العلاقة بين التأصيل الفقهي والتأصيل الحضاري
مرسل: السبت نوفمبر 23, 2013 1:17 pm
إن تأصيل العلاقات الدولية (الخارجية) بين الأمة الإسلامية والعالم ليست قضايا الحرب والسلام فقط؛ ولكنها أكثر اتساعًا لتضم -بحكم الرؤية القرآنية- قضايا أخرى تتصل بالمجال الحضاري الإنساني بصفة عامة، حيث تتداخل وتتشابك وتتقاطع أبعاده وموضوعاته (مثل التعارف، العمران، التدافع...). وبالمثل، فإن الاقتراب من هذه القضايا الحضارية – بأوسع معانيها- لا يكون من خلال مستوى الأحكام الفقهية فقط، والتي تتصل في معظمها بوقائع وبزمان ومكان محدد، ولكن يتم الاقتراب منها أيضًا من مستويات أكثر كلية وهي المقاصد والسنن والقيم والمفاهيم انطلاقًا من التأسيس العقدي (الرؤية الكلية).
ولهذا، فإن رؤية فكرية عن تغير أحوال الناس وكيفية إدارتها تستدعي فقه الواقع على ضوء الرؤية الكلية الإسلامية ليس من أجل أحكام فقهية جديدة فقط، تتصل بجزيئات محددة مطلوب الحكم أو الفتوى فيها، ولكن من أجل تقديم رؤية كلية فكرية عن "الأحوال" من مداخلها: الداخلية، والبينية والخارجية. ومن ثم، فإن ما يمكن وصفه بـ"المسار الفكري الحضاري الممتد والمترابط الحلقات" لا يقل أهمية عن المسار الفقهي الشرعي الممتد المترابط الحلقات أيضًا؛ لأن الفكر ليس مجرد فقه الأحكام -كما سبق التنويه- وأن كلاهما لا ينفصل عن الآخر. ولهذا سنجد -كما سنرى لاحقًا- أن المدخل الفقهي هو واحد بين عدد من مداخل دراسة الفكر الإسلامي.
بعبارة أخيرة: فإن حالة أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، وخاصة من حيث استقطابها بين ثنائية ما يسمى اتجاهات تقليدية (ترفض أن تأخذ تأثيرات الغرب في حسبانها) من ناحية، وبين اتجاهات حديثة (تتكيف مع أو ترضخ لضغوط الواقع ومن ثم تفرز مجرد خطابات اعتذارية أو تبريرية أو دفاعية)، من ناحية أخرى، هذه الحالة الاستقطابية الحادة تتطلب استجابة بنائية تتجاوز الاتجاهين السابقين بحيث لا تحكم الواقع أو تقتحمه ولكن تعتبره لفهمه ثم لتغييره انطلاقًا من قواعد وأسس ومبادئ الرؤية الإسلامية الكلية وأحكامها العامة، وليس من منطلق قواعد قوانين الغرب المستحكم حتى ولو باسم الحاجة لاجتهاد جديد ومعاصر يستجيب لتحديات ضغوط الواقع. إن هذه الاستجابة البنائية – المشار إليها- لا تقوم في فراغ أو من خصائص اللحظة الراهنة، ولكنها لابد وأن تعي وتتدبر تطور المسار الحضاري للفكر الإسلامي بأوسع معانيه المجسِد لرؤية العالم الإسلامية والعاكس لخصائص الثقافة والحضارة الإسلامية والمعبر عن مدارس الفقه الإسلامي والتفسير الإسلامي للتاريخ، وهذا الفكر الحضاري ليس الفكر الفقهي فقط كما أن الاهتمام بهذا الفكر الحضاري هو ترجمة لتوسيع نطاق الشريعة إلى ما هو أكثر من الأحكام الفقهية. تلك الأحكام - والتراث الضخم الذي يرتبط بها - هي من الأهمية بمكان بحيث لا يجب الخوض فيها دون تبصر ورؤية تقود إلى شطط الإسقاط لكونها تاريخية أو تقود إلى فوضى التأويلات أو تقود على العكس إلى الجمود خوفًا من التجاوز.
إن استكشاف هذا المسار الحضاري للفكر الإسلامي إنما هو نتاج الإطار النظري والمدخل المنهاجي والإطار المرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، والذي أصَّل له د. سيف الدين عبد الفتاح في جزئين من أجزاء مشروع العلاقات الدولية في الإسلام. (الجزء الأول من هذين الجزئين هو: المداخل المنهاجية للتعامل مع المصادر الإسلامية التأسيسية لرؤية إسلامية للعلاقات الدولية، والجزء الثاني هو: البناء المعرفي المنهاجي النظري الفكري الذي قدم من خلاله مدخل القيم لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام)، وكلا الجزئين يمثل تأصيلاً علميًّا أكاديميًّا إسلاميًّا من مدخل الرؤية للعالم والمقاصد والسنن والمفاهيم وليس الفقه فقط.
وبناء عليه، فإن الاهتمام بالمسار الفكري الحضاري الإسلامي يحقق ثلاثة أهداف تربط بين النظرية والفكر والواقع، وتربط بين الأصول والفكر والواقع، وتربط بين الفقه والفكر والواقع، وأخيرًا: تربط بين الحركة والفكر والواقع (تاريخًا وراهنًا). وهذه الأهداف هي من ناحية: بيان كيفية تأثير النموذج الإرشادي الإسلامي (الرؤية للعالم، والنموذج المعرفي) على الخصائص الكلية للفكر الإسلامي. فمهما تنوعت روافده ومداخله عبر التاريخ يظل هناك رابط وسمات مشتركة. ومن ناحية ثانية: تجسير الفجوة لدى البعض بين التنظير للعلاقات الدولية من منظورات علم العلاقات الدولية وبين التنظير من منظور إسلامي على اعتبار الأخير ليس إلا تراثًا فقهيًّا وتاريخيًّا. ومن ناحية ثالثة: التدبر في أوضاع الواقع الراهن لا تكتمل - من رؤية إسلامية- بدون تسكينها في مسار تطور تاريخ هذه الأوضاع وتاريخ الفكر المرتبط بها.
وفي نهاية المطاف، فإن هذه المتابعة لتطور مسار الفكر الحضاري الإسلامي يساعد على صياغة خطاب إنساني إسلامي معاصر يمثل تجسيرًا للفجوة بين خطاب الصراع والانقسام الذي يعبر عنه "خطاب الفسطاطين" الذي هو ترجمة معاصرة لخطاب تقسيم الدارين، ولكن بدون روحه، وبين خطاب الاستسلام والإذعان الذي يعبر عنه خطاب ثقافة السلام والتسامح والذي يرتدي زي الاعتذار والدفاع. بعبارة أخرى، فإن فهم تطور مسار الفكر الحضاري الدولي بقدر ما يساهم على فهم أسباب الاستقطاب الثنائي وحدته بقدر ما يساعد أيضًا على فهم السبيل للتغلب عليه وكسر اجتراره السلبي، ومن ثم إنتاج خطاب إنساني إسلامي معاصر. وهذا الخطاب الجديد يقدمه التيار الرئيسي السائد في الجماعات الوطنية وعلى صعيد أرجاء الأمة ويجب تفعيله وتشغيله باعتباره أسلوبًا بنائيًّا نحو التغيير الداخلي ونحو مواجهة العدوان والاعتداء الخارجي وباعتباره أيضًا استجابةً فاعله في مواجهة تحديات الواقع الراهن، سواء المتصلة بكل من الظروف الهيكلية أو البيئية الثقافية على حد سواء. فلا يمكن الفصل بين هذين النمطين من التحدي عند تصميم الاستجابة البنائية. فعلى سبيل المثال: ما يسمى الأبعاد الخارجية "للتطرف الإسلامي" أو ما يسمى الامتدادات الخارجية للحركات الإسلامية الجهادية أو ما يسمى "الإرهاب العالمي" لا يمكن تفسيره –وليس تبريره- بأسباب ثقافية (مردها القراءة الخاصة لموقف الإسلام من غير المسلمين) فقط أو بأسباب هيكلية فقط (مردها أوضاع الاستبداد والظلم الداخلي والخارجي ضد المسلمين دينًا وقيمًا ونظمًا وتاريخًا وقضايا)، فإن الجانبين متصلان ويغذي كل منهما الأخر. إن النماذج الفكرية والتاريخية المتنوعة -عبر مسار الفكر الحضاري للدول- لابد وأن تقدم لنا الدلالات على هذه الرابطة وتأثيرها على نمط الخطابات -الفقهية والفكرية والسياسية- خلال المراحل الزمنية المختلفة.
ولهذا، فإن رؤية فكرية عن تغير أحوال الناس وكيفية إدارتها تستدعي فقه الواقع على ضوء الرؤية الكلية الإسلامية ليس من أجل أحكام فقهية جديدة فقط، تتصل بجزيئات محددة مطلوب الحكم أو الفتوى فيها، ولكن من أجل تقديم رؤية كلية فكرية عن "الأحوال" من مداخلها: الداخلية، والبينية والخارجية. ومن ثم، فإن ما يمكن وصفه بـ"المسار الفكري الحضاري الممتد والمترابط الحلقات" لا يقل أهمية عن المسار الفقهي الشرعي الممتد المترابط الحلقات أيضًا؛ لأن الفكر ليس مجرد فقه الأحكام -كما سبق التنويه- وأن كلاهما لا ينفصل عن الآخر. ولهذا سنجد -كما سنرى لاحقًا- أن المدخل الفقهي هو واحد بين عدد من مداخل دراسة الفكر الإسلامي.
بعبارة أخيرة: فإن حالة أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، وخاصة من حيث استقطابها بين ثنائية ما يسمى اتجاهات تقليدية (ترفض أن تأخذ تأثيرات الغرب في حسبانها) من ناحية، وبين اتجاهات حديثة (تتكيف مع أو ترضخ لضغوط الواقع ومن ثم تفرز مجرد خطابات اعتذارية أو تبريرية أو دفاعية)، من ناحية أخرى، هذه الحالة الاستقطابية الحادة تتطلب استجابة بنائية تتجاوز الاتجاهين السابقين بحيث لا تحكم الواقع أو تقتحمه ولكن تعتبره لفهمه ثم لتغييره انطلاقًا من قواعد وأسس ومبادئ الرؤية الإسلامية الكلية وأحكامها العامة، وليس من منطلق قواعد قوانين الغرب المستحكم حتى ولو باسم الحاجة لاجتهاد جديد ومعاصر يستجيب لتحديات ضغوط الواقع. إن هذه الاستجابة البنائية – المشار إليها- لا تقوم في فراغ أو من خصائص اللحظة الراهنة، ولكنها لابد وأن تعي وتتدبر تطور المسار الحضاري للفكر الإسلامي بأوسع معانيه المجسِد لرؤية العالم الإسلامية والعاكس لخصائص الثقافة والحضارة الإسلامية والمعبر عن مدارس الفقه الإسلامي والتفسير الإسلامي للتاريخ، وهذا الفكر الحضاري ليس الفكر الفقهي فقط كما أن الاهتمام بهذا الفكر الحضاري هو ترجمة لتوسيع نطاق الشريعة إلى ما هو أكثر من الأحكام الفقهية. تلك الأحكام - والتراث الضخم الذي يرتبط بها - هي من الأهمية بمكان بحيث لا يجب الخوض فيها دون تبصر ورؤية تقود إلى شطط الإسقاط لكونها تاريخية أو تقود إلى فوضى التأويلات أو تقود على العكس إلى الجمود خوفًا من التجاوز.
إن استكشاف هذا المسار الحضاري للفكر الإسلامي إنما هو نتاج الإطار النظري والمدخل المنهاجي والإطار المرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، والذي أصَّل له د. سيف الدين عبد الفتاح في جزئين من أجزاء مشروع العلاقات الدولية في الإسلام. (الجزء الأول من هذين الجزئين هو: المداخل المنهاجية للتعامل مع المصادر الإسلامية التأسيسية لرؤية إسلامية للعلاقات الدولية، والجزء الثاني هو: البناء المعرفي المنهاجي النظري الفكري الذي قدم من خلاله مدخل القيم لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام)، وكلا الجزئين يمثل تأصيلاً علميًّا أكاديميًّا إسلاميًّا من مدخل الرؤية للعالم والمقاصد والسنن والمفاهيم وليس الفقه فقط.
وبناء عليه، فإن الاهتمام بالمسار الفكري الحضاري الإسلامي يحقق ثلاثة أهداف تربط بين النظرية والفكر والواقع، وتربط بين الأصول والفكر والواقع، وتربط بين الفقه والفكر والواقع، وأخيرًا: تربط بين الحركة والفكر والواقع (تاريخًا وراهنًا). وهذه الأهداف هي من ناحية: بيان كيفية تأثير النموذج الإرشادي الإسلامي (الرؤية للعالم، والنموذج المعرفي) على الخصائص الكلية للفكر الإسلامي. فمهما تنوعت روافده ومداخله عبر التاريخ يظل هناك رابط وسمات مشتركة. ومن ناحية ثانية: تجسير الفجوة لدى البعض بين التنظير للعلاقات الدولية من منظورات علم العلاقات الدولية وبين التنظير من منظور إسلامي على اعتبار الأخير ليس إلا تراثًا فقهيًّا وتاريخيًّا. ومن ناحية ثالثة: التدبر في أوضاع الواقع الراهن لا تكتمل - من رؤية إسلامية- بدون تسكينها في مسار تطور تاريخ هذه الأوضاع وتاريخ الفكر المرتبط بها.
وفي نهاية المطاف، فإن هذه المتابعة لتطور مسار الفكر الحضاري الإسلامي يساعد على صياغة خطاب إنساني إسلامي معاصر يمثل تجسيرًا للفجوة بين خطاب الصراع والانقسام الذي يعبر عنه "خطاب الفسطاطين" الذي هو ترجمة معاصرة لخطاب تقسيم الدارين، ولكن بدون روحه، وبين خطاب الاستسلام والإذعان الذي يعبر عنه خطاب ثقافة السلام والتسامح والذي يرتدي زي الاعتذار والدفاع. بعبارة أخرى، فإن فهم تطور مسار الفكر الحضاري الدولي بقدر ما يساهم على فهم أسباب الاستقطاب الثنائي وحدته بقدر ما يساعد أيضًا على فهم السبيل للتغلب عليه وكسر اجتراره السلبي، ومن ثم إنتاج خطاب إنساني إسلامي معاصر. وهذا الخطاب الجديد يقدمه التيار الرئيسي السائد في الجماعات الوطنية وعلى صعيد أرجاء الأمة ويجب تفعيله وتشغيله باعتباره أسلوبًا بنائيًّا نحو التغيير الداخلي ونحو مواجهة العدوان والاعتداء الخارجي وباعتباره أيضًا استجابةً فاعله في مواجهة تحديات الواقع الراهن، سواء المتصلة بكل من الظروف الهيكلية أو البيئية الثقافية على حد سواء. فلا يمكن الفصل بين هذين النمطين من التحدي عند تصميم الاستجابة البنائية. فعلى سبيل المثال: ما يسمى الأبعاد الخارجية "للتطرف الإسلامي" أو ما يسمى الامتدادات الخارجية للحركات الإسلامية الجهادية أو ما يسمى "الإرهاب العالمي" لا يمكن تفسيره –وليس تبريره- بأسباب ثقافية (مردها القراءة الخاصة لموقف الإسلام من غير المسلمين) فقط أو بأسباب هيكلية فقط (مردها أوضاع الاستبداد والظلم الداخلي والخارجي ضد المسلمين دينًا وقيمًا ونظمًا وتاريخًا وقضايا)، فإن الجانبين متصلان ويغذي كل منهما الأخر. إن النماذج الفكرية والتاريخية المتنوعة -عبر مسار الفكر الحضاري للدول- لابد وأن تقدم لنا الدلالات على هذه الرابطة وتأثيرها على نمط الخطابات -الفقهية والفكرية والسياسية- خلال المراحل الزمنية المختلفة.