- الأحد نوفمبر 24, 2013 9:16 pm
#65982
مقدمة:
إن المتصدي لترجمة الشيخ عبد العزيز بن باز – وأمثاله من العلماء العالمين– ليجد عنتاً مرهقاً إن أراد استيعاب جوانب سيرته،و الإحاطة بأحواله، والإشادة بمناقبه ، وحسبي أن أقول مفتتحا ًالحديث عنه: إن عدداً من علماء العصر ومشايخه كانوا يقاربون الشيخ في علمه، وربما فاقه بعضهم في بعض الجوانب، لكني أرى أن الشيخ فارق علماء عصره ومشايخه في أربعة أمور وهي :
1- التفات عوام الناس حوله على اختلاف طبقاتهم ومراكزهم ، وحاجتهم إلى علمه ووجاهته .
2- التفات الخواص من المشايخ وطلبة العلم والدعاة حوله ، وحاجتهم إليه.
3- اهتمامه الشديد بقضايا المسلمين أينما كانوا، وإرساله البيانات التي تحث على نصرتهم ، ومخاطبة كل من يستطيع من الرؤساء والكبراء في هذا الشأن .
أما الأمر الرابع الذي انفرد فيه ولم يكن له مثيل هو مراعاة الدولة له ، ومداراتها إياه ، وتنفيذها كثيراً من توجيهاته وإرشاداته، وسماعها نصائحه ، وهذه الصفة قد فقدت عند أكثر علماء أهل السنة والجماعة فلم تعد أكثر الحكومات الإسلامية تلتفت إليهم ولا تأبه بهم ولا بفتاواهم ونصائحهم ،هذا إن تقدموا إليها بنصيحة أصلا ً، بينما كان الشيخ أحسن حالاً بكثير ، وكان لفتواه صدى كبير تتأثر به الدولة وتلتفت إليه ، وأستطيع أن أقول : إن الشيخ أعاد للأذهان شيئاً من عزة علماء السلف ومكانتهم عند الدولة .
هذه الجوانب الأربعة التي أظن أن الشيخ فارق بها علماء عصره ومشايخه ، لكن ليس من غرضي هاهنا مناقشة هذه الجوانب لأنها أشهر من أن يُدلل عليها وتساق لها الحجج ، وهي أيضاً مضخمة لبحثي هذا إن نوقشت ، ولم أكتب هذا البحث من أجل هذا الغرض ، وإنما من أجل جانب أغفله الباحثون في سيرة الشيخ، وقد شارك فيه الشيخ نوع مشاركة أردت تسليط الضوء عليها وإبرازها للباحثين جلية واضحة، وهذا الجانب الذي أحسبه جديداً على بساط البحث هو شخصية الشيخ عبد العزيز الفكرية والثقافية، ولذلك كتبت هذا البحث،وأحسبه جديداً مهماً، وذلك للأسباب التالية:
1- تسليط الضوء على جوانب من حياة الشيخ ليست معروفة عند كثير من الناس، أو لم يُربط بينها على وجه من الترابط المنتج هذه الصورة الثقافية الفكرية.
2- صورة الشيخ الثقافية الفكرية قد تكون مشوشة في أذهان كثير من الناس، وهي ليست موضع بحث الباحثين من المثقفين المفكرين، وهي أيضاً ليست موضع بحث الذين مافتئوا يتحدثون عن الشيخ وعلاقته بالفقراء والمساكين ، وهي علاقة رائعة حقاً، أو الحديث عن زهد الشيخ وورعه الذي كان مضرب الأمثال ، أو الحديث عن حسن خلقه وعظيم تحمله وهو أمر قد تناقلته الركبان، أو الحديث عن جلده وصبره وهو شيء عجيب، أو الحديث عن تجرده وعدم تردده في اتباع ما يراه حقاًً وإن خالفه الناس بعضهم أو كلهم، وهذا أمر متواتر من سيرته، أما الحديث عن الفكر والثقافة فلا تكاد تجد إلا شذرات ليست تذكر تحت هذين العنوانين بالطبع، إنما تذكر ضمن جوانب أخرى من سيرته أولا تذكر على الإطلاق، وهناك عدد كبير من الباحثين والمفكرين قد استقر في ذهنه أن الشيخ ضعيف الوعي وفيه ضيق في أفقه وتصوراته، ويلزم من هذا أن الشيخ ضعيف في الجوانب الفكرية والثقافية،هكذا يتصور عدد كبير من الباحثين، وهذا في الحقيقة فيه شيء من الجناية على الشيخ، وفيه إفراط في الحكم على جوانب من شخصيته بلا روية ولا تمحيص ، والذي ساعد في تعميق هذا الحكم على الشيخ في أذهان هؤلاء هو الآتي:
أ- كون الشيخ من بيئة اشتهرت عند عموم الناس زماناً طويلاًً بأنها بيئة منغلقة متقوقعة على نفسها، لها أدبياتها ونظراتها التي تكاد تخالف فيها أكثر الناس وتنفرد عنهم، وهذه البيئة لها أثر على أصحابها، نعم إن هذه البيئة قد اختلفت اليوم وتغيرت إلى حد كبير، وأصبحت مقاربة للبيئات الأخرى، لكن ينبغي ألا ننسى أن الشيخ قد عمّر زمانًا طويًلا، وأنه كان في صدر شبابه وأوان مناهل علمه يعيش في البيئة القديمة المنغلقة، والذي أراه أن هذا الأمر يعد محمدة للشيخ , ومفخرة حيث إنه استطاع أن يخرج من أسر بيئته ويتفوق عليها.
ب- لم تُعرف المنطقة النجدية بالمشاركة الفعالة القوية في الجوانب الفكرية الثقافية، حيث لم يظهر فيها إلاّ- نادراً- مفكرون مثقفون على مستوى يقارب أو ينافس ما في البلاد العربية والإسلامية التي اشتهرت بتخريج المفكرين والمثقفين مثل مصر والشام والعراق وبعض بلدان المغرب العربي ، وبعض البلدان غير العربية ، وهذا الوضع قد اختلف في العقد الأخير حيث صرنا نرى عدداً من المفكرين والمثقفين قد ظهروا وشاركوا في المسيرة الفكرية والمسيرة الثقافية ، لكن لا ننسى أن الحديث هنا يدور على عقود خلت وليس العقد الأخير فقط ، وأيضاً هناك عدد كبير من الناس لم يستوعب هذا التغير الأخير بعد فظل الانطباع الأول سائداً سائغاً عندهم ، وهؤلاء مازالوا أكثرية سائدة.
ج- العاهة التي أصابت الشيخ وهو لما يبلغ العشرين بعد ، وهذه العاهة – عاهة العمى – لها تأثير عظيم عند أكثر الناس بحيث يظلون محكومين في تلقي مصادر معرفتهم بالبيئة والعرف ، ومدى علم وفكر وثقافة الأشخاص المصاحبين والمرافقين ، وعمق الصلات الشخصية، والصفات الخلقية كالنباهة والذكاء ،الخ ...
لكني أجزم – مع هذا كله – أن الشيخ استطاع أن يتجاوز هذا ، ويرتقي إلى سُدة لم يبلغها أكثر أمثاله وأقرانه ممن أصيبوا في أبصارهم وليس في بصائرهم .
وهذا الأمر – أي أن العميان يظلون محدودي العلم والثقافة والفكر إلا نادراً – كان متعارفاً عليه منذ زمن طويل ، فهذا الإمام الشاطبي المقرئ الكبير القاسم بن فِِيّرة – المتوفى سنة590 للهجرة بالقاهرة- قد جرت مسألة فقهية بمحضره فذكر فيها نصاً واستحضر كتاباً فقال لهم : اطلبوها منه في مقدار كذا وكذا ، ومازال يعيد لهم موضوعها حتى وجدها حيث ذكر ، فقالوا له : أتحفظ الفقه؟ فقال لهم : إني أحفظ وِقرَ جمل – أي حمولة جمل – من كتب ، فقيل له: هلا دَرستها ؟ فقال : ليس للعميان إلا القرآن .
وقال صهره أبو الحسن علي بن سالم بن شجاع – وكان أيضا ًضريراً وأخذ القراءات عنه :
أردت مرة أن أقرأ شيئاً من الأصول على ابن الوراق ، فسمع بذلك فاستدعاني فحضرت بين يديه ، فأخذ بأذني ثم قال لي : أتقرأ الأصول ؟ فقلت : نعم ، فمد بأذني ثم قال لي : من الفضول : أعمى يقرأ الأصول.
ثم إننا على مر العصور لم نرى أعمى - إلا القليل النادر – برز في الجوانب الفكرية والثقافية، أو غيرها من دقائق العلوم التي تتطلب اطلاعاً واسعاً ومعرفة بحال الناس وتقلبات الدهر بأهله .
د- انشغال الشيخ الكبير بالعوام إجابةً لأسئلتهم وقضاء لحوائجهم ، وهذا مما تفرد فيه – تقريباً- بين علماء عصره، واشتهر عنه وعرف به ، وهؤلاء العوام إذا التفوا حول شخص ما فإنهم لا يكادون يتركونه، فمن كان مشغولاً هذا الانشغال فإنه لا يستطيع التفلت من هذا الإسار، لكن الشيخ مع ذلك استطاع أن يحصل جوانب من الفكر والثقافة سأتحدث عنها فيما يأتي – إن شاء الله تعالى - متغلباً على عوامل الانشغال الصادرة عن مزيد من المعرفة لأحوال الزمان وواقع الناس .
هـ- انشغال الشيخ الكبير بالمناصب الرسمية مثل توليه رئاسة الإفتاء ، ورئاسة هيئة كبار العلماء ، ورابطة العالم الإسلامي ، والمجلس الأعلى للمساجد ، وغير ذلك مما يملأ عليه وقته ، لكن مع هذا فإن هذه الهيئات كانت صاقلة لشخصية الشيخ الفكرية والثقافية ولاشك .
وهذه العوامل الخمسة ربما اجتمع معها غيرها ساعدت على ترسيخ الانطباع لدى عدد كبير من الخواص أن الشيخ محدود الثقافة والفكر، وأنه لا يستطيع أن يكون إلا كذلك .
وليس من مهمتي في هذا البحث تلميع صورة الشيخ , أو تكميل جوانب شخصيته بما ليس فيه ، أو ادعاء ما ليس عنده ـ معاذ الله ـ لكني أردت أن ألفت نظر القراء الكرام إلى بعض المشاركات الفكرية والثقافية التي شارك بها الشيخ في حياته العامرة الطويلة ، وهذه المشاركات ترقى – في ظني – إلى أن تُكَوّن ما يمكن أن يطلق عليه : الشخصية الفكرية والثقافية للشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى- وهذه المشاركات قد جاوزت الحد الأدنى الضروري من المشاركات التي ينبغي أن يشاركها من تصدر لفائدة الناس وتوجيههم.
والذي ينبغي أن يُعرف ويدرك أن هذه الشخصية الفكرية والثقافية ليست متميزة تميز الجوانب الأخرى في شخصيته ، لكني أذهب إلى أنها حاضرة موجودة ، وهي- في رأيي – التي فارق بها الشيخ جُلّ أو كل قرنائه في بيئته .
المبحث الأول : العوامل التي ساعدت على تكوين شخصية الشيخ الفكرية والثقافية
تعريف الفكر والثقافة :
إذا أردنا فهم أو معرفة الجوانب الفكرية والثقافية في حياة الشيخ رحمه الله تعالى والعوامل التي رسختها فلا بد من أن نطّلع على تعريف الفكر والثقافة ، أما الفكر فعرفه بعضهم بأنه : إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول ، وفَكَر في الأمر فَكراً أعمل العقل فيه ، ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى مجهول ، وأفكر في الأمر : فَكَر فيه فهو مُفكَّر .
وفكر في الأمر : مبالغة في فكر ، وهو أشيع في الاستعمال من فكر ، وفكّر في المشكلة : أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها فهو مفكر .
وعلى هذا فإن مثل الشيخ في علمه وفقهه وفهمه وذكائه ونباهته لا يخلو من أن يكون مفكراً، ولا يمكن أن تسلب منه هذه الصفة تحت أي دعوى مهما كانت .
أما الثقافة فقد اختلف في تعريفها كبار المفكرين والمنظرين ، ولم يهتدوا إلى تعريف جامع لها بعد ، لكن من التعريفات لها :
"العلوم والثقافة والفنون التي يُطلب الحِذق فيها ".
هي أسلوب الحياة السائد في مجتمع ما ، وهذا الأسلوب إنما هو ثمرة الصفات الخلقية ، والقيم الاجتماعية ، والمبادئ الروحية ، والأصول العقائدية ، فالثقافة على ذلك هي المحيط الذي يشكل طباع الفرد وشخصيته .
والثقافة الإسلامية هي التي يبني الإسلام فيها عقيدة الأمة وأخلاقها وطرائق حياتها في السلوك والاقتصاد والسياسة والاجتماع والتشريع ، والثقافات الأخرى العالمية تختلف طريقة وعوامل بنائها من أمة إلى أخرى .
وهناك ضبط لطيف للثقافة وإن كان لا يصلح تعريفاً لها ، وهو : (تعلم شيئاً عن كل شيء لتكون مثقفاً ، وتعلم كل شيء عن شيء لتكون عالماً).
إذاً الثقافة تتطلب كثرة القراءة وتنوعها ، وسعة الإطلاع وعمقه – أحياناً- والأخذ من كل شيء بطرف ، وليست بالضرورة مرتبطة بالتعمق في دراسة علم من العلوم.
والشيخ – رحمه الله – لا أدعي له الثقافة الشاملة بهذا المعنى ، لكني أجزم أنه كان محيطاً ببعض جوانبها ، لا تفوته جملةً كما يدعي ذلك من يدعيه .
العوامل التي ساعدت على تكوين الشخصية الفكرية الثقافية عند الشيخ :
أولاُ :الاستعداد الشخصي من ذكاء ونباهة :
وهذا أمر متواتر ومشهور يعلمه الكثير عن الشيخ .
ثانياً :حياته الطويلة المباركة:
حيث عاش قرابة تسعين سنة ، وهذا له أثر لا ينكر في اطلاع الشيخ على كثير جداً من الأحداث والأخبار العالمية ، والاستفادة من كل ذلك في بناء شخصيته الثقافية والفكرية .
ثالثاُ : معاصرته لتكون عدد من الحركات الإسلامية والجماعات الدعوية :
امتد عمر الشيخ وطالت حياته المباركة ، لذا فإنه قد عاصر تكوّن عدد من الحركات الإسلامية والجماعات الدعوية داخل البلاد وخارجها ، واختلط بأفرادها وقادتها ، وصار عنده تصور واضح – تقريباً- لأهدافها وطرائق عملها ، وكل ذلك طبع شخصيته الفكرية والثقافية بطابع متنوع مهم ، خاصة أن بعض هذه الحركات قد اشتهر بعنايته الكبيرة بالثقافة والفكر .
رابعاً: معاصرته الفورةَ الكبيرة لحركات ومذاهب هدامة :
مثل الشيوعية ، والبعثية ، والقومية العربية الغالية ، والناصرية ، وهذا لاشك أنه طبع شخصيته الفكرية والثقافية بطابع ما ، وأتاح له الاطلاع على جوانب كثيرة من منهاج تلك الحركات البائدة حينما كانت متغلغلة سائدة .
خامساً : الصلات المتميزة بقادة المجاهدين في العالم الإسلامي :
وهذا أمر مشهور معلوم في حياة الشيخ ، فما من حركة جهادية – تقريباً- إلا وللشيخ صلة ما بها ، ومن الأمثلة على ذلك :
الصلات المتميزة بالمجاهدين الأفغان يوم كانوا يجاهدون الروس ، وقد كان يرسل لهم الرسائل ويوجههم ، ويحث أئمة البلاد على القنوات والدعاء لهم ، وقد حاول إصلاح الخلاف بين الشيخ جميل الرحمن – رحمه الله – وبين سائر مشايخ الجهاد، وله جهود مشكورة في هذا الباب .
سادساً: الرسائل الكثيرة التي كانت تأتيه من العالم الإسلامي :
قد كانت رسائل كثيرة ترد على الشيخ من شتى أنحاء العالم الإسلامي ، وتعرفه بكثير من الأوضاع ، وتنقل إليه مآسي المسلمين ومشكلاتهم، وهذا لاشك يثري فكر الشيخ ويعمق فهمه وثقافته الإسلامية ، فإن علمنا أن الشيخ شارك في حل عدد من تلك المشكلات وخفف من شدتها على الناس تيقنا أن الشيخ انتقل بالفكر والثقافة من طور المعرفة إلى طول العمل ، وهذه هي الثمرة المطلوبة من المعرفة الفكرية والثقافية .
سابعاً: خلطته مع عدد من الدعاة والمثقفين والمفكرين :
كان للشيخ – رحمه الله تعالى – صلة جيدة بعدد من الدعاة والمثقفين والمفكرين داخل البلاد من السعوديين وغير السعوديين، ومن تلك الصلات على سبيل المثال :
1- صلته بعدد من الدعاة والمفكرين والمثقفين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ الثمانينات الهجرية- أي الستينات الميلادية- وكان هؤلاء موضع ثقته وتقديره .
وقد أخبرني الشيخ الفاصل الدكتور عبد الله القادري الأهدل – وهو ممن عاش في المدينة منذ سنة1382 للهجر ه ,وكان له صلة جيدة بالشيخ ابن باز في الجامعة الإسلامية – أن الشيخ عبد العزيز بن باز كانت له صلات جيدة مع بعض الدعاة والمفكرين والمثقفين الذين وفدوا للبلاد في حقبة الثمانيات الهجرية ، وعاشوا في المدينة المنورة النبوية ، ومنهم الشيخ سعيد حوى ، والشيخ محمد الوكيل رحمهما الله تعالى ، والأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات، وهؤلاء تركوا بصماتهم على فكر الشيخ وثقافته .
2- كان للشيخ مجلس أسبوعي في الرياض يضم نخبة من الدعاة والمثقفين والمفكرين السعوديين الذين كانوا يطلعونه على كثير من القضايا ، ويستشيرونه فيها ، ويرجعون إلى رأيه تارةً ويرجع إلى رأيهم تارة أخرى .
وهذه الخلطة ساهمت بلا شك في صياغة فكر الشيخ وثقافته .
ثامناً: الوفود التي تفد عليه في المواسم وغيرها:
كانت وفود من العلماء والدعاة والمثقفين والمفكرين ترد على الشيخ في المواسم في مكة ، وفي الصيف في الطائف ، وسائر السنة في الرياض ، وكانت هذه الوفود تحمل معها هماً متنوعاً وقضايا كثيرة ساهمت في تبيان كثير من الأمور للشيخ، وتعريفه بها ، وأوقفته على عدد من الحقائق الفكرية والثقافية في شتى أنحاء العالم الإسلامي .
وقد أخبرني الشيخ القادري الذي كان مسؤولاً عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية أن الجامعة – يوم كان الشيخ ابن باز نائباً لرئيسها ثم رئيساً لها – كانت ملتقى لكبار مشايخ العالم الإسلامي ومفكريه وسياسييه يوم كانوا يزورون المدينة، وكان الشيخ يستقبلهم جميعاً تقريباً ، ويتذاكر معهم أحوال العالم الإسلامي ، ويحتفي بهم، فمن المشايخ الذين وفدوا على الجامعة الشيخ أبو الأعلى المودودي – وكان عضو المجلس الأعلى للجامعة – والشيخ أبو الحسن الندوي ، ومحمود فايد من الجمعية الشرعية بمصر، رحمهم الله جميعاً، والشيخ عبد المجيد الزنداني حفظه الله تعالى ، ومن الساسة الشيخ عبد الله بن حسن الأحمر من اليمن – وهو الآن رئيس مجلس النواب اليمني- والدكتور محمد ناصر من إندونيسيا، وكان الشيخ يثني عليه ، وأحمدو بيللو من نجيريا – وهو عضو المجلس الأعلى للجامعة- ووفود مثل هؤلاء على الشيخ واختلاطه بهم يثري ثقافته ويعمق فكره .
تاسعاً: خلطته مع الطلاب في الجامعة الإسلامية :
وهذه الخلطة لها قصة على النحو التالي :
كان للشيخ رحمه الله تعالى يد طولى في الحفاظ على الطلاب الذين كانوا يدرسون في المدينة آنذاك ، وكان في الوقت نفسه يستمع لمشكلات بلادهم، فقد أخبرني الشيخ الفاضل د. عبد الله القادري أن الشيخ عينه مسؤولاً عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية، وجاء الشيخ عبد الله الأحمر والشيخ عبد المجيد الزنداني حفظهما الله تعالى إلى الشيخ و معهما عدد من مشايخ قبائل اليمن ، وطلبوا من الشيخ العناية بالطلاب اليمنيين لأن الشيوعية والقومية كانت منتشرة في اليمن آنذاك - الثمانينات الهجرية ، الستينات الميلادية- ، فطلب الشيخ ابن باز من الشيخ القادري أن يشرف على الطلاب اليمنيين ، و أن يجمعهم له كل أسبوع في دار الحديث بالمدينة حتى يوجههم، فكان ذلك ، وكان بعض المشايخ يتحدثون مع الطلاب اليمنيين مثل الشيخ عبد المجيد الزنداني ، فكان الشيخ يحضر محاضراتهم ويعلق عليها بكلمة مختصرة .
وكان للشيخ منهج لطيف مع الطلاب اليمنيين ، حيث كان الطلاب من مناطق مختلفة من اليمن ، فكان يقوم أحدهم كل أسبوع ليتحدث عن مشكلة في بلده ، سواء أكانت من قبل الشيوعيين ، أو القوميين الناصريين ، أو الصوفيين الغالين إلخ 000ويسمع الشيخ ويعلق ، فهذا الأمر سمح للشيخ بالإطلاع على مشكلات اليمن آنذاك . وهذا أيضاً كان يجري مع مجموعات الطلاب الأخرى ، إذ كان الشيخ القادري يجمع له مجموعات أخرى من الطلبة كلّ بحسب بلده ، فهناك مجموعات للطلبة الهنود، وأخرى للباكستانيين ، وثالثة لشرق أفريقيا ، ورابعة لغربها ، وخامسة لشمالها ، وهكذا ، وكان الطلاب يذكرون مشكلاتهم للشيخ ويتباحث معهم في كيفية حلها .
وكل هذا أورث الشيخ علماً واسعاً عن العالم الإسلامي : أحواله ومشكلاته ، وهذا لاشك ساعد في البناء الفكري والثقافي للشيخ، ومكنه من معرفه أحوال كثير من مناطق العالم الإسلامي في ذلك الوقت الذي كان فيه الإعلام عموماً والإسلامي منه خصوصاً ضعيفاً.
عاشراً: ما كان يُقرأ عليه من الكتب الفكرية والثقافية :
قد قرأ على الشيخ - رحمه الله تعالى- عدد من الكتب الفكرية والثقافية المهمة، ومن الأمثلة على ذلك أنه قرأ عليه كتاب (رسائل الإمام البنا ) وهو كتاب فكري ثقافي دعوي متفوق مشهور ، وهذا الشيخ محمد الموسى – ملازم الشيخ ومعاونه- يقول :
ربما طلب هو بعض الكتب لبعض المعاصرين لقراءتها إذا دعت الحاجة لذلك .
أذكر أنه لما كثر الكلام عن جماعة الإخوان المسلمين وكبارهم قال لي سماحته: كنت أرغب في قراءة كتبهم والإطلاع عليها ، ثم أمرني بإحضار جملة منها، وقال : أحضر لي رسائل الشيخ حسن البنا- رحمه الله – فأحضرتها ، وشرعت في قراءتها حتى أنني قرأت عليه منه ما يزيد على مائتي صفحة ، وهي على هيئة رسائل ، وكلما قرأت رسالة عليه كتب عليها تعليقاً يسيراً بعد قراءته لها ، وربما لم يكتب أي ملاحظة ، وربما أبدى إعجابه ببعضها .
وقراءته مثل هذا الكتاب عامل مهم في بنائه الفكري والثقافي ، ذلك لأن كتاب (رسائل البنا) من الكتب ذوات الصَّدارة في الموضوعات الفكرية .
وسيأتي في الفصل الثاني أنه قرأ كتباً للشيخ أبي الحسن الندوي ، والشيخ محمد الغزالي ، رحمهما الله تعالى ، وهما من الدعاة المعاصرين والمشهورين بسعة الثقافة والعلم وجودة الفكر ، وقد استشهد بكلامهما في مواضع من كتابه " نقد القومية العربية " كما سيأتي بسطه إن شاء الله تعالى في المبحث القادم .
هذه العوامل العشرة مجتمعةً ساعدت على تكوين شخصية ثقافية فكرية للشيخ عبد العزيز- رحمه الله تعالى- وأزعم أنها لم تتيسر مجتمعة لأكثر علماء العصر ، خاصة العامل الخامس والسادس والثامن ، أما بالنسبة لعلماء بلده ومنطقته فأنا أرى أنه فارقهم جميعاً في اجتماع هذه العوامل له فلم يكن أحد منهم مثله أو قريباً منه ، والله أعلم.
****
المبحث الثاني: صورة من الجوانب الفكرية والثقافية في شخصية الشيخ
كان هناك صورة على مشاركة الشيخ الثقافية والفكرية في حياة الأمة الإسلامية ، وهي صورة دالة على أن الشيخ قد اكتسب شيئاً لا بأس به من الثقافة والفكر ، وأن حياته الطويلة لم تكن لتخلو منهما كما يزعم الزاعمون ، فمن ذلك :
1 ـ تأليفه بعض الرسائل الدالة على مشاركة فكرية وثقافية ، فمن ذلك :
أ- "نقد القومية العربية":
وهي رسالة مهمة، يظهر فيها مدى تغلغل القومية العربية في بلاد الإسلام العربية آنذاك – وقد ألفها في الثمانينات الهجرية – والقومية على قسمين : قسم لا يعارض الإسلام ولكنه يرى فصله عن واقع الحياة وإبعاده عن السياسة، وهذا القسم على خطورته ومخالفته للإسلام الصحيح أخف من القسم الآخر الذي يرفض الإسلام جملة وتفصيلاً مثل قومية حزب البعث العربي الاشتراكي ، والشيخ- رحمه الله تعالى – في رسالته على وجازتها يرد على أهل القسمين رداً وسطاً بين الإجمال والتفصيل ، وفي هذه الرسالة تظهر مشاركة الشيخ في الجوانب الفكرية والثقافية ، فمن ذلك قوله :
" فمن سبَرَ أحوال القوميين ، وتدبر مقالتهم وأخلاقهم وأعمالهم عرف أن غرض كثيرين منهم من الدعوة إلى القومية أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع ، ومن تلك الأمور: فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى ، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة – لا بلغهم الله مناهم – ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات يرقص لها الاستعمار طرباً ، ويساعد على وجودها ورفع مستواها – وإن تظاهر بخلاف ذلك - تغريراً للعرب عن دينهم ، وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم والدعوة إليها ، والإعراض عن دينهم 000 ".
ثم قال رحمه الله تعالى :"وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم فاعلم أن هذه الدعوة – أعني الدعوة إلى القومية العربية – أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول ، وأنواع من الخيال ، وأساليب من الخداع ، فاعتنقها كثير من العرب وأعداء الإسلام واغترّ بها كثير من الأغمار ومَن قلدهم من الجهال ، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان 000"
ثم قال رحمه الله تعالى :" هذه الفكرة – أعني الدعوة إلى القومية العربية – وردت إلينا من أعدائنا الغربيين وكادوا بها المسلمين ، ويقصدون بها من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم ، وتفريغ شملهم على قاعدتهم المشؤومة " فَرِّق تَسُد "وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة مما يحزن القلوب ويدمي العيون .
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية- ومنهم مؤلف الموسوعة العربية – أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا ليفصلوا الترك عن العرب ويفرقوا بين المسلمين ، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو حتى عُقد لها أول مؤتمر في باريس وذالك عام1910 م ، وكثرت بسب ذلك الجمعيات العربية ، وتعددت الاتجاهات ، فحاول الأتراك إخمادها بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سوريا في ذلك الوقت إلى آخر ما ذكروا ...".
ثم نقل نقو لا ًمهمة عن عدد من الدعاة فقال :" ولقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة : ( اسمعوها مني صريحة أيها العرب ) حيث يقول ... "وقال :" ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير الشيخ محمد الغزالي تتعلق بالقومية ، قد أجاد فيها وأفاد ، حيث قال في كتابه (مع الله ) ... ".
ثم نقل نقلاً من كتاب الشيخ الغزالي ختمه بقوله : "انتهى المقصود من كلام الغزالي في كتابه " مع الله " ولعظم فائدته نقلته ها هنا " .
وهذه الرسالة متميزة فكرياً وثقافياً ، وأظن أن الشيخ لم يؤلف مثلها في الجوانب الفكرية والثقافية ، فهي من رسائله المتميزة ، مع أنه قد كتبها قبل وفاته بنحو أربعين سنة رحمه الله تعالى .
ب - رسالة "الدعوة إلى الله سبحانه وأخلاق الدعاة " :وهي رسالة موجزة للشيخ – رحمه الله تعالى – بدأها بالحكمة من إيجاد الخليقة ، والحكمة من إرسال الرسل – عليهم الصلاة والسلام- ثم تحدث عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكيف تعب من أجلها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، وكيف اجتهد الصحابة رضي الله عنهم في إبلاغ الرسالة إلى أرجاء المعمورة آنذاك ، ثم تحدث عن الدعوة إلى الله عز وجل حديثاً موجزاً في نقاط أربع، وهي :
حكمها وفضلها ، كيفية أدائها وأساليبها ، بيان الأمر الذي يُدعى إليه ، بيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها .
وقد قال في كيفية أداء الدعوة كلاماً فكرياً جيداً ، كان منه الحديث عن شمول الدعوة الإسلامية وأن الإسلام :"عبادة وقيادة : ويكون ( أي المسلم ) عابداً ويكون قائداً للجيش ، عبادة وحكم : ويكون عابداً مصلياً صائماً ويكون حاكماً بشر ع الله منفذاً لأحكامه عز وجل ، عبادة وجهاد : ويدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله ، مصحف وسيف ، يتأمل القران ويتدبره ، وينفذ أحكامه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه ، سياسة واجتماع : فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم ...
فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تباعد...
وهو يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل ...
وهو أيضاً سياسة واقتصاد ، كما أنه سياسة وعبادة وجهاد ، فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط ليس رأسمالياً غاشماً ظالماً لا يبالي بالحرمات ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق ، وليس اقتصاداً شيوعياً إلحادياً لا يحترم أموال الناس ولا يبالي بالضغط عليهم وظلمهم والعدوان عليهم ، فليس هذا ولا هذا بل هو وسط بين الاقتصادين ، ووسط بين الطريقين ، وحق بين الباطلين ، فالغرب عظموا المال وغالوا في حبه وفي جمعه حتى جمعوه بكل وسيلة ، وسلكوا فيه ما حرم الله عز وجل ، والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد بل أخذوها واستحلوها ولم يبالوا بما فعلوه في ذلك بل استعبدوا العباد ، واضطهدوا الشعوب ، وكفروا بالله ، أنكروا الأديان ، وقالوا لا إله والحياة المادة ...
ثم قال :" وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانباً دون جانب ، لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال ، ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة ، بل خذ الإسلام كله ، خذه عقيدة ، وعملاً ، وعبادة ، وجهاداً ، واجتماعاً ، وسياسةً ، واقتصاداً ، أو غير ذلك ، خذه من كل الوجوه ... يجب على كل مسلم أن يتمسك بالإسلام كله ، وأن يدين بالإسلام كله ، وأن يعتصم بحبل الله عز وجل ، وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال ".
وهذا الكلام يكاد يتطابق مضمونه ومجمله مع كلام الأستاذ البنا رحمه الله تعالى حيث قال في الأصل الأول من الأصول العشرين :
" الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً ، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواءً " .
ولهذا الكتاب قصة لطيفة أخبرني بها الشيخ الدكتور عبد الله القادري الأهدل الذي كان مسئولاً عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية زمان تولي الشيخ ابن باز رئاستها ، فقد جاء إليه وقال له : يا شيخ : ما هو الإسلام ؟ أهو عقيدة فقط أم هو عبادة فقط ؟ أم دعوة فقط ؟ أم هو شامل لكل ذلك ؟ وكان بجوار الشيخ ابن باز ملازمه الخاص في المدينة الشيخ إبراهيم الحصين ، الذي اتصل به بعد أسبوع ، وقال : لقد قرر الشيخ إلقاء محاضرة عن هذه المعاني مجتمعة ، و فعلاً ألقيت هذه المحاضرة التي طبعت في هذه الرسالة التي استقيت منها النصوص السالفة ، وقد أخبرني الشيخ القادري – حفظه الله تعالى – بأن عدداً من الطلبة قالوا بعد خروجهم من المحاضرة : لقد أصبح الشيخ عبد العزيز تلميذاً للبنا !!
2 ـ متابعته الدقيقة للأخبار وتفاعله معها :
قد كان الشيخ مداوماً على متابعة الأخبار على وجه يوميّ ، وهذا لاشك ينمي الجوانب الثقافية في شخصية الشيخ ، وهذا أحد المتابعين لحياة الشيخ يقول : " سماحته يتلقى تقريراً يومياً من وكالة الأنباء السعودية يحتوي على أهم الأحداث إجمالاً وتفصيلاً .
وفي مداومته يومياً على سماع الأخبار ردٌّ على كثير من المشايخ والصالحين الذين لا يكادون يسمعون الأخبار العالمية ولا يتابعونها ، بل يلمزون من يصنع هذا بدعوى ضياع الزمان والاشتغال بما لا ينفع ، فنتج من جراّء ذلك الإهمال أن صاروا في واد وأحداث العالم في واد آخر ، ولم يكن الشيخ – رحمه الله تعالى- كذالك ولا كان من أولئك القوم المنعزلين .
وبعض الناس يلمز المتابعين للأخبار على هذا الوجه بأنهم من أهل فقه الواقع !! وكأن فقه الواقع ليس مطلوباً ، أو كأنه عيب من العيوب التي ينبغي الفرار منها وعدم التلبس بها .
وإذا ضممنا إلى صنيع الشيخ ما ذكرته سابقاً من الرسائل الكثيرة التي كانت تصله من العالم الإسلامي وتعرفه بحال المسلمين ، وإذا ضممنا إلى هذا أيضاً الوفود الكثيرة التي كانت تفد إليه وتخبره عن تفاصيل الأمور ودقائقها ، وإذا ضممنا هذا كله بعضه إلى بعض اتضح لنا جلياً أن الشيخ لم يعش بمعزل عن أحداث العصر ، وما كان شيء من مهمات الأخبار يفوته في الجملة ، رحمه الله تعالى ، وقد كان يتعامل مع هذه الأخبار بإيجابية فيحزن لما فيها من المحزنات ، ويحاول حل ما استطاع حله من المشكلات ، وهكذا ينبغي أن يكون صنيع من يتابع الأخبار من العلماء والدعاة .
3 ـ موقفه الجيد من الجماعات الإسلامية الحركية وغير الحركية :
وقد كان للشيخ موقف جيد مشجع للجماعات الإسلامية مما يدل على أن له فكراً معتدلاً، وحسن اطلاع وتصور ، فها هو يقول :" وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلاّ عودة جديدة لدين الإسلام ".
وقال أيضاً متحدثاً عن الصحوة حديثاً إيجابياً بينما بعض أقرانه ينكر حتى اسم الصحوة :"هذه الصحوة التي تسر كل مؤمن – ويصح أن تسمى حركة إسلامية ، وتجديداً إسلامياً ، ونشاطاً إسلامياً – يجب أن تشجع ، وأن توجه إلى الاعتصام بالكتاب والسنة ، وأن يحذر قادتها وأفرادها من الغلو والإفراط " .
وقال أيضاً رحمه الله :" يجب على الدعاة إلى الله أن يستغلوا هذه الحركة الإسلامية بالتعاون مع القائمين عليها والمذاكرة معهم ، والحرص على إزالة الشبه التي قد تعرض لبعضهم ".
أ- موقفه من جماعة التبليغ :
كان للشيخ موقف من جماعة التبليغ يدل على فكر معتدل منضبط بضوابط الشريعة، فقد حاول أحد المشايخ النيل منهم فنصحه الشيخ ووعظه وطلب منه الكف ، فلما تكرر منه هذا قال له مبيناً فساد طريقته التي سلكها :" ولا أكتمك سراً إذا قلت إني لم أرتح لها ولم ينشرح لها صدري ، لأن هذه الطريقة التي سلكت لا تفيد الدعوة شيئاً لأنها تهدم ولا تبني ، وتفسد ولا تصلح ، وضَرُّها أقرب من نفعها ، ولم يعد ضررها إلا على الدعوة وعلى إخوانك في الله من خيرة المشايخ وطلبة العلم الذين نشأوا على التوحيد والعقيدة الصحيحة علماً وتعليماً ودعوة وإرشاداً .
وقد استغلها من لا بصيرة له في مناصبتهم العداء و تكفير بعضهم لهم واستباحة بعضهم دماءهم والعياذ بالله ، مع الوشاية بهم واستعداء المسؤولين عليهم وتهويل أمرهم عندهم وتخويفهم منهم ورميهم بالعظائم وإلصاق التهم بهم مما هم برآء منه حتى حصل على الدعوة والدعاة من الضرر ما الله به عليم ، أما من أقمتم الدنيا وأقعدتموها من أجلهم فينطبق عليكم قول الشاعر :
وناطح صخرةً يوماً ليوهنها فلم يَضرها وأوهى قرنه الوَعلُ
لكونهم بمنأى عنكم في بلادهم سائرين في دعوتهم في حماية من دولتهم لاحترامها لهم لأنك ذكرت في كتاباتك لنا أن رئيس الحكومة يحضر اجتماعاتهم ويشجعهم ، كما ذكر لنا هذه الأيام بعض أبنائنا المتخرجين من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية ممن شاركهم في الدعوة سنين طويلة أن مركزهم في رايوند مفتوح أربعة وعشرين ساعة ، وجماعات تخرج في سبيل الله وجماعات ترجع ، فما دام الأمر هكذا فلن تخضعهم كتابات أمثالك المشتملة على الفظاظة والغلظة والسب والشتم بل إن هذه الكتابات ستكون سبباً في نفرتهم من الحق وبعدهم عنه لقول الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدَّبه ربه فأحسن تأديبه :
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ".
"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه ".
" إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ولا على ما سواه ".
والله سبحانه نهى عن سب الكفار إذا كان يفضي إلى سب الله فكيف بسب المسلمين إذا كان يفضي إلى تنفيرهم من الحق وبُعدهم عنه وعن الداعين إليه ، فالواجب أن تسعوا في الإصلاح لا في الإفساد ، وأن تخالطوهم وتنهوهم على ما قد يقع من بعضهم من الخطأ بالرفق واللين لا بالعنف والقسوة .
أما تشديدك في إنكار البيعة على التوبة فقد اقترحت على قادتهم – لما اجتمعت بهم في موسم الحج الماضي بمكة وحصل بيني وبينهم من التفاهم ما نرجو فيه الفائدة- أن يكون عهداً بدل بيعة فقبلوا ذلك ، ولعلهم تعلَّقوا بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الجزء 28- ص12 ) من الفتاوى من عدم إنكار ذلك .
وكذلك تشديدك النكير عليهم في إبقائهم أحد الدعاة في المسجد للدعاء لهم ، ولعل قصدهم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين بقي في العريش يوم بدر مع الصدَّيق يناشد ربه النصر حتى سقط رداؤه عن منكبيه فردّه الصدّيق وقال : يا رسول الله : بعضَ مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما يعدك .
ولا يوجب هذا العمل هذا التشنيع الفظيع هدانا الله وإياك ، وقد تمنيت أنك قبلت نصيحتي المتكررة لك وما أشرت به عليك سابقاً ولاحقاً في كتبي المرفق بعضها مع بعض صور ما صدر منك في الموضوع لأني كتبتها عن بصيرة وتأنٍّ ونظر في العواقب وموازنة بين جلب المصالح ودفع المضار وخبرة تامة بهم لتكرر اجتماعي بهم في مكة والمدينة والرياض مع ما استفدته من ثقات المشايخ الذين سافروا إليهم وحضروا اجتماعاتهم واطلعوا عليها عن كَثب وأعجبوا بها ، وكنتُ نصحتك بما نصحتَ به ... لما تهجم عليهم على غير بصيرة كحال أكثر من شنّ عليهم الغارة في هذا الوقت بدافع الجهل والهوى نعوذ بالله من ذلك ، وقد قلت في رسالتك المذكورة ... :
" وصلتني رسالة منك حول جماعة التبليغ ، ويؤسفني أن ينهج أحد الدعاة إلى الله هذا المنهج المسيء لشرع الله في سب أقرانه في الدعوة إلى الله وشتمهم وتضليلهم واتهامهم بتنفيذ مخططات أعداء الله في الكيد للإسلام والمسلمين ، كل ما في الأمر أن جماعة التبليغ نهجت في الدعوة إلى الله منهجاً أخطأت – فيما نرى – في بعض جوانب منه ونرى من الواجب أن ننبههم على هذا الخطأ ، كما نرى من الواجب الاعتراف بما في منهجهم من صواب ، وليت أخي يخرج معهم ليتعلم منهم اللين بدل القسوة ، والدعاء للمسلمين بدل الدعاء عليهم ، والجدل بالتي هي أحسن بدل الجهر بالسوء ، وكلنا محتاج لتفّقد نفسه وتصحيح منهجه والرجوع إلى الله وإلى سنّة رسوله في طاعة الله والدعوة إلى الله " 0
انتهى كتابك بحروفه ، وقد كتبتَه بعد اختلافك معهم في الرأي, ولكن الله أنطقك بالحق والحمد لله على ذلك .
وإليك رسالتك المذكورة مع شكرنا لك عليها برَفقه ، وربما اغتر َّ بكتاباتك القاسية – ثقةً بك - مَن لم يخالطهم في عمره ولم يخرج معهم ولم يعرف عنهم شيئاً إلا من كلامك فيكون عليك وزرك ومثل أوزار مَن انخدع بما كتبت إلى يوم القيامة .
" فاتهم الرأي يا بني ! واعلم أن الله عند لسان كل قائل وقلبه ، وأن الله سيحاسب الإنسان عما يلفظ به أو يعمله ، والجأ إلى ربك واضرع إليه أن لا يجعلك سبباً في الصدَّ عن سبيله وأذية المسلمين ، وأسأل الله عزّ وجل أن يشرح صدرك لما هو الأحب إليه والأنفع لعباده ، وأن يختم لي ولك وللمسلمين بالخاتمة الحسنة إنه جواد كريم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد " .
وهذا الكلام يدل على اعتدال فكري جيد ، وفقه للموازنة متميز ، والله أعلم ..
ب- موقفه المعتدل من المتصوفة :
كان للشيخ – رحمه الله تعالى – موقف من الصوفية معتدل جيدٌ ، فهو يرد على بدع الصوفية ، ويفند أقوالهم ، ويزنها بميزان الشرع المطهر لا بميزان العاطفة الذي يسرف في استعماله كثير من الصوفية ، لكنه مع ذلك لم يكن يقبل التعميم في الحكم عليهم كما وقع لكثير من العلماء المعاصرين ، ولا يضلل إلا من ثبت عنده ضلاله .
وأذكر هاهنا أني اجتمعت به في مكة قبل وفاته بسنتين تقريباً – فيما أذكر – في مجالس خاص ، وقلت له يا شيخ عبد العزيز : قد سمعت في برنامج " نور على الدرب " أحد العلماء الأفاضل يسرف في التشنيع على الصوفية ، ويبدعهم جميعهم ، و يأمر بإتلاف جميع كتبهم ، فلماذا هذا التعميم ؟ ولماذا لا نذهب فيهم إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث ذكر كلاماً حاصله أنهم طائفة من المسلمين فيهم خير وفيهم شر ، فيحمد ما عندهم من خير و يذمّ ما فيهم من شر وضلال ، فقال لي رحمه الله تعالى : هذا رأيي ,هذا رأيي .
وهذا موقف معتدل منه رحمه الله تعالى خالف فيه كثيراً من علماء عصره ، وهو يدل على جودة في التفكير ، وحسن اطلاع ، وورع في إطلاق الأحكام .
ج- موقفه المعتدل من الحركات الإسلامية عموماً :
كان للشيخ موقف من الحركات الإسلامية العاملة ينم عن اعتدال فكري كبير ، وقد قال في إحدى مقالاته بعنوان : " الحركات الإسلامية ودور الشباب فيها " :
" وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلا عودة جديدة لدين الإسلام الذي تريح أوامره وشرائعه النفوس ، وتتجاوب مع متطلبات المجتمعات في كل عصر ومكان ...
وهذه الحركات كان للشباب فيها دور كبير وأفعال مؤثرة ، تدعو للتبصر والمؤازرة، إلا أن بعضها وخاصة في بعض الدول الإسلامية قد تعرض للكبت والمضايقة والاضطهاد والملاحقة . وبعضها استمر في أداء الدور الذي تنادى به تعاليم الإسلام في سبيل الدعوة والاهتمام بتبصير المسلمين عما جد في حياتهم ولا يسير وفق منهج الإسلام .
وقد كان لهذا النوع ، وما زال أثر طيب بحمد الله في إصلاح أوساط الشباب ، وإقامة الكثير من المجتمعات على جادة الحق والهدى ، في داخل العالم الإسلامي وخارجه عن طريق الكتاب الإسلامي ، والمنبر ، والمحاضرات ، والمخيمات والمعسكرات الإسلامية التي يلتقي المسلمون فيها عدة أقطار ، فيتذكرون علوم دينهم ، ومشكلات مجتمعهم ، ويتفهمون الواقع من حولهم ويعملون بقول الله تعالى : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ).
وهذه فتوى للشيخ تدل على اعتدال فكري جيد ، وموضوعها نفي علاقة الجماعات الإسلامية الحركية وغير الحركية بالفرق الضالة ، حيث سأله سائل : يا شيخنا الكريم الذي يقول بأن هذه الجماعات الإسلامية من الفرق التي تدعو إلى جهنم والتي أمر النبي باعتزالها ؟
ابن باز : " الذي يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس من الفرق الضالة ، الفرقة الناجية هم أهل الحق وهم دعاة الهدى ، ولو تفرقوا في البلاد يكون منهم في الشام ، يكون منهم في أمريكا ، يكون منهم في مصر ، يكون منهم في أفريقيا ، يكون منهم في آسيا ، هم جماعات كثيرة المقصود هدفهم ما هو؟ وعقيدتهم ما هي ؟ فإذا كانوا على طريقة التوحيد والإيمان باللّه ورسوله والاستقامة على دين الله الذي جاء به الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة والجماعة وإن كانوا في جهات كثيرة لكن في آخر الزمان قد يقلون جداً .
فالحاصل أن الضابط ماداموا على الحق ، فإذا وجد إنسان أو جماعة تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتدعو إلى توحيد الله و اتباع شريعته هؤلاء هم الجماعة هم الفرق الناجية ، وأما من دعا إلى غير كتاب الله أو إلى غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس من الجماعة بل من الفرق الضالة الهالكة .
وإنما الفرقة الناجية دعاة الكتاب والسنة إن كانت منهم جماعة هنا وجماعة هنا مادام الهدف والعقيدة واحدة فلا يضر كون هذه تسمى أنصار السنة وهذه تسمى الإخوان المسلمين ، وهذه تسمى كذا ، المهم عقيدتهم وعملهم فإذا استقاموا على الحق وعلى توحيد الله والإخلاص له واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وعقيدة فالأسماء لا تضرهم ، لكن عليهم أن يتقوا الله وأن يصدقوا في ذلك ، وإذا تسمى بعضهم بأنصار السنة وتسمى بعضهم بجماعة كذا وجماعة كذا لا يضره إذا جاء الصدق حصل الصدق باتباع الكتاب والسنة وتحكيمها والاستقامة عليها قولاً وعملاً.
وإذا أخطأت الجماعة في شيء تُنبه ، إذا أخطأت أي جماعة في أمر من أمور الدين ينبهها الآخرون ولا نتركهم ، لا بد أن نتعاون على البر والتقوى إذا أخطأوا ننبههم، فإذا أخطأوا في شيء مما يتعلق بالعقيدة أو بما أوجب الله أو ما حرم الله نُبهوا بالأدلة الشريعة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن حتى ينصاعوا للحق وحتى يقبلوه وحتى لا ينفروا منه ، هذا هو الواجب ، على أهل الإسلام أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتناصحوا فيما بينهم وألا يتخاذلوا فيطمع فيهم العدو " , وهذه فتوى في غاية من الاعتدال وفقه الواقع .
وهناك فتوى أخرى أيضاً ونص سؤالها :يتساءل كثير من شباب الإسلام عن حكم الانتماء للجماعات الإسلامية ، والالتزام بمنهج جماعة معينة دون سواها ؟
وأجاب عنها الشيخ بما يلي :" الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالحق ، قال الله عز وجل ، وقال رسول الله عليه وسلم ، وألا يلتزم بمنهج أي جماعة لا إخوان مسلمين ولا أنصار سنة ولا غيرهم ، ولكن يلتزم بالحق ، وإذا انتسب إلى أنصار السنة وساعدهم في الحق ، أو إلى الإخوان المسلمين ووافقهم على الحق من دون غلو ولا تفريط فلا بأس .
أما أن يلزم قولهم ولا يحيد عنه فهذا لا يجوز ، وعليه أن يدور مع الحق حيث دار، إن كان الحق مع الإخوان المسلمين أخذ به ، وإن كان مع أنصار السنة أخذ به ، وإن كان مع غيرهم أخذ به ، يدور مع الحق ، يعين الجماعات الأخرى في الحق ، ولكن لا يلتزم بمذهب معين لا يحيد عنه ولو كان باطلاً ، ولو كان غلطاً ، فهذا منكر، وهذا لا يجوز ، ولكن مع الجماعة في كل حق ، وليس معهم فيما أخطأوا فيه.
4 ـ موقفه الجيد من المشاركة في الأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية :
قد كان للشيخ موقف من الأحزاب السياسية المعاصرة حسن جيد يدل على اعتدال كبير فكري وثقافي ، فقد كان يشجع على الانخراط فيها لمن كان قادراً على التأثير، وله فتوى يوم كان رئيساً للجنة الدائمة للإفتاء مهمة جداً ، ومنبع أهميتها أنها بشأن الانتساب للأحزاب غير الإسلامية ، وقد وافق الشيخ على الانتساب لها إن كان المسلم يظن أنه سيؤثر تأثيراً حسناً ، فكيف بالأحزاب الإسلامية إذاً !!
وهذا الموقف سبق فيه بعض رموز العلم والدعوة الذين يحرّمون الانتساب إلى الأحزاب الإسلامية فكيف بالانتساب لغيرها ، ويحرمون المشاركة في البرلمانات تبعاً لذلك أو استقلالاً ، فهذه الفتوى موفقة ومناسبة لحد بعيد لمتطلبات العصر ، ونص السؤال هو : بعض الناس مسلمون ولكنهم ينخرطون في الأحزاب السياسية ، ومن بين الأحزاب إما تابع لروسيا أو تابع لأمريكا ، وهذه الأحزاب متفرعة وكثيرة ؛ أمثال : حزب التقدم والاشتراكية ، حزب الاستقلال ، حزب الأحرار ، حزب الأمة ، حزب الشبيبة الاستقلالية ، حزب الديمقراطية .. إلى غيرها من الأحزاب التي تتقارب فيما بينها ، ما هو موقف الإسلام من هذه الأحزاب ، ومن المسلم الذي ينخرط في هذه الأحزاب، هل إسلامه صحيح ؟
الجواب : "من كان لديه بصيرة في الإسلام وقوة إيمان وحصانة إسلامية وبُعد نظر في العواقب وفصاحة لسان ، ويقوى مع ذلك على أن يؤثر في مجرى الحزب ، فيوجهه توجيهاً إسلامياً فله أن يخالط هذه الأحزاب ، أو يخالط أرجاهم لقبول الحق؛ عسى أن ينفع الله به ، ويهدي على يديه من يشاء فيترك تيار السياسات المنحرفة إلى سياسة شرعية عادلة ينتظم بها شمل الأمة ، فتسلك قصد السبيل والصراط المستقيم ، لكن لا يلتزم مبادئهم المنحرفة ، ومن ليس عنده ذلك الإيمان ولا تلك الحصانة ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر فليعتزل تلك الأحزاب اتقاء للفتنة ومحافظة على دينه أن يصيبه منه ما أصابهم ، ويبتلى بما ابتلوا به من الانحراف والفساد .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ".
5 ـ دفاعه عن الدعاة والمفكرين :
وهذا بارز وواضح في حياة الشيخ، فالدعاة والمفكرون والمثقفون قريبون منه وهو لهم محب ، مدافع عنهم، و يشعر بمصابهم ، وهذا- أي محبة الدعاة والمدافعة عنهم- أيضاً يدل على اعتدال فكري جيد، واسمع إلى قول الشيخ محمد الموسى الملازم للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى :
" عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم في مثل هذه النازلة , التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف الإضعاف من منزلة الإسلام نفسه بإرهاب المعتصمين به لتخذيلهم عنه .
وكلفني الشيخ يومئذ صياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف فكتبتها بقلم يقطر ناراً وكرهاً وغيرة ، وجئته به وملئي اليقين بأنه سيدخل على لهجتها من التعديل ما يجعلها أقرب إلى لغة المسؤولين منها إلى لغة المنذرين ، ولكنه حطم كل توقعاتي حين أقرها جميعاً ، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ) (النساء:93).
وأرسلت يومئذ البرقية التي كانت – فيما أظن - الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة بما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من لذع السياط " .
وقد كان من المعروف من الشيخ رحمه الله تعالى أنه لم يكن يقبل أن يطعن أحد في الدعاة والصالحين وهو حاضر سامع، وهناك موقف جيد له مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى – على ما بينهما من اختلاف في المنهج وطريقه التناول –حيث زاره الشيخ الغزالي يوماً في بيته ، وهذا مرافق الشيخ يقص ما جرى :
لما قدم الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله تعالى – إلى الرياض ، لاستلام جائزته المقدمة من لجنة جائزة الملك فيصل العالمية زار سماحة الشيخ في منزله 0
وكانت في ذلك الوقت ضجة حول كتاب الشيخ الغزالي : " السنة النبوية بين أهل الفقه ، وأهل الحديث " وقد قرئ ذلك الكتاب على سماحة الشيخ ، فلما زاره الغزالي احتفى به ، وأكرمه ولاطفه ، وسأله عن الدعوة في الجزائر ، وعن حاجتهم ، وأخبره بأنه على أتم الاستعداد لدعمهم ، وكان الشيخ الغزالي آنذاك رئيساً لجامعة في الجزائر .
وكان مجلس سماحته- كالعادة – عامراً بالزائرين ، والسائلين ، و المحتاجين ، والضيوف ، وكان الهاتف لا يتوقف رنينه ، وكان كُتَّاب سماحته حوله يقرؤون ، وهكذا .
وكلما سنحت لسماحته فرصة التفت إلى الشيخ الغزالي وحيّاه ولاطفه ، فأعجِبَ الشيخ الغزالي بما رأى ، وكان ذلك بادياً عليه .
وفي تلك الأثناء قال سماحته للشيخ الغزالي : لقد قرأت كتابكم المذكور ، ولا يخفى عليكم أن البشر عرضة للخطأ ، ونحن وغيرنا عرضة لذلك ، وقد قرأت شيئاً من كتابكم ، وعليه بعض الملحوظات .
فقال الشيخ الغزالي : أنا يسعدني أن تكملوا قراءته ، وأن توافوني بما تلاحظونه ، وأنا إن شاء الله أصلحه ، وذكر كلاماً نحو هذا .
وبينما كان سماحة الشيخ يرد على مكالمة هاتفية دار حديث بين الشيخ الغزالي وبين أحد المشايخ الحاضرين وهو الشيخ خير الدين و انلي من سوريا ، فقال الشيخ خير الدين : أنتم قلتم : كذا وكذا ، فانقض الغزالي عليه : واشتد النقاش , ولما سمع سماحته كلامهما التفت إلى الغزالي وقال : ماذا عندكم ؟قال : كذا وكذا .
فخاطبهما جميعاً بأن هذه المسائل ينبغي أن توضع في إطارها ، وأن نحرص كل الحرص على جمع كلمتنا والبعد عن الخلاف ، فنحن أمام أمور كبار تتعلق بأصول المسائل ، وسكّن من غضبهما وانتهى الجدال .
وكان الشيخ الغزالي مدعواً للغداء ، ولكنه تأخر على من دعاه ، وجلس عند سماحة الشيخ ، وتناول معه الغداء , ولما هم بالخروج ألقى نظرة على سماحة الشيخ وقال : نحن بخير مادام فينا هذا الرجل .
وبلغني أنه لما وصل إلى من دعاه قالوا له : لماذا تأخرت ؟ قال : كنا في عالم ثان! وهذا الذي حصل من الشيخ رحمه الله تعالى يدل على اعتدال فكري كبير ، ولاشك.
6 ـ اعتداله في مسائل الخلاف الفقهي :
كان للشيخ موقف جيد وسط في قضايا الخلاف الفقهي ، وخلاصته أنه يذهب فيها إلى الحق الذي لا يعتقد غيره ، ولكنه يعذر المخالف ولا يسفهه ، وهذا يدل على اعتدال فكري جيد .
فها هو يقول متحدثاً عن مسألة فقهية خلافية في شأن الصلاة والإرسال والقبض بعد الركوع فيه : " لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتخذ من الخلاف في هذه المسألة وأشباهها وسيلة إلى النزاع و التهاجر والفرقة فإن ذلك لا يجوز للمسلمين ... الواجب على الجميع بذل الجهود في التعاون على البر والتقوى وإيضاح الحق بدليله ، والحرص على صفاء القلوب وسلامتها من الغل والحقد من بعضهم على بعض .
كما أن الواجب الحذر من أسباب الفرقة والتهاجر ...الواجب على الجميع التناصح والتفاهم في معرفة الحق بدليله مع بقاء المحبة والصفاء والأخوة الإيمانية ، فقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم – رضي الله عنهم – والعلماء بعدهم ، رحمهم الله ، يختلفون في المسائل الفرعية ولا يوجب ذلك بينهم فرقة ولا تهاجراً ، لأن هدف كل واحد منهم هو معرفة الحق بدليله ، فمتى ظهر لهم اجتمعوا عليه ، ومتى خفي على بعضهم لم يضلل أخاه ، ولم يوجب له ذلك هجره ومقاطعته ".
وهذا الكلام قريب من كلام الأستاذ البنا رحمه الله حيث قال في الأصل السابع من الأصول العشرين التي وضعها ليضبط بها الفهم في مسائل من الشريعة عظيمة ، قال رحمه الله تعالى : "ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين ، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلة إمامه ، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته ، وأن يستكمل نقصه العلمي – إن كان من أهل العلم – حتى يبلغ درجة النظر ".
وقال الأستاذ البنا رحمه الله تعالى في الأصل الثامن : " والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين ، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ، ولكل مجتهد أجره ، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب " .
أرأيت إلى كلام هذين الإمامين كيف خرج من مشكاة واحدة ، مشكاة الاعتدال الفكري الكبير ، والاهتمام العظيم بالأخوة الإسلامية وتقديمها على ما يمكن أن يحل بالساحة الإسلامية من خلاف وتفرق بشأن فروع المسائل ، والله أعلم .
وقال أيضاً متحدثاً عن الأناشيد الإسلامية :" إذا كانت سليمة ليس فيها إلا الدعوة إلى الخير والتذكير بالخير وطاعة الله ورسوله ، والدعوة إلى حماية الأوطان من كيد الأعداء ، والاستعداد للأعداء ونحو ذلك فليس فيها شيء ، إما إذا كان فيها غير ذلك من دعوة إلى المعاصي واختلاط النساء بالرجال ، أو تكشفهن عندهم ، أو أي فساد كان فلا يجوز استماعها " , وهذا توسط يدل على جودة الفكر واعتداله .
وقال عن التلفاز :" أما التلفزيون فآلة لا يتعلق بها في نفسها حكم ، وإنما يتعلق الحكم باستعمالها ، فإن استعملت في محرم فذلك حرام ، وأن استعمل في الخير ... فذلك جائز ، وإن استعمل فيهما فالحكم التحريم إن تساوى الأمران أو غلب جانب الشر فيه " , وهذه فتوى معتدلة أيضاً إلى حد كبير .
7 ـ استشهاده ببعض أقول الغربيين واطلاعه على كلامهم :
كان للشيخ رد على قضية اختلاط المرأة بالرجل والفساد الحاصل من التساهل في مثل هذا ، وقد استشهد في رده بالكاتبة الإنجليزية الليدي كوك ، واستشهد بكلام شوبنهور الألماني ، وبكلام اللورد بيرون ، وبقول سامويل سمايلس الإنجليزي ، وبكلام الدكتورة أيد إلين ، وبقول عضوين من الكونجرس الأمريكي ، وكل هذه الأقوال لهؤلاء تشجع على منع الاختلاط ووجوب إشغال المرأة بما هو مناسب لطبيعتها وفطرتها .
واستفادته من كلام هؤلاء يدل على اطلاع جيد ، ومشاركة ثقافية مناسبة ، وأخذ الجيد النافع من كلام الناس وإن كانوا كافرين ، وهذا أيضاً يدل على اعتدال فكري وجودة في منهج التلقي ، وقد سبق أقرانه في هذا الأمر وتجاوزهم .
8 ـ اطلاعه على ما يجري في العالم من كيد للإسلام وإساءة له وللمسلمين :
كان للشيخ اطلاع حسن واسع على المكائد التي تواجه المسلمين وتفت في عضدهم، وكان له مشاركة في الرد على ذلك وإظهار الحق ، فمن ذلك :
رده على ما يجري في التلفزيون السويسري من إظهار للإسلام والمسلمين في مصر بصورة سيئة .
وكذلك رده على ما يجري في مؤتمر بكين من مناقضة الشريعة الإسلامية في عدد من جوانبه ، ونشر الإباحية ، وهتك للحرمات ، وتخريب للمجتمعات إلخ .
وهذا الاطلاع وتلك المشاركة يدلان على اهتمام فكري ثقافي ، ومتابعة دقيقة لما يجري في الساحة الإسلامية والساحة العالمية ، ويدلان أيضاً على اعتدال في التصور مستقىً من منهج جيد إيجابي في تلقي الأخبار والتعامل مع كل خبر بما يناسبه .
9 ـ اهتمامه الكبير بالمسلمين أينما كانوا واطلاعه على أخبارهم :
وهذا متواتر عنه معلوم ، ويكفي فيه قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمهما الله تعالى :" لا يوجد رجل في العالم يهتم بأمور المسلمين كسماحة الشيخ عبد العزيز ".
وهذا القول – وإن كان فيه جزم مبالغ فيه ونوع من التجاوز من مثل الشيخ الأمين – يدل على اهتمام الشيخ الكبير بحال المسلمين ، وهذا الاهتمام وتلك المتابعة الكبيرة أورثاه ثراء لا بأس به في الناحيتين الفكرية والثقافية ، وقد سبق ذكر جوانب من هذا الاهتمام والاطلاع مثل متابعته الأخبار ، وتلقيه الرسائل ، واستقباله الوفود إلخ ".
****
المبحث الثالث : حقائق عن شخصية الشيخ الفكرية والثقافية
هناك جملة حقائق تمخضت عن دراسة هذين الجانبين في شخصية الشيخ عبد العزيز : الثقافي والفكري ، وهي الآتي :
التبعية الفكرية والثقافية للشيخ :
الشيخ رحمه الله ليس له مذهب فكري ثقافي محدد ، بمعنى أنه ليس مجتهداً في قضايا الفكر والثقافة اجتهاداً استقلالياً ولا جزئياً ، وهو تابع فيها لغيره ، لكن مع هذا فقد كان له رأي في عدد من المسائل الفكرية والثقافية بقطع النظر عن صوابه أو خطئه ، ولا يعيبه أنه لم يكن في الطبقة الأولى من المفكرين والمثقفين ، ويكفي أن له مشاركة جيدة في هاتين القضيتين إضافة إلى بروزه الكبير وتفرده في كثير من علوم الشرع فإن المرء لا يمكن أن يحوز الكمال ولا أن يُجمع له كل المواهب وعظيم الخصال .
انشغاله في آخر عمره عن المتابعة الثقافية :
الظاهر أن الشيخ رحمه الله تعالى كان قد كون شخصيته الثقافية في المراحل الوسطى من حياته ، أما القسم الأخير منها فلم يظهر لي أنه اكتسب شيئاً كبيراً في هذا الباب ، ومما يدل على هذا أنه قد قرأ 55 كتاباً في آخر 16 عاماً من حياته لم يكن فيها شيء يمكن أن يعد من كتب الفكر أو الثقافة ، وهذا مما ظهر لي بالدرس والبحث لكن لعله قد قرئ عليه شيء لم يصلنا ، لكني أستبعد ذلك ؛ إذ الذي نقل عنه هذا هو ملازمه الشيخ محمد الموسى ، وهو من أعرف الناس به لكن لقاء الشيخ بكثير من الناس وتلقيه لكثير من الرسائل ، وسماعه للأخبار ومداومته عليها قد يعوض النقص الناشئ عن عدم المتابعة للجديد من الكتب الفكرية والثقافية ، أو على الأقل يمنع من إلصاق تهمة الاعتزال الفكري والثقافي بالشيخ .
لكن هذا الانشغال أثر على الشيخ في ناحية أخرى مهمة وهي أنه صار يتلقى كثيراً من معلوماته الثقافية والفكرية ممن حوله أو ممن يستطيع أن يصل إليه أولاً ، وقد لا تكون هذه المعلومات صحيحة أو دقيقة في بعض الأحوال ، وهذا يؤثر على بعض التصورات الفكرية والثقافية عند الشيخ – رحمه الله تعالى – فتبدر منه بعض أمور قد لا تكون مُرضية أو سائغة لكن الكمال عزيز ، وهذا الذي قد قُدر له .
بعض الآراء الثقافية الخاطئة التي اشتهرت عنه :
اشتهر الشيخ ببعض الآراء في بعض القضايا الثقافية ذوات الطابع العلمي الطبيعي، وهذه القضايا مخالفة للثابت المعلوم القطعي من العلوم ، وأنا ليس غرضي إثارة مثل هذا الأمر الآن ولا تفصيل الحديث عنه ، لكني رأيت أنه لا يتم هذا البحث إلا بالإشارة إليه ، وهذا من الأمور التي ضخمها بعض شانئي الشيخ ، وهو بشر يخطئ ويصيب ، وإن كنت تمنيت أن الشيخ لم يخض في هذه القضايا أصلاً ، لكن الشيخ تمسك ببعض الأدلة الشرعية العامة التي لا تدل على ما ذهب إليه على وجه القطع واليقين ولم يشأ أن يحيد عنها ، وكل بني آدم يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ولا يعني خطأ الشيخ في مثل هذا الأمر ضعفه في هذا الباب فقد سبق مني أني أنفي عنه الضعف ، كما أنفي عنه التميز في هذا الباب ، وجل ما قد يقال في هذه القضية وأمثالها أن الشيخ جانبه الصواب فيها، وأنه كان ينبغي له ألا يخوض في مثل هذه القضايا ، وأن يذرها لأهل العلوم الطبيعية الذين هم أدرى من غيرهم فيها .
ولا ينبغي أن يطعن على الشيخ بسبب هذا – كما فعل بعض الشانئين – فحسبه أن أخطاءه معدودة ، وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه ، فرحمه الله رحمة واسعة .
****
الخاتمة :
أن ما كتبته عن الشيخ في هذا البحث لم يكن لغرض مدحه أو التعريف به فهو أشهر وأكبر من أن يعرف به مثلي ، لكني أردت إظهار بعض الجوانب في حياة الشيخ عبد العزيز التي ربما تخفى على الأكثرين من المتابعين للحركة الثقافية الفكرية .
وأظن هذه الدراسة مهمة لأنها حققت الجوانب التالية :
1- هذه الدراسة تظهر أن الشيخ المتصدر للعامة المهتم بأحوال أمته الإسلامية لا يمكن أن يكون ضعيفاً في فهم القضايا الفكرية والثقافية أو أن يكون مهملاً لها ، بل لابد أن تكون له نوع مشاركة فيهما تبعده عن وصمة الضعف في هذه القضايا أو إهمالها .
2- هذه الدراسة تبرئ الشيخ رحمه الله تعالى من تهمة ذائعة وهي الأفق الضيق أو قلة الوعي ، وهذا ليس فقط انتصاراً للشيخ أو لعموم الإسلاميين بل هو في غاية الأهمية لقطع ألسنة العلمانيين الذين ما فتئوا يرددون مقولة إن الإسلاميين ضيقو الأفق ضعيفو الوعي ، وغرضهم من هذا التقليل من شأن العلماء والدعاة والعاملين، من ثم تنحيتهم عن حياة الناس .
3- الشيخ رحمه الله تعالى تغلب على كثير من العوامل التي كانت مجتمعة كفيلة بأن تؤدي إلى التقليل من حركته ونشاطه وحيويته ، واطلاعه ومشاركته في حل كثير من القضايا التي برزت في زمانه ، لكنه تمكن من تجاوزها إلى حد كبير ، وحافظ على توازن معقول في شخصيته وفكره ، وهذا يشجع الأجيال من بعده على تجنب كل عوامل الضعف والعجز وتجاوزها والانطلاق القوي لتحقيق ما يظنه الآخرون غير قابل للتحقيق .
وأخيراً أقول :
أنا أرى بأن بيئة الشيخ ومنطقته لم يبرز منها أحد بروزه ، ولم يكن أحد يساويه في عموم جوانب شخصيته ، وأرى أن الشيخ قد ارتفع إلى مصاف الطبقة الأولى من العلماء والدعاة والعاملين في العالم الإسلامي ، وكان من القلائل في زمانه الذين تركن العامة والخاصة إليهم ، وتأنس بهم ، وتعتد برأيهم ، وتجعلهم رموزاً للأجيال .
والله تعالى أعلم وأحكم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
***
المصادر والمراجع
# " الأبريزية في التسعين البازية " : د0 حمد الشتوي . نشر دار العاصمة . الرياض . الطبعة الأولى سنة 1420 للهجرة.
# " الأعلام " : الأستاذ خير الدين الزر كلي . نشر دار العلم للملايين . بيروت . الطبعة الخامسة سنة 1980 م .
# " الشيخ ابن باز و مواقفه الثابتة ": أحمد الفريح . نشر مكتبة الراشد . الكويت . الطبعة الأولى سنة 1420 للهجرة .
# " جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز " رواية الشيخ محمد الموسى . إعداد محمد الحمد . نشر دار خزيمة الرياض . الطبعة الأولى سنة 1423 للهجرة .
# " خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله ، وحكم الاختلاط في التعليم وخطورة تعليم النساء للأولاد " : الشيخ ابن باز . نشر دار طيبة . مكة الرياض .
# " الدعوة إلى الله سبحانه وأخلاق الدعاة " : الشيخ عبد العزيز بن باز . مطبوعات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . المملكة العربية السعودية . الرياض سنة 1400 للهجرة .
# " فتاوى وكلمات في الموقف من الجماعات " : د.عبد الرزاق الشايجي . دار التجديد للنشر والتوزيع . الكويت .
# " ماذا ينقمون من ابن باز ": خالد العنبري . الطبعة الأولى سنة 1412للهجرة . توزيع مؤسسة الجريسي.
# " مجموع فتاوى ومقالات ": الشيخ عبد العزيز بن باز .
# مختصر "الفتح المواهبي في سيرة الإمام الشاطبي" : الأصل للإمام القسطلاني ، والمختصر لمحمد موسى الشريف . نشر جمعية القرآن الكريم بجدة.
# "المعجم الوسيط " تأليف مجموعة من الأساتذة . نشر مجمع اللغة العربية . القاهرة.
# "نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع": الشيخ عبد العزيز بن باز. نشر المكتب الإسلامي .الطبعة الثالثة. بيروت. سنة 1399 للهجرة.
إن المتصدي لترجمة الشيخ عبد العزيز بن باز – وأمثاله من العلماء العالمين– ليجد عنتاً مرهقاً إن أراد استيعاب جوانب سيرته،و الإحاطة بأحواله، والإشادة بمناقبه ، وحسبي أن أقول مفتتحا ًالحديث عنه: إن عدداً من علماء العصر ومشايخه كانوا يقاربون الشيخ في علمه، وربما فاقه بعضهم في بعض الجوانب، لكني أرى أن الشيخ فارق علماء عصره ومشايخه في أربعة أمور وهي :
1- التفات عوام الناس حوله على اختلاف طبقاتهم ومراكزهم ، وحاجتهم إلى علمه ووجاهته .
2- التفات الخواص من المشايخ وطلبة العلم والدعاة حوله ، وحاجتهم إليه.
3- اهتمامه الشديد بقضايا المسلمين أينما كانوا، وإرساله البيانات التي تحث على نصرتهم ، ومخاطبة كل من يستطيع من الرؤساء والكبراء في هذا الشأن .
أما الأمر الرابع الذي انفرد فيه ولم يكن له مثيل هو مراعاة الدولة له ، ومداراتها إياه ، وتنفيذها كثيراً من توجيهاته وإرشاداته، وسماعها نصائحه ، وهذه الصفة قد فقدت عند أكثر علماء أهل السنة والجماعة فلم تعد أكثر الحكومات الإسلامية تلتفت إليهم ولا تأبه بهم ولا بفتاواهم ونصائحهم ،هذا إن تقدموا إليها بنصيحة أصلا ً، بينما كان الشيخ أحسن حالاً بكثير ، وكان لفتواه صدى كبير تتأثر به الدولة وتلتفت إليه ، وأستطيع أن أقول : إن الشيخ أعاد للأذهان شيئاً من عزة علماء السلف ومكانتهم عند الدولة .
هذه الجوانب الأربعة التي أظن أن الشيخ فارق بها علماء عصره ومشايخه ، لكن ليس من غرضي هاهنا مناقشة هذه الجوانب لأنها أشهر من أن يُدلل عليها وتساق لها الحجج ، وهي أيضاً مضخمة لبحثي هذا إن نوقشت ، ولم أكتب هذا البحث من أجل هذا الغرض ، وإنما من أجل جانب أغفله الباحثون في سيرة الشيخ، وقد شارك فيه الشيخ نوع مشاركة أردت تسليط الضوء عليها وإبرازها للباحثين جلية واضحة، وهذا الجانب الذي أحسبه جديداً على بساط البحث هو شخصية الشيخ عبد العزيز الفكرية والثقافية، ولذلك كتبت هذا البحث،وأحسبه جديداً مهماً، وذلك للأسباب التالية:
1- تسليط الضوء على جوانب من حياة الشيخ ليست معروفة عند كثير من الناس، أو لم يُربط بينها على وجه من الترابط المنتج هذه الصورة الثقافية الفكرية.
2- صورة الشيخ الثقافية الفكرية قد تكون مشوشة في أذهان كثير من الناس، وهي ليست موضع بحث الباحثين من المثقفين المفكرين، وهي أيضاً ليست موضع بحث الذين مافتئوا يتحدثون عن الشيخ وعلاقته بالفقراء والمساكين ، وهي علاقة رائعة حقاً، أو الحديث عن زهد الشيخ وورعه الذي كان مضرب الأمثال ، أو الحديث عن حسن خلقه وعظيم تحمله وهو أمر قد تناقلته الركبان، أو الحديث عن جلده وصبره وهو شيء عجيب، أو الحديث عن تجرده وعدم تردده في اتباع ما يراه حقاًً وإن خالفه الناس بعضهم أو كلهم، وهذا أمر متواتر من سيرته، أما الحديث عن الفكر والثقافة فلا تكاد تجد إلا شذرات ليست تذكر تحت هذين العنوانين بالطبع، إنما تذكر ضمن جوانب أخرى من سيرته أولا تذكر على الإطلاق، وهناك عدد كبير من الباحثين والمفكرين قد استقر في ذهنه أن الشيخ ضعيف الوعي وفيه ضيق في أفقه وتصوراته، ويلزم من هذا أن الشيخ ضعيف في الجوانب الفكرية والثقافية،هكذا يتصور عدد كبير من الباحثين، وهذا في الحقيقة فيه شيء من الجناية على الشيخ، وفيه إفراط في الحكم على جوانب من شخصيته بلا روية ولا تمحيص ، والذي ساعد في تعميق هذا الحكم على الشيخ في أذهان هؤلاء هو الآتي:
أ- كون الشيخ من بيئة اشتهرت عند عموم الناس زماناً طويلاًً بأنها بيئة منغلقة متقوقعة على نفسها، لها أدبياتها ونظراتها التي تكاد تخالف فيها أكثر الناس وتنفرد عنهم، وهذه البيئة لها أثر على أصحابها، نعم إن هذه البيئة قد اختلفت اليوم وتغيرت إلى حد كبير، وأصبحت مقاربة للبيئات الأخرى، لكن ينبغي ألا ننسى أن الشيخ قد عمّر زمانًا طويًلا، وأنه كان في صدر شبابه وأوان مناهل علمه يعيش في البيئة القديمة المنغلقة، والذي أراه أن هذا الأمر يعد محمدة للشيخ , ومفخرة حيث إنه استطاع أن يخرج من أسر بيئته ويتفوق عليها.
ب- لم تُعرف المنطقة النجدية بالمشاركة الفعالة القوية في الجوانب الفكرية الثقافية، حيث لم يظهر فيها إلاّ- نادراً- مفكرون مثقفون على مستوى يقارب أو ينافس ما في البلاد العربية والإسلامية التي اشتهرت بتخريج المفكرين والمثقفين مثل مصر والشام والعراق وبعض بلدان المغرب العربي ، وبعض البلدان غير العربية ، وهذا الوضع قد اختلف في العقد الأخير حيث صرنا نرى عدداً من المفكرين والمثقفين قد ظهروا وشاركوا في المسيرة الفكرية والمسيرة الثقافية ، لكن لا ننسى أن الحديث هنا يدور على عقود خلت وليس العقد الأخير فقط ، وأيضاً هناك عدد كبير من الناس لم يستوعب هذا التغير الأخير بعد فظل الانطباع الأول سائداً سائغاً عندهم ، وهؤلاء مازالوا أكثرية سائدة.
ج- العاهة التي أصابت الشيخ وهو لما يبلغ العشرين بعد ، وهذه العاهة – عاهة العمى – لها تأثير عظيم عند أكثر الناس بحيث يظلون محكومين في تلقي مصادر معرفتهم بالبيئة والعرف ، ومدى علم وفكر وثقافة الأشخاص المصاحبين والمرافقين ، وعمق الصلات الشخصية، والصفات الخلقية كالنباهة والذكاء ،الخ ...
لكني أجزم – مع هذا كله – أن الشيخ استطاع أن يتجاوز هذا ، ويرتقي إلى سُدة لم يبلغها أكثر أمثاله وأقرانه ممن أصيبوا في أبصارهم وليس في بصائرهم .
وهذا الأمر – أي أن العميان يظلون محدودي العلم والثقافة والفكر إلا نادراً – كان متعارفاً عليه منذ زمن طويل ، فهذا الإمام الشاطبي المقرئ الكبير القاسم بن فِِيّرة – المتوفى سنة590 للهجرة بالقاهرة- قد جرت مسألة فقهية بمحضره فذكر فيها نصاً واستحضر كتاباً فقال لهم : اطلبوها منه في مقدار كذا وكذا ، ومازال يعيد لهم موضوعها حتى وجدها حيث ذكر ، فقالوا له : أتحفظ الفقه؟ فقال لهم : إني أحفظ وِقرَ جمل – أي حمولة جمل – من كتب ، فقيل له: هلا دَرستها ؟ فقال : ليس للعميان إلا القرآن .
وقال صهره أبو الحسن علي بن سالم بن شجاع – وكان أيضا ًضريراً وأخذ القراءات عنه :
أردت مرة أن أقرأ شيئاً من الأصول على ابن الوراق ، فسمع بذلك فاستدعاني فحضرت بين يديه ، فأخذ بأذني ثم قال لي : أتقرأ الأصول ؟ فقلت : نعم ، فمد بأذني ثم قال لي : من الفضول : أعمى يقرأ الأصول.
ثم إننا على مر العصور لم نرى أعمى - إلا القليل النادر – برز في الجوانب الفكرية والثقافية، أو غيرها من دقائق العلوم التي تتطلب اطلاعاً واسعاً ومعرفة بحال الناس وتقلبات الدهر بأهله .
د- انشغال الشيخ الكبير بالعوام إجابةً لأسئلتهم وقضاء لحوائجهم ، وهذا مما تفرد فيه – تقريباً- بين علماء عصره، واشتهر عنه وعرف به ، وهؤلاء العوام إذا التفوا حول شخص ما فإنهم لا يكادون يتركونه، فمن كان مشغولاً هذا الانشغال فإنه لا يستطيع التفلت من هذا الإسار، لكن الشيخ مع ذلك استطاع أن يحصل جوانب من الفكر والثقافة سأتحدث عنها فيما يأتي – إن شاء الله تعالى - متغلباً على عوامل الانشغال الصادرة عن مزيد من المعرفة لأحوال الزمان وواقع الناس .
هـ- انشغال الشيخ الكبير بالمناصب الرسمية مثل توليه رئاسة الإفتاء ، ورئاسة هيئة كبار العلماء ، ورابطة العالم الإسلامي ، والمجلس الأعلى للمساجد ، وغير ذلك مما يملأ عليه وقته ، لكن مع هذا فإن هذه الهيئات كانت صاقلة لشخصية الشيخ الفكرية والثقافية ولاشك .
وهذه العوامل الخمسة ربما اجتمع معها غيرها ساعدت على ترسيخ الانطباع لدى عدد كبير من الخواص أن الشيخ محدود الثقافة والفكر، وأنه لا يستطيع أن يكون إلا كذلك .
وليس من مهمتي في هذا البحث تلميع صورة الشيخ , أو تكميل جوانب شخصيته بما ليس فيه ، أو ادعاء ما ليس عنده ـ معاذ الله ـ لكني أردت أن ألفت نظر القراء الكرام إلى بعض المشاركات الفكرية والثقافية التي شارك بها الشيخ في حياته العامرة الطويلة ، وهذه المشاركات ترقى – في ظني – إلى أن تُكَوّن ما يمكن أن يطلق عليه : الشخصية الفكرية والثقافية للشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى- وهذه المشاركات قد جاوزت الحد الأدنى الضروري من المشاركات التي ينبغي أن يشاركها من تصدر لفائدة الناس وتوجيههم.
والذي ينبغي أن يُعرف ويدرك أن هذه الشخصية الفكرية والثقافية ليست متميزة تميز الجوانب الأخرى في شخصيته ، لكني أذهب إلى أنها حاضرة موجودة ، وهي- في رأيي – التي فارق بها الشيخ جُلّ أو كل قرنائه في بيئته .
المبحث الأول : العوامل التي ساعدت على تكوين شخصية الشيخ الفكرية والثقافية
تعريف الفكر والثقافة :
إذا أردنا فهم أو معرفة الجوانب الفكرية والثقافية في حياة الشيخ رحمه الله تعالى والعوامل التي رسختها فلا بد من أن نطّلع على تعريف الفكر والثقافة ، أما الفكر فعرفه بعضهم بأنه : إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول ، وفَكَر في الأمر فَكراً أعمل العقل فيه ، ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى مجهول ، وأفكر في الأمر : فَكَر فيه فهو مُفكَّر .
وفكر في الأمر : مبالغة في فكر ، وهو أشيع في الاستعمال من فكر ، وفكّر في المشكلة : أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها فهو مفكر .
وعلى هذا فإن مثل الشيخ في علمه وفقهه وفهمه وذكائه ونباهته لا يخلو من أن يكون مفكراً، ولا يمكن أن تسلب منه هذه الصفة تحت أي دعوى مهما كانت .
أما الثقافة فقد اختلف في تعريفها كبار المفكرين والمنظرين ، ولم يهتدوا إلى تعريف جامع لها بعد ، لكن من التعريفات لها :
"العلوم والثقافة والفنون التي يُطلب الحِذق فيها ".
هي أسلوب الحياة السائد في مجتمع ما ، وهذا الأسلوب إنما هو ثمرة الصفات الخلقية ، والقيم الاجتماعية ، والمبادئ الروحية ، والأصول العقائدية ، فالثقافة على ذلك هي المحيط الذي يشكل طباع الفرد وشخصيته .
والثقافة الإسلامية هي التي يبني الإسلام فيها عقيدة الأمة وأخلاقها وطرائق حياتها في السلوك والاقتصاد والسياسة والاجتماع والتشريع ، والثقافات الأخرى العالمية تختلف طريقة وعوامل بنائها من أمة إلى أخرى .
وهناك ضبط لطيف للثقافة وإن كان لا يصلح تعريفاً لها ، وهو : (تعلم شيئاً عن كل شيء لتكون مثقفاً ، وتعلم كل شيء عن شيء لتكون عالماً).
إذاً الثقافة تتطلب كثرة القراءة وتنوعها ، وسعة الإطلاع وعمقه – أحياناً- والأخذ من كل شيء بطرف ، وليست بالضرورة مرتبطة بالتعمق في دراسة علم من العلوم.
والشيخ – رحمه الله – لا أدعي له الثقافة الشاملة بهذا المعنى ، لكني أجزم أنه كان محيطاً ببعض جوانبها ، لا تفوته جملةً كما يدعي ذلك من يدعيه .
العوامل التي ساعدت على تكوين الشخصية الفكرية الثقافية عند الشيخ :
أولاُ :الاستعداد الشخصي من ذكاء ونباهة :
وهذا أمر متواتر ومشهور يعلمه الكثير عن الشيخ .
ثانياً :حياته الطويلة المباركة:
حيث عاش قرابة تسعين سنة ، وهذا له أثر لا ينكر في اطلاع الشيخ على كثير جداً من الأحداث والأخبار العالمية ، والاستفادة من كل ذلك في بناء شخصيته الثقافية والفكرية .
ثالثاُ : معاصرته لتكون عدد من الحركات الإسلامية والجماعات الدعوية :
امتد عمر الشيخ وطالت حياته المباركة ، لذا فإنه قد عاصر تكوّن عدد من الحركات الإسلامية والجماعات الدعوية داخل البلاد وخارجها ، واختلط بأفرادها وقادتها ، وصار عنده تصور واضح – تقريباً- لأهدافها وطرائق عملها ، وكل ذلك طبع شخصيته الفكرية والثقافية بطابع متنوع مهم ، خاصة أن بعض هذه الحركات قد اشتهر بعنايته الكبيرة بالثقافة والفكر .
رابعاً: معاصرته الفورةَ الكبيرة لحركات ومذاهب هدامة :
مثل الشيوعية ، والبعثية ، والقومية العربية الغالية ، والناصرية ، وهذا لاشك أنه طبع شخصيته الفكرية والثقافية بطابع ما ، وأتاح له الاطلاع على جوانب كثيرة من منهاج تلك الحركات البائدة حينما كانت متغلغلة سائدة .
خامساً : الصلات المتميزة بقادة المجاهدين في العالم الإسلامي :
وهذا أمر مشهور معلوم في حياة الشيخ ، فما من حركة جهادية – تقريباً- إلا وللشيخ صلة ما بها ، ومن الأمثلة على ذلك :
الصلات المتميزة بالمجاهدين الأفغان يوم كانوا يجاهدون الروس ، وقد كان يرسل لهم الرسائل ويوجههم ، ويحث أئمة البلاد على القنوات والدعاء لهم ، وقد حاول إصلاح الخلاف بين الشيخ جميل الرحمن – رحمه الله – وبين سائر مشايخ الجهاد، وله جهود مشكورة في هذا الباب .
سادساً: الرسائل الكثيرة التي كانت تأتيه من العالم الإسلامي :
قد كانت رسائل كثيرة ترد على الشيخ من شتى أنحاء العالم الإسلامي ، وتعرفه بكثير من الأوضاع ، وتنقل إليه مآسي المسلمين ومشكلاتهم، وهذا لاشك يثري فكر الشيخ ويعمق فهمه وثقافته الإسلامية ، فإن علمنا أن الشيخ شارك في حل عدد من تلك المشكلات وخفف من شدتها على الناس تيقنا أن الشيخ انتقل بالفكر والثقافة من طور المعرفة إلى طول العمل ، وهذه هي الثمرة المطلوبة من المعرفة الفكرية والثقافية .
سابعاً: خلطته مع عدد من الدعاة والمثقفين والمفكرين :
كان للشيخ – رحمه الله تعالى – صلة جيدة بعدد من الدعاة والمثقفين والمفكرين داخل البلاد من السعوديين وغير السعوديين، ومن تلك الصلات على سبيل المثال :
1- صلته بعدد من الدعاة والمفكرين والمثقفين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ الثمانينات الهجرية- أي الستينات الميلادية- وكان هؤلاء موضع ثقته وتقديره .
وقد أخبرني الشيخ الفاصل الدكتور عبد الله القادري الأهدل – وهو ممن عاش في المدينة منذ سنة1382 للهجر ه ,وكان له صلة جيدة بالشيخ ابن باز في الجامعة الإسلامية – أن الشيخ عبد العزيز بن باز كانت له صلات جيدة مع بعض الدعاة والمفكرين والمثقفين الذين وفدوا للبلاد في حقبة الثمانيات الهجرية ، وعاشوا في المدينة المنورة النبوية ، ومنهم الشيخ سعيد حوى ، والشيخ محمد الوكيل رحمهما الله تعالى ، والأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات، وهؤلاء تركوا بصماتهم على فكر الشيخ وثقافته .
2- كان للشيخ مجلس أسبوعي في الرياض يضم نخبة من الدعاة والمثقفين والمفكرين السعوديين الذين كانوا يطلعونه على كثير من القضايا ، ويستشيرونه فيها ، ويرجعون إلى رأيه تارةً ويرجع إلى رأيهم تارة أخرى .
وهذه الخلطة ساهمت بلا شك في صياغة فكر الشيخ وثقافته .
ثامناً: الوفود التي تفد عليه في المواسم وغيرها:
كانت وفود من العلماء والدعاة والمثقفين والمفكرين ترد على الشيخ في المواسم في مكة ، وفي الصيف في الطائف ، وسائر السنة في الرياض ، وكانت هذه الوفود تحمل معها هماً متنوعاً وقضايا كثيرة ساهمت في تبيان كثير من الأمور للشيخ، وتعريفه بها ، وأوقفته على عدد من الحقائق الفكرية والثقافية في شتى أنحاء العالم الإسلامي .
وقد أخبرني الشيخ القادري الذي كان مسؤولاً عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية أن الجامعة – يوم كان الشيخ ابن باز نائباً لرئيسها ثم رئيساً لها – كانت ملتقى لكبار مشايخ العالم الإسلامي ومفكريه وسياسييه يوم كانوا يزورون المدينة، وكان الشيخ يستقبلهم جميعاً تقريباً ، ويتذاكر معهم أحوال العالم الإسلامي ، ويحتفي بهم، فمن المشايخ الذين وفدوا على الجامعة الشيخ أبو الأعلى المودودي – وكان عضو المجلس الأعلى للجامعة – والشيخ أبو الحسن الندوي ، ومحمود فايد من الجمعية الشرعية بمصر، رحمهم الله جميعاً، والشيخ عبد المجيد الزنداني حفظه الله تعالى ، ومن الساسة الشيخ عبد الله بن حسن الأحمر من اليمن – وهو الآن رئيس مجلس النواب اليمني- والدكتور محمد ناصر من إندونيسيا، وكان الشيخ يثني عليه ، وأحمدو بيللو من نجيريا – وهو عضو المجلس الأعلى للجامعة- ووفود مثل هؤلاء على الشيخ واختلاطه بهم يثري ثقافته ويعمق فكره .
تاسعاً: خلطته مع الطلاب في الجامعة الإسلامية :
وهذه الخلطة لها قصة على النحو التالي :
كان للشيخ رحمه الله تعالى يد طولى في الحفاظ على الطلاب الذين كانوا يدرسون في المدينة آنذاك ، وكان في الوقت نفسه يستمع لمشكلات بلادهم، فقد أخبرني الشيخ الفاضل د. عبد الله القادري أن الشيخ عينه مسؤولاً عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية، وجاء الشيخ عبد الله الأحمر والشيخ عبد المجيد الزنداني حفظهما الله تعالى إلى الشيخ و معهما عدد من مشايخ قبائل اليمن ، وطلبوا من الشيخ العناية بالطلاب اليمنيين لأن الشيوعية والقومية كانت منتشرة في اليمن آنذاك - الثمانينات الهجرية ، الستينات الميلادية- ، فطلب الشيخ ابن باز من الشيخ القادري أن يشرف على الطلاب اليمنيين ، و أن يجمعهم له كل أسبوع في دار الحديث بالمدينة حتى يوجههم، فكان ذلك ، وكان بعض المشايخ يتحدثون مع الطلاب اليمنيين مثل الشيخ عبد المجيد الزنداني ، فكان الشيخ يحضر محاضراتهم ويعلق عليها بكلمة مختصرة .
وكان للشيخ منهج لطيف مع الطلاب اليمنيين ، حيث كان الطلاب من مناطق مختلفة من اليمن ، فكان يقوم أحدهم كل أسبوع ليتحدث عن مشكلة في بلده ، سواء أكانت من قبل الشيوعيين ، أو القوميين الناصريين ، أو الصوفيين الغالين إلخ 000ويسمع الشيخ ويعلق ، فهذا الأمر سمح للشيخ بالإطلاع على مشكلات اليمن آنذاك . وهذا أيضاً كان يجري مع مجموعات الطلاب الأخرى ، إذ كان الشيخ القادري يجمع له مجموعات أخرى من الطلبة كلّ بحسب بلده ، فهناك مجموعات للطلبة الهنود، وأخرى للباكستانيين ، وثالثة لشرق أفريقيا ، ورابعة لغربها ، وخامسة لشمالها ، وهكذا ، وكان الطلاب يذكرون مشكلاتهم للشيخ ويتباحث معهم في كيفية حلها .
وكل هذا أورث الشيخ علماً واسعاً عن العالم الإسلامي : أحواله ومشكلاته ، وهذا لاشك ساعد في البناء الفكري والثقافي للشيخ، ومكنه من معرفه أحوال كثير من مناطق العالم الإسلامي في ذلك الوقت الذي كان فيه الإعلام عموماً والإسلامي منه خصوصاً ضعيفاً.
عاشراً: ما كان يُقرأ عليه من الكتب الفكرية والثقافية :
قد قرأ على الشيخ - رحمه الله تعالى- عدد من الكتب الفكرية والثقافية المهمة، ومن الأمثلة على ذلك أنه قرأ عليه كتاب (رسائل الإمام البنا ) وهو كتاب فكري ثقافي دعوي متفوق مشهور ، وهذا الشيخ محمد الموسى – ملازم الشيخ ومعاونه- يقول :
ربما طلب هو بعض الكتب لبعض المعاصرين لقراءتها إذا دعت الحاجة لذلك .
أذكر أنه لما كثر الكلام عن جماعة الإخوان المسلمين وكبارهم قال لي سماحته: كنت أرغب في قراءة كتبهم والإطلاع عليها ، ثم أمرني بإحضار جملة منها، وقال : أحضر لي رسائل الشيخ حسن البنا- رحمه الله – فأحضرتها ، وشرعت في قراءتها حتى أنني قرأت عليه منه ما يزيد على مائتي صفحة ، وهي على هيئة رسائل ، وكلما قرأت رسالة عليه كتب عليها تعليقاً يسيراً بعد قراءته لها ، وربما لم يكتب أي ملاحظة ، وربما أبدى إعجابه ببعضها .
وقراءته مثل هذا الكتاب عامل مهم في بنائه الفكري والثقافي ، ذلك لأن كتاب (رسائل البنا) من الكتب ذوات الصَّدارة في الموضوعات الفكرية .
وسيأتي في الفصل الثاني أنه قرأ كتباً للشيخ أبي الحسن الندوي ، والشيخ محمد الغزالي ، رحمهما الله تعالى ، وهما من الدعاة المعاصرين والمشهورين بسعة الثقافة والعلم وجودة الفكر ، وقد استشهد بكلامهما في مواضع من كتابه " نقد القومية العربية " كما سيأتي بسطه إن شاء الله تعالى في المبحث القادم .
هذه العوامل العشرة مجتمعةً ساعدت على تكوين شخصية ثقافية فكرية للشيخ عبد العزيز- رحمه الله تعالى- وأزعم أنها لم تتيسر مجتمعة لأكثر علماء العصر ، خاصة العامل الخامس والسادس والثامن ، أما بالنسبة لعلماء بلده ومنطقته فأنا أرى أنه فارقهم جميعاً في اجتماع هذه العوامل له فلم يكن أحد منهم مثله أو قريباً منه ، والله أعلم.
****
المبحث الثاني: صورة من الجوانب الفكرية والثقافية في شخصية الشيخ
كان هناك صورة على مشاركة الشيخ الثقافية والفكرية في حياة الأمة الإسلامية ، وهي صورة دالة على أن الشيخ قد اكتسب شيئاً لا بأس به من الثقافة والفكر ، وأن حياته الطويلة لم تكن لتخلو منهما كما يزعم الزاعمون ، فمن ذلك :
1 ـ تأليفه بعض الرسائل الدالة على مشاركة فكرية وثقافية ، فمن ذلك :
أ- "نقد القومية العربية":
وهي رسالة مهمة، يظهر فيها مدى تغلغل القومية العربية في بلاد الإسلام العربية آنذاك – وقد ألفها في الثمانينات الهجرية – والقومية على قسمين : قسم لا يعارض الإسلام ولكنه يرى فصله عن واقع الحياة وإبعاده عن السياسة، وهذا القسم على خطورته ومخالفته للإسلام الصحيح أخف من القسم الآخر الذي يرفض الإسلام جملة وتفصيلاً مثل قومية حزب البعث العربي الاشتراكي ، والشيخ- رحمه الله تعالى – في رسالته على وجازتها يرد على أهل القسمين رداً وسطاً بين الإجمال والتفصيل ، وفي هذه الرسالة تظهر مشاركة الشيخ في الجوانب الفكرية والثقافية ، فمن ذلك قوله :
" فمن سبَرَ أحوال القوميين ، وتدبر مقالتهم وأخلاقهم وأعمالهم عرف أن غرض كثيرين منهم من الدعوة إلى القومية أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع ، ومن تلك الأمور: فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى ، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة – لا بلغهم الله مناهم – ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات يرقص لها الاستعمار طرباً ، ويساعد على وجودها ورفع مستواها – وإن تظاهر بخلاف ذلك - تغريراً للعرب عن دينهم ، وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم والدعوة إليها ، والإعراض عن دينهم 000 ".
ثم قال رحمه الله تعالى :"وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم فاعلم أن هذه الدعوة – أعني الدعوة إلى القومية العربية – أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول ، وأنواع من الخيال ، وأساليب من الخداع ، فاعتنقها كثير من العرب وأعداء الإسلام واغترّ بها كثير من الأغمار ومَن قلدهم من الجهال ، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان 000"
ثم قال رحمه الله تعالى :" هذه الفكرة – أعني الدعوة إلى القومية العربية – وردت إلينا من أعدائنا الغربيين وكادوا بها المسلمين ، ويقصدون بها من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم ، وتفريغ شملهم على قاعدتهم المشؤومة " فَرِّق تَسُد "وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة مما يحزن القلوب ويدمي العيون .
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية- ومنهم مؤلف الموسوعة العربية – أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا ليفصلوا الترك عن العرب ويفرقوا بين المسلمين ، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو حتى عُقد لها أول مؤتمر في باريس وذالك عام1910 م ، وكثرت بسب ذلك الجمعيات العربية ، وتعددت الاتجاهات ، فحاول الأتراك إخمادها بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سوريا في ذلك الوقت إلى آخر ما ذكروا ...".
ثم نقل نقو لا ًمهمة عن عدد من الدعاة فقال :" ولقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة : ( اسمعوها مني صريحة أيها العرب ) حيث يقول ... "وقال :" ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير الشيخ محمد الغزالي تتعلق بالقومية ، قد أجاد فيها وأفاد ، حيث قال في كتابه (مع الله ) ... ".
ثم نقل نقلاً من كتاب الشيخ الغزالي ختمه بقوله : "انتهى المقصود من كلام الغزالي في كتابه " مع الله " ولعظم فائدته نقلته ها هنا " .
وهذه الرسالة متميزة فكرياً وثقافياً ، وأظن أن الشيخ لم يؤلف مثلها في الجوانب الفكرية والثقافية ، فهي من رسائله المتميزة ، مع أنه قد كتبها قبل وفاته بنحو أربعين سنة رحمه الله تعالى .
ب - رسالة "الدعوة إلى الله سبحانه وأخلاق الدعاة " :وهي رسالة موجزة للشيخ – رحمه الله تعالى – بدأها بالحكمة من إيجاد الخليقة ، والحكمة من إرسال الرسل – عليهم الصلاة والسلام- ثم تحدث عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكيف تعب من أجلها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، وكيف اجتهد الصحابة رضي الله عنهم في إبلاغ الرسالة إلى أرجاء المعمورة آنذاك ، ثم تحدث عن الدعوة إلى الله عز وجل حديثاً موجزاً في نقاط أربع، وهي :
حكمها وفضلها ، كيفية أدائها وأساليبها ، بيان الأمر الذي يُدعى إليه ، بيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها .
وقد قال في كيفية أداء الدعوة كلاماً فكرياً جيداً ، كان منه الحديث عن شمول الدعوة الإسلامية وأن الإسلام :"عبادة وقيادة : ويكون ( أي المسلم ) عابداً ويكون قائداً للجيش ، عبادة وحكم : ويكون عابداً مصلياً صائماً ويكون حاكماً بشر ع الله منفذاً لأحكامه عز وجل ، عبادة وجهاد : ويدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله ، مصحف وسيف ، يتأمل القران ويتدبره ، وينفذ أحكامه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه ، سياسة واجتماع : فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم ...
فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تباعد...
وهو يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل ...
وهو أيضاً سياسة واقتصاد ، كما أنه سياسة وعبادة وجهاد ، فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط ليس رأسمالياً غاشماً ظالماً لا يبالي بالحرمات ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق ، وليس اقتصاداً شيوعياً إلحادياً لا يحترم أموال الناس ولا يبالي بالضغط عليهم وظلمهم والعدوان عليهم ، فليس هذا ولا هذا بل هو وسط بين الاقتصادين ، ووسط بين الطريقين ، وحق بين الباطلين ، فالغرب عظموا المال وغالوا في حبه وفي جمعه حتى جمعوه بكل وسيلة ، وسلكوا فيه ما حرم الله عز وجل ، والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد بل أخذوها واستحلوها ولم يبالوا بما فعلوه في ذلك بل استعبدوا العباد ، واضطهدوا الشعوب ، وكفروا بالله ، أنكروا الأديان ، وقالوا لا إله والحياة المادة ...
ثم قال :" وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانباً دون جانب ، لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال ، ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة ، بل خذ الإسلام كله ، خذه عقيدة ، وعملاً ، وعبادة ، وجهاداً ، واجتماعاً ، وسياسةً ، واقتصاداً ، أو غير ذلك ، خذه من كل الوجوه ... يجب على كل مسلم أن يتمسك بالإسلام كله ، وأن يدين بالإسلام كله ، وأن يعتصم بحبل الله عز وجل ، وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال ".
وهذا الكلام يكاد يتطابق مضمونه ومجمله مع كلام الأستاذ البنا رحمه الله تعالى حيث قال في الأصل الأول من الأصول العشرين :
" الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً ، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواءً " .
ولهذا الكتاب قصة لطيفة أخبرني بها الشيخ الدكتور عبد الله القادري الأهدل الذي كان مسئولاً عن الإشراف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية زمان تولي الشيخ ابن باز رئاستها ، فقد جاء إليه وقال له : يا شيخ : ما هو الإسلام ؟ أهو عقيدة فقط أم هو عبادة فقط ؟ أم دعوة فقط ؟ أم هو شامل لكل ذلك ؟ وكان بجوار الشيخ ابن باز ملازمه الخاص في المدينة الشيخ إبراهيم الحصين ، الذي اتصل به بعد أسبوع ، وقال : لقد قرر الشيخ إلقاء محاضرة عن هذه المعاني مجتمعة ، و فعلاً ألقيت هذه المحاضرة التي طبعت في هذه الرسالة التي استقيت منها النصوص السالفة ، وقد أخبرني الشيخ القادري – حفظه الله تعالى – بأن عدداً من الطلبة قالوا بعد خروجهم من المحاضرة : لقد أصبح الشيخ عبد العزيز تلميذاً للبنا !!
2 ـ متابعته الدقيقة للأخبار وتفاعله معها :
قد كان الشيخ مداوماً على متابعة الأخبار على وجه يوميّ ، وهذا لاشك ينمي الجوانب الثقافية في شخصية الشيخ ، وهذا أحد المتابعين لحياة الشيخ يقول : " سماحته يتلقى تقريراً يومياً من وكالة الأنباء السعودية يحتوي على أهم الأحداث إجمالاً وتفصيلاً .
وفي مداومته يومياً على سماع الأخبار ردٌّ على كثير من المشايخ والصالحين الذين لا يكادون يسمعون الأخبار العالمية ولا يتابعونها ، بل يلمزون من يصنع هذا بدعوى ضياع الزمان والاشتغال بما لا ينفع ، فنتج من جراّء ذلك الإهمال أن صاروا في واد وأحداث العالم في واد آخر ، ولم يكن الشيخ – رحمه الله تعالى- كذالك ولا كان من أولئك القوم المنعزلين .
وبعض الناس يلمز المتابعين للأخبار على هذا الوجه بأنهم من أهل فقه الواقع !! وكأن فقه الواقع ليس مطلوباً ، أو كأنه عيب من العيوب التي ينبغي الفرار منها وعدم التلبس بها .
وإذا ضممنا إلى صنيع الشيخ ما ذكرته سابقاً من الرسائل الكثيرة التي كانت تصله من العالم الإسلامي وتعرفه بحال المسلمين ، وإذا ضممنا إلى هذا أيضاً الوفود الكثيرة التي كانت تفد إليه وتخبره عن تفاصيل الأمور ودقائقها ، وإذا ضممنا هذا كله بعضه إلى بعض اتضح لنا جلياً أن الشيخ لم يعش بمعزل عن أحداث العصر ، وما كان شيء من مهمات الأخبار يفوته في الجملة ، رحمه الله تعالى ، وقد كان يتعامل مع هذه الأخبار بإيجابية فيحزن لما فيها من المحزنات ، ويحاول حل ما استطاع حله من المشكلات ، وهكذا ينبغي أن يكون صنيع من يتابع الأخبار من العلماء والدعاة .
3 ـ موقفه الجيد من الجماعات الإسلامية الحركية وغير الحركية :
وقد كان للشيخ موقف جيد مشجع للجماعات الإسلامية مما يدل على أن له فكراً معتدلاً، وحسن اطلاع وتصور ، فها هو يقول :" وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلاّ عودة جديدة لدين الإسلام ".
وقال أيضاً متحدثاً عن الصحوة حديثاً إيجابياً بينما بعض أقرانه ينكر حتى اسم الصحوة :"هذه الصحوة التي تسر كل مؤمن – ويصح أن تسمى حركة إسلامية ، وتجديداً إسلامياً ، ونشاطاً إسلامياً – يجب أن تشجع ، وأن توجه إلى الاعتصام بالكتاب والسنة ، وأن يحذر قادتها وأفرادها من الغلو والإفراط " .
وقال أيضاً رحمه الله :" يجب على الدعاة إلى الله أن يستغلوا هذه الحركة الإسلامية بالتعاون مع القائمين عليها والمذاكرة معهم ، والحرص على إزالة الشبه التي قد تعرض لبعضهم ".
أ- موقفه من جماعة التبليغ :
كان للشيخ موقف من جماعة التبليغ يدل على فكر معتدل منضبط بضوابط الشريعة، فقد حاول أحد المشايخ النيل منهم فنصحه الشيخ ووعظه وطلب منه الكف ، فلما تكرر منه هذا قال له مبيناً فساد طريقته التي سلكها :" ولا أكتمك سراً إذا قلت إني لم أرتح لها ولم ينشرح لها صدري ، لأن هذه الطريقة التي سلكت لا تفيد الدعوة شيئاً لأنها تهدم ولا تبني ، وتفسد ولا تصلح ، وضَرُّها أقرب من نفعها ، ولم يعد ضررها إلا على الدعوة وعلى إخوانك في الله من خيرة المشايخ وطلبة العلم الذين نشأوا على التوحيد والعقيدة الصحيحة علماً وتعليماً ودعوة وإرشاداً .
وقد استغلها من لا بصيرة له في مناصبتهم العداء و تكفير بعضهم لهم واستباحة بعضهم دماءهم والعياذ بالله ، مع الوشاية بهم واستعداء المسؤولين عليهم وتهويل أمرهم عندهم وتخويفهم منهم ورميهم بالعظائم وإلصاق التهم بهم مما هم برآء منه حتى حصل على الدعوة والدعاة من الضرر ما الله به عليم ، أما من أقمتم الدنيا وأقعدتموها من أجلهم فينطبق عليكم قول الشاعر :
وناطح صخرةً يوماً ليوهنها فلم يَضرها وأوهى قرنه الوَعلُ
لكونهم بمنأى عنكم في بلادهم سائرين في دعوتهم في حماية من دولتهم لاحترامها لهم لأنك ذكرت في كتاباتك لنا أن رئيس الحكومة يحضر اجتماعاتهم ويشجعهم ، كما ذكر لنا هذه الأيام بعض أبنائنا المتخرجين من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية ممن شاركهم في الدعوة سنين طويلة أن مركزهم في رايوند مفتوح أربعة وعشرين ساعة ، وجماعات تخرج في سبيل الله وجماعات ترجع ، فما دام الأمر هكذا فلن تخضعهم كتابات أمثالك المشتملة على الفظاظة والغلظة والسب والشتم بل إن هذه الكتابات ستكون سبباً في نفرتهم من الحق وبعدهم عنه لقول الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدَّبه ربه فأحسن تأديبه :
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ".
"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه ".
" إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ولا على ما سواه ".
والله سبحانه نهى عن سب الكفار إذا كان يفضي إلى سب الله فكيف بسب المسلمين إذا كان يفضي إلى تنفيرهم من الحق وبُعدهم عنه وعن الداعين إليه ، فالواجب أن تسعوا في الإصلاح لا في الإفساد ، وأن تخالطوهم وتنهوهم على ما قد يقع من بعضهم من الخطأ بالرفق واللين لا بالعنف والقسوة .
أما تشديدك في إنكار البيعة على التوبة فقد اقترحت على قادتهم – لما اجتمعت بهم في موسم الحج الماضي بمكة وحصل بيني وبينهم من التفاهم ما نرجو فيه الفائدة- أن يكون عهداً بدل بيعة فقبلوا ذلك ، ولعلهم تعلَّقوا بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الجزء 28- ص12 ) من الفتاوى من عدم إنكار ذلك .
وكذلك تشديدك النكير عليهم في إبقائهم أحد الدعاة في المسجد للدعاء لهم ، ولعل قصدهم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين بقي في العريش يوم بدر مع الصدَّيق يناشد ربه النصر حتى سقط رداؤه عن منكبيه فردّه الصدّيق وقال : يا رسول الله : بعضَ مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما يعدك .
ولا يوجب هذا العمل هذا التشنيع الفظيع هدانا الله وإياك ، وقد تمنيت أنك قبلت نصيحتي المتكررة لك وما أشرت به عليك سابقاً ولاحقاً في كتبي المرفق بعضها مع بعض صور ما صدر منك في الموضوع لأني كتبتها عن بصيرة وتأنٍّ ونظر في العواقب وموازنة بين جلب المصالح ودفع المضار وخبرة تامة بهم لتكرر اجتماعي بهم في مكة والمدينة والرياض مع ما استفدته من ثقات المشايخ الذين سافروا إليهم وحضروا اجتماعاتهم واطلعوا عليها عن كَثب وأعجبوا بها ، وكنتُ نصحتك بما نصحتَ به ... لما تهجم عليهم على غير بصيرة كحال أكثر من شنّ عليهم الغارة في هذا الوقت بدافع الجهل والهوى نعوذ بالله من ذلك ، وقد قلت في رسالتك المذكورة ... :
" وصلتني رسالة منك حول جماعة التبليغ ، ويؤسفني أن ينهج أحد الدعاة إلى الله هذا المنهج المسيء لشرع الله في سب أقرانه في الدعوة إلى الله وشتمهم وتضليلهم واتهامهم بتنفيذ مخططات أعداء الله في الكيد للإسلام والمسلمين ، كل ما في الأمر أن جماعة التبليغ نهجت في الدعوة إلى الله منهجاً أخطأت – فيما نرى – في بعض جوانب منه ونرى من الواجب أن ننبههم على هذا الخطأ ، كما نرى من الواجب الاعتراف بما في منهجهم من صواب ، وليت أخي يخرج معهم ليتعلم منهم اللين بدل القسوة ، والدعاء للمسلمين بدل الدعاء عليهم ، والجدل بالتي هي أحسن بدل الجهر بالسوء ، وكلنا محتاج لتفّقد نفسه وتصحيح منهجه والرجوع إلى الله وإلى سنّة رسوله في طاعة الله والدعوة إلى الله " 0
انتهى كتابك بحروفه ، وقد كتبتَه بعد اختلافك معهم في الرأي, ولكن الله أنطقك بالحق والحمد لله على ذلك .
وإليك رسالتك المذكورة مع شكرنا لك عليها برَفقه ، وربما اغتر َّ بكتاباتك القاسية – ثقةً بك - مَن لم يخالطهم في عمره ولم يخرج معهم ولم يعرف عنهم شيئاً إلا من كلامك فيكون عليك وزرك ومثل أوزار مَن انخدع بما كتبت إلى يوم القيامة .
" فاتهم الرأي يا بني ! واعلم أن الله عند لسان كل قائل وقلبه ، وأن الله سيحاسب الإنسان عما يلفظ به أو يعمله ، والجأ إلى ربك واضرع إليه أن لا يجعلك سبباً في الصدَّ عن سبيله وأذية المسلمين ، وأسأل الله عزّ وجل أن يشرح صدرك لما هو الأحب إليه والأنفع لعباده ، وأن يختم لي ولك وللمسلمين بالخاتمة الحسنة إنه جواد كريم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد " .
وهذا الكلام يدل على اعتدال فكري جيد ، وفقه للموازنة متميز ، والله أعلم ..
ب- موقفه المعتدل من المتصوفة :
كان للشيخ – رحمه الله تعالى – موقف من الصوفية معتدل جيدٌ ، فهو يرد على بدع الصوفية ، ويفند أقوالهم ، ويزنها بميزان الشرع المطهر لا بميزان العاطفة الذي يسرف في استعماله كثير من الصوفية ، لكنه مع ذلك لم يكن يقبل التعميم في الحكم عليهم كما وقع لكثير من العلماء المعاصرين ، ولا يضلل إلا من ثبت عنده ضلاله .
وأذكر هاهنا أني اجتمعت به في مكة قبل وفاته بسنتين تقريباً – فيما أذكر – في مجالس خاص ، وقلت له يا شيخ عبد العزيز : قد سمعت في برنامج " نور على الدرب " أحد العلماء الأفاضل يسرف في التشنيع على الصوفية ، ويبدعهم جميعهم ، و يأمر بإتلاف جميع كتبهم ، فلماذا هذا التعميم ؟ ولماذا لا نذهب فيهم إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث ذكر كلاماً حاصله أنهم طائفة من المسلمين فيهم خير وفيهم شر ، فيحمد ما عندهم من خير و يذمّ ما فيهم من شر وضلال ، فقال لي رحمه الله تعالى : هذا رأيي ,هذا رأيي .
وهذا موقف معتدل منه رحمه الله تعالى خالف فيه كثيراً من علماء عصره ، وهو يدل على جودة في التفكير ، وحسن اطلاع ، وورع في إطلاق الأحكام .
ج- موقفه المعتدل من الحركات الإسلامية عموماً :
كان للشيخ موقف من الحركات الإسلامية العاملة ينم عن اعتدال فكري كبير ، وقد قال في إحدى مقالاته بعنوان : " الحركات الإسلامية ودور الشباب فيها " :
" وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلا عودة جديدة لدين الإسلام الذي تريح أوامره وشرائعه النفوس ، وتتجاوب مع متطلبات المجتمعات في كل عصر ومكان ...
وهذه الحركات كان للشباب فيها دور كبير وأفعال مؤثرة ، تدعو للتبصر والمؤازرة، إلا أن بعضها وخاصة في بعض الدول الإسلامية قد تعرض للكبت والمضايقة والاضطهاد والملاحقة . وبعضها استمر في أداء الدور الذي تنادى به تعاليم الإسلام في سبيل الدعوة والاهتمام بتبصير المسلمين عما جد في حياتهم ولا يسير وفق منهج الإسلام .
وقد كان لهذا النوع ، وما زال أثر طيب بحمد الله في إصلاح أوساط الشباب ، وإقامة الكثير من المجتمعات على جادة الحق والهدى ، في داخل العالم الإسلامي وخارجه عن طريق الكتاب الإسلامي ، والمنبر ، والمحاضرات ، والمخيمات والمعسكرات الإسلامية التي يلتقي المسلمون فيها عدة أقطار ، فيتذكرون علوم دينهم ، ومشكلات مجتمعهم ، ويتفهمون الواقع من حولهم ويعملون بقول الله تعالى : (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ).
وهذه فتوى للشيخ تدل على اعتدال فكري جيد ، وموضوعها نفي علاقة الجماعات الإسلامية الحركية وغير الحركية بالفرق الضالة ، حيث سأله سائل : يا شيخنا الكريم الذي يقول بأن هذه الجماعات الإسلامية من الفرق التي تدعو إلى جهنم والتي أمر النبي باعتزالها ؟
ابن باز : " الذي يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس من الفرق الضالة ، الفرقة الناجية هم أهل الحق وهم دعاة الهدى ، ولو تفرقوا في البلاد يكون منهم في الشام ، يكون منهم في أمريكا ، يكون منهم في مصر ، يكون منهم في أفريقيا ، يكون منهم في آسيا ، هم جماعات كثيرة المقصود هدفهم ما هو؟ وعقيدتهم ما هي ؟ فإذا كانوا على طريقة التوحيد والإيمان باللّه ورسوله والاستقامة على دين الله الذي جاء به الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة والجماعة وإن كانوا في جهات كثيرة لكن في آخر الزمان قد يقلون جداً .
فالحاصل أن الضابط ماداموا على الحق ، فإذا وجد إنسان أو جماعة تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتدعو إلى توحيد الله و اتباع شريعته هؤلاء هم الجماعة هم الفرق الناجية ، وأما من دعا إلى غير كتاب الله أو إلى غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس من الجماعة بل من الفرق الضالة الهالكة .
وإنما الفرقة الناجية دعاة الكتاب والسنة إن كانت منهم جماعة هنا وجماعة هنا مادام الهدف والعقيدة واحدة فلا يضر كون هذه تسمى أنصار السنة وهذه تسمى الإخوان المسلمين ، وهذه تسمى كذا ، المهم عقيدتهم وعملهم فإذا استقاموا على الحق وعلى توحيد الله والإخلاص له واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وعقيدة فالأسماء لا تضرهم ، لكن عليهم أن يتقوا الله وأن يصدقوا في ذلك ، وإذا تسمى بعضهم بأنصار السنة وتسمى بعضهم بجماعة كذا وجماعة كذا لا يضره إذا جاء الصدق حصل الصدق باتباع الكتاب والسنة وتحكيمها والاستقامة عليها قولاً وعملاً.
وإذا أخطأت الجماعة في شيء تُنبه ، إذا أخطأت أي جماعة في أمر من أمور الدين ينبهها الآخرون ولا نتركهم ، لا بد أن نتعاون على البر والتقوى إذا أخطأوا ننبههم، فإذا أخطأوا في شيء مما يتعلق بالعقيدة أو بما أوجب الله أو ما حرم الله نُبهوا بالأدلة الشريعة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن حتى ينصاعوا للحق وحتى يقبلوه وحتى لا ينفروا منه ، هذا هو الواجب ، على أهل الإسلام أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتناصحوا فيما بينهم وألا يتخاذلوا فيطمع فيهم العدو " , وهذه فتوى في غاية من الاعتدال وفقه الواقع .
وهناك فتوى أخرى أيضاً ونص سؤالها :يتساءل كثير من شباب الإسلام عن حكم الانتماء للجماعات الإسلامية ، والالتزام بمنهج جماعة معينة دون سواها ؟
وأجاب عنها الشيخ بما يلي :" الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالحق ، قال الله عز وجل ، وقال رسول الله عليه وسلم ، وألا يلتزم بمنهج أي جماعة لا إخوان مسلمين ولا أنصار سنة ولا غيرهم ، ولكن يلتزم بالحق ، وإذا انتسب إلى أنصار السنة وساعدهم في الحق ، أو إلى الإخوان المسلمين ووافقهم على الحق من دون غلو ولا تفريط فلا بأس .
أما أن يلزم قولهم ولا يحيد عنه فهذا لا يجوز ، وعليه أن يدور مع الحق حيث دار، إن كان الحق مع الإخوان المسلمين أخذ به ، وإن كان مع أنصار السنة أخذ به ، وإن كان مع غيرهم أخذ به ، يدور مع الحق ، يعين الجماعات الأخرى في الحق ، ولكن لا يلتزم بمذهب معين لا يحيد عنه ولو كان باطلاً ، ولو كان غلطاً ، فهذا منكر، وهذا لا يجوز ، ولكن مع الجماعة في كل حق ، وليس معهم فيما أخطأوا فيه.
4 ـ موقفه الجيد من المشاركة في الأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية :
قد كان للشيخ موقف من الأحزاب السياسية المعاصرة حسن جيد يدل على اعتدال كبير فكري وثقافي ، فقد كان يشجع على الانخراط فيها لمن كان قادراً على التأثير، وله فتوى يوم كان رئيساً للجنة الدائمة للإفتاء مهمة جداً ، ومنبع أهميتها أنها بشأن الانتساب للأحزاب غير الإسلامية ، وقد وافق الشيخ على الانتساب لها إن كان المسلم يظن أنه سيؤثر تأثيراً حسناً ، فكيف بالأحزاب الإسلامية إذاً !!
وهذا الموقف سبق فيه بعض رموز العلم والدعوة الذين يحرّمون الانتساب إلى الأحزاب الإسلامية فكيف بالانتساب لغيرها ، ويحرمون المشاركة في البرلمانات تبعاً لذلك أو استقلالاً ، فهذه الفتوى موفقة ومناسبة لحد بعيد لمتطلبات العصر ، ونص السؤال هو : بعض الناس مسلمون ولكنهم ينخرطون في الأحزاب السياسية ، ومن بين الأحزاب إما تابع لروسيا أو تابع لأمريكا ، وهذه الأحزاب متفرعة وكثيرة ؛ أمثال : حزب التقدم والاشتراكية ، حزب الاستقلال ، حزب الأحرار ، حزب الأمة ، حزب الشبيبة الاستقلالية ، حزب الديمقراطية .. إلى غيرها من الأحزاب التي تتقارب فيما بينها ، ما هو موقف الإسلام من هذه الأحزاب ، ومن المسلم الذي ينخرط في هذه الأحزاب، هل إسلامه صحيح ؟
الجواب : "من كان لديه بصيرة في الإسلام وقوة إيمان وحصانة إسلامية وبُعد نظر في العواقب وفصاحة لسان ، ويقوى مع ذلك على أن يؤثر في مجرى الحزب ، فيوجهه توجيهاً إسلامياً فله أن يخالط هذه الأحزاب ، أو يخالط أرجاهم لقبول الحق؛ عسى أن ينفع الله به ، ويهدي على يديه من يشاء فيترك تيار السياسات المنحرفة إلى سياسة شرعية عادلة ينتظم بها شمل الأمة ، فتسلك قصد السبيل والصراط المستقيم ، لكن لا يلتزم مبادئهم المنحرفة ، ومن ليس عنده ذلك الإيمان ولا تلك الحصانة ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر فليعتزل تلك الأحزاب اتقاء للفتنة ومحافظة على دينه أن يصيبه منه ما أصابهم ، ويبتلى بما ابتلوا به من الانحراف والفساد .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ".
5 ـ دفاعه عن الدعاة والمفكرين :
وهذا بارز وواضح في حياة الشيخ، فالدعاة والمفكرون والمثقفون قريبون منه وهو لهم محب ، مدافع عنهم، و يشعر بمصابهم ، وهذا- أي محبة الدعاة والمدافعة عنهم- أيضاً يدل على اعتدال فكري جيد، واسمع إلى قول الشيخ محمد الموسى الملازم للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى :
" عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم في مثل هذه النازلة , التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف الإضعاف من منزلة الإسلام نفسه بإرهاب المعتصمين به لتخذيلهم عنه .
وكلفني الشيخ يومئذ صياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف فكتبتها بقلم يقطر ناراً وكرهاً وغيرة ، وجئته به وملئي اليقين بأنه سيدخل على لهجتها من التعديل ما يجعلها أقرب إلى لغة المسؤولين منها إلى لغة المنذرين ، ولكنه حطم كل توقعاتي حين أقرها جميعاً ، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ) (النساء:93).
وأرسلت يومئذ البرقية التي كانت – فيما أظن - الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة بما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من لذع السياط " .
وقد كان من المعروف من الشيخ رحمه الله تعالى أنه لم يكن يقبل أن يطعن أحد في الدعاة والصالحين وهو حاضر سامع، وهناك موقف جيد له مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى – على ما بينهما من اختلاف في المنهج وطريقه التناول –حيث زاره الشيخ الغزالي يوماً في بيته ، وهذا مرافق الشيخ يقص ما جرى :
لما قدم الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله تعالى – إلى الرياض ، لاستلام جائزته المقدمة من لجنة جائزة الملك فيصل العالمية زار سماحة الشيخ في منزله 0
وكانت في ذلك الوقت ضجة حول كتاب الشيخ الغزالي : " السنة النبوية بين أهل الفقه ، وأهل الحديث " وقد قرئ ذلك الكتاب على سماحة الشيخ ، فلما زاره الغزالي احتفى به ، وأكرمه ولاطفه ، وسأله عن الدعوة في الجزائر ، وعن حاجتهم ، وأخبره بأنه على أتم الاستعداد لدعمهم ، وكان الشيخ الغزالي آنذاك رئيساً لجامعة في الجزائر .
وكان مجلس سماحته- كالعادة – عامراً بالزائرين ، والسائلين ، و المحتاجين ، والضيوف ، وكان الهاتف لا يتوقف رنينه ، وكان كُتَّاب سماحته حوله يقرؤون ، وهكذا .
وكلما سنحت لسماحته فرصة التفت إلى الشيخ الغزالي وحيّاه ولاطفه ، فأعجِبَ الشيخ الغزالي بما رأى ، وكان ذلك بادياً عليه .
وفي تلك الأثناء قال سماحته للشيخ الغزالي : لقد قرأت كتابكم المذكور ، ولا يخفى عليكم أن البشر عرضة للخطأ ، ونحن وغيرنا عرضة لذلك ، وقد قرأت شيئاً من كتابكم ، وعليه بعض الملحوظات .
فقال الشيخ الغزالي : أنا يسعدني أن تكملوا قراءته ، وأن توافوني بما تلاحظونه ، وأنا إن شاء الله أصلحه ، وذكر كلاماً نحو هذا .
وبينما كان سماحة الشيخ يرد على مكالمة هاتفية دار حديث بين الشيخ الغزالي وبين أحد المشايخ الحاضرين وهو الشيخ خير الدين و انلي من سوريا ، فقال الشيخ خير الدين : أنتم قلتم : كذا وكذا ، فانقض الغزالي عليه : واشتد النقاش , ولما سمع سماحته كلامهما التفت إلى الغزالي وقال : ماذا عندكم ؟قال : كذا وكذا .
فخاطبهما جميعاً بأن هذه المسائل ينبغي أن توضع في إطارها ، وأن نحرص كل الحرص على جمع كلمتنا والبعد عن الخلاف ، فنحن أمام أمور كبار تتعلق بأصول المسائل ، وسكّن من غضبهما وانتهى الجدال .
وكان الشيخ الغزالي مدعواً للغداء ، ولكنه تأخر على من دعاه ، وجلس عند سماحة الشيخ ، وتناول معه الغداء , ولما هم بالخروج ألقى نظرة على سماحة الشيخ وقال : نحن بخير مادام فينا هذا الرجل .
وبلغني أنه لما وصل إلى من دعاه قالوا له : لماذا تأخرت ؟ قال : كنا في عالم ثان! وهذا الذي حصل من الشيخ رحمه الله تعالى يدل على اعتدال فكري كبير ، ولاشك.
6 ـ اعتداله في مسائل الخلاف الفقهي :
كان للشيخ موقف جيد وسط في قضايا الخلاف الفقهي ، وخلاصته أنه يذهب فيها إلى الحق الذي لا يعتقد غيره ، ولكنه يعذر المخالف ولا يسفهه ، وهذا يدل على اعتدال فكري جيد .
فها هو يقول متحدثاً عن مسألة فقهية خلافية في شأن الصلاة والإرسال والقبض بعد الركوع فيه : " لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتخذ من الخلاف في هذه المسألة وأشباهها وسيلة إلى النزاع و التهاجر والفرقة فإن ذلك لا يجوز للمسلمين ... الواجب على الجميع بذل الجهود في التعاون على البر والتقوى وإيضاح الحق بدليله ، والحرص على صفاء القلوب وسلامتها من الغل والحقد من بعضهم على بعض .
كما أن الواجب الحذر من أسباب الفرقة والتهاجر ...الواجب على الجميع التناصح والتفاهم في معرفة الحق بدليله مع بقاء المحبة والصفاء والأخوة الإيمانية ، فقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم – رضي الله عنهم – والعلماء بعدهم ، رحمهم الله ، يختلفون في المسائل الفرعية ولا يوجب ذلك بينهم فرقة ولا تهاجراً ، لأن هدف كل واحد منهم هو معرفة الحق بدليله ، فمتى ظهر لهم اجتمعوا عليه ، ومتى خفي على بعضهم لم يضلل أخاه ، ولم يوجب له ذلك هجره ومقاطعته ".
وهذا الكلام قريب من كلام الأستاذ البنا رحمه الله حيث قال في الأصل السابع من الأصول العشرين التي وضعها ليضبط بها الفهم في مسائل من الشريعة عظيمة ، قال رحمه الله تعالى : "ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين ، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلة إمامه ، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته ، وأن يستكمل نقصه العلمي – إن كان من أهل العلم – حتى يبلغ درجة النظر ".
وقال الأستاذ البنا رحمه الله تعالى في الأصل الثامن : " والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين ، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ، ولكل مجتهد أجره ، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب " .
أرأيت إلى كلام هذين الإمامين كيف خرج من مشكاة واحدة ، مشكاة الاعتدال الفكري الكبير ، والاهتمام العظيم بالأخوة الإسلامية وتقديمها على ما يمكن أن يحل بالساحة الإسلامية من خلاف وتفرق بشأن فروع المسائل ، والله أعلم .
وقال أيضاً متحدثاً عن الأناشيد الإسلامية :" إذا كانت سليمة ليس فيها إلا الدعوة إلى الخير والتذكير بالخير وطاعة الله ورسوله ، والدعوة إلى حماية الأوطان من كيد الأعداء ، والاستعداد للأعداء ونحو ذلك فليس فيها شيء ، إما إذا كان فيها غير ذلك من دعوة إلى المعاصي واختلاط النساء بالرجال ، أو تكشفهن عندهم ، أو أي فساد كان فلا يجوز استماعها " , وهذا توسط يدل على جودة الفكر واعتداله .
وقال عن التلفاز :" أما التلفزيون فآلة لا يتعلق بها في نفسها حكم ، وإنما يتعلق الحكم باستعمالها ، فإن استعملت في محرم فذلك حرام ، وأن استعمل في الخير ... فذلك جائز ، وإن استعمل فيهما فالحكم التحريم إن تساوى الأمران أو غلب جانب الشر فيه " , وهذه فتوى معتدلة أيضاً إلى حد كبير .
7 ـ استشهاده ببعض أقول الغربيين واطلاعه على كلامهم :
كان للشيخ رد على قضية اختلاط المرأة بالرجل والفساد الحاصل من التساهل في مثل هذا ، وقد استشهد في رده بالكاتبة الإنجليزية الليدي كوك ، واستشهد بكلام شوبنهور الألماني ، وبكلام اللورد بيرون ، وبقول سامويل سمايلس الإنجليزي ، وبكلام الدكتورة أيد إلين ، وبقول عضوين من الكونجرس الأمريكي ، وكل هذه الأقوال لهؤلاء تشجع على منع الاختلاط ووجوب إشغال المرأة بما هو مناسب لطبيعتها وفطرتها .
واستفادته من كلام هؤلاء يدل على اطلاع جيد ، ومشاركة ثقافية مناسبة ، وأخذ الجيد النافع من كلام الناس وإن كانوا كافرين ، وهذا أيضاً يدل على اعتدال فكري وجودة في منهج التلقي ، وقد سبق أقرانه في هذا الأمر وتجاوزهم .
8 ـ اطلاعه على ما يجري في العالم من كيد للإسلام وإساءة له وللمسلمين :
كان للشيخ اطلاع حسن واسع على المكائد التي تواجه المسلمين وتفت في عضدهم، وكان له مشاركة في الرد على ذلك وإظهار الحق ، فمن ذلك :
رده على ما يجري في التلفزيون السويسري من إظهار للإسلام والمسلمين في مصر بصورة سيئة .
وكذلك رده على ما يجري في مؤتمر بكين من مناقضة الشريعة الإسلامية في عدد من جوانبه ، ونشر الإباحية ، وهتك للحرمات ، وتخريب للمجتمعات إلخ .
وهذا الاطلاع وتلك المشاركة يدلان على اهتمام فكري ثقافي ، ومتابعة دقيقة لما يجري في الساحة الإسلامية والساحة العالمية ، ويدلان أيضاً على اعتدال في التصور مستقىً من منهج جيد إيجابي في تلقي الأخبار والتعامل مع كل خبر بما يناسبه .
9 ـ اهتمامه الكبير بالمسلمين أينما كانوا واطلاعه على أخبارهم :
وهذا متواتر عنه معلوم ، ويكفي فيه قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمهما الله تعالى :" لا يوجد رجل في العالم يهتم بأمور المسلمين كسماحة الشيخ عبد العزيز ".
وهذا القول – وإن كان فيه جزم مبالغ فيه ونوع من التجاوز من مثل الشيخ الأمين – يدل على اهتمام الشيخ الكبير بحال المسلمين ، وهذا الاهتمام وتلك المتابعة الكبيرة أورثاه ثراء لا بأس به في الناحيتين الفكرية والثقافية ، وقد سبق ذكر جوانب من هذا الاهتمام والاطلاع مثل متابعته الأخبار ، وتلقيه الرسائل ، واستقباله الوفود إلخ ".
****
المبحث الثالث : حقائق عن شخصية الشيخ الفكرية والثقافية
هناك جملة حقائق تمخضت عن دراسة هذين الجانبين في شخصية الشيخ عبد العزيز : الثقافي والفكري ، وهي الآتي :
التبعية الفكرية والثقافية للشيخ :
الشيخ رحمه الله ليس له مذهب فكري ثقافي محدد ، بمعنى أنه ليس مجتهداً في قضايا الفكر والثقافة اجتهاداً استقلالياً ولا جزئياً ، وهو تابع فيها لغيره ، لكن مع هذا فقد كان له رأي في عدد من المسائل الفكرية والثقافية بقطع النظر عن صوابه أو خطئه ، ولا يعيبه أنه لم يكن في الطبقة الأولى من المفكرين والمثقفين ، ويكفي أن له مشاركة جيدة في هاتين القضيتين إضافة إلى بروزه الكبير وتفرده في كثير من علوم الشرع فإن المرء لا يمكن أن يحوز الكمال ولا أن يُجمع له كل المواهب وعظيم الخصال .
انشغاله في آخر عمره عن المتابعة الثقافية :
الظاهر أن الشيخ رحمه الله تعالى كان قد كون شخصيته الثقافية في المراحل الوسطى من حياته ، أما القسم الأخير منها فلم يظهر لي أنه اكتسب شيئاً كبيراً في هذا الباب ، ومما يدل على هذا أنه قد قرأ 55 كتاباً في آخر 16 عاماً من حياته لم يكن فيها شيء يمكن أن يعد من كتب الفكر أو الثقافة ، وهذا مما ظهر لي بالدرس والبحث لكن لعله قد قرئ عليه شيء لم يصلنا ، لكني أستبعد ذلك ؛ إذ الذي نقل عنه هذا هو ملازمه الشيخ محمد الموسى ، وهو من أعرف الناس به لكن لقاء الشيخ بكثير من الناس وتلقيه لكثير من الرسائل ، وسماعه للأخبار ومداومته عليها قد يعوض النقص الناشئ عن عدم المتابعة للجديد من الكتب الفكرية والثقافية ، أو على الأقل يمنع من إلصاق تهمة الاعتزال الفكري والثقافي بالشيخ .
لكن هذا الانشغال أثر على الشيخ في ناحية أخرى مهمة وهي أنه صار يتلقى كثيراً من معلوماته الثقافية والفكرية ممن حوله أو ممن يستطيع أن يصل إليه أولاً ، وقد لا تكون هذه المعلومات صحيحة أو دقيقة في بعض الأحوال ، وهذا يؤثر على بعض التصورات الفكرية والثقافية عند الشيخ – رحمه الله تعالى – فتبدر منه بعض أمور قد لا تكون مُرضية أو سائغة لكن الكمال عزيز ، وهذا الذي قد قُدر له .
بعض الآراء الثقافية الخاطئة التي اشتهرت عنه :
اشتهر الشيخ ببعض الآراء في بعض القضايا الثقافية ذوات الطابع العلمي الطبيعي، وهذه القضايا مخالفة للثابت المعلوم القطعي من العلوم ، وأنا ليس غرضي إثارة مثل هذا الأمر الآن ولا تفصيل الحديث عنه ، لكني رأيت أنه لا يتم هذا البحث إلا بالإشارة إليه ، وهذا من الأمور التي ضخمها بعض شانئي الشيخ ، وهو بشر يخطئ ويصيب ، وإن كنت تمنيت أن الشيخ لم يخض في هذه القضايا أصلاً ، لكن الشيخ تمسك ببعض الأدلة الشرعية العامة التي لا تدل على ما ذهب إليه على وجه القطع واليقين ولم يشأ أن يحيد عنها ، وكل بني آدم يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ولا يعني خطأ الشيخ في مثل هذا الأمر ضعفه في هذا الباب فقد سبق مني أني أنفي عنه الضعف ، كما أنفي عنه التميز في هذا الباب ، وجل ما قد يقال في هذه القضية وأمثالها أن الشيخ جانبه الصواب فيها، وأنه كان ينبغي له ألا يخوض في مثل هذه القضايا ، وأن يذرها لأهل العلوم الطبيعية الذين هم أدرى من غيرهم فيها .
ولا ينبغي أن يطعن على الشيخ بسبب هذا – كما فعل بعض الشانئين – فحسبه أن أخطاءه معدودة ، وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه ، فرحمه الله رحمة واسعة .
****
الخاتمة :
أن ما كتبته عن الشيخ في هذا البحث لم يكن لغرض مدحه أو التعريف به فهو أشهر وأكبر من أن يعرف به مثلي ، لكني أردت إظهار بعض الجوانب في حياة الشيخ عبد العزيز التي ربما تخفى على الأكثرين من المتابعين للحركة الثقافية الفكرية .
وأظن هذه الدراسة مهمة لأنها حققت الجوانب التالية :
1- هذه الدراسة تظهر أن الشيخ المتصدر للعامة المهتم بأحوال أمته الإسلامية لا يمكن أن يكون ضعيفاً في فهم القضايا الفكرية والثقافية أو أن يكون مهملاً لها ، بل لابد أن تكون له نوع مشاركة فيهما تبعده عن وصمة الضعف في هذه القضايا أو إهمالها .
2- هذه الدراسة تبرئ الشيخ رحمه الله تعالى من تهمة ذائعة وهي الأفق الضيق أو قلة الوعي ، وهذا ليس فقط انتصاراً للشيخ أو لعموم الإسلاميين بل هو في غاية الأهمية لقطع ألسنة العلمانيين الذين ما فتئوا يرددون مقولة إن الإسلاميين ضيقو الأفق ضعيفو الوعي ، وغرضهم من هذا التقليل من شأن العلماء والدعاة والعاملين، من ثم تنحيتهم عن حياة الناس .
3- الشيخ رحمه الله تعالى تغلب على كثير من العوامل التي كانت مجتمعة كفيلة بأن تؤدي إلى التقليل من حركته ونشاطه وحيويته ، واطلاعه ومشاركته في حل كثير من القضايا التي برزت في زمانه ، لكنه تمكن من تجاوزها إلى حد كبير ، وحافظ على توازن معقول في شخصيته وفكره ، وهذا يشجع الأجيال من بعده على تجنب كل عوامل الضعف والعجز وتجاوزها والانطلاق القوي لتحقيق ما يظنه الآخرون غير قابل للتحقيق .
وأخيراً أقول :
أنا أرى بأن بيئة الشيخ ومنطقته لم يبرز منها أحد بروزه ، ولم يكن أحد يساويه في عموم جوانب شخصيته ، وأرى أن الشيخ قد ارتفع إلى مصاف الطبقة الأولى من العلماء والدعاة والعاملين في العالم الإسلامي ، وكان من القلائل في زمانه الذين تركن العامة والخاصة إليهم ، وتأنس بهم ، وتعتد برأيهم ، وتجعلهم رموزاً للأجيال .
والله تعالى أعلم وأحكم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
***
المصادر والمراجع
# " الأبريزية في التسعين البازية " : د0 حمد الشتوي . نشر دار العاصمة . الرياض . الطبعة الأولى سنة 1420 للهجرة.
# " الأعلام " : الأستاذ خير الدين الزر كلي . نشر دار العلم للملايين . بيروت . الطبعة الخامسة سنة 1980 م .
# " الشيخ ابن باز و مواقفه الثابتة ": أحمد الفريح . نشر مكتبة الراشد . الكويت . الطبعة الأولى سنة 1420 للهجرة .
# " جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز " رواية الشيخ محمد الموسى . إعداد محمد الحمد . نشر دار خزيمة الرياض . الطبعة الأولى سنة 1423 للهجرة .
# " خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله ، وحكم الاختلاط في التعليم وخطورة تعليم النساء للأولاد " : الشيخ ابن باز . نشر دار طيبة . مكة الرياض .
# " الدعوة إلى الله سبحانه وأخلاق الدعاة " : الشيخ عبد العزيز بن باز . مطبوعات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . المملكة العربية السعودية . الرياض سنة 1400 للهجرة .
# " فتاوى وكلمات في الموقف من الجماعات " : د.عبد الرزاق الشايجي . دار التجديد للنشر والتوزيع . الكويت .
# " ماذا ينقمون من ابن باز ": خالد العنبري . الطبعة الأولى سنة 1412للهجرة . توزيع مؤسسة الجريسي.
# " مجموع فتاوى ومقالات ": الشيخ عبد العزيز بن باز .
# مختصر "الفتح المواهبي في سيرة الإمام الشاطبي" : الأصل للإمام القسطلاني ، والمختصر لمحمد موسى الشريف . نشر جمعية القرآن الكريم بجدة.
# "المعجم الوسيط " تأليف مجموعة من الأساتذة . نشر مجمع اللغة العربية . القاهرة.
# "نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع": الشيخ عبد العزيز بن باز. نشر المكتب الإسلامي .الطبعة الثالثة. بيروت. سنة 1399 للهجرة.