صفحة 1 من 1

مصادر الفكر ومشروعات النهضة والإصلاح

مرسل: السبت نوفمبر 23, 2013 1:37 pm
بواسطة نواف الصويلح3332
وبالنظر إلى الأدبيات العربية والأجنبية الصادرة خلال الخمسين عامًا الماضية حول تيارات الفكر الإسلامي "الإصلاحي التجديدي الإحيائي"، خلال القرون الثلاثة الأخيرة على الأقل دون الامتداد إلى تيارات الفكر التراثية في القرون الأسبق، يمكن ملاحظة ما يلي:

أن معظم هذه الأدبيات لا يعرض لتيارات أو روافد أو اتجاهات ولكن يتوقف عند رموز فكرية مصنفًا لها أو واصفًا أو مقومًا لمداخلها أو مشروعها (مثلاً: تربوي – اجتماعي – سياسي، أو ديني – اجتماعي، أو تقليدي – حداثي – توفيقي، أو رشيد – ضال،... إلخ). وأحيانًا قد تتداخل أو تتعدد التصنيفات لبعض الرموز، فعلى سبيل المثال وليس الحصر: هل محمد عبده مصلح ديني أم مصلح تربوي أم اجتماعي، أو هل هو إسلامي تقليدي أم إسلامي ليبرالي أم إصلاحي؟ ولماذا لا يكون سياسيًّا أيضًا؟ إن معايير تصنيف الرموز - على هذا النحو- والتي تنطلق من بعد واحد أو مدخل واحد من المداخل إلى هذه الشوامخ، وهي معايير شائعة في الدراسات عن فكر القرون الثلاثة الأخيرة. ولم تكن هي المتبعة عند تصنيف رموز أو شوامخ القرون الأسبق؛ حيث كان هؤلاء يصنفون بمذاهبهم ومدارسهم: كفقهاء، أو متكلمين أو فلاسفة أو مؤرخين... إلخ. وفي وقت كانوا جميعًا من مرجعية الإسلام، ولم يوصف أحدهم بالإسلامي، دون غيره، مهما كانت اختلافاتهم (الفقه، الفلسفة، ...). إذن ما الذي حدث بعد ذلك؟ هل هي صدمة الاحتكاك بالغرب والتأثر به التي فرضت هذه الشبكة المتعددة المعايير للتصنيفات، وعلى نحوٍ أصاب النظر بالغموض والتخبط وأحيانًا العجز عن تمييز الفروق، وخاصة بعد أن أفرط الدارسون في ابتداع أنماط التصنيف لنفس الرمز أو الشامخ؟ ناهيك عن إفراطهم في اجترار نفس قائمة الرموز والشوامخ، اجترارًا، وصل في نهاية الأمر ليصبح الآن نوعًا من التكرار بدون تراكم، نمطًا من الاجترار السلبي الذي فقد الصلة بالواقع؟ فلماذا استدعاء هذه الرموز والشوامخ، ووفق تصنيفات متباينة لكل منهم، هل هذا هو توظيف الفكر المطلوب لخدمة متطلبات الواقع؟ أم أضحى توظيفًا يدّعي السعي لتحقيق التواصل والاستمرارية الحضارية في حين أنه أضحى في الواقع نوعًا من التجميد والتكرار بلا تأثير جذري حتى الآن؟

ناهيك عن تكريس التصنيفات المذهبية والقومية، في ظل تصنيف الفكر إلى: العربي، التركي، الفارسي، الأفريقي، المالاوي…

حقيقة أن للأطر المكانية والزمانية تأثيراتها، ولكن ما كان هذا هو التصنيف المتبع سابقًا وما كان يعطي لهذه العوامل أكثر مما تستحقه من وزن، على عكس الوضع الراهن حيث قفز هذا العامل في بعض الأدبيات.

ليست هذه بالطبع دعوة للتوقف عن الرجوع لتراثنا أو لإنكاره، ولكنها دعوة لإعادة القراءة من جديد على ضوء قواعد جديدة وسعيًّا نحو أهداف جديدة لابد وأن تقدم ابتداءً الإجابة على السؤال التالي: لماذا لم يتم تطبيق، أو لماذا لم ينجح تطبيق برامج الرموز والشوامخ في إصلاح حال الأمة عبر القرون الثلاثة الأخيرة؟ هل للخارج دور في هذا؟ ومن ثم، هل حاز البُعد الدولي في منظومة النماذج الفكرية للشوامخ ما يستحق أن يناله عند إعادة قراءتها؟ وهل حاز مستوى الأمة ككل – وليس مستوى الأوطان أو الأقوام فقط- محط الاهتمام؟

ومن ثم، وبالنظر في مجموعة من هذه الأدبيات التي تُقَوِّم مشروعات الرموز والشوامخ، يتضح لنا ما يلي:

أولاً: يتضح لنا أن مجال الفكر الإسلامي، وإن كان أكثر اتساعًا من مجرد الفكر عن الإصلاح والتجديد فإنه لم يسقط البعدين الآخرين: البيني والخارجي، ولكن استدعى الخارجي بقدر تأثيره على الداخلي، في حين ركز على الداخلي وقدر تأثره بالخارجي. كذلك فإن قضايا وأجندة الاهتمامات تراوحت ما بين الديني والاجتماعي والسياسي، وفق منظومات مختلفة باختلاف منظور الباحث أو الكاتب.

وهكذا، تجدر ملاحظة أن "المفهوم الواسع للإصلاح" يمزج بين الداخل والخارج في ظل معطيات القرن (الثامن عشر والتاسع عشر) يصبح مرادفًا للفكر الإسلامي بمفهوم شامل يتضمن إلى جانب قضايا أصولية – شرعية (مثل الاجتهاد ونطاق وتفسير القرآن وأسانيد صحة الحديث ومعنى ونطاق الشريعة) قضايا سياسية (أسس السلطة وحيازتها وانتقالها وشرعيتها، والعلاقة بين الدين والمجتمع والدولة والقيم الدينية والاجتماعية) وقضايا الرؤية للآخر وقواعد وقيم العلاقات الحضارية (عزلة، تفاعل، تفوق، تساوي).

ثانيًّا: أن الموقف من الغرب بعدًا أو قربًا هو المحفز للفكر لأن هذا الفكر – بتوافق الجميع – كان نتاج صدمة الاحتكاك المباشر بالغرب. فالغرب كان حاضرًا بطريقة أو بأخرى في تشخيص الأزمة، وفي معايير تصنيف اتجاهات الفكر، وفي أنماط الإصلاح المطلوبة... ولكن فيما يبدو كان هناك خلط بين: الغرب، والعالم، والاستعمار، والحداثة، والاحتلال العسكري، والغزو الثقافي والحضارة الغربية؛ فالاستعمار ليس كل الغرب، والحداثة هي الجناح المعرفي والفلسفي للظاهرة الاستعمارية، والاحتلال العسكري تخدمه أدوات متنوعة ويحقق أهدافًا متنوعة أكثر من مجرد احتلال الأرض. والخارج ليس الغرب فقط ولكن أجزاء أخرى من العالم. ناهيك عن أن تشخيص اتجاه تأثير الغرب أو الاستعمار هل باعتباره تحديًّا أمام جهود الإصلاح، أم محفزًا للنهوض ذاته بما أمدّه بكثير من العوامل المحركة؟ وهل الغرب (أو الاستعمار) هما نتاج فقدان الوحدة الإسلامية أم هو سبب في التجزئة؟ وهل تتحقق الحرية أولًا أم الإصلاح أم الوحدة؟ بعبارة أخرى، إلى جانب طبيعة الخارج، فإن أنماط العلاقة بين المجالات الثلاثة: الداخلي – البيني – الخارجي أنماط تنوعت حولها الاجتهادات بدون انتظام.

ثالثًا: ألم يغلب على قضايا الإصلاح - لدى التوجه الإسلامي- قضايا مواجهة النمط المعرفي والثقافي والفكري الحداثي بالأساس؟ وأين قضايا التغيير السياسي في مواجهة نظم الاستبداد؟ وإذا كانت التوجهات الليبرالية والقومية الحديثة قد ركزت على تلك الأخيرة، هل يعني ذلك أن هذا لا يتحقق إلا بانفصالٍ عن مرجعية الإسلام؟ كيف لا تبرز قضية الاستبداد السياسي بين أجندات الأدبيات التي قدمت القراءة في الفكر الإسلامي الحديث؟ في حين - أن قضية السلطة - هي عصب ومحور اهتمام الفقه السياسي الإسلامي في عصوره الأولى، ولو على النحو الذي أثار جدلًا حول مدى سلطوية هذا الفقه وشرعنته للملك العضود وإمارات التغلب.

كذلك إذا كان للتوجهات الإسلامية بحكم مرجعيتها أن تركز على العواقب المعرفية والثقافية والدينية للحداثة إلا أن ذلك ليس كغاية في حد ذاته ولكن لما لها من تأثيرات على المجالات السياسية والمجتمعية والاقتصادية. وفي المقابل هل الانطلاق من مرجعية غير الإسلام تستوجب التركيز بالأساس على الأبعاد المادية للإصلاح في العلاقة مع الغرب دون إعطاء الأبعاد القيمية اعتبارها؟

رابعًا: ألا يمكن القول إن الداخل، سعيًّا نحو الإصلاح أو التجديد، قد احتل الاهتمام على حساب العلاقات البينية الإسلامية- الإسلامية، ألم يتولد فكر حول هذه العلاقات لدى رموز النهضة والإصلاح بالقدر الذي يفرض نفسه على التصنيفات؟ فهل جمال الأفغاني بمفرده هو الذي اهتم بقضية الوحدة الإسلامية؟ ولماذا لم يعط هذه القضية قدرًا كافيًّا من البحث عن موضعها في منظومات أفكار ومشاريع النهضة والإحياء والحداثة؟ فعلى سبيل المثال وبالرغم من أن محمد عبده درج الاهتمام به من مدخل الإصلاح الديني والتربوي إلا أنه يمكن قراءته من منظور آخر يبرز منظومة العلاقات الدولية للأمة في فكره سواء كانت العلاقات بين كيانات الأمة التي تمت تجزئتها أو العلاقات مع الغرب.

إذن ومرة أخرى، أيمكن القول إن مفهوم الفكر السياسي باعتباره دراسة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم أو دراسة ظاهرة السلطة وتجلياتها الداخلية بصفة عامة، هو الذي صبغ الأدبيات عن الفكر الإسلامي في القرون الثلاثة الأخيرة بالرغم من أن هذه القرون هي التي شهدت بروز البعد الخارجي وتأثيراته، وهل هذا يعني استمرارًا لنفس التقاليد الإسلامية في الفكر والممارسة والناظرة للخارج على اعتبار أنه ليس إلا امتداد للداخل، مهما زاد وزن تأثيره أو اشتدت وطأته؟ وألم يحن الأوان لإعادة النظر من زاوية واتجاه آخر؟ ومن ثم، ألا يستوجب ذلك إعادة قراءة نماذجنا الفكرية في مراحل متتالية ومناطق متنوعة وعلى نحو يهدف إلى إبراز البعد الدولي في رؤاها، خاصة من حيث نمط هذا الدولي (أو الخارجي) ونمط عملية التفاعل والتأثير المتبادل بين الداخل والخارج والبيني، وعلى نحو يركز ليس فقط على مجالات التأثير وأسبابه ولكن على عملية التأثير ذاتها ونمطها واتجاهها ودرجة اختراقها وكيف تطورت. فإن نمط الهجوم على الهوامش ليس هو نمط احتلال القلب عسكريًّا، وليس نمط الاستعمار الجديد بعد الاستقلال، وهو ليس العولمة وعودة الاستعمار التقليدي أو مشروع الشرق الأوسط الكبير... إن هذه القراءة المطلوبة لتأسيس مجال فكر إسلامي دولي لن تكون افتئاتًا على رؤى هذه النماذج الفكرية أو تأويلاً لها، ولن يكون ضد خصائص منظور إسلامي للعلاقات الدولية ولكن سيكون استجابة لدواعي وأهداف الاهتمام الراهن بهذا البعد والتي لا يمكن أن تتحقق أهدافها الراهنة بدون البحث في امتداداتها السابقة والكشف عن نمط تواصلها الحضاري.