مقاتل وتغلب عليه، ثم قرر العودة إلى تدمر تاركًا في مصر حامية صغيرة من خمسة آلاف رجل، ويظهر أنه تركها تحت إمرة "تيماجينيس" الذي عين نائبًا عن الملكة على مصر. فلما سمع "بروبوس" بهجوم التدمريين وتغلبهم على الرومان، أسرع عائدًا إلى مصر، فألف جيشًا من المصريين الموالين للرومان، وزحف على الإسكندرية، وأخذ يتعقب التدمريين، وأعمل فيهم السيف. فلما سمعت "الزباء" بذلك، أمرت قائدها بالعودة ثانية إلى مصر، فجرت معارك بين الطرفين انتهت بانتصار التدمريين على "بروبوس" عند "بابلون" أي "الفسطاط"، وكتب النصر لجيش الملكة في مصر. (8)
أثار استيلاء الجيش التدمري على مصر غضب الإمبراطور الروماني ، وعزم على الانتقام من الزباء ، وبلغ ذلك مسامعها من أصدقائها ومخبريها في "رومة" ، فقررت القيام بعمل سريع قبل مباغتة القيصر لها، فألغت الاتفاق المعقود مع الرومان في أيام "قلوديوس"، وأمرت بمحو صورة الإمبراطور"ارريليانوس" من النقود لتبرهن على قطع علاقتها بالقيصر، وعدم اعترافها بسيادة "رومة" الاسمية عليها، وأمرت بضرب صورة "وهبلات" وحده، مع اللقب "الإمبراطوري" المخصص بقياصرة "رومة" وذلك في السنة الخامسة من حكمه ، وقد تلقبت الزباء نفسها بهذا اللقب في النقود التي ضربت باسمها في الخارج ، أما نقود "تدمر" فقد لقبت فيها بلقب "ملكة"، ولقبت في مصر هي وابنها بلقب "أغسطس" وهو لقب القيصر "أوريليانوس". (9)
ثم راسلت الملكة "فيكتوريا" "Victoria" ملكة إقليم "الغال"، لتوحيد الخطط في مهاجمة القيصرية الرومانية واقتسامها، وأمرت جيوشها بالسير إلى "بيتينية" "Bithynia" فاستولت عليها، وظلت تتقدم دون ملاقاة معارضة تذكر حتى بلغت "خلقيدون" بإزاء "القسطنطينية". ويقال إن الملكة كانت قد أمرت بصنع عجلة فاخرة للدخول بها في موكب الظفر إلى عاصمة الرومان.
واضطرت لتنفيذ خطتها هذه إلى سحب القسم الأعظم من جيشها المعسكر في مصر معتمدة على دفاع المصريين أنفسهم إذا هجم عليهم الرومان. فانتهز "أوريليانوس" هذه الفرصة فأرسل مددًا إلى "بروبس"، وكان القائد "زبدا" قد وصل إلى مصر لمساعدة "فيرموس" نائب الملكة على صد الرومان. فوقعت معارك بين الفريقين كاد يكون النصر فيها للتدمريين لولا استمالة "بروبس" جماعة من المصريين، فآزروه ودحروا جيش "زبدا" في سنة "271" للميلاد، واضطر التدمريون إلى ترك مصر إلى أعدائهم، فكانت هذه أول نكبة عظيمة تنزل بالزباء، ومنذ "29" أغسطس من سنة "271م" انقطع في الإسكندرية ضرب النقود التي تحمل صورة الزباء ووهبلات. (10).
وقد جرأ انهزام الجيش التدمري بمصر أهل "خلقيدون" الذين أرسلت الزباء لغزوهم على الصمود ومقاومة التدمريين، وأبوا التسليم لهم، وأرسلوا إلى القيصر لينجدهم، مما أجبر التدمريين على التراجع.
ودائما الهزائم تجلب الهزائم فقد أوهنت الضربتان اللتان تلقتهما الزباء في مصر وخلقيدون من قوتها المعنوية في الوقت الذي شجعتا الرومان على التقدم لإحراز مزيد من الانتصارات ، فقد عبر القيصر مضيق "البسفور" وفاجأ التدمريين في "بيثينية" في أواخر سنة "271م" أو أوائل السنة التالية، وأجلاهم عنها، ثم سار إلى "غلاطية" "Galatia" و" قفادوقية" "Cappadocia" حتى بلغ "أنقرة" "Ancyra"، فسلمت له. وأخذ الرومان يتقدمون بسرعة إلى بلاد الشأم. (11).
أفزع تقدم الرومان السريع الزباء ورجالها ولا شك، وأخذت المدن التي كانت تساندها تشك في تمكن الملكة من الدفاع عن نفسها، وشاعت بين الناس قصص عن نهاية تدمر وخرابها بأيدي الرومان وعن سقوطها لا محالة .. إلى غير ذلك من تخرصات أوحت بها دعاية الرومان، وأعداء الملكة من يهود ومن قوميات أخرى قهرتها "الزباء" فأذاعتها بين الناس، لإفهامهم أن من العبث مقاومة القيصر وجنوده، وأن من الخير ترك المقاومة والاستسلام، وأن اليوم الذي ستحرر فيه تلك الشعوب من حكم الملكة آت قريب؛ لأن إرادة الآلهة قضت أن يكون ذلك، ولا راد لأمر الآلهة .(12).
ولقد أثرت فيها هذه الدعاية، وقضت على معنويات التدمريين الوثنيين الذين يدينون بهذه الخرافات ويؤمنون بها، وما زال من طرازهم خلق كثير في القرن العشرين الميلادي هذا.
تهيأت الملكة "الزباء" لملاقاة "أورليانوس" عند مدينة "أنطاكية" "Antiochia"، وكانت هي على رأس الجيش فارسة تحارب في الطليعة، أما القيادة، فكانت لقائدها "زبدا". وفي الوقعة الأولى هجم فرسان تدمر على الكتائب الرومانية فشتتوا شملها، فأمر القيصر جنوده بالرجوع إلى مسافات بعيدة، ليوهم التدمريين أنه قد فر، فإذا ساروا في أثرهم وابتعدوا عن قواعدهم باغتهم بالهجوم، فلا يتمكن فرسان تدمر من الهزيمة لثقل أسلحة الفرسان ومعداتهم وبطء خيلهم بالقياس إلى خيل الرومان. وهو ما حدث. فقد خدع التدمريون وظنوا رجوعهم هزيمة، فتعقبوهم إلى مسافات بعيدة، وفجأة انقلبت الكتائب الرومانية على التدمريين، وأطبقوا عليهم، وأعملوا فيهم السيوف وانهزموا هزيمة منكرة إلى مدينة "أنطاكية".
وفي هذه المدينة قر رأي الملكة على ترك أنطاكية والارتحال عنها بسرعة لأسباب، منها وجود جالية يونانية كبيرة فيها كانت تفضل حكم الرومان على حكم الشرقيين عليهم، وقد كان لها النفوذ والكلمة في المدينة، ومنها نفرة النصارى من الملكة بسبب موقفها من "بولس السميساطي" الذي قرر مجمع "أنطاكية" عزله من وظيفته، فلم تنفذ الملكة قرار المجمع، وتركته يتصرف في أموال الكنيسة، ولم تكتف بذلك بل عينته "Procurator Decenarius" على المدينة، أي أنها جعلته الرئيس الروحي والدنيوي على الأنطاكيين.
أضف إلى ذلك كره اليهود الذين في المدينة للتدمريين. وقد نفذت الملكة هذا القرار في اليوم الذي دخلت فيه جيوشها المدينة، فأمرت قائدها بتركها والسير إلى "حمص" فورًا. وفي اليوم الثاني دخل "أورليانوس" تلك المدينة وأعطاها الأمان.
وتعقب القيصر أثر الملكة ففتح جملة مدن حتى بلغ "حمص" "Emisa"، وهناك وجدها على رأس جيش قوامه سبعون ألفًا في مفازة عريضة تقع شمالي المدينة. (13)..
فاشتبك الرومان والتدمريون في معركة حامية ربح فيها التدمريون الجولة الأولى، فولى الرومان مدبرين مذعورين تفتك فيهم سيوف تدمر. غير أن القيصر حزم رأيه، وأدرك وجود ضعف في خطة قتال الملكة، سببه ابتعاد فرسان تدمر عن مشاتهم في أثناء تعقب فرسان الروم، فأمر جنوده بالهجوم على مشاة التدمريين، ولم يكونوا في التدريب والقابلية مثل مشاة الرومان، فمزقوا مشاة الملكة كل ممزق وحلت هزيمة منكرة عامة بجيش الزباء اضطرتها إلى ترك "حمص" وتفضيل الرجوع إلى عاصمتها تدمر للدفاع عنها، فلعل البادية تعصمها منه وتمنعه من الوصول إليها. ودخل القيصر مدينة "حمص"، فتوجه بالشكر والحمد إلى إله "حمص" "الشمس" قاطعًا على نفسه عهدًا أن يوسع المعبد ويجمله ويزينه أحسن زينة، مقدمًا له نذورًا هي أكثر ما غنمه من الغنائم من التدمريين.
أدرك القيصر أن النصر الحقيقي لن يتم له إلا بالقبض على "الزباء" وفتح "تدمر"، وأنه لن يدرك هذا إلا إذا سار هو بنفسه على رأس جيشه لفتح تلك المدينة. لذلك قرر الزحف إليها بكل سرعة قبل أن تتمكن الملكة من تحصين مدينتها ومن الاتصال بالفرس وبالقبائل العربية الضاربة في البادية، فيصعب عندئذ الاستيلاء عليها. فسار مسرعًا حتى بلغ المدينة برغم الصعوبات والمشقات التي جابهت الكتائب "اللجيونات" الرومانية في أثناء قطعها الصحراء، وألقى الحصار على "تدمر" القلعة الصحراوية الحصينة، غير أن المدافعين عنها قابلوه بشدة وصرامة برمي الحجارة والسهام والنيران على جيشه...
وهذا دفعه إلى مكاتبة الملكة طالبًا منها التسليم والخضوع للرومان لتنال السلامة وتستحق العفو، فيسمح لها بالإقامة مع أسرتها في مدينة يعينها مجلس الشيوخ لها. فكان جوابها : "إن ما التمسته مني في كتابك لم يتجاسر أحد من قبلك أن يطلبه مني برسالة. أنسيت أن الغلبة بالشجاعة، لا بتسويد الصفحات. إنك تريد أن أستسلم لك. أتجهل أن كليوبترة قد آثرت الموت على حياة سبقها عار الدبرة، فها أنا ذي منتظرة عضد الفرس والأرمن والعرب "Saracens" لفل شباتك وكسر شوكتك. وإذا كان لصوص الشأم قد تغلبوا عليك وهم منفردون، فما يكون حالك إذا اجتمعت بحلفائي على مقاتلتك. لا شك أنك ستذل وتخنع لي فتجرد نفسك من كبريائها التي حملتك على طلب المحال كأنك مظفر منصور في كل أين وآن"(14).
ولكن للأسف لم يتحرك الفرس نجدتها كما كانت تأمل ، ولم تلق الدعم المرتقب من رؤساء القبائل العربية ، فقد انقسمت على نفسها ، فريق تصدى للجيوش الرومان المحاصرة للمدينة ، وفريق آخر ممن يؤثر مصلحته الخاصة سارع بالاتفاق مع القيصر، وقيل : إن هؤلاء قد رشاهم القيصر بأمواله ليحولوا بينه وبين مملكة تدمر العربية ، وهكذا حال العرب ( الفرقة دائما ) إذا تخلوا عن الإيمان الصحيح ..
ولما رأت الزباء أن ما كانت تأمله من مساعدة الفرس والقبائل والأرمن لم يتحقق، وأن ما كانت ترجوه من مساعدة الحظ لها بإطالة أمد الدفاع لإكراه عدوها على فك الحصار والرجوع لم يتحقق كذلك، وأن وضع القيصر قد تحسن بوصول مدد عظيم إليه من الشأم وبوصول مواد غذائية إليه كافية لإطالة مدة الحصار، قررت ترك عاصمتها للأقدار، والتسلل منها ليلًا للوصول بنفسها إلى الفرس علهم يرسلون لها نجدة تغير الموقف وتبدل الحال. ودربت أمر خطتها بكل تكتم وهربت من مدينتها من غير أن يشعر بخروجها الرومان، وامتطت ناقة واتجهت نحو الفرات، ولعلها كانت تقصد الوصول إلى حصنها "زنوبية" ومنه إلى الفرس. على كل حال، فقد حالفها الحظ في أول الأمر، فأوصلها سالمة إلى شاطئ النهر، عند "الدير" "دير الزور" قريب من "زليبية"2 "Halebiya" ثم خانها خيانة فظيعة. فلما علم "أورليانوس" بنبأ هرب الملكة، أيقن أن أتعابه ستذهب كلها سدى إن لم يتمكن من القبض عليها حية. لهذا أوعز إلى خيرة فرسانه وأسرع رجاله فاقتفاء أثر الملكة والقبض عليها مهما كلفهم الأمر. وقال الحظ كلمته. أنه سيكون في جانب القوي ما دام الناس في جانبه. نقل فرسان القيصر إلى موضع وجود الملكة على الشاطئ، في اللحظة الدقيقة الفاصلة الحاسمة بين الموت والهلاك والدمار وبين العز والسلطان واسترجاع ما ذهب من ملك. كانت الملك تهم بوضع نفسها في زورق لينقلها إلى الشاطئ الثاني من نهر الفرات، ولو عبرت لتغير إذن كل شيء. وإذا بالفرسان ينقضون عليها ويأخذون "ملكة الشرق" معهم مسرعين إلى معيد الشرق للرومان: "Recepto Orientis"، وهو على رأس جنوده يحاصر هذه المدينة العنيدة التي أبت الخضوع لحكمه والتسليم له.
وانتهت بذلك مملكة عربية تعد من أعظم الممالك في تاريخ العرب قبل الإسلام ، وفي سقوطها كثير من الدروس والعبر منها :
ـ أن الغرب بشقيه ( الروم والرومان ) من قديم الزمان وهم يحرصون على ألا تقوم للعرب قائمة .
ـ أن حرص الغرب على احتلال بلاد الشرق والتمتع بخيراتها أمر يجري في عروق أفراده منذ القدم ولن يتغير .
ـ أن العرب من طبعهم الفرقة وعدم نصرة بعضهم لبعض وتقديم المصلحة الخاصة إلا إذا جمعهم دين صحيح يؤلف بينهم تدفعهم قوة الإيمان به إلى الإيثار والتناصر .
ـ أن الأمم الأخرى التي تدعي نصرة العرب ومساعدتهم تفعل ذلك من أجل مصالحها الخاصة فقط ، وإذا جد الجد ستكون أول من يتخلى عن نصرتهم كما فعل الفرس مع الزباء .
ـ أن كراهية اليهود للعرب متأصلة في قلوبهم ، ومهما أحسن إليهم العرب فهم يتمنون زوال ملكهم ..