منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#65981
بسم الله الرحمن الرحيم
حتى لا نفرِّط في العصفور!
(فمن الغالب أن يكون الإنسانُ في مَلَكَةَ غيرهِ ولابد).
بهذه الكلمات الرائعة من رائد علم الاجتماع العلامة عبد الرحمن ابن خلدون رحمه الله، في مقدمته؛ تحدث حول (أثر أو دور الحالة السياسية للمجتمعات على الحالة الفكرية للشعوب أو الأمم والأفراد)!؟.
أو تأثير المناخ الاجتماعي على السلوك الفكري للأمم والأفراد.
وذلك تحت عنوان: (معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنفعة منهم).
حيث ربط بين رفق وعدل السلطة؛ وبين نفوس الأمة المتتطبعة والمنجبلة على الحرية الفكرية، وعلى الإبداع، وعلى الشجاعة الأدبية، والبوح بما في النفوس دون خوف!.
والعكس بالعكس!؟.
فالحرية الفكرية والإبداع عند الأفراد والأمم؛ تنمو وتترعرع في ظل الحالة السياسية السوية العادلة!.
والعكس بالعكس!؟.
أثر المناخ الاجتماعي على الأفكار:
وحول أهمية وجود المناخ الاجتماعي الذي يسوده جو من الحرية الفكرية، وكيف أنها من ضروريات انتشار الأفكار والدعوة.
فإن القرآن الكريم قد قص علينا مثالين مشهورين، عن هذه الحالة؛ عن دولتين كافرتين، اختلفت فيهما النتيجة، لاختلاف طبيعة نظام الدولة، وطبيعة الحاكم!.
الحالة الأولى:
تبدو في قصة مسيرة الدعوة داخل دولة الطاغية فرعون؛ والتي من طبيعة نظامها السياسي القهر والاستبداد.
وهي دولة يسودها مناخ اجتماعي (أوتوقراطي) استبدادي تسلطي و(ديكتاتوري).
ونجمل أبرز وأهم سمات الحالة السياسية لهذه الأمة:
1-فحاكمها، مستبد وظالم يرى نفسه فوق النصيحة: "قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ". [الزخرف 51]
2-ويرى رأيه هو الرأي؛ ويحمل المذهب الاستئصالي للآخر: "ما أُريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". [غافر 29]
3-بل والعياذ بالله نراه قد تمادى في تكبره فتجرأ ـ وذلك لكفره ولغيبة أو لتغييب المعارضة ـ، حتى بلغ به الشطط كل مبلغ، "فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى". [النازعات 24]
4-ونظراً لقناعته وتبنيه للمذهب الاستقصائي للآخر؛ فإنه لا يحترم الآخر، ولا يقر بالتعددية، وتصوره للآخر تصور شائه: "أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ. فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ". [الزخرف 52و53]
5-والشعب نظراً لحالته الأخلاقية المتدنية، فإنه مُستخفٌ به، ولا يحمل أهلية الاحترام من قيادته، ورغم هذا فإنه يطيعها قهراً: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ". [الزخرف 54]
وكانت النتيجة، لمسيرة الحركة الدعوية في هذا المناخ المريض الفاسد، أن توقفت الدعوة وحوربت، وجففت منابعها، وطورد الداعية!.
وكانت المحصلة النهائية، هي تحقق سنته سبحانه الإلهية؛ وهي النجاة للمؤمنين، وهلاك الظالمين سواء الحاكم والمحكومين؛ فغرق فرعون وملؤه!.
وكان التعقيب القرآني حول هذه السنة الإلهية، التي تنتظر كل مفسد: "فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ؟!". [الأعراف 103]
والحالة الأخرى:
تبدو في قصة حركة الدعوة والداعية، داخل دولة كافرة أيضاً؛ ولكن من طبيعة نظامها الحرية والشورى.
وهي حالة تمثل مسيرة الفكرة، في مناخ اجتماعي حر، وذو توجهات شورية (ديموقراطية).
ونجمل أهم وأبرز سمات الحالة السياسية لهذه الأمة:
1-فحاكمتها تحترم الآخر، وتؤمن بمبدأ المشاركة السياسية في اتخاذ القرار، وتلتزم بمبدأ الشورى: "قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ". [النمل 32]
2-ولكن لها تصور تعميمي حول بعض القضايا: "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ". [النمل 34]
3-وتتمتع بالحكمة والفراسة القيادية، مثل نظرتها إلى قوة المال، وتعتبر قبول الرشوة مقياس لاختبار النفوس: "وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ". [النمل 35]
4-ومن حكمتها أيضاً، أنها عندما رأت العرش، عند سليمان عليه السلام لم تتلعثم، أمام هول المفاجأة، لما قيل لها: "أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟!". [النمل 42]
فامتصت الصدمة المذهلة، وقالت وهي متماسكة: "كَأَنَّهُ هُوَ!". [النمل 42]
5-والشعب رغم قوته، ورغم الحرية السياسية والفكرية التي يتمتع بها، فإنه ـ وقد يكون لكفره ـ يُقَدِّس الحاكم، ويفوضه ويخوِّل إليه حرية التفاوض، والبت في كل الأمور خاصة العلاقات الخارجية: "قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ". [النمل 33]
6-وكان من طبيعة الأخذ والرد والحوار، داخل مؤسسات الدولة، وهذه المساحة الرحبة من الحرية التي أعطت الفرصة لاختبار صدق نوايا الداعية؛ الذي ظهر استعلاؤه، وقال: "أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ". [النمل 36]
وكانت النتيجة، والمحصلة النهائية؛ لهذه الحرية داخل هذا المناخ الحر؛ هي قبول الفكرة، والنجاة في الدنيا والآخرة للجميع سواء الحاكم والمحكومين: "قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". [النمل 44]
الأفكار تعشق مناخ الحرية!:
وهكذا يتضح لنا علاقة الحرية السياسية بانتشار الأفكار!.
