- الأحد نوفمبر 24, 2013 9:20 pm
#65985
ربيع الثاني 1428/مايو 2007
لم يكن يدور في خلدي أبداً وأنا أذهب إلى كليرمونت في ربيع الثاني 1428هـ/مايو 2007 أني سأجد ما وجدته فيها، ولا أني سأقف على ما وقفت عليه، فقد كانت هذه الرحلة إلى هذه المدينة هي أهم وجهة اتجهت إليها في فرنسا، وذلك لما سأذكره للقراء بعد.
وهذه المدينة هي من مقاطعة الأوفيرن المشهور أهلها بالحرص الشديد لما كانت عليه حياتهم من ضيق في المعيشة وصعوبة في التضاريس، ففيها سلسلة جبال بركانية، والمدينة – كليرمونت - تقع في وسط تلال وجبال، وجل المياه المعدنية منها، وفي كليرمونت تنبع مياه فولفيك الشهيرة وهي منطقة المياه الساخنة التي يقصدها الناس من كل مكان للاستشفاء، وفي منطقة الأوفيرن، وبالقرب من كليرمونت تقع مدينة فيشي التي كانت مقراً للحكومة الفرنسية الموالية للألمان النازيين لما احتل الألمان فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وفيها اليوم أحد أشهر المعاهد لتدريس اللغة الفرنسية للطلبة الوافدين، وقد درس فيه طلاب عرب من السعودية وغيرها.
قرار عظيم :
وفيها أكبر مصنع للإطارات في العالم وهي إطارات ميشلان المشهورة، وهي مدينة جيسكار ديستان رئيس فرنسا السابق الذي حرر دستور أوروبا، صاحب القرار التاريخي بإلحاق عائلات العمال العرب بهم، وهذا سبب انتقال مئات الآلاف من المغرب العربي الكبير إلى فرنسا، وهو القرار الذي يجاهرون اليوم بالندم على إصداره لأنه أدى إلى زيادة هائلة في عدد المسلمين في فرنسا.
أهمية تاريخية :
وفي هذه المدينة كليرمونت أهمية تاريخية كبرى لنا نحن معشر المسلمين، حيث انطلقت منها جحافل الصليبيين تجاه بلاد الشام في أواخر القرن الخامس الهجري، هذا ، وقد أخذني الإخوة إلى ساحة فيها تمثال لباباهم أوربان الثاني الذي جاء المدينة سنة 1095 للميلاد قبل هلاكه بأربع سنوات، وحث النبلاء وقادة الجند على التوجه إلى بيت المقدس، وكانت الاستجابة ضعيفة، فما كان منه إلا أن أحلّ لهم الغنائم وهذا حرام في دينه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق تعداد خصائصه الشريفة التي خُصّ بها من دون الأنبياء والرسل الكرام عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام : "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي"، فلما أحل لهم الغنائم ووعدهم بأرض السمن والعسل، هبوا إلى الغزو، وحصل ما حصل من مآسٍ بعد ذلك؛ نتيجة همجية الجنود وتوحشهم، ولم يسلم منهم حتى أهل دينهم من الأرثوذكس في المشرق، فقد عمموا بالذبح كل أحد، وفعلوا من القبائح ما يضاعف لهم العذاب عند الواحد الأحد.
وقد رأيت التمثال لباباهم ويده متوجهة نحو المشرق، وأمامه كاتدرائية ضخمة، منها أجيز قرار حل الغنائم ومنها بورك الغزو الهمجي، وهي كنيسة متماسكة البناء موغلة في القدم، وهي قلب المدينة كعادتهم آنذاك.
وقد رأيت تمثال قائد الفرنسيين المسمين ب "الغال" قديماً، وهو الذي ساقهم إلى النصر على الغزاة الرومان، ورأيت في الساحة صورة باسكال عالم الفيزياء الذي وضع معيار الضغط الجوي، وقد حفظ القوم موقع بيته، والعجيب أنهم وضعوا صور باسكال وباباهم والقائد الغالي منحوتة في ألواح من معدن، وثبتوها على الأرض في مواقع عديدة من الساحة، فيأتي الناس ولا يبالون بدوسها بأقدامهم فانظر إلى صنيعهم وبعده عن التوفيق.
هذا وقد تحدثت إلى المصلين في مسجد السلام، وكان الحديث في الموضوع الأثير لدي القريب إلى قلبي (أثر المرء في دنياه)، وقد حثثتهم على العمل ووضع الأهداف الجليلة، وكان فيما حدثتهم عنه، ضرورة بناء مدارس للبنات تحفظ عليهن دينهن، وكان فيما اقترحته عليهم أن يؤسسوا لحملة كبيرة عنوانها حملة شرب الماء ومعنى ذلك أن يمتنعوا عن شرب العصير مدة ستة أشهر لتوفير المال اللازم لبناء مدارس للبنات، وقد ضربت لهم العصير مثلاً لتعلقهم به ودفعهم أموالاً طائلة من أجله، فقد بينت لهم كيف يستطيعون أن يوفروا الملايين من امتناعهم عن شرب العصير واستبدال الماء به. فكيف لو امتنعوا عن سائر الكماليات من أجل بناء مدارس لبناتهم الممنوعات من الحجاب في مدارس الدولة.
ولا أملّ أبداً في فرنسا من ذكر هذا الأمر والتشجيع عليه والتحريض على بدئه. فالقوم شبه غافلين عن خطورة أثر هذه المدارس العامة الحكومية على بناتهم، وأحرص فيما أحرص عليه، على إيقاظ الغيرة والنخوة والشهامة فيهم بوسائل متعددة وهم لا يغضبون؛ لعلمهم أني إنما أريد الحفاظ على بناتهم، وجرت مناقشات أعدها إيجابية إلى الغاية التي أردت، وأظنها قد أذكت في القوم الرغبة في بدء أمر كهذا، وهم سليمو الفطرة؛ لكن غطت عليها سحائب التصور الأوروبي للحياة.
دوائر ثلاث :
هذا وقد أنعم الله علي بأن لقنت إحدى الفرنسيات الشهادة عن طريق مكبر الصوت، حيث كانت في القسم النسائي. فلله الحمد والمنة، ونصحتها بفهم الإسلام والدعوة إليه، وذكرتها بفضل الله عليها حيث اختارها من ملايين النساء من بني جنسها وهداها للإسلام.
وهذا المسجد مسجد السلام هو من المساجد التابعة لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، وكنت قد تحدثت إلى المصلين في مسجد الوحدة بعد صلاة العصر قبل حديثي في مسجد السلام، وهو مسجد للمغاربة، وبينت لهم أن المسلم يعيش في دوائر ثلاث دائرة نفسه والمسؤولية التامة عنها، ودائرة الأهل والأولاد، ودائرة المجتمع، وبينت لهم ما ينبغي أن يصنعوه في كل دائرة من هذه الدوائر، فلما أخذت في بيان مسؤوليتهم وما ينبغي صنعه في الدائرة الثالثة ضاق الوقت، فدعوتهم لإكمال الحديث في مسجد السلام الذي كانت المحاضرة فيه في السابعة والنصف، وكانت عن أثر المرء في دنياه كما قدمت آنفاً، وكان غرضي أن يجتمع المصلون في مسجد واحد لما في ذلك من اجتماع القلوب، وأن أحثهم على التحرك والانتقال من أجل الفائدة، وقد تحدثت معهم أيضاً عن مدارس البنات وأهمية إنشائها.
مسجد أصله كنيسة :
وقد ذهبت في اليوم التالي إلى مسجد للجزائريين كان كنيسة قديمة حُولت إلى مسجد، وقد أحسن الشيخ محجوب، إمام المسجد استقبالي للغاية، وأثنى عليّ ثناءً لم أرغب فيه ولم أرده والله، لكن طبيعتي منعتني من إيقافه أو التخفيف من غلواء ثنائه، ولا أدري والله ماذا أصنع في مثل هذه المواقف الحرجة والعواطف المتأججة، وأخشى من الله إن سكتّ، وأخشى من تأثر المقدم سلباً إن اعترضت لكن أقول: "اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون".
وقد أخبرني الإمام أنهم يبنون مسجداً آخر في المكان نفسه الذي انطلق منه الصليبيون، وأوقفني على هذا المسجد المهندس المعماري الذي خطط له ووضع رسمه وهو مسلم ذو عاطفة قوية، فإذا به في مراحل البناء الأخيرة، وهو آية في موقعه وجمال بنائه وتنوع أنشطته.
وقد جاء رجل مصري ثري ليتعالج في مياه المدينة الساخنة فلما رأى ضيق المسجد الذي كان كنيسة ورأى أنهم قد اشتروا أرضاً ليبنوها تبرع لهم بجملة وافرة من ثمن البناء، وأرسل لهم من مصر المنبر والأسماء الحسنى الإلهية منحوتة على الجبس ليفرقوها في جنبات المسجد الجديد، وأرسل لهم أشياء أخرى، فسبحان الله كيف سيق ذلك.
بين الأتراك :
وفي اليوم نفسه زرت مسجد الأتراك ضحى مع عدد من الإخوة، وقابلنا المسؤول عنه، وجال بنا في جنبات المسجد، وهو مسجد جليل أشبه بمساجد تركيا بل هو صورة أخرى منها، وأتمنى أن يكون هناك مشاركة أكبر من قبل الجالية التركية مع إخوانهم العرب، فإني قد رأيتهم قليلي المشاركة، ورأيتهم في ألمانيا وهم قليلو المشاركة أيضاً وهم عدة ملايين، وربما كان لحاجز اللغة أثر في هذا، على أن الإسلام دين عالمي لا ينبغي أن تكون فيه مثل هذه الحواجز.
في مسجد السلام :
وفي مسجد السلام خطبت الجمعة، وكانت عن الاعتزاز بالإسلام ومظاهر هذه العزة وتبعاتها ومقتضياتها، وتُرجمت إلى الفرنسية بين الخطبتين، حيث إني أقصر الخطبة الثانية على الدعاء فقط في مثل هذه الأحوال.
وفي مسجد السلام أيضاً عقدت حلقة للفرنسيين المسلمين رجالاً ونساء، وحضرت معهم الأخت الفرنسية المسلمة التي ذكرتها آنفاً، وقد حضرت بحجابها ولله الحمد والمنة، وأجبت عن أسئلتهم المتنوعة، ومما لفت نظري شكاية عدد منهم من أن بعض الإخوة المغاربة يريدونهم أن ينقلبوا عرباً بتعبيرهم، وأن يتبعوا التقاليد العربية، وأن يتحدثوا بالعربية، وأن يغيروا أسماءهم فبينت لهم أن الحكمة ينبغي أن تكون ضالتهم فليتخيروا من التقاليد العربية ما يرونه مناسباً لهم، وليس بهم ضرورة أن يغيروا أسماءهم، وليس من مقاصد الإسلام أن يُقسَر القوم على عربية في اللغة أو الهيئة أو الأسماء، لكن فليتعلموا من العربية ما تصح به عباداتهم وما تنضبط به تصوراتهم وفهومهم عن الإسلام والمسلمين.
هذا وقد أكدت بقوة في جميع المحاضرات.. الأهمية القصوى للعناية بالعربية حتى لا تضيع من أولاد العرب، وأن العربية سياج للدين، فهي الطريق إلى فهمه، والوسيلة إلى إدراك مقاصده، وهي التي يقرأ بها القرآن فيتلذذ بمعانيه وبوقع ألفاظه على الآذان، وقد رأيت ما آلمني من ضياع لهذه العربية ورطانة بالأعجمية من أولاد العرب الأقحاح، وهذه ظاهرة متفشية هناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فأنا أعد هذا من جملة المصائب.
حادثة عجيبة :
وقد قابلت الأستاذ "البشير بوخزر" في كليرمونت، وهو رئيس الجمعيّة المسيّرة لمسجد السلام والمسؤول الإعلامي في اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، وقد أخبرني بأمر عجيب، ألا وهو أن رجل أعمال فرنسي كبيراً أخبره أن والده كان من كبار المستشارين العسكريين للرئيس الفرنسي السابق المشهور شارل ديجول، ولما مات هذا المستشار خرجوا به في جنازة رسمية وطنية، وكان هذا المستشار قد ترك وصية ومن بينها ترك لابنه هذا من ميراثه صندوقاً مغلقاً، وكان أبوه يحبه ويؤثره، فلما فتح ابنه الصندوق وجد فيه مصحفاً وسجادة، فاندهش ابنه اندهاشاً عظيماً لأنه كان يرى في والده قدوة ووطنية فكيف يكون مسلماً، وظل الابن مصدوماً لمدة أكثر من سنتين، يبحث فيها عن الأسباب التي أدت بوالده إلى أن يكون مسلماً، وبعد سنتين من الحيرة ذهب إلى المركز الإسلامي في "كان" وهي مدينته ومدينة أبيه وهي مدينة المهرجان السينمائي ومدينة السياحة المشهورة واسم المركز "المدينة المنورة"، وناقش مدير المركز بما حدث، فقال له مدير المركز : إن هذا أمر سهل، فإن أباك كان مسلماً، لكن موقعه في الدولة لم يكن يسمح له بإظهار إسلامه، لكنه لما ترك لك ما ترك كان يريد أن يرسل رسالة لك مضمونها أن تقوم بما عجز هو عن إظهاره، وأن تكون أنت الصورة الظاهرة لحاله الباطنة!!
فطلب منه الإمام أن يفهم الإسلام وأن يتم رسالة أبيه، فظل ملازماً للإمام بضعة أشهر ثم طلب منه أن يعلن إسلامه، فطلب منه الإمام أن يعلن إسلامه يوم الجمعة، لأن الناس يجتمعون فيه وذلك يوم مشهود، فقال: لا، إنما أعلنه في اليوم الذي يوافق ميلادي حتى أولد من جديد فنظر في التقويم التاريخي فإذا باليوم الذي يوافق ميلاده يوافق يوم الجمعة، فاقشعر جسد الإمام لهذا الاتفاق العجيب، وهذا فعل إلهيّ جليل، وفكر الإمام أن يهدي هذا الرجل حديث الإسلام مصحفاً وسجادة ليذكره بعهد أبيه، فأرسل أحد الإخوة إلى باريس ليشتري له من هناك سجادة تليق بالحدث، فذهب الأخ وعاد لكنه نسي أن يحضر السجادة فوقع عليه الخبر وقع الصاعقة؛ لأن هذا الناسي أبلغه بنسيانه صباح يوم الجمعة وأحاط به الهمّ من كل جانب، فإذا بالله تعالى يرسل له امرأة لم يرها من قبل ولا من بعد، وطرقت عليه باب المركز ففتح لها وهو غارق في همّه لتهديه ثلاث سجادات ينسي جمال كل واحدة منها الأخرى فسألها فقالت: إن هذه السجادات قد أعجبتها فاشترتها هدية للمسجد!! الله أكبر، الله أكبر.
ففرح الإمام بهذه الهدية التي جاءت في وقت حرج، وخطب الجمعة بمضمون كل ما حدث، وأهدى هذا الرجل المصحف والسجادة وسمى الرجل نفسه شمساً ليظهر النور الذي كان عليه أبوه، وصار يدرس الفرنسية في المعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية في باريس، وهو معهد إسلامي، وله نشاط في المحاضرات والكتابات، فسبحان الله ما أجمل الهداية وما أروعها.
وهناك قصة أخرى أخبرنيها الأستاذ البشير ألا وهي أنه كان في المركز الإسلامي فاتصلت به عائلة أحد الموتى فقالوا له: إن والدنا توفي وترك وصية، فلما فتحناها وجدنا أنه كان مسلماً لكن مستواه الاجتماعي كان لا يسمح له بإظهار إسلامه، وكان في الوصية أنه يريد أن يغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، وقالوا له: نحن منزعجون ولسنا راضين عن إسلامه لكن لا بد لنا أن نستجيب لوصيته !! فأرسلوا للعائلة من تسلم جثته ونفذوا وصيته، فسبحان الله العظيم.
بداية الدعوة :
وسكان مدينة كليرمونت قرابة ربع مليون نسمة، عدد المسلمين منهم قرابة ثلاثين ألفاً، وفي كليرمونت تمثيل واسع لكثير من جنسيات العالم الإسلامي ففيها سبعون عائلة شيشانية !! وفيها عائلات بوسنية، وفيها عائلات من السنغال والهند وسورية ولبنان والعراق والمغرب والجزائر وتونس وليبيا، وفيها جالية تركية كبيرة هي الثانية بعد الجالية المغربية، وهناك طلبة من الخليج والمملكة، والسفير السعودي في فرنسا الحالي قد حضر الدكتوراه في كلية الحقوق بجامعة الأوفيرن في كليرمونت.
وقد بدأ الوجود الإسلامي في المدينة بعمال من المغرب العربي الكبير، وقد أخبرني أحدهم وهو الأخ يوسف العلوي، وقد أولم لي في بيته وأحسن إليّ جزاه الله خيراً وهو مؤذن مسجد السلام بالمدينة والقائم بحاجاته، وهو ممن جاء إلى كليرمونت سنة 1390/1970، أخبرني أنهم قد بدأوا حملة للدعوة إلى الله تعالى على طريقة جماعة التبليغ سنة 1392هـ /1972م من الساحة نفسها التي تحركت منها جيوش الصليبيين إلى المشرق الإسلامي قبل تسعة قرون، فسبحان الله.
وفي المدينة رجل فرنسي أسلم وصار شيخاً للطريقة الشاذلية وجمع حوله عدداً من الفرنسيين المسلمين، وللتصوف عند القوم منزلة لأنه يسد حاجة روحية ماسة هي مفقودة تماماً عندهم، وأيضاً لأن أنشطة المسلمين اليومية ومعاناتهم واهتماماتهم ربما لا تشبع رغبة الفرنسيين المسلمين ولا تناسب اهتمامات كثير منهم.
وقد دعاني الأخ العربي شقرون وهو من المغرب مع مجموعة كبيرة إلى بيته لتناول طعام العشاء، ودار تقديم الطعام على الطريقة المغربية، المرهقة لنا نحن الشرقيين، وذلك بأنهم يقدمون الطعام تباعاً وليس جملة، فإذا أعجبني الطعام المقدم أولاً فلا أدري هل أمعن في الأكل منه أو أقلل من الطعام؛ أملاً بأن يكون القادم أفضل، وقد خاب ظني مراراً وصح أملي مراراً أخرى، فالحمد لله على كل حال، وفي بعض المرات سقطت في فخ أنه لم يكن هناك طعام آخر آت وذلك لأن الإخوة المغاربة يتفاوتون بين تقديم لونين أو ثلاثة ألوان، فلا تدري كم لوناً من الطعام سُيقدم لك، وقضية عدّ السُفر التي ذكرتها في أيام في تولوز التي بها يُعرف كم لوناً سيقدم قد لا يُلتزم بها فيسقط الطاعم في الفخ، وأذكر هذا من باب التفكه والمداعبة وإلا فجزاهم الله خيراً فقد أكرموني وأحاطوني بحبهم وعنايتهم.
وفي الختام لا بد أن أحمد للإخوة نشاطهم، وأخص بالذكر، د.حسن يونس خبير التغذية في جامعة مرسيليا وهو لبناني فرنسي، فقد شد الرحال إلى المعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية في شاتو شينو، وهي بعيدة عن مدينته ثلاث ساعات تقريباً ليقنعني بالذهاب إلى كليرمونت، وأخذني بسيارته وأنزلني في بيته وأوسع لي فيه، فلله ما أجمل الأخوة في الله، وما أعظم المشاعر التي أبداها لي، فلا أملك إلا أن أدعو له ولسائر الإخوة بحسن الجزاء.
لم يكن يدور في خلدي أبداً وأنا أذهب إلى كليرمونت في ربيع الثاني 1428هـ/مايو 2007 أني سأجد ما وجدته فيها، ولا أني سأقف على ما وقفت عليه، فقد كانت هذه الرحلة إلى هذه المدينة هي أهم وجهة اتجهت إليها في فرنسا، وذلك لما سأذكره للقراء بعد.
وهذه المدينة هي من مقاطعة الأوفيرن المشهور أهلها بالحرص الشديد لما كانت عليه حياتهم من ضيق في المعيشة وصعوبة في التضاريس، ففيها سلسلة جبال بركانية، والمدينة – كليرمونت - تقع في وسط تلال وجبال، وجل المياه المعدنية منها، وفي كليرمونت تنبع مياه فولفيك الشهيرة وهي منطقة المياه الساخنة التي يقصدها الناس من كل مكان للاستشفاء، وفي منطقة الأوفيرن، وبالقرب من كليرمونت تقع مدينة فيشي التي كانت مقراً للحكومة الفرنسية الموالية للألمان النازيين لما احتل الألمان فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وفيها اليوم أحد أشهر المعاهد لتدريس اللغة الفرنسية للطلبة الوافدين، وقد درس فيه طلاب عرب من السعودية وغيرها.
قرار عظيم :
وفيها أكبر مصنع للإطارات في العالم وهي إطارات ميشلان المشهورة، وهي مدينة جيسكار ديستان رئيس فرنسا السابق الذي حرر دستور أوروبا، صاحب القرار التاريخي بإلحاق عائلات العمال العرب بهم، وهذا سبب انتقال مئات الآلاف من المغرب العربي الكبير إلى فرنسا، وهو القرار الذي يجاهرون اليوم بالندم على إصداره لأنه أدى إلى زيادة هائلة في عدد المسلمين في فرنسا.
أهمية تاريخية :
وفي هذه المدينة كليرمونت أهمية تاريخية كبرى لنا نحن معشر المسلمين، حيث انطلقت منها جحافل الصليبيين تجاه بلاد الشام في أواخر القرن الخامس الهجري، هذا ، وقد أخذني الإخوة إلى ساحة فيها تمثال لباباهم أوربان الثاني الذي جاء المدينة سنة 1095 للميلاد قبل هلاكه بأربع سنوات، وحث النبلاء وقادة الجند على التوجه إلى بيت المقدس، وكانت الاستجابة ضعيفة، فما كان منه إلا أن أحلّ لهم الغنائم وهذا حرام في دينه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق تعداد خصائصه الشريفة التي خُصّ بها من دون الأنبياء والرسل الكرام عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام : "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي"، فلما أحل لهم الغنائم ووعدهم بأرض السمن والعسل، هبوا إلى الغزو، وحصل ما حصل من مآسٍ بعد ذلك؛ نتيجة همجية الجنود وتوحشهم، ولم يسلم منهم حتى أهل دينهم من الأرثوذكس في المشرق، فقد عمموا بالذبح كل أحد، وفعلوا من القبائح ما يضاعف لهم العذاب عند الواحد الأحد.
وقد رأيت التمثال لباباهم ويده متوجهة نحو المشرق، وأمامه كاتدرائية ضخمة، منها أجيز قرار حل الغنائم ومنها بورك الغزو الهمجي، وهي كنيسة متماسكة البناء موغلة في القدم، وهي قلب المدينة كعادتهم آنذاك.
وقد رأيت تمثال قائد الفرنسيين المسمين ب "الغال" قديماً، وهو الذي ساقهم إلى النصر على الغزاة الرومان، ورأيت في الساحة صورة باسكال عالم الفيزياء الذي وضع معيار الضغط الجوي، وقد حفظ القوم موقع بيته، والعجيب أنهم وضعوا صور باسكال وباباهم والقائد الغالي منحوتة في ألواح من معدن، وثبتوها على الأرض في مواقع عديدة من الساحة، فيأتي الناس ولا يبالون بدوسها بأقدامهم فانظر إلى صنيعهم وبعده عن التوفيق.
هذا وقد تحدثت إلى المصلين في مسجد السلام، وكان الحديث في الموضوع الأثير لدي القريب إلى قلبي (أثر المرء في دنياه)، وقد حثثتهم على العمل ووضع الأهداف الجليلة، وكان فيما حدثتهم عنه، ضرورة بناء مدارس للبنات تحفظ عليهن دينهن، وكان فيما اقترحته عليهم أن يؤسسوا لحملة كبيرة عنوانها حملة شرب الماء ومعنى ذلك أن يمتنعوا عن شرب العصير مدة ستة أشهر لتوفير المال اللازم لبناء مدارس للبنات، وقد ضربت لهم العصير مثلاً لتعلقهم به ودفعهم أموالاً طائلة من أجله، فقد بينت لهم كيف يستطيعون أن يوفروا الملايين من امتناعهم عن شرب العصير واستبدال الماء به. فكيف لو امتنعوا عن سائر الكماليات من أجل بناء مدارس لبناتهم الممنوعات من الحجاب في مدارس الدولة.
ولا أملّ أبداً في فرنسا من ذكر هذا الأمر والتشجيع عليه والتحريض على بدئه. فالقوم شبه غافلين عن خطورة أثر هذه المدارس العامة الحكومية على بناتهم، وأحرص فيما أحرص عليه، على إيقاظ الغيرة والنخوة والشهامة فيهم بوسائل متعددة وهم لا يغضبون؛ لعلمهم أني إنما أريد الحفاظ على بناتهم، وجرت مناقشات أعدها إيجابية إلى الغاية التي أردت، وأظنها قد أذكت في القوم الرغبة في بدء أمر كهذا، وهم سليمو الفطرة؛ لكن غطت عليها سحائب التصور الأوروبي للحياة.
دوائر ثلاث :
هذا وقد أنعم الله علي بأن لقنت إحدى الفرنسيات الشهادة عن طريق مكبر الصوت، حيث كانت في القسم النسائي. فلله الحمد والمنة، ونصحتها بفهم الإسلام والدعوة إليه، وذكرتها بفضل الله عليها حيث اختارها من ملايين النساء من بني جنسها وهداها للإسلام.
وهذا المسجد مسجد السلام هو من المساجد التابعة لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، وكنت قد تحدثت إلى المصلين في مسجد الوحدة بعد صلاة العصر قبل حديثي في مسجد السلام، وهو مسجد للمغاربة، وبينت لهم أن المسلم يعيش في دوائر ثلاث دائرة نفسه والمسؤولية التامة عنها، ودائرة الأهل والأولاد، ودائرة المجتمع، وبينت لهم ما ينبغي أن يصنعوه في كل دائرة من هذه الدوائر، فلما أخذت في بيان مسؤوليتهم وما ينبغي صنعه في الدائرة الثالثة ضاق الوقت، فدعوتهم لإكمال الحديث في مسجد السلام الذي كانت المحاضرة فيه في السابعة والنصف، وكانت عن أثر المرء في دنياه كما قدمت آنفاً، وكان غرضي أن يجتمع المصلون في مسجد واحد لما في ذلك من اجتماع القلوب، وأن أحثهم على التحرك والانتقال من أجل الفائدة، وقد تحدثت معهم أيضاً عن مدارس البنات وأهمية إنشائها.
مسجد أصله كنيسة :
وقد ذهبت في اليوم التالي إلى مسجد للجزائريين كان كنيسة قديمة حُولت إلى مسجد، وقد أحسن الشيخ محجوب، إمام المسجد استقبالي للغاية، وأثنى عليّ ثناءً لم أرغب فيه ولم أرده والله، لكن طبيعتي منعتني من إيقافه أو التخفيف من غلواء ثنائه، ولا أدري والله ماذا أصنع في مثل هذه المواقف الحرجة والعواطف المتأججة، وأخشى من الله إن سكتّ، وأخشى من تأثر المقدم سلباً إن اعترضت لكن أقول: "اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون".
وقد أخبرني الإمام أنهم يبنون مسجداً آخر في المكان نفسه الذي انطلق منه الصليبيون، وأوقفني على هذا المسجد المهندس المعماري الذي خطط له ووضع رسمه وهو مسلم ذو عاطفة قوية، فإذا به في مراحل البناء الأخيرة، وهو آية في موقعه وجمال بنائه وتنوع أنشطته.
وقد جاء رجل مصري ثري ليتعالج في مياه المدينة الساخنة فلما رأى ضيق المسجد الذي كان كنيسة ورأى أنهم قد اشتروا أرضاً ليبنوها تبرع لهم بجملة وافرة من ثمن البناء، وأرسل لهم من مصر المنبر والأسماء الحسنى الإلهية منحوتة على الجبس ليفرقوها في جنبات المسجد الجديد، وأرسل لهم أشياء أخرى، فسبحان الله كيف سيق ذلك.
بين الأتراك :
وفي اليوم نفسه زرت مسجد الأتراك ضحى مع عدد من الإخوة، وقابلنا المسؤول عنه، وجال بنا في جنبات المسجد، وهو مسجد جليل أشبه بمساجد تركيا بل هو صورة أخرى منها، وأتمنى أن يكون هناك مشاركة أكبر من قبل الجالية التركية مع إخوانهم العرب، فإني قد رأيتهم قليلي المشاركة، ورأيتهم في ألمانيا وهم قليلو المشاركة أيضاً وهم عدة ملايين، وربما كان لحاجز اللغة أثر في هذا، على أن الإسلام دين عالمي لا ينبغي أن تكون فيه مثل هذه الحواجز.
في مسجد السلام :
وفي مسجد السلام خطبت الجمعة، وكانت عن الاعتزاز بالإسلام ومظاهر هذه العزة وتبعاتها ومقتضياتها، وتُرجمت إلى الفرنسية بين الخطبتين، حيث إني أقصر الخطبة الثانية على الدعاء فقط في مثل هذه الأحوال.
وفي مسجد السلام أيضاً عقدت حلقة للفرنسيين المسلمين رجالاً ونساء، وحضرت معهم الأخت الفرنسية المسلمة التي ذكرتها آنفاً، وقد حضرت بحجابها ولله الحمد والمنة، وأجبت عن أسئلتهم المتنوعة، ومما لفت نظري شكاية عدد منهم من أن بعض الإخوة المغاربة يريدونهم أن ينقلبوا عرباً بتعبيرهم، وأن يتبعوا التقاليد العربية، وأن يتحدثوا بالعربية، وأن يغيروا أسماءهم فبينت لهم أن الحكمة ينبغي أن تكون ضالتهم فليتخيروا من التقاليد العربية ما يرونه مناسباً لهم، وليس بهم ضرورة أن يغيروا أسماءهم، وليس من مقاصد الإسلام أن يُقسَر القوم على عربية في اللغة أو الهيئة أو الأسماء، لكن فليتعلموا من العربية ما تصح به عباداتهم وما تنضبط به تصوراتهم وفهومهم عن الإسلام والمسلمين.
هذا وقد أكدت بقوة في جميع المحاضرات.. الأهمية القصوى للعناية بالعربية حتى لا تضيع من أولاد العرب، وأن العربية سياج للدين، فهي الطريق إلى فهمه، والوسيلة إلى إدراك مقاصده، وهي التي يقرأ بها القرآن فيتلذذ بمعانيه وبوقع ألفاظه على الآذان، وقد رأيت ما آلمني من ضياع لهذه العربية ورطانة بالأعجمية من أولاد العرب الأقحاح، وهذه ظاهرة متفشية هناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فأنا أعد هذا من جملة المصائب.
حادثة عجيبة :
وقد قابلت الأستاذ "البشير بوخزر" في كليرمونت، وهو رئيس الجمعيّة المسيّرة لمسجد السلام والمسؤول الإعلامي في اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، وقد أخبرني بأمر عجيب، ألا وهو أن رجل أعمال فرنسي كبيراً أخبره أن والده كان من كبار المستشارين العسكريين للرئيس الفرنسي السابق المشهور شارل ديجول، ولما مات هذا المستشار خرجوا به في جنازة رسمية وطنية، وكان هذا المستشار قد ترك وصية ومن بينها ترك لابنه هذا من ميراثه صندوقاً مغلقاً، وكان أبوه يحبه ويؤثره، فلما فتح ابنه الصندوق وجد فيه مصحفاً وسجادة، فاندهش ابنه اندهاشاً عظيماً لأنه كان يرى في والده قدوة ووطنية فكيف يكون مسلماً، وظل الابن مصدوماً لمدة أكثر من سنتين، يبحث فيها عن الأسباب التي أدت بوالده إلى أن يكون مسلماً، وبعد سنتين من الحيرة ذهب إلى المركز الإسلامي في "كان" وهي مدينته ومدينة أبيه وهي مدينة المهرجان السينمائي ومدينة السياحة المشهورة واسم المركز "المدينة المنورة"، وناقش مدير المركز بما حدث، فقال له مدير المركز : إن هذا أمر سهل، فإن أباك كان مسلماً، لكن موقعه في الدولة لم يكن يسمح له بإظهار إسلامه، لكنه لما ترك لك ما ترك كان يريد أن يرسل رسالة لك مضمونها أن تقوم بما عجز هو عن إظهاره، وأن تكون أنت الصورة الظاهرة لحاله الباطنة!!
فطلب منه الإمام أن يفهم الإسلام وأن يتم رسالة أبيه، فظل ملازماً للإمام بضعة أشهر ثم طلب منه أن يعلن إسلامه، فطلب منه الإمام أن يعلن إسلامه يوم الجمعة، لأن الناس يجتمعون فيه وذلك يوم مشهود، فقال: لا، إنما أعلنه في اليوم الذي يوافق ميلادي حتى أولد من جديد فنظر في التقويم التاريخي فإذا باليوم الذي يوافق ميلاده يوافق يوم الجمعة، فاقشعر جسد الإمام لهذا الاتفاق العجيب، وهذا فعل إلهيّ جليل، وفكر الإمام أن يهدي هذا الرجل حديث الإسلام مصحفاً وسجادة ليذكره بعهد أبيه، فأرسل أحد الإخوة إلى باريس ليشتري له من هناك سجادة تليق بالحدث، فذهب الأخ وعاد لكنه نسي أن يحضر السجادة فوقع عليه الخبر وقع الصاعقة؛ لأن هذا الناسي أبلغه بنسيانه صباح يوم الجمعة وأحاط به الهمّ من كل جانب، فإذا بالله تعالى يرسل له امرأة لم يرها من قبل ولا من بعد، وطرقت عليه باب المركز ففتح لها وهو غارق في همّه لتهديه ثلاث سجادات ينسي جمال كل واحدة منها الأخرى فسألها فقالت: إن هذه السجادات قد أعجبتها فاشترتها هدية للمسجد!! الله أكبر، الله أكبر.
ففرح الإمام بهذه الهدية التي جاءت في وقت حرج، وخطب الجمعة بمضمون كل ما حدث، وأهدى هذا الرجل المصحف والسجادة وسمى الرجل نفسه شمساً ليظهر النور الذي كان عليه أبوه، وصار يدرس الفرنسية في المعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية في باريس، وهو معهد إسلامي، وله نشاط في المحاضرات والكتابات، فسبحان الله ما أجمل الهداية وما أروعها.
وهناك قصة أخرى أخبرنيها الأستاذ البشير ألا وهي أنه كان في المركز الإسلامي فاتصلت به عائلة أحد الموتى فقالوا له: إن والدنا توفي وترك وصية، فلما فتحناها وجدنا أنه كان مسلماً لكن مستواه الاجتماعي كان لا يسمح له بإظهار إسلامه، وكان في الوصية أنه يريد أن يغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، وقالوا له: نحن منزعجون ولسنا راضين عن إسلامه لكن لا بد لنا أن نستجيب لوصيته !! فأرسلوا للعائلة من تسلم جثته ونفذوا وصيته، فسبحان الله العظيم.
بداية الدعوة :
وسكان مدينة كليرمونت قرابة ربع مليون نسمة، عدد المسلمين منهم قرابة ثلاثين ألفاً، وفي كليرمونت تمثيل واسع لكثير من جنسيات العالم الإسلامي ففيها سبعون عائلة شيشانية !! وفيها عائلات بوسنية، وفيها عائلات من السنغال والهند وسورية ولبنان والعراق والمغرب والجزائر وتونس وليبيا، وفيها جالية تركية كبيرة هي الثانية بعد الجالية المغربية، وهناك طلبة من الخليج والمملكة، والسفير السعودي في فرنسا الحالي قد حضر الدكتوراه في كلية الحقوق بجامعة الأوفيرن في كليرمونت.
وقد بدأ الوجود الإسلامي في المدينة بعمال من المغرب العربي الكبير، وقد أخبرني أحدهم وهو الأخ يوسف العلوي، وقد أولم لي في بيته وأحسن إليّ جزاه الله خيراً وهو مؤذن مسجد السلام بالمدينة والقائم بحاجاته، وهو ممن جاء إلى كليرمونت سنة 1390/1970، أخبرني أنهم قد بدأوا حملة للدعوة إلى الله تعالى على طريقة جماعة التبليغ سنة 1392هـ /1972م من الساحة نفسها التي تحركت منها جيوش الصليبيين إلى المشرق الإسلامي قبل تسعة قرون، فسبحان الله.
وفي المدينة رجل فرنسي أسلم وصار شيخاً للطريقة الشاذلية وجمع حوله عدداً من الفرنسيين المسلمين، وللتصوف عند القوم منزلة لأنه يسد حاجة روحية ماسة هي مفقودة تماماً عندهم، وأيضاً لأن أنشطة المسلمين اليومية ومعاناتهم واهتماماتهم ربما لا تشبع رغبة الفرنسيين المسلمين ولا تناسب اهتمامات كثير منهم.
وقد دعاني الأخ العربي شقرون وهو من المغرب مع مجموعة كبيرة إلى بيته لتناول طعام العشاء، ودار تقديم الطعام على الطريقة المغربية، المرهقة لنا نحن الشرقيين، وذلك بأنهم يقدمون الطعام تباعاً وليس جملة، فإذا أعجبني الطعام المقدم أولاً فلا أدري هل أمعن في الأكل منه أو أقلل من الطعام؛ أملاً بأن يكون القادم أفضل، وقد خاب ظني مراراً وصح أملي مراراً أخرى، فالحمد لله على كل حال، وفي بعض المرات سقطت في فخ أنه لم يكن هناك طعام آخر آت وذلك لأن الإخوة المغاربة يتفاوتون بين تقديم لونين أو ثلاثة ألوان، فلا تدري كم لوناً من الطعام سُيقدم لك، وقضية عدّ السُفر التي ذكرتها في أيام في تولوز التي بها يُعرف كم لوناً سيقدم قد لا يُلتزم بها فيسقط الطاعم في الفخ، وأذكر هذا من باب التفكه والمداعبة وإلا فجزاهم الله خيراً فقد أكرموني وأحاطوني بحبهم وعنايتهم.
وفي الختام لا بد أن أحمد للإخوة نشاطهم، وأخص بالذكر، د.حسن يونس خبير التغذية في جامعة مرسيليا وهو لبناني فرنسي، فقد شد الرحال إلى المعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية في شاتو شينو، وهي بعيدة عن مدينته ثلاث ساعات تقريباً ليقنعني بالذهاب إلى كليرمونت، وأخذني بسيارته وأنزلني في بيته وأوسع لي فيه، فلله ما أجمل الأخوة في الله، وما أعظم المشاعر التي أبداها لي، فلا أملك إلا أن أدعو له ولسائر الإخوة بحسن الجزاء.