روسيا : مصالح ثابتة ومعطيات جديدة
مرسل: الثلاثاء نوفمبر 26, 2013 11:32 pm
شهدت العلاقات الروسية - العربية تفعيلا ملحوظا علي مدى السنوات العشر الماضية، بعد انحسار وتراجع واضحين خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين. فقد استطاعت موسكو إعادة إطلاق علاقاتها مع حلفائها التقليديين في المنطقة على أسس جديدة. إلا أن اللافت للانتباه هو التطور غير المسبوق في علاقات روسيا بدول الخليج العربي، خاصة المملكة العربية السعودية، بعد عقود طويلة من توقف العلاقات بينهما منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
ولقد كان وصول الرئيس الروسي السابق (رئيس الحكومة حاليا) فلاديمير بوتين وزياراته المتكررة للمنطقة العربية نقطة تحول في العلاقات الروسية - العربية، وإيذانا ببدء حقبة جديدة في السياسة الروسية تجاه المنطقة، تستعيد فيها روسيا مكانتها كفاعل أساسي في شئون المنطقة وقضاياها التي تتزايد حدة وتعقيدا.
ويكشف تتبع السياسة الروسية في المنطقة على مدي العقد الماضي عن تغير ملحوظ ليس فقط مقارنة بما كانت عليه خلال فترة الاتحاد السوفيتي السابق، وإنما مقارنة أيضا بحقبة التسعينيات في ظل قيادة الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين. فقد عادت روسيا لتلعب دورا فاعلا، وتتخذ مواقف واضحة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، ساعدها في ذلك وجود قيادة واعية ذات رؤية للأولويات الوطنية، ولديها القدرة على تنفيذها وإدارة تبعاتها بكفاءة وانتعاشة اقتصادية مكنتها من تحقيق درجات متزايدة من الاستقلالية في سياستها الخارجية.
ولكن ما إن استطاعت روسيا ترتيب أوضاعها في المنطقة بجهد كبير وزيارات متتالية ومكثفة قامت بها القيادة الروسية على مدى السنوات الست الماضية، حتى هبت رياح التغيير لتعصف بكل الأوراق وتطرح ضرورة إعادة ترتيبها من جديد.فثورات الربيع العربي التي بدأت بتونس في ديسمبر 2010 ، ولا تزال تتطور في العديد من الدول العربية، توفر فرصا وتفرض تحديات علي روسيا. فالثورات نجحت في فك الارتباط التقليدي بين النخب الحاكمة والولايات المتحدة في بعض البلدان، إلا أنها قد تنجح أيضا في إنهاء العداء التقليدي بين البعض الآخر والولايات المتحدة، وفي مقدمتها ليبيا وسوريا.
ولاشك في أن هذه التطورات سوف تؤدي إلى بروز متغيرات إقليمية جديدة تماما. وبنهاية مرحلة التحول، سوف يعاد تعريف الحلفاء وكذلك الخصوم أو المنافسين، الأمر الذي سيؤثر حتما في السياسة الروسية وتحالفاتها. فالمنطقة بأكملها يعاد رسم خريطة القوي والتحالفات بها، وذلك بالنظر إلى التغير السريع والجذري الذي تمر به، والذي سيغير دون شك من حسابات روسيا ومعطيات اتخاذ قرارها الخارجي. ويعد هذا التغير في حد ذاته تحديا مهما يواجه السياسة الروسية.
إن روسيا حريصة على استمرار روابطها مع العالم العربي، وتنمية التعاون المثمر بينهما في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية. لذلك، تميل إلى ترجمة أهدافها ومصالحها في شكل علاقات تعاونية تخدم مصالحها ومصالح الأطراف العربية. وبقدر قراءتها السليمة والمبكرة للتغيرات في المنطقة، سيكون نجاح السياسة الروسية في تجاوز التحديات التي تفرضها، واستغلال الفرص المتاحة ورصيدها التعاوني لإعادة صياغة وترتيب علاقاتها مع الدول العربية والحفاظ علي وجودها ومصالحها. وسيكون موقفها من سوريا محكا أساسيا لتعزيز الثقة في روسيا كحليف وشريك قادر على الدفاع عن مصالحه وشركائه.
ويستند عزم روسيا دفع علاقاتها قدما بالعالم العربي إلى رؤيتها له باعتباره جارا مهما ترتبط معه بعلاقات صداقة تقليدية واحترام متبادل، ووجود خلفية تاريخية راسخة من التواصل الحضاري والتعاون الاستراتيجي علي مدي عقود طويلة. وفي هذا السياق، يمكن رصد مجموعة من المعطيات التي تلعب دورا محوريا في تحديد وتوجيه حسابات موسكو وتقديراتها، منها:
أولا- أبعاد الموقف الروسي من الثورات العربية:
خلافا للعهد السوفيتي الذي كانت فيه موسكو الداعم لكل الثورات وحركات التحرر الوطني في العالم، لم تعلن روسيا تأييدا صريحا للثورة والثوار في أي بلد عربي. فقد التزمت الصمت إزاء الأحداث لحين نضجها وإزاحة من بالسلطة، كما حدث في تونس ومصر. ووقفت موقف الحياد أو المتابع، واتسم موقفها بالتأني الذي وصل حد البطء في رد الفعل في حالة اليمن والبحرين. في حين أبدت مواقف مؤيدة بوضوح للسلطة الحاكمة في ليبيا وسوريا، مع اختلاف نمط ودرجة التأييد، ولكن مع الحرص في الوقت ذاته علي إبقاء قنوات اتصال مفتوحة مع الثوار، في محاولة لتحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن والتأكيد الدائم على نزاهة مواقفها وحرصها على الاستقرار الداخلي والإقليمي للدول العربية، حتى يتسني لها الإبقاء علي علاقاتها بالدول محل الثورات، بغض النظر عن الطرف الذي سيسطر علي السلطة، وتكون له الغلبة في النهاية.
ففي بدايات الأزمة الليبية، رأت روسيا أنها "حرب أهلية"، ورفضت الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي الذي تشكل في 27 فبراير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الليبي، رغم توالي الاعتراف الدولي والعربي به. كما رفضت الانضمام إلي مجموعة الاتصال الدولية بشأن ليبيا، رغم كونها تضم نحو40 دولة، بالإضافة لممثلين عن منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي. إلا أنه من ناحية أخري، أعلن الرئيس الروسي، ديمتري ميدفيديف، أن نظام القذافي فقد شرعيته، ويجب عليه الرحيل، ورفضت موسكو استضافة القذافي في روسيا، حال تنحيه. كما وافقت على قرار مجلس الأمن رقم 1970، ولم تستخدم الفيتو ضد القرار رقم 1973 كموقف وسط يتضمن دعما غير مباشر للثوار، وعزوفا عن التأييد المطلق للقذافي في مواجهة الثوار وحلف الأطلنطي.
كما اعترفت بالمجلس الانتقالي الوطني "طرفا مفاوضا" وشريكا شرعيا في المحادثات حول مستقبل ليبيا، وقامت بجهود للوساطة بين السلطات الليبية والثوار، والتي بدأت باستقبال موسكو ممثلي الحكومة الليبية وممثلي المعارضة. أعقب ذلك عدة لقاءات عقدها ميخائيل مارجيلوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشئون التعاون مع البلدان الإفريقية ومبعوثه الخاص للتسوية بليبيا، مع ممثلي المجلس الانتقالي، ورئيس الوزراء الليبي، ووزير الخارجية خلال شهر يونيو 2001 .
وعلى الرغم من إسراع العديد من الدول العربية والأجنبية إلى الاعتراف بالمجلس الانتقالي كسلطة شرعية في البلاد، عقب وصول الثوار إلى طرابلس، كان هناك تأن واضح من جانب موسكو في الإقدام علي هذه الخطوة، وأعلنت الخارجية الروسية: أن "الوضع في ليبيا لا يزال غامضا". وأعلن الرئيس الروسي أنه "بالرغم من نجاحات الثوار وهجومهم علي طرابلس، فإن القذافي وأنصاره لا يزالون يحتفظون بنوع من النفوذ وبعض القدرات العسكرية، وأنه لا يزال هناك سلطتان في ليبيا، وروسيا تعول علي التوصل الي اتفاقات حول وقف إطلاق النار بين الجانبين المتنازعين". ثم عادت واعترفت بالمجلس الانتقالي ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الليبي وسلطة حاكمة في ليبيا، وذلك في الأول من سبتمبر 2001 .
وإذا كان التوازن هو السمة الغالبة علي موقف موسكو من الثورة الليبية، فإن الدعم الروسي للسلطة الحاكمة أوضح ما يكون في الحالة السورية، حيث أبدت روسيا دعما سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا واضحا لنظام الأسد، رغم تكرار دعوتها للقيادة السورية لوقف العنف ومواصلة إجراء إصلاحات سياسية واجتماعية عميقة، بل وتحذير الرئيس ميدفيديف من أن موسكو قد تغير موقفها تجاه دمشق، في حال فشل الرئيس الأسد في إقامة حوار مع المعارضة، وأنه "ينتظر الأسد مصير محزن إذا لم يبدأ حوارا مع المعارضة ويباشر الإصلاحات".
فقد رأت روسيا ضرورة منح القيادة السورية الوقت لتطبيق الإصلاحات التي تم الإعلان عنها، ورفضت الدعوة التي أطلقها كل من الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، وكاثرين أشتون، المفوضة العليا لشئون السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، إلى الرئيس الأسد للتنحي. وعلى حين أوقفت روسيا التعاون العسكري التقني مع ليبيا بعد فرض العقوبات، رغم خسائرها من جراء ذلك والتي بلغت نحو 4 مليارات دولار، تواصل مؤسسة "روس اوبورون إكسبورت" الروسية توريد السلاح إلى سوريا بموجب العقود المبرمة سابقا.
كذلك، فشلت المساعي الغربية المتكررة لإصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدين سوريا لاستخدام العنف في قمع المتظاهرين بسبب معارضة روسيا والصين. وأكدت موسكو أنها لا تفضل حل الأزمة السورية عن طريق فرض عقوبات علي دمشق، وتعطي الأولوية للوسائل الدبلوماسية والسياسية. وأعلن الرئيس الروسي في عدة مناسبات أن روسيا لن تؤيد قرارا يصدره مجلس الامن الدولي بشأن سوريا على غرار القرار بشأن ليبيا. ورأي أن القرارين 1970 و1973 قد تم انتهاكهما بشكل واضح، وتم التلاعب بهما. وأكد أنه "لا توجد رغبة البتة بأن تسير الأحداث في سوريا وفق النموذج الليبي، وأن يستخدم قرار لمجلس الأمن لتبرير عملية عسكرية ضد سوريا".
كما كانت روسيا من بين الدول التسع التي صوتت ضد قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول سوريا، في اجتماعه يوم 29 أبريل، الذي جاء بمبادرة أمريكية، ويشجب الاستخدام المفرط للقوة من قبل السلطات بحق المتظاهرين. وحذرت من مغبة التدخل الخارجي في سوريا، ورأت أنه لن يؤدي إلا للمزيد من العنف وقد يشعل حربا أهلية. كما صوتت موسكو ضد قرار المجلس الصادر في 23 أغسطس، ورأت أنه يهدف إلي تنحية الحكومة الشرعية للبلاد. ورفضت استخدام الآليات الحقوقية من أجل التدخل في الشئون الداخلية، وتحقيق الأهداف السياسية التي تتعارض مع قواعد الشرعية الدولية، وتخالف ميثاق الأمم المتحدة الذي يقوم علي مبدأ احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها. وعارضت موسكو أيضا إحالة الملف النووي السوري إلى مجلس الأمن، في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في يونيو، ولكن تم التصويت لصالح القرار بالأغلبية، في محاولة من الدول الغربية للضغط على سوريا. كما حذرت موسكو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من تزويد المعارضة السورية بالأسلحة وتكرار السيناريو الليبي.
إلا أنه في الوقت ذاته، قامت روسيا بإجراء اتصالات مع المعارضة السورية. وعلى حين انتقدت دمشق لقاء الدبلوماسيين الأمريكيين مع ممثلي المعارضة السورية، رحبت باتصالات الجانب الروسي، انطلاقا من أن موسكو وسيط نزيه، وتحاول من خلال هذه اللقاءات إقناع المعارضة ببدء الحوار مع السلطة.
ثانيا- المصالح الروسية في المنطقة:
على مدى السنوات العشر الماضية، استطاعت روسيا إعادة بناء علاقاتها مع عدد كبير من الدول العربية، تتضمن حلفاءها التقليديين، وفي مقدمتهم سوريا وليبيا والجزائر، والشركاء الجدد، مثل دول الخليج والأردن. وأصبح لروسيا مصالح حقيقية تسعي للحفاظ عليها وتنميتها، حتي مع تغيير النظم الحاكمة في بعض الدول العربية في عقب الثورات. فروسيا لا تسعي إلى تحقيق مكاسب سياسية أو ممارسة دور أمني أو عسكري ينافس الوجود الأمريكي المكثف في المنطقة العربية، وإنما تسعى إلى شراكة استراتيجية بالمعنى الاقتصادي والتقني، ذات عائد اقتصادي مباشر لروسيا، وعائد تنموي حقيقي لدول المنطقة.
في هذا الإطار، ترتبط المصالح الروسية بثلاثة قطاعات رئيسية، هي: الطاقة (النفط والغاز)، والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية، والتعاون العسكري.
ويحتل التعاون والتنسيق في مجال الطاقة قمة أولويات السياسة الروسية في المنطقة العربية، وحوله تتمحور الدبلوماسية الروسية والتقارب الروسي مع الدول العربية، لاسيما دول الخليج العربي، ويلي ذلك أوجه التعاون الأخري، سواء في المجال التقني أو الاقتصادي أو الاستراتيجي العسكري. فقطاع الطاقة يمثل أحد المجالات الأساسية التي تتلاقي فيها المصالح العربية والروسية، وهو جوهر الشراكة العربية- الروسية في المستقبل والدعامة الأساسية لها.
إن روسيا تنظر إلى دول الخليج، لا سيما السعودية، كحليف لها في سوق الطاقة العالمية، وليس منافسة أحدهما للآخر، ويتم التنسيق والتعاون بين روسيا والدول العربية في مجال الطاقة في إطار محورين أساسيين، أولهما: الحفاظ على استقرار السوق النفطية وضمان حد أدني لأسعار النفط، وذلك من خلال التحكم في حجم الإنتاج، خاصة أن روسيا تشارك في اجتماعات أوبك كمراقب. ثانيهما: الاستثمارات الروسية في قطاع النفط العربي والإقبال الشديد من جانب شركات النفط الروسية على الاستثمار في قطاع النفط في الدول العربية، من خلال المشاركة في عمليات البحث والتنقيب وتطوير الإنتاج.
فروسيا تمتلك التكنولوجيا والخبرة اللازمة في مجال الكشف والتنقيب عن البترول واستخراجه، وكذلك في مجال الصناعات البتروكيماوية، حيث تعد روسيا من أكبر منتجي البتروكيماويات في العالم من خلال 15 شركة كبري بفروعها المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. وتعد الشركات الروسية، خاصة "لوك أويل" و"غاز بروم"، من كبرى الشركات العالمية العاملة في مجال الطاقة. وهناك العديد من المشروعات التي بدأت بالفعل بين روسيا وعدد من الدول العربية، والتي تعد نواة لتطوير التعاون في هذا المجال، وفي مقدمتها السعودية، ومصر، والجزائر، والسودان، وسوريا، وليبيا.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تمثل المنطقة العربية سوقا مهمة ذات قوة استيعابية كبيرة للصادرات الروسية من السلع الاستراتيجية والمعمرة، مثل الالآت والمعدات والأجهزة والشاحنات والحبوب. وفي عام 2006، بلغ التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية 5.5 مليار دولار. وتأتي مصر والجزائر والمغرب في مقدمة الشركاء التجاريين لروسيا في المنطقة، وعادة ما يميل الميزان التجاري لصالح روسيا بفارق كبير جدا.
كذلك، تسعي روسيا إلي تنشيط صادراتها من الأسلحة للمنطقة، ليس انطلاقا من اعتبارات سياسية أو أيديولوجية، ولكن نظرا لما تمثله عوائدها من مورد مهم للدخل القومي، وذلك ليس فقط لحلفائها التقليديين في المنطقة، لاسيما سوريا والجزائر وليبيا واليمن، ولكن من خلال فتح أسواق جديدة في الأردن ودول الخليج العربي، والتي تعد سوقا تقليدية للولايات المتحدة والدول الغربية. وتتعاظم المصالح الاستراتيجية الروسية في الحالة السورية، بالنظر إلي الأهمية الاستراتيجية لقاعدة طرطوس البحرية السورية التي تستخدمها القوات البحرية الروسية، والتي تعد قاعدة التموين الوحيدة للأسطول الروسي في منطقة البحر المتوسط.
يضاف إلى ذلك عشرات المشروعات المشتركة التي تم الاتفاق والتعاقد بشأنها، وتقدر قيمة عقودها بمليارات الدولارات، وستتأثر حتما إما بالإلغاء أو التأجيل، نتيجة موجة عدم الاستقرار التي تجتاح الدول العربية. وعلي ضوء التداعيات السلبية المتوقعة لهذه الثورات على المصالح الروسية، أكدت موسكو أنها تريد استقرار الأوضاع في بلدان الشرق الأوسط، لأن أية قلاقل في المنطقة تضر إضرارا مباشرا بمصالح روسيا.
وأشار وزير الخارجية الروسية لافروف إلى أن سوريا من أهم الدول في الشرق الأوسط، وأن زعزعة الاستقرار هناك ستكون له عواقب وخيمة في مناطق بعيدة جدا عن سوريا نفسها. فروسيا تري أن سوريا بمثابة "حجر زاوية" في أمن منطقة الشرق الأوسط، وعدم استقرار الوضع فيها أو نشوب حرب أهلية سيؤدي بدوره حتما إلى زعزعة الوضع في بلدان مجاورة، خاصة في لبنان، ويؤدي إلى صعوبات في المنطقة كلها، وتهديد حقيقي للأمن الإقليمي.
ثالثا- أهمية الشراكة مع روسيا بالنسبة للدول العربية:
هناك آفاق رحبة للتعاون الروسي- العربي في مجالات الطاقة النووية وتكنولوجيا الفضاء وتطوير البنية الصناعية العربية، وهو التعاون الذي بدأ بالفعل علي نطاق محدود لا يتفق مع احتياجات الدول العربية، ولا مع ما يمكن أن تقدمه روسيا من دعم تقني في هذا المجال. ومثال ذلك الاتفاق بين روسيا وليبيا في عام 1997 علي تطوير مركز الأبحاث النووية في تاجورا غرب طرابلس، وتوقيع اتفاقية خاصة بالاستخدام السلمي للطاقة النووية في مارس 2008 بين مصر وروسيا، وبين روسيا والأردن في مايو 2009 لإنشاء المفاعلين النوويين الصناعي والتجريبي في الأردن.
يضاف إلى هذا التعاون القائم بين روسيا وعدد من الدول العربية في مجال تكنولوجيا الفضاء، أهمها الجزائر والسعودية والمغرب، ويتضمن ذلك إطلاق أقمار صناعية للاتصالات والملاحة والاستشعار عن بعد بواسطة صواريخ روسية. وقد تم في هذا الإطار إطلاق القمر الصناعي الجزائري "ألسات-1" في نوفمبر 2002 ، وكذلك إطلاق سبعة أقمار صناعية سعودية بواسطة الصواريخ الروسية إلى مدار حول الأرض، وهناك اتفاق بين البلدين على مواصلة التعاون في هذا المجال.
كما اتفقت وكالة الفضاء الفيدرالية الروسية ومؤسسة الإمارات للعلوم والتقنية المتقدمة عام 2007 علي بدء العمل المشترك في مجال استثمار الفضاء لأغراض سلمية، وإطلاق جهاز فضائي إماراتي للاستشعار عن بعد من مطار بايكونور عام 2008.ولروسيا أيضا دور متزايد وملحوظ في تنمية البنية الصناعية في العديد من الدول العربية، وتحديث البنية الصناعية التي شيدت في فترة الاتحاد السوفيتي، وأهمها تحديث مجمع الحجار للحديد والصلب في الجزائر، وتحديث مولدات كهرباء السد العالي، وترسانة الإسكندرية، والفرن العالي، لشركة حلوان للحديد والصلب وغيرها من المشروعات في مصر. هذا إلى جانب إنشاء صناعات جديدة مشتركة بين روسيا وعدد من الدول العربية، من أهمها إنشاء مجمع سيدي البراق الكهرومائي الضخم في تونس بمساعدة روسيا عام 1999، وعدد آخر من المنشآت المائية. أيضا هناك مشروع خط سكة حديد بين مدينتي سرت وبنغازي الليبيتين بطول 500 كيلو متر وتكلفة تقديرية 2.2 مليار دولار، والعديد من مشروعات الاستثمار المصري- الروسي المشترك في صناعات الدواء والسيارات والطائرات وغيرها.
رابعا- الاحتياج العربي للدعم السياسي الروسي:
يتسم موقف روسيا من القضايا العربية بالاعتدال والتوازن وتأييد الحق العربي، وعليه تعقد آمال الدول العربية في مزيد من العدالة والإنصاف في مواقف المجتمع الدولي تجاه القضايا العربية المختلفة، لاسيما القضية الفلسطينية. فروسيا عضو الرباعية الدولية المعنية بالتسوية السلمية في الشرق الأوسط، وعضو دائم في مجلس الأمن، وهي وسيط نزيه، من وجهة النظر العربية، يسعي للتسوية السلمية، مراعيا مصالح كافة الأطراف.وهي الطرف الدولي الوحيد الذي يحتفظ بقنوات مفتوحة مع كافة أطراف القضية، بما في ذلك حركة حماس التي تعدها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية.
كما أنها أكثر ميلا واستعدادا للتعاون مع "العالم العربي" ككيان إقليمي، وهي بذلك تختلف في موقفها عن دول كبري أخري، ترفض من حيث المبدأ مفهوم الوطن العربي، وتسعي إلي إذابته في كيان أكبر "شرق أوسطي" أو "متوسطي" غير متجانس أو محدد الهوية. ويتضح ذلك ليس فقط في تصريحات القادة الروس، وإنما في إجراءات وسياسات فعلية، أبرزها زيارة بوتين لمقر جامعة الدول العربية، أثناء زيارته للمنطقة في أبريل 2005، والتي كانت لها دلالة خاصة حول أهمية العالم العربي لروسيا، ثم زيارة الرئيس الروسي الحالي ديمتري ميديفيديف للجامعة وخطابه بها في يونيو 2009، وتأكيد موقف روسيا الداعم لوحدة الصف العربي وللعمل العربي المشترك، خلافا لقوى كبرى أخرى تجد مصالحها في ضرب الوحدة العربية.
إن القراءة المتأنية لخبرة التعاون مع روسيا في الماضي وما يمكن أن تقدمه للدول العربية في الحاضر والمستقبل تؤكد أنها تمثل دون شك شريكا أساسيا في تحقيق النهضة العربية المأمولة، فلديها الخبرة والتكنولوجيا والرغبة الصادقة في تقديم مساعدة حقيقية وفعالة. كما أن هناك استجابة وإقبالا واضحين من جانب الدول العربية للتعاون مع روسيا، وشهد العقد الماضي تطورا ملحوظا وإيجابيا في العلاقات العربية -الروسية.
ولا شك في أن تطور العلاقات الروسية -العربية خلال العقد القادم رهن بالإرادة الروسية، ومدي القدرة على دعم وتطوير الشراكة في المجالات الاقتصادية والتقنية، وكذلك العسكرية، والحفاظ علي التفاهمات السياسية والحضارية القائمة بين الجانبين.
ولقد كان وصول الرئيس الروسي السابق (رئيس الحكومة حاليا) فلاديمير بوتين وزياراته المتكررة للمنطقة العربية نقطة تحول في العلاقات الروسية - العربية، وإيذانا ببدء حقبة جديدة في السياسة الروسية تجاه المنطقة، تستعيد فيها روسيا مكانتها كفاعل أساسي في شئون المنطقة وقضاياها التي تتزايد حدة وتعقيدا.
ويكشف تتبع السياسة الروسية في المنطقة على مدي العقد الماضي عن تغير ملحوظ ليس فقط مقارنة بما كانت عليه خلال فترة الاتحاد السوفيتي السابق، وإنما مقارنة أيضا بحقبة التسعينيات في ظل قيادة الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين. فقد عادت روسيا لتلعب دورا فاعلا، وتتخذ مواقف واضحة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، ساعدها في ذلك وجود قيادة واعية ذات رؤية للأولويات الوطنية، ولديها القدرة على تنفيذها وإدارة تبعاتها بكفاءة وانتعاشة اقتصادية مكنتها من تحقيق درجات متزايدة من الاستقلالية في سياستها الخارجية.
ولكن ما إن استطاعت روسيا ترتيب أوضاعها في المنطقة بجهد كبير وزيارات متتالية ومكثفة قامت بها القيادة الروسية على مدى السنوات الست الماضية، حتى هبت رياح التغيير لتعصف بكل الأوراق وتطرح ضرورة إعادة ترتيبها من جديد.فثورات الربيع العربي التي بدأت بتونس في ديسمبر 2010 ، ولا تزال تتطور في العديد من الدول العربية، توفر فرصا وتفرض تحديات علي روسيا. فالثورات نجحت في فك الارتباط التقليدي بين النخب الحاكمة والولايات المتحدة في بعض البلدان، إلا أنها قد تنجح أيضا في إنهاء العداء التقليدي بين البعض الآخر والولايات المتحدة، وفي مقدمتها ليبيا وسوريا.
ولاشك في أن هذه التطورات سوف تؤدي إلى بروز متغيرات إقليمية جديدة تماما. وبنهاية مرحلة التحول، سوف يعاد تعريف الحلفاء وكذلك الخصوم أو المنافسين، الأمر الذي سيؤثر حتما في السياسة الروسية وتحالفاتها. فالمنطقة بأكملها يعاد رسم خريطة القوي والتحالفات بها، وذلك بالنظر إلى التغير السريع والجذري الذي تمر به، والذي سيغير دون شك من حسابات روسيا ومعطيات اتخاذ قرارها الخارجي. ويعد هذا التغير في حد ذاته تحديا مهما يواجه السياسة الروسية.
إن روسيا حريصة على استمرار روابطها مع العالم العربي، وتنمية التعاون المثمر بينهما في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية. لذلك، تميل إلى ترجمة أهدافها ومصالحها في شكل علاقات تعاونية تخدم مصالحها ومصالح الأطراف العربية. وبقدر قراءتها السليمة والمبكرة للتغيرات في المنطقة، سيكون نجاح السياسة الروسية في تجاوز التحديات التي تفرضها، واستغلال الفرص المتاحة ورصيدها التعاوني لإعادة صياغة وترتيب علاقاتها مع الدول العربية والحفاظ علي وجودها ومصالحها. وسيكون موقفها من سوريا محكا أساسيا لتعزيز الثقة في روسيا كحليف وشريك قادر على الدفاع عن مصالحه وشركائه.
ويستند عزم روسيا دفع علاقاتها قدما بالعالم العربي إلى رؤيتها له باعتباره جارا مهما ترتبط معه بعلاقات صداقة تقليدية واحترام متبادل، ووجود خلفية تاريخية راسخة من التواصل الحضاري والتعاون الاستراتيجي علي مدي عقود طويلة. وفي هذا السياق، يمكن رصد مجموعة من المعطيات التي تلعب دورا محوريا في تحديد وتوجيه حسابات موسكو وتقديراتها، منها:
أولا- أبعاد الموقف الروسي من الثورات العربية:
خلافا للعهد السوفيتي الذي كانت فيه موسكو الداعم لكل الثورات وحركات التحرر الوطني في العالم، لم تعلن روسيا تأييدا صريحا للثورة والثوار في أي بلد عربي. فقد التزمت الصمت إزاء الأحداث لحين نضجها وإزاحة من بالسلطة، كما حدث في تونس ومصر. ووقفت موقف الحياد أو المتابع، واتسم موقفها بالتأني الذي وصل حد البطء في رد الفعل في حالة اليمن والبحرين. في حين أبدت مواقف مؤيدة بوضوح للسلطة الحاكمة في ليبيا وسوريا، مع اختلاف نمط ودرجة التأييد، ولكن مع الحرص في الوقت ذاته علي إبقاء قنوات اتصال مفتوحة مع الثوار، في محاولة لتحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن والتأكيد الدائم على نزاهة مواقفها وحرصها على الاستقرار الداخلي والإقليمي للدول العربية، حتى يتسني لها الإبقاء علي علاقاتها بالدول محل الثورات، بغض النظر عن الطرف الذي سيسطر علي السلطة، وتكون له الغلبة في النهاية.
ففي بدايات الأزمة الليبية، رأت روسيا أنها "حرب أهلية"، ورفضت الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي الذي تشكل في 27 فبراير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الليبي، رغم توالي الاعتراف الدولي والعربي به. كما رفضت الانضمام إلي مجموعة الاتصال الدولية بشأن ليبيا، رغم كونها تضم نحو40 دولة، بالإضافة لممثلين عن منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي. إلا أنه من ناحية أخري، أعلن الرئيس الروسي، ديمتري ميدفيديف، أن نظام القذافي فقد شرعيته، ويجب عليه الرحيل، ورفضت موسكو استضافة القذافي في روسيا، حال تنحيه. كما وافقت على قرار مجلس الأمن رقم 1970، ولم تستخدم الفيتو ضد القرار رقم 1973 كموقف وسط يتضمن دعما غير مباشر للثوار، وعزوفا عن التأييد المطلق للقذافي في مواجهة الثوار وحلف الأطلنطي.
كما اعترفت بالمجلس الانتقالي الوطني "طرفا مفاوضا" وشريكا شرعيا في المحادثات حول مستقبل ليبيا، وقامت بجهود للوساطة بين السلطات الليبية والثوار، والتي بدأت باستقبال موسكو ممثلي الحكومة الليبية وممثلي المعارضة. أعقب ذلك عدة لقاءات عقدها ميخائيل مارجيلوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشئون التعاون مع البلدان الإفريقية ومبعوثه الخاص للتسوية بليبيا، مع ممثلي المجلس الانتقالي، ورئيس الوزراء الليبي، ووزير الخارجية خلال شهر يونيو 2001 .
وعلى الرغم من إسراع العديد من الدول العربية والأجنبية إلى الاعتراف بالمجلس الانتقالي كسلطة شرعية في البلاد، عقب وصول الثوار إلى طرابلس، كان هناك تأن واضح من جانب موسكو في الإقدام علي هذه الخطوة، وأعلنت الخارجية الروسية: أن "الوضع في ليبيا لا يزال غامضا". وأعلن الرئيس الروسي أنه "بالرغم من نجاحات الثوار وهجومهم علي طرابلس، فإن القذافي وأنصاره لا يزالون يحتفظون بنوع من النفوذ وبعض القدرات العسكرية، وأنه لا يزال هناك سلطتان في ليبيا، وروسيا تعول علي التوصل الي اتفاقات حول وقف إطلاق النار بين الجانبين المتنازعين". ثم عادت واعترفت بالمجلس الانتقالي ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الليبي وسلطة حاكمة في ليبيا، وذلك في الأول من سبتمبر 2001 .
وإذا كان التوازن هو السمة الغالبة علي موقف موسكو من الثورة الليبية، فإن الدعم الروسي للسلطة الحاكمة أوضح ما يكون في الحالة السورية، حيث أبدت روسيا دعما سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا واضحا لنظام الأسد، رغم تكرار دعوتها للقيادة السورية لوقف العنف ومواصلة إجراء إصلاحات سياسية واجتماعية عميقة، بل وتحذير الرئيس ميدفيديف من أن موسكو قد تغير موقفها تجاه دمشق، في حال فشل الرئيس الأسد في إقامة حوار مع المعارضة، وأنه "ينتظر الأسد مصير محزن إذا لم يبدأ حوارا مع المعارضة ويباشر الإصلاحات".
فقد رأت روسيا ضرورة منح القيادة السورية الوقت لتطبيق الإصلاحات التي تم الإعلان عنها، ورفضت الدعوة التي أطلقها كل من الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، وكاثرين أشتون، المفوضة العليا لشئون السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، إلى الرئيس الأسد للتنحي. وعلى حين أوقفت روسيا التعاون العسكري التقني مع ليبيا بعد فرض العقوبات، رغم خسائرها من جراء ذلك والتي بلغت نحو 4 مليارات دولار، تواصل مؤسسة "روس اوبورون إكسبورت" الروسية توريد السلاح إلى سوريا بموجب العقود المبرمة سابقا.
كذلك، فشلت المساعي الغربية المتكررة لإصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدين سوريا لاستخدام العنف في قمع المتظاهرين بسبب معارضة روسيا والصين. وأكدت موسكو أنها لا تفضل حل الأزمة السورية عن طريق فرض عقوبات علي دمشق، وتعطي الأولوية للوسائل الدبلوماسية والسياسية. وأعلن الرئيس الروسي في عدة مناسبات أن روسيا لن تؤيد قرارا يصدره مجلس الامن الدولي بشأن سوريا على غرار القرار بشأن ليبيا. ورأي أن القرارين 1970 و1973 قد تم انتهاكهما بشكل واضح، وتم التلاعب بهما. وأكد أنه "لا توجد رغبة البتة بأن تسير الأحداث في سوريا وفق النموذج الليبي، وأن يستخدم قرار لمجلس الأمن لتبرير عملية عسكرية ضد سوريا".
كما كانت روسيا من بين الدول التسع التي صوتت ضد قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول سوريا، في اجتماعه يوم 29 أبريل، الذي جاء بمبادرة أمريكية، ويشجب الاستخدام المفرط للقوة من قبل السلطات بحق المتظاهرين. وحذرت من مغبة التدخل الخارجي في سوريا، ورأت أنه لن يؤدي إلا للمزيد من العنف وقد يشعل حربا أهلية. كما صوتت موسكو ضد قرار المجلس الصادر في 23 أغسطس، ورأت أنه يهدف إلي تنحية الحكومة الشرعية للبلاد. ورفضت استخدام الآليات الحقوقية من أجل التدخل في الشئون الداخلية، وتحقيق الأهداف السياسية التي تتعارض مع قواعد الشرعية الدولية، وتخالف ميثاق الأمم المتحدة الذي يقوم علي مبدأ احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها. وعارضت موسكو أيضا إحالة الملف النووي السوري إلى مجلس الأمن، في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في يونيو، ولكن تم التصويت لصالح القرار بالأغلبية، في محاولة من الدول الغربية للضغط على سوريا. كما حذرت موسكو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من تزويد المعارضة السورية بالأسلحة وتكرار السيناريو الليبي.
إلا أنه في الوقت ذاته، قامت روسيا بإجراء اتصالات مع المعارضة السورية. وعلى حين انتقدت دمشق لقاء الدبلوماسيين الأمريكيين مع ممثلي المعارضة السورية، رحبت باتصالات الجانب الروسي، انطلاقا من أن موسكو وسيط نزيه، وتحاول من خلال هذه اللقاءات إقناع المعارضة ببدء الحوار مع السلطة.
ثانيا- المصالح الروسية في المنطقة:
على مدى السنوات العشر الماضية، استطاعت روسيا إعادة بناء علاقاتها مع عدد كبير من الدول العربية، تتضمن حلفاءها التقليديين، وفي مقدمتهم سوريا وليبيا والجزائر، والشركاء الجدد، مثل دول الخليج والأردن. وأصبح لروسيا مصالح حقيقية تسعي للحفاظ عليها وتنميتها، حتي مع تغيير النظم الحاكمة في بعض الدول العربية في عقب الثورات. فروسيا لا تسعي إلى تحقيق مكاسب سياسية أو ممارسة دور أمني أو عسكري ينافس الوجود الأمريكي المكثف في المنطقة العربية، وإنما تسعى إلى شراكة استراتيجية بالمعنى الاقتصادي والتقني، ذات عائد اقتصادي مباشر لروسيا، وعائد تنموي حقيقي لدول المنطقة.
في هذا الإطار، ترتبط المصالح الروسية بثلاثة قطاعات رئيسية، هي: الطاقة (النفط والغاز)، والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية، والتعاون العسكري.
ويحتل التعاون والتنسيق في مجال الطاقة قمة أولويات السياسة الروسية في المنطقة العربية، وحوله تتمحور الدبلوماسية الروسية والتقارب الروسي مع الدول العربية، لاسيما دول الخليج العربي، ويلي ذلك أوجه التعاون الأخري، سواء في المجال التقني أو الاقتصادي أو الاستراتيجي العسكري. فقطاع الطاقة يمثل أحد المجالات الأساسية التي تتلاقي فيها المصالح العربية والروسية، وهو جوهر الشراكة العربية- الروسية في المستقبل والدعامة الأساسية لها.
إن روسيا تنظر إلى دول الخليج، لا سيما السعودية، كحليف لها في سوق الطاقة العالمية، وليس منافسة أحدهما للآخر، ويتم التنسيق والتعاون بين روسيا والدول العربية في مجال الطاقة في إطار محورين أساسيين، أولهما: الحفاظ على استقرار السوق النفطية وضمان حد أدني لأسعار النفط، وذلك من خلال التحكم في حجم الإنتاج، خاصة أن روسيا تشارك في اجتماعات أوبك كمراقب. ثانيهما: الاستثمارات الروسية في قطاع النفط العربي والإقبال الشديد من جانب شركات النفط الروسية على الاستثمار في قطاع النفط في الدول العربية، من خلال المشاركة في عمليات البحث والتنقيب وتطوير الإنتاج.
فروسيا تمتلك التكنولوجيا والخبرة اللازمة في مجال الكشف والتنقيب عن البترول واستخراجه، وكذلك في مجال الصناعات البتروكيماوية، حيث تعد روسيا من أكبر منتجي البتروكيماويات في العالم من خلال 15 شركة كبري بفروعها المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. وتعد الشركات الروسية، خاصة "لوك أويل" و"غاز بروم"، من كبرى الشركات العالمية العاملة في مجال الطاقة. وهناك العديد من المشروعات التي بدأت بالفعل بين روسيا وعدد من الدول العربية، والتي تعد نواة لتطوير التعاون في هذا المجال، وفي مقدمتها السعودية، ومصر، والجزائر، والسودان، وسوريا، وليبيا.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تمثل المنطقة العربية سوقا مهمة ذات قوة استيعابية كبيرة للصادرات الروسية من السلع الاستراتيجية والمعمرة، مثل الالآت والمعدات والأجهزة والشاحنات والحبوب. وفي عام 2006، بلغ التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية 5.5 مليار دولار. وتأتي مصر والجزائر والمغرب في مقدمة الشركاء التجاريين لروسيا في المنطقة، وعادة ما يميل الميزان التجاري لصالح روسيا بفارق كبير جدا.
كذلك، تسعي روسيا إلي تنشيط صادراتها من الأسلحة للمنطقة، ليس انطلاقا من اعتبارات سياسية أو أيديولوجية، ولكن نظرا لما تمثله عوائدها من مورد مهم للدخل القومي، وذلك ليس فقط لحلفائها التقليديين في المنطقة، لاسيما سوريا والجزائر وليبيا واليمن، ولكن من خلال فتح أسواق جديدة في الأردن ودول الخليج العربي، والتي تعد سوقا تقليدية للولايات المتحدة والدول الغربية. وتتعاظم المصالح الاستراتيجية الروسية في الحالة السورية، بالنظر إلي الأهمية الاستراتيجية لقاعدة طرطوس البحرية السورية التي تستخدمها القوات البحرية الروسية، والتي تعد قاعدة التموين الوحيدة للأسطول الروسي في منطقة البحر المتوسط.
يضاف إلى ذلك عشرات المشروعات المشتركة التي تم الاتفاق والتعاقد بشأنها، وتقدر قيمة عقودها بمليارات الدولارات، وستتأثر حتما إما بالإلغاء أو التأجيل، نتيجة موجة عدم الاستقرار التي تجتاح الدول العربية. وعلي ضوء التداعيات السلبية المتوقعة لهذه الثورات على المصالح الروسية، أكدت موسكو أنها تريد استقرار الأوضاع في بلدان الشرق الأوسط، لأن أية قلاقل في المنطقة تضر إضرارا مباشرا بمصالح روسيا.
وأشار وزير الخارجية الروسية لافروف إلى أن سوريا من أهم الدول في الشرق الأوسط، وأن زعزعة الاستقرار هناك ستكون له عواقب وخيمة في مناطق بعيدة جدا عن سوريا نفسها. فروسيا تري أن سوريا بمثابة "حجر زاوية" في أمن منطقة الشرق الأوسط، وعدم استقرار الوضع فيها أو نشوب حرب أهلية سيؤدي بدوره حتما إلى زعزعة الوضع في بلدان مجاورة، خاصة في لبنان، ويؤدي إلى صعوبات في المنطقة كلها، وتهديد حقيقي للأمن الإقليمي.
ثالثا- أهمية الشراكة مع روسيا بالنسبة للدول العربية:
هناك آفاق رحبة للتعاون الروسي- العربي في مجالات الطاقة النووية وتكنولوجيا الفضاء وتطوير البنية الصناعية العربية، وهو التعاون الذي بدأ بالفعل علي نطاق محدود لا يتفق مع احتياجات الدول العربية، ولا مع ما يمكن أن تقدمه روسيا من دعم تقني في هذا المجال. ومثال ذلك الاتفاق بين روسيا وليبيا في عام 1997 علي تطوير مركز الأبحاث النووية في تاجورا غرب طرابلس، وتوقيع اتفاقية خاصة بالاستخدام السلمي للطاقة النووية في مارس 2008 بين مصر وروسيا، وبين روسيا والأردن في مايو 2009 لإنشاء المفاعلين النوويين الصناعي والتجريبي في الأردن.
يضاف إلى هذا التعاون القائم بين روسيا وعدد من الدول العربية في مجال تكنولوجيا الفضاء، أهمها الجزائر والسعودية والمغرب، ويتضمن ذلك إطلاق أقمار صناعية للاتصالات والملاحة والاستشعار عن بعد بواسطة صواريخ روسية. وقد تم في هذا الإطار إطلاق القمر الصناعي الجزائري "ألسات-1" في نوفمبر 2002 ، وكذلك إطلاق سبعة أقمار صناعية سعودية بواسطة الصواريخ الروسية إلى مدار حول الأرض، وهناك اتفاق بين البلدين على مواصلة التعاون في هذا المجال.
كما اتفقت وكالة الفضاء الفيدرالية الروسية ومؤسسة الإمارات للعلوم والتقنية المتقدمة عام 2007 علي بدء العمل المشترك في مجال استثمار الفضاء لأغراض سلمية، وإطلاق جهاز فضائي إماراتي للاستشعار عن بعد من مطار بايكونور عام 2008.ولروسيا أيضا دور متزايد وملحوظ في تنمية البنية الصناعية في العديد من الدول العربية، وتحديث البنية الصناعية التي شيدت في فترة الاتحاد السوفيتي، وأهمها تحديث مجمع الحجار للحديد والصلب في الجزائر، وتحديث مولدات كهرباء السد العالي، وترسانة الإسكندرية، والفرن العالي، لشركة حلوان للحديد والصلب وغيرها من المشروعات في مصر. هذا إلى جانب إنشاء صناعات جديدة مشتركة بين روسيا وعدد من الدول العربية، من أهمها إنشاء مجمع سيدي البراق الكهرومائي الضخم في تونس بمساعدة روسيا عام 1999، وعدد آخر من المنشآت المائية. أيضا هناك مشروع خط سكة حديد بين مدينتي سرت وبنغازي الليبيتين بطول 500 كيلو متر وتكلفة تقديرية 2.2 مليار دولار، والعديد من مشروعات الاستثمار المصري- الروسي المشترك في صناعات الدواء والسيارات والطائرات وغيرها.
رابعا- الاحتياج العربي للدعم السياسي الروسي:
يتسم موقف روسيا من القضايا العربية بالاعتدال والتوازن وتأييد الحق العربي، وعليه تعقد آمال الدول العربية في مزيد من العدالة والإنصاف في مواقف المجتمع الدولي تجاه القضايا العربية المختلفة، لاسيما القضية الفلسطينية. فروسيا عضو الرباعية الدولية المعنية بالتسوية السلمية في الشرق الأوسط، وعضو دائم في مجلس الأمن، وهي وسيط نزيه، من وجهة النظر العربية، يسعي للتسوية السلمية، مراعيا مصالح كافة الأطراف.وهي الطرف الدولي الوحيد الذي يحتفظ بقنوات مفتوحة مع كافة أطراف القضية، بما في ذلك حركة حماس التي تعدها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية.
كما أنها أكثر ميلا واستعدادا للتعاون مع "العالم العربي" ككيان إقليمي، وهي بذلك تختلف في موقفها عن دول كبري أخري، ترفض من حيث المبدأ مفهوم الوطن العربي، وتسعي إلي إذابته في كيان أكبر "شرق أوسطي" أو "متوسطي" غير متجانس أو محدد الهوية. ويتضح ذلك ليس فقط في تصريحات القادة الروس، وإنما في إجراءات وسياسات فعلية، أبرزها زيارة بوتين لمقر جامعة الدول العربية، أثناء زيارته للمنطقة في أبريل 2005، والتي كانت لها دلالة خاصة حول أهمية العالم العربي لروسيا، ثم زيارة الرئيس الروسي الحالي ديمتري ميديفيديف للجامعة وخطابه بها في يونيو 2009، وتأكيد موقف روسيا الداعم لوحدة الصف العربي وللعمل العربي المشترك، خلافا لقوى كبرى أخرى تجد مصالحها في ضرب الوحدة العربية.
إن القراءة المتأنية لخبرة التعاون مع روسيا في الماضي وما يمكن أن تقدمه للدول العربية في الحاضر والمستقبل تؤكد أنها تمثل دون شك شريكا أساسيا في تحقيق النهضة العربية المأمولة، فلديها الخبرة والتكنولوجيا والرغبة الصادقة في تقديم مساعدة حقيقية وفعالة. كما أن هناك استجابة وإقبالا واضحين من جانب الدول العربية للتعاون مع روسيا، وشهد العقد الماضي تطورا ملحوظا وإيجابيا في العلاقات العربية -الروسية.
ولا شك في أن تطور العلاقات الروسية -العربية خلال العقد القادم رهن بالإرادة الروسية، ومدي القدرة على دعم وتطوير الشراكة في المجالات الاقتصادية والتقنية، وكذلك العسكرية، والحفاظ علي التفاهمات السياسية والحضارية القائمة بين الجانبين.