فالأفكار تعشق مناخ الحرية؛ حتى ولو كانت الدولة لا تدين بالإسلام.
ولهذا أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم بالهجرة إلى الحبشة لأن حاكمها النجاشي عادل لا يظلم عنده أحد.
وكذلك لنتأمل كيف تنتشر الدعوة والأفكار داخل المجتمعات الغربية التي تتمتع بالحرية والديموقراطية وحرية التدين.
وبالعكس في مجتمعاتنا العربية بل والتي ترفع شعار الإسلام نجد حالة من الخنق للأفكار المغايرة والحصار للدعوة، ومطاردة الدعاة وتشويه الإصلاحيين!.
والكارثة أن بعضها يقوم بدور الوكالة لتعذيب متهمين لحساب دول الغرب!؟.
انتقائية تخدعنا ... وازدواجية تمنعها عنا:
ولكننا لا يجب أن ننخدع بشعارات الحرية؛ التي يرفعونها لأنها انتقائية؛ فهم يطلقون الحرية في بلادهم، لأن قوانينهم تحمي معارضيهم داخل بلادهم؛ ثم يحاربونها في العالم وسلوكياتهم مشهورة في فيتنام والعراق، ومع ثورات الربيع العربي؛ التي يشجعونها طالما لم تؤثر على هيمنة إسرائيل أو لم تأت بإسلاميين!.
ولنتذكر لماذا أنشأوا معتقل (جوانتناموا) على أرض غير أمريكية حتى لا يقعوا تحت طائلة قوانيهم هم أنفسهم!؟.
تماماً كازدواجيتهم في أن مجرد البصق على الأرض، يعتبرونها جريمة في بلادهم ولكنهم يجعلون من بلادنا صناديق قمامة لنفاياتهم!؟.
الحرية التي ركلناها ... هي أولوياتنا:
أما نحن فقد تعاملنا مع الحرية التي اقتنصناها بثورة 25 يناير؛ كمن يركل النعمة!؟.
وكررنا نفس الخطأ الغنائمي الذي امتد من أحد إلى حنين إلى بلاط الشهداء؛ كما بيناه في (بلاط الشهداء وجزرة ثورتنا)!.
ومن أجل إنقاذ مسيرتنا الدعوية التي أهملناها وطمسناها بمكاسب سياسية خادعة، ونسيناها بفخاخ نصبوها على طريقنا؛ علينا أن نضع على سلم أولوياتنا؛ عودة الحرية أو الديموقراطية التي تثمر مناخاً يسمح بحرية المسيرة الدعوية التي هي منهجنا الأساسي.
فلِمَ لا نجعلها قضية قومية أو حتى عالمية تجتمع حولها كل الفئات والقوى المجتمعية؟.
فالحرية هي لحركة الأفكار ومسيرة الدعوة كالماء بالنسبة للسمك!؟.
هل فرّطنا في عصفورنا وأغضبناه؟:
هل تعاملنا مع حريتنا التي اقتنصناها بعد عقود؛ بحسن نية لا تعترف بها ألاعيب السياسة.
فخدعنا ونستحق المحاكمة بالتهمة الشهيرة؛ التي اتهم بها ذات يوم من وثق بخصمه وصدق العسكر؛ فقيل عنه: أنه يستحق المحاكمة بتهمة السذاجة والحماقة السياسية؟!.
كما تعامل الصياد مع العصفور في الأسطورة الشعبية؛ التي تحكي أنه ذات يوم اصطاد أحد الصيادين عصفوراً جميلاً واستقل أن يأكله لصغر حجمه ففضل أن يبيعه في السوق كعصفور زينة.
فقال له العصفور: أطلق سراحي لأعول أولادي وسأكافئك بثلاثة حكم، تسعدك في حياتك؛ الأولى وأنا في القفص والثانية وأنا على النافذة والثالثة وأنا على الشجرة.
ففرح الصياد وطلب الأولى؛ فقال له: لا تصدق المستحيل.
ثم أطلقه، وطلب الثانية؛ فقال العصفور: لا تندم على ما فاتك.
ولكن أيها الأحمق إن في بطني جوهرتان ثمينتان من الذهب؛ فصاح الصياد: واأسفاه!. فأين الثالثة؟.
فقال العصفور غاضباً: إنك لم تأخذ بالأولى؛ فصدقت المستحيل، ولا بالثانية؛ فندمت على ما فاتك؛ فلا تستحق الثالثة؟!.
د. حمدي شعيب
زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS)