- السبت نوفمبر 23, 2013 5:38 pm
#65864
ذهبت الكثير من التحليلات المعنية بشرح واقع العلاقات الدولية والتنبؤ بمستقبلها إلى الدفع بأن الصراعات المقبلة ستُعزَى في جانب كبير منها إلى التنازع حول الموارد الاقتصادية المحدودة بطبيعتها. وفي هذا السياق توقع كثيرون أن تكون الحروب المقبلة هي حروب حول المياه بالأساس.وفي ضوء الاعتماد الكبير للدول الغربية على موارد الطاقة التي توجد في مناطق أخرى من العالم، فإن هذه الدول تبدي اهتمامًا خاصًّا بمستقبل النفط في هذه المناطق، لا سيما منطقة الخليج العربي التي تزخر أراضيها بأكبر احتياطي لموارد الطاقة من نفط وغاز على مستوى العالم.
وفي هذا السياق، يأتي التقرير الذي أعده مركز "تشاتام هاوس" (البريطاني) خلال العام 2013، وهو عمل مشترك أعده كل من جلادا لين، وبول ستيفنز، وفيليكس بريستن، وهم مجموعة من كبار الباحثين في قسم الطاقة والبيئة والموارد في المركز الذي قام بين عامي 2011 و2013 بتنسيق العمل مع عدد من المؤسسات الشريكة وصناع السياسة والخبراء التقنيين في كل من السعودية والإمارات وعمان وقطر والكويت لدعم استراتيجيات خفض كثافة استخدام الطاقة. إذ يستند هذا التقرير إلى المناقشات التي جرت في 6 ورش عمل تم تنظيمها في هذا السياق، وضمت ممثلين ينتمون إلى أكثر من 60 مؤسسة محلية معنية بالطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي ككل.
ينطلق التقرير بشكل أساسي من أن هناك مجموعة من التحديات المشتركة والتشابه في المناخ وظروف سوق الطاقة تجمع بين دول مجلس التعاون الخليجي، وفي ظل هذه التشابهات يناقش التقرير المواقف المشتركة وسبل التعاون الإقليمي التي من الممكن أن تقلل تكاليف الاستهلاك، وتحفز الحفاظ على احتياطي النفط والغاز.
ويؤكد التقرير أن المجال يتسع في هذا السياق للتعلم من التجارب الدولية في مجال تنسيق سياسات الطاقة، لا سيما تجارب الدول ذات الظروف المشابهة لظروف دول مجلس التعاون الخليجي، على غرار الحال مع الجهود الإقليمية للاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة والمناخ، مؤكدًا أن دول مجلس التعاون الخليجي تواجه عددًا من العقبات فيما يتعلق بالثقة بين مختلف الأطراف، فضلا عن الميل إلى تخفيف التشريعات والمشكلات المرتبطة بتنفيذها.
ويمكن القول إن أبرز ما يميز هذا التقرير هو كونه الأول من نوعه الذي يقدم توصيات عملية قابلة للتطبيق، تهدف لمواجهة التحديات المرتبطة بالحوكمة، والالتزام السياسي والحوافز السوقية في مجال الطاقة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام.
واقع استخدام الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي
على الرغم من الانخفاض النسبي في عدد سكانها، تمثل دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة مستهلكًا ضخمًا للطاقة، ففي عام 2011 استهلكت هذه الدول نفس مقدار النفط والغاز الذي استهلكته دولتا إندونيسيا واليابان معًا، وعمومًا تستهلك هذه الدول الست طاقة أولية أكثر من إجمالي استهلاك إفريقيا، وذلك على الرغم من أن سكان هذه الدول لا يزيد عددهم عن 1/20 من سكان القارة الإفريقية.
ووفق بعض التقديرات، فإن استمرار معدل الطلب على الوقود في المنطقة بنفس معدلات الارتفاع التي شهدها خلال العقد الماضي، سيؤدي إلى تضاعف معدلات الاستهلاك بحلول 2024، وهو أمر غير مرغوب سواء بالنسبة للأمن القومي لكل من هذه الدول، أو بالنسبة للبيئة العالمية.
من ناحية أخرى، تعد كثافة الاستهلاك المحلي للطاقة (أي عدد وحدات الطاقة المستهلكة مقابل كل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي) في تلك الدول مرتفعة مقارنة مع المناطق الصناعية الأخرى في العالم، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى عدم الكفاءة في الاستهلاك، الأمر الذي يشكل تهديدًا على مستويات عدة؛ إذ يؤدي هذا الفقد الممنهج للموارد الطبيعية في منطقة الخليج إلى إضعاف قدرة اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي على مواجهة الصدمات، كما ينذر بنضوب المياه الجوفية التي يعتمد استخراجها وتحليتها على النفط أو الغاز. من ناحية أخرى من المتوقع أن يزيد من ذلك المخاطر الأمنية في تلك الدول وفي العالم كله.
ووفق التقرير، كثيرًا ما يعرب الخبراء التقنيون والسياسيون في دول مجلس التعاون الخليجي عن تخوفهم من المستوى المتدني للعمل في الوقت الراهن فيما يتعلق بمدخلات الماء، والطاقة قليلة أو منعدمة التكاليف، فضلا عن التطوير السريع للطرق والمدن الجديدة والمشاريع الصناعية واسعة النطاق التي تتم كلها دونما أي اعتبار لتأثير ذلك على مستقبل الطلب على كل من هذه الموارد.
في السياق ذاته، يهتم كثيرون باحتمال انخفاض العوائد الحكومية في هذه الدول نتيجة انخفاض الصادرات النفطية، والانخفاض في الأسعار الدولية، لا سيما وأن تحركات حكومات هذه الدول لا تزيد عن كونها ردود أفعال على الأزمات بعد حدوثها، في حين أن التحدي طويل الأمد الذي تشهده المنطقة حاليًّا يحتاج إلى بلورة خطة استراتيجية متكاملة تطبق بحزم تضع في اعتبارها مصالح الأجيال القادمة.
جهود الحكومات الخليجية لإدارة قطاع الطاقة
يشير التقرير إلى أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي تتدخل في إدارة قطاع الطاقة بآليات عدة، مشيرًا إلى أن التكاليف المتزايدة للإعانات المالية في كل تلك الدول تعكس التدخل الواضح لهذه الحكومات في كفاءة قطاع الطاقة، وينطبق الأمر ذاته على واردات الغاز في كل من الإمارات والكويت. ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، يتراوح العبء المالي لإعانات الطاقة الذي تتحمله كل من هذه الحكومات بين 9% و28% من مجمل الإيرادات الحكومية في عام 2011، وتزيد هذه النسبة على نسب الإنفاق على الصحة أو التعليم، وهي موارد هائلة كان يمكن استغلالها لتحسين مستويات معيشة لبعض القطاعات التي تحتاج ذلك.
من ناحية أخرى، تشهد دول مجلس التعاون الخليجي منذ عام 2009 تقدمًا واضحًا في الأهداف المتعلقة بالطاقة النظيفة واستراتيجيات رفع كفاءة استهلاك الطاقة، حيث تمكنت حكومات تلك الدول من الاعتراف بالأخطار التي يواجهها النظام الحالي لإدارة قطاع الطاقة، كما تمكنت من التعرف على الإمكانيات الاقتصادية للقطاعات الجديدة في هذا المجال، وهو ما مكنها من وضع الخطط اللازمة لدعم وصولها إلى "الطاقة المستدامة".
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى عدد من الأولويات ذات الأهمية الخاصة في المنطقة في مجال الطاقة، ففي المملكة العربية السعودية مثلا يعد تأمين القدرة على تصدير المواد الهيدروكربونية في المستقبل من أبرز الأولويات. كما تشير الحسابات إلى أن الخطط المقدمة للطاقة النظيفة في السعودية، يمكن أن تقلل من نمو الطلب على النفط والغاز من 4% في الوقت الراهن إلى حوالي 2.8% بحلول عام 2025، الأمر الذي يؤدي إلى توفير بين 1.5-2 مليون برميل نفط يوميًّا، وهو ما تحتاجه البلاد تقريبًا للحفاظ على احتياطي الخام في مستوى يؤمن احتياجات أسواق النفط العالمية.
أما على مستوى التعاون الإقليمي؛ فيبرز هدف مشترك يتمثل في ضمان استمرار تفوق دول المنطقة في التقدم في صناعة الطاقة، وزيادة قدرتها على مواجهة فكرة تعدد مصادر الطاقة، وعدم ثبات أسعار النفط. وإجمالا، لدى كل دول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الراهن خطط أو أهداف لدعم التوجه نحو الطاقة النظيفة، كما تم اتخاذ عدة خطوات مهمة نحو حماية مخزون الطاقة في البلاد، مثل خطة الكفاءة السعودية، وخطة أبو ظبي الشاملة للتبريد، واستراتيجية تكامل الطاقة في دبي، وخطط ومعايير ما يعرف بالبنايات الخضراء في كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر، وخطط تسعير خدمات مرافق الطاقة في عمان ودبي. كما أن هناك استراتيجيات تطوير شاملة تهدف إلى تقليل استخدام الكربون، أو ما يعرف بـ"النمو الأخضر" في كل من قطر والإمارات.
ومن المتوقع -وفق التقرير- أن يكون لنجاح أو فشل دول الخليج في تحقيق الأهداف المتعلقة بالطاقة تأثير عالمي؛ إذ سيؤثر ذلك على الاقتصادات المحلية للعديد من الدول ومن ثم سياساتها، كما سيؤثر على مدى توفر النفط والغاز للتصدير، فضلا عن التأثير على مكانة دول مجلس التعاون الخليجي في مفاوضات تغيير المناخ العالمي. كما يمكن أن يكون له تأثير على سياسات البلدان الأخرى في المنطقة، والتي لديها نفس الموارد والظروف المناخية. فعلى سبيل المثال، تُشير وكالة الطاقة الدولية في تقريرها الأخير إلى توقعات باحتمال حدوث ارتفاع واضح في الطلب على أجهزة تكييف الهواء بمنطقتي إفريقيا ومنطقة المحيط الهادي بآسيا، لا سيما مع ارتفاع مستويات الدخول ودرجات الحرارة في تلك المناطق. وفي ضوء حقيقة أن أجهزة تكييف الهواء في الخليج تستهلك ضعف الطاقة المستخدمة في أفضل تقنيات التبريد المتوفرة، فإن الوكالة تتوقع أن يشهد العالم انتشارًا لمساعي تحقيق التبريد باستعمال أقل قدر ممكن من الطاقة.
تطوير قطاع الطاقة في الخليج
تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بالعديد من المميزات التي من الممكن أن تعطي الدفعة اللازمة للمضي قدمًا بمشروعات تطوير قطاع الطاقة، فهذه الدول تتفوق على غيرها من الدول في امتلاكها فرص التمويل الجيدة، والقدرة على إنتاج الطاقة المتجددة، فضلا عن تمتعها بوجود البنى التحتية وتكنولوجيا الاتصالات اللازمة في هذا الصدد. كما أن دول مجلس التعاون الخليجي قادرة على استقدام الخبرات اللازمة للاستفادة من تجارب البلدان الناجحة في مجال الطاقة.
ولكن على الجانب الآخر، تُوَاجَه الفعالية المحتملة لخطط دول مجلس التعاون الخليجي في هذا السياق بمجموعة من التحديات، ترتبط بشكل أساسي بالحوكمة، وقلة الحوافز السوقية، وعدم استقرار الدعم السياسي اللازم لتنفيذ هذه الخطط، لا سيما مع تعدد مراكز السلطة المسيطرة على قطاع الطاقة، حيث تتوزع بين الوزارات والسلطات الإقليمية المختلفة.
على الصعيد ذاته، من المعروف أن استراتيجيات الطاقة النظيفة وطموحات النمو الأخضر تستغرق وقتًا طويلا للتحقيق، وفي هذه الأثناء يمثل استهلاك الماء والطاقة تحديًا في كافة أنحاء المنطقة، ويجب التعامل معه كأحد أهم الأولويات؛ إذ يعد ترشيد الطلب على هذه الموارد الحيوية ضرورة قصوى إذا ما كانت دول مجلس التعاون الخليجي تسعى لزيادة إمكانياتها من الطاقة المتجددة، فبدون ذلك من المتوقع أن تصل الزيادة في الطلب على الكهرباء إلى أكثر من 7% سنويًّا، وهو ما سيقضي على الطاقة المتوفرة عن توجه دول المنطقة لاستخدام الطاقة الشمسية خلال العقد التالي.
في السياق ذاته، تبرز أهمية التركيز على آليات توفير الكهرباء، ومن أهمها تغيير طرق ومعايير البناء والتشييد، ومعايير تشغيل تكييفات الهواء في تلك الدول، إذ توضح الخطط والممارسات التجريبية أنه يمكن توفير ما يقرب من 60% من الطلب على الطاقة نتيجة إجراء بعض التغييرات في الأبنية الحالية، فضلا عن 70% في الأبنية الجديدة. إلى جانب ذلك لا بد من الانتباه الفوري إلى مسألة تخطيط عمل وسائل النقل، وقضايا تهريب الوقود.
توصيات التقرير
يؤكد التقرير على أن التشابه في الظروف المناخية والسوقية لدول مجلس التعاون الخليجي يدعم أهمية قيام هذه الدول بالتعاون فيما بينها، وهو ما سيمكنها من تحقيق الكثير، لا سيما وأن الاصطفاف على المستوى الإقليمي يمكن أن يسهل التوصل إلى معايير إصلاح عملية تسعير الوقود، كما أن هناك إمكانيات جيدة للتعاون بشأن أفضل الطرق لإنتاج مصادر جديدة للطاقة والتكنولوجيا في المنطقة، فمن اللازم أن تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي خطة للتكامل الإقليمي تدعم مكانتها على الصعيد الدولي عن طريق التعاون في مجال الطاقة عبر تنسيق المبادرات والأهداف.
في هذا السياق، يقدم "تشاتام هاوس" عبر تقريره مجموعة من التوصيات لدعم التعاون على المستوى الإقليمي أو بين دول مجلس التعاون الخليجي، على النحو التالي:
أولا: ضرورة إنشاء مركز لخدمة صانعي سياسات الطاقة في هذه الدول من خلالوضع استراتيجية مفصلة للطاقة لكل من هذه الدول يتم تقديمها إلى الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي لتسهيل التوصل إلى موقف إقليمي ملائم. وتجميع البيانات المتعلقة بالطاقة في كل من هذه البلاد في قاعدة مركزية، وإتاحتها على موقع مفتوح على الإنترنت (يوصي التقرير بإمكانية أن توكل تلك المهمة إلى أعضاء الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي في كل من دول المنطقة).
بالإضافة إلى التوصية بتداول ومشاركة الدراسات والأبحاث المتعلقة بالكشف عن الاستخدام الكلي للطاقة في تحلية الماء، وتأثير ذلك على الطاقة المتاحة لمجالي البيئة والصحة. وكذا تداول تفاصيل النماذج المالية التي تسمح بالتداول التجاري للطاقة المتجددة في ظل الأسعار المنخفضة للوقود حاليًّا.
ثانيًا: تطوير معايير مشتركة ودعم تنفيذها على نحو فعال ببلورة ووضع معايير مشتركة لكفاءة استخدام الطاقة في الأجهزة الكهربية، مع وضع أجهزة التكييف على قمة قائمة الأولويات في هذا الصدد. ووضع معايير مشتركة لمعايير كفاءة استخدام وقود السيارات. بالإضافة إلىوضع معايير مشتركة لإجراءات ومواد البناء بما يؤدي إلى تغييرات تدريجية في كفاءة استخدام الطاقة. ويضاف إلى ذلك وضع برنامج دائم لدعم كفاءة الصناعات كثيفة الطاقة في المنطقة.
ثالثًا: إقامة البِنَى التحتية، ووضع آليات التسعير اللازمة للتغلب على الحواجز الحدودية أمام التجارة الإقليمية، من خلالضمان أن تكون شبكة البِنَى التحتية الممتدة في أرجاء دول مجلس التعاون الخليجي مرنة، بما يسمح بتفعيل التجارة البينية والإقليمية بين دول المنطقة. وتقييم إمكانية العمل على وضع أسعار مشتركة للوقود. ووضع الصيغة اللازمة التي تتيح وضع سعر موحد لتجارة الكهرباء.
رابعًا: زيادة التعاون في مجال الأبحاث للتطوير والتخطيط التقني لبناء القدرات الوطنية في دول المنطقة برفع مستوى العمل المشترك على تطوير وإقامة مشروعات تجريبية، وتقييم آليات تحلية للمياه تكون منخفضة استخدام الكربون. وبلورة منهجيات مشتركة لوضع نماذج وتخطيط استخدام الطاقة.
وفي هذا السياق، يأتي التقرير الذي أعده مركز "تشاتام هاوس" (البريطاني) خلال العام 2013، وهو عمل مشترك أعده كل من جلادا لين، وبول ستيفنز، وفيليكس بريستن، وهم مجموعة من كبار الباحثين في قسم الطاقة والبيئة والموارد في المركز الذي قام بين عامي 2011 و2013 بتنسيق العمل مع عدد من المؤسسات الشريكة وصناع السياسة والخبراء التقنيين في كل من السعودية والإمارات وعمان وقطر والكويت لدعم استراتيجيات خفض كثافة استخدام الطاقة. إذ يستند هذا التقرير إلى المناقشات التي جرت في 6 ورش عمل تم تنظيمها في هذا السياق، وضمت ممثلين ينتمون إلى أكثر من 60 مؤسسة محلية معنية بالطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي ككل.
ينطلق التقرير بشكل أساسي من أن هناك مجموعة من التحديات المشتركة والتشابه في المناخ وظروف سوق الطاقة تجمع بين دول مجلس التعاون الخليجي، وفي ظل هذه التشابهات يناقش التقرير المواقف المشتركة وسبل التعاون الإقليمي التي من الممكن أن تقلل تكاليف الاستهلاك، وتحفز الحفاظ على احتياطي النفط والغاز.
ويؤكد التقرير أن المجال يتسع في هذا السياق للتعلم من التجارب الدولية في مجال تنسيق سياسات الطاقة، لا سيما تجارب الدول ذات الظروف المشابهة لظروف دول مجلس التعاون الخليجي، على غرار الحال مع الجهود الإقليمية للاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة والمناخ، مؤكدًا أن دول مجلس التعاون الخليجي تواجه عددًا من العقبات فيما يتعلق بالثقة بين مختلف الأطراف، فضلا عن الميل إلى تخفيف التشريعات والمشكلات المرتبطة بتنفيذها.
ويمكن القول إن أبرز ما يميز هذا التقرير هو كونه الأول من نوعه الذي يقدم توصيات عملية قابلة للتطبيق، تهدف لمواجهة التحديات المرتبطة بالحوكمة، والالتزام السياسي والحوافز السوقية في مجال الطاقة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام.
واقع استخدام الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي
على الرغم من الانخفاض النسبي في عدد سكانها، تمثل دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة مستهلكًا ضخمًا للطاقة، ففي عام 2011 استهلكت هذه الدول نفس مقدار النفط والغاز الذي استهلكته دولتا إندونيسيا واليابان معًا، وعمومًا تستهلك هذه الدول الست طاقة أولية أكثر من إجمالي استهلاك إفريقيا، وذلك على الرغم من أن سكان هذه الدول لا يزيد عددهم عن 1/20 من سكان القارة الإفريقية.
ووفق بعض التقديرات، فإن استمرار معدل الطلب على الوقود في المنطقة بنفس معدلات الارتفاع التي شهدها خلال العقد الماضي، سيؤدي إلى تضاعف معدلات الاستهلاك بحلول 2024، وهو أمر غير مرغوب سواء بالنسبة للأمن القومي لكل من هذه الدول، أو بالنسبة للبيئة العالمية.
من ناحية أخرى، تعد كثافة الاستهلاك المحلي للطاقة (أي عدد وحدات الطاقة المستهلكة مقابل كل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي) في تلك الدول مرتفعة مقارنة مع المناطق الصناعية الأخرى في العالم، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى عدم الكفاءة في الاستهلاك، الأمر الذي يشكل تهديدًا على مستويات عدة؛ إذ يؤدي هذا الفقد الممنهج للموارد الطبيعية في منطقة الخليج إلى إضعاف قدرة اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي على مواجهة الصدمات، كما ينذر بنضوب المياه الجوفية التي يعتمد استخراجها وتحليتها على النفط أو الغاز. من ناحية أخرى من المتوقع أن يزيد من ذلك المخاطر الأمنية في تلك الدول وفي العالم كله.
ووفق التقرير، كثيرًا ما يعرب الخبراء التقنيون والسياسيون في دول مجلس التعاون الخليجي عن تخوفهم من المستوى المتدني للعمل في الوقت الراهن فيما يتعلق بمدخلات الماء، والطاقة قليلة أو منعدمة التكاليف، فضلا عن التطوير السريع للطرق والمدن الجديدة والمشاريع الصناعية واسعة النطاق التي تتم كلها دونما أي اعتبار لتأثير ذلك على مستقبل الطلب على كل من هذه الموارد.
في السياق ذاته، يهتم كثيرون باحتمال انخفاض العوائد الحكومية في هذه الدول نتيجة انخفاض الصادرات النفطية، والانخفاض في الأسعار الدولية، لا سيما وأن تحركات حكومات هذه الدول لا تزيد عن كونها ردود أفعال على الأزمات بعد حدوثها، في حين أن التحدي طويل الأمد الذي تشهده المنطقة حاليًّا يحتاج إلى بلورة خطة استراتيجية متكاملة تطبق بحزم تضع في اعتبارها مصالح الأجيال القادمة.
جهود الحكومات الخليجية لإدارة قطاع الطاقة
يشير التقرير إلى أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي تتدخل في إدارة قطاع الطاقة بآليات عدة، مشيرًا إلى أن التكاليف المتزايدة للإعانات المالية في كل تلك الدول تعكس التدخل الواضح لهذه الحكومات في كفاءة قطاع الطاقة، وينطبق الأمر ذاته على واردات الغاز في كل من الإمارات والكويت. ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، يتراوح العبء المالي لإعانات الطاقة الذي تتحمله كل من هذه الحكومات بين 9% و28% من مجمل الإيرادات الحكومية في عام 2011، وتزيد هذه النسبة على نسب الإنفاق على الصحة أو التعليم، وهي موارد هائلة كان يمكن استغلالها لتحسين مستويات معيشة لبعض القطاعات التي تحتاج ذلك.
من ناحية أخرى، تشهد دول مجلس التعاون الخليجي منذ عام 2009 تقدمًا واضحًا في الأهداف المتعلقة بالطاقة النظيفة واستراتيجيات رفع كفاءة استهلاك الطاقة، حيث تمكنت حكومات تلك الدول من الاعتراف بالأخطار التي يواجهها النظام الحالي لإدارة قطاع الطاقة، كما تمكنت من التعرف على الإمكانيات الاقتصادية للقطاعات الجديدة في هذا المجال، وهو ما مكنها من وضع الخطط اللازمة لدعم وصولها إلى "الطاقة المستدامة".
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى عدد من الأولويات ذات الأهمية الخاصة في المنطقة في مجال الطاقة، ففي المملكة العربية السعودية مثلا يعد تأمين القدرة على تصدير المواد الهيدروكربونية في المستقبل من أبرز الأولويات. كما تشير الحسابات إلى أن الخطط المقدمة للطاقة النظيفة في السعودية، يمكن أن تقلل من نمو الطلب على النفط والغاز من 4% في الوقت الراهن إلى حوالي 2.8% بحلول عام 2025، الأمر الذي يؤدي إلى توفير بين 1.5-2 مليون برميل نفط يوميًّا، وهو ما تحتاجه البلاد تقريبًا للحفاظ على احتياطي الخام في مستوى يؤمن احتياجات أسواق النفط العالمية.
أما على مستوى التعاون الإقليمي؛ فيبرز هدف مشترك يتمثل في ضمان استمرار تفوق دول المنطقة في التقدم في صناعة الطاقة، وزيادة قدرتها على مواجهة فكرة تعدد مصادر الطاقة، وعدم ثبات أسعار النفط. وإجمالا، لدى كل دول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الراهن خطط أو أهداف لدعم التوجه نحو الطاقة النظيفة، كما تم اتخاذ عدة خطوات مهمة نحو حماية مخزون الطاقة في البلاد، مثل خطة الكفاءة السعودية، وخطة أبو ظبي الشاملة للتبريد، واستراتيجية تكامل الطاقة في دبي، وخطط ومعايير ما يعرف بالبنايات الخضراء في كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر، وخطط تسعير خدمات مرافق الطاقة في عمان ودبي. كما أن هناك استراتيجيات تطوير شاملة تهدف إلى تقليل استخدام الكربون، أو ما يعرف بـ"النمو الأخضر" في كل من قطر والإمارات.
ومن المتوقع -وفق التقرير- أن يكون لنجاح أو فشل دول الخليج في تحقيق الأهداف المتعلقة بالطاقة تأثير عالمي؛ إذ سيؤثر ذلك على الاقتصادات المحلية للعديد من الدول ومن ثم سياساتها، كما سيؤثر على مدى توفر النفط والغاز للتصدير، فضلا عن التأثير على مكانة دول مجلس التعاون الخليجي في مفاوضات تغيير المناخ العالمي. كما يمكن أن يكون له تأثير على سياسات البلدان الأخرى في المنطقة، والتي لديها نفس الموارد والظروف المناخية. فعلى سبيل المثال، تُشير وكالة الطاقة الدولية في تقريرها الأخير إلى توقعات باحتمال حدوث ارتفاع واضح في الطلب على أجهزة تكييف الهواء بمنطقتي إفريقيا ومنطقة المحيط الهادي بآسيا، لا سيما مع ارتفاع مستويات الدخول ودرجات الحرارة في تلك المناطق. وفي ضوء حقيقة أن أجهزة تكييف الهواء في الخليج تستهلك ضعف الطاقة المستخدمة في أفضل تقنيات التبريد المتوفرة، فإن الوكالة تتوقع أن يشهد العالم انتشارًا لمساعي تحقيق التبريد باستعمال أقل قدر ممكن من الطاقة.
تطوير قطاع الطاقة في الخليج
تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بالعديد من المميزات التي من الممكن أن تعطي الدفعة اللازمة للمضي قدمًا بمشروعات تطوير قطاع الطاقة، فهذه الدول تتفوق على غيرها من الدول في امتلاكها فرص التمويل الجيدة، والقدرة على إنتاج الطاقة المتجددة، فضلا عن تمتعها بوجود البنى التحتية وتكنولوجيا الاتصالات اللازمة في هذا الصدد. كما أن دول مجلس التعاون الخليجي قادرة على استقدام الخبرات اللازمة للاستفادة من تجارب البلدان الناجحة في مجال الطاقة.
ولكن على الجانب الآخر، تُوَاجَه الفعالية المحتملة لخطط دول مجلس التعاون الخليجي في هذا السياق بمجموعة من التحديات، ترتبط بشكل أساسي بالحوكمة، وقلة الحوافز السوقية، وعدم استقرار الدعم السياسي اللازم لتنفيذ هذه الخطط، لا سيما مع تعدد مراكز السلطة المسيطرة على قطاع الطاقة، حيث تتوزع بين الوزارات والسلطات الإقليمية المختلفة.
على الصعيد ذاته، من المعروف أن استراتيجيات الطاقة النظيفة وطموحات النمو الأخضر تستغرق وقتًا طويلا للتحقيق، وفي هذه الأثناء يمثل استهلاك الماء والطاقة تحديًا في كافة أنحاء المنطقة، ويجب التعامل معه كأحد أهم الأولويات؛ إذ يعد ترشيد الطلب على هذه الموارد الحيوية ضرورة قصوى إذا ما كانت دول مجلس التعاون الخليجي تسعى لزيادة إمكانياتها من الطاقة المتجددة، فبدون ذلك من المتوقع أن تصل الزيادة في الطلب على الكهرباء إلى أكثر من 7% سنويًّا، وهو ما سيقضي على الطاقة المتوفرة عن توجه دول المنطقة لاستخدام الطاقة الشمسية خلال العقد التالي.
في السياق ذاته، تبرز أهمية التركيز على آليات توفير الكهرباء، ومن أهمها تغيير طرق ومعايير البناء والتشييد، ومعايير تشغيل تكييفات الهواء في تلك الدول، إذ توضح الخطط والممارسات التجريبية أنه يمكن توفير ما يقرب من 60% من الطلب على الطاقة نتيجة إجراء بعض التغييرات في الأبنية الحالية، فضلا عن 70% في الأبنية الجديدة. إلى جانب ذلك لا بد من الانتباه الفوري إلى مسألة تخطيط عمل وسائل النقل، وقضايا تهريب الوقود.
توصيات التقرير
يؤكد التقرير على أن التشابه في الظروف المناخية والسوقية لدول مجلس التعاون الخليجي يدعم أهمية قيام هذه الدول بالتعاون فيما بينها، وهو ما سيمكنها من تحقيق الكثير، لا سيما وأن الاصطفاف على المستوى الإقليمي يمكن أن يسهل التوصل إلى معايير إصلاح عملية تسعير الوقود، كما أن هناك إمكانيات جيدة للتعاون بشأن أفضل الطرق لإنتاج مصادر جديدة للطاقة والتكنولوجيا في المنطقة، فمن اللازم أن تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي خطة للتكامل الإقليمي تدعم مكانتها على الصعيد الدولي عن طريق التعاون في مجال الطاقة عبر تنسيق المبادرات والأهداف.
في هذا السياق، يقدم "تشاتام هاوس" عبر تقريره مجموعة من التوصيات لدعم التعاون على المستوى الإقليمي أو بين دول مجلس التعاون الخليجي، على النحو التالي:
أولا: ضرورة إنشاء مركز لخدمة صانعي سياسات الطاقة في هذه الدول من خلالوضع استراتيجية مفصلة للطاقة لكل من هذه الدول يتم تقديمها إلى الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي لتسهيل التوصل إلى موقف إقليمي ملائم. وتجميع البيانات المتعلقة بالطاقة في كل من هذه البلاد في قاعدة مركزية، وإتاحتها على موقع مفتوح على الإنترنت (يوصي التقرير بإمكانية أن توكل تلك المهمة إلى أعضاء الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي في كل من دول المنطقة).
بالإضافة إلى التوصية بتداول ومشاركة الدراسات والأبحاث المتعلقة بالكشف عن الاستخدام الكلي للطاقة في تحلية الماء، وتأثير ذلك على الطاقة المتاحة لمجالي البيئة والصحة. وكذا تداول تفاصيل النماذج المالية التي تسمح بالتداول التجاري للطاقة المتجددة في ظل الأسعار المنخفضة للوقود حاليًّا.
ثانيًا: تطوير معايير مشتركة ودعم تنفيذها على نحو فعال ببلورة ووضع معايير مشتركة لكفاءة استخدام الطاقة في الأجهزة الكهربية، مع وضع أجهزة التكييف على قمة قائمة الأولويات في هذا الصدد. ووضع معايير مشتركة لمعايير كفاءة استخدام وقود السيارات. بالإضافة إلىوضع معايير مشتركة لإجراءات ومواد البناء بما يؤدي إلى تغييرات تدريجية في كفاءة استخدام الطاقة. ويضاف إلى ذلك وضع برنامج دائم لدعم كفاءة الصناعات كثيفة الطاقة في المنطقة.
ثالثًا: إقامة البِنَى التحتية، ووضع آليات التسعير اللازمة للتغلب على الحواجز الحدودية أمام التجارة الإقليمية، من خلالضمان أن تكون شبكة البِنَى التحتية الممتدة في أرجاء دول مجلس التعاون الخليجي مرنة، بما يسمح بتفعيل التجارة البينية والإقليمية بين دول المنطقة. وتقييم إمكانية العمل على وضع أسعار مشتركة للوقود. ووضع الصيغة اللازمة التي تتيح وضع سعر موحد لتجارة الكهرباء.
رابعًا: زيادة التعاون في مجال الأبحاث للتطوير والتخطيط التقني لبناء القدرات الوطنية في دول المنطقة برفع مستوى العمل المشترك على تطوير وإقامة مشروعات تجريبية، وتقييم آليات تحلية للمياه تكون منخفضة استخدام الكربون. وبلورة منهجيات مشتركة لوضع نماذج وتخطيط استخدام الطاقة.