أزمة نهر النيل
مرسل: الأربعاء نوفمبر 27, 2013 8:44 pm
المتتبع لموضوع المياه في الوطن العربي لا يستغرب ظهور بوادر أزمة أو أزمات حولها، وذلك لأن أغلب ينابيع الأنهار العربية توجد خارج حدودها، وبخاصة نهر النيل الذي يصبُّ في أكبر دولتين عربيتين ــ من حيث المساحة (السودان)، ومن حيث أعداد السكان(مصر)ــ، حيث يجري نهر النيل في أراضيهما أغلب الوقت، ويعتمدان على مياهه بقدر أكبر من اعتماد دول المنبع عليها، وبخاصة مصر التي لا يكاد يوجد لديها مصدر للمياه غيره، بينما ينبع من ثمانية دول غير عربية هي: أثيوبيا، وزائير، وكينيا، ورواندا، وأوغندا، وبوروندي، والكونغو الديمقراطية، وتنزانيا، وكلها تتمتع بكميات تفوق حاجتها من مياه الأمطار والآبار الجوفية. وبالرغم من ذلك كانت دول المنبع، وبخاصة أثيوبيا ــ التي تغذي بحيرتها (تانا) نهر النيل بحوالي (85?) من المياه عبر النيل الأزرق ــ تطالب بين الفينة والأخرى بزيادة حصتها من مياه النهر، وإقامة سدود عليه لإنتاج الكهرباء، إلاّ أنه في الآونة الأخيرة أخذت دول المنبع الأخرى تتكتل فيما بينها وتطالب بإعادة النظر في الاتفاقيات السابقة الخاصة بتوزيع مياه هذا النهر الذي ُيعدّ أطول نهر في العالم. إذ يبلغ طوله حوالي (5584) كم من بحيرة فيكتوريا إلى البحر المتوسط، ويبلغ متوسط تدفق مياهه حوالي (300) مليون متر مكعب في اليوم، وذلك نظراً لزيادة الطلب على مياهه في تلك الدول بسبب زيادة أعداد سكانها ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ولو ألقينا نظرة سريعة على جغرافية مجرى نهر النيل نجد أنه يمثل التقاء نهري : النيل الأبيض، الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا التي تقع حولها كينيا، وأوغندا، وتنزانيا، والنيل الأزرق، الذي ينبع من بحرية تانا في أثيوبيا، ويلتقي النهران في مدينة الخرطوم عاصمة السودان ليكوّنا نهر النيل الذي يمر بأراضي السودان ابتداءً من مدينة أم درمان ثم يواصل مسيرته نحو الشمال على طول ما يتبقى من أرض السودان متجهاً إلى مصر ليصب أخيراً في البحر الأبيض المتوسط.
وقد كانت العلاقات المائية بين دول حوض النيل حتى نهاية الألفية الثانية تتميز بالاستقرار النسبي نتيجة وجود العديد من الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الثنائية المبرمة بينها، ومنها:
1. اتفاقية عام 1902م بين الحكومة البريطانية ممثلة عن السودان وحكومة أثيوبيا.
2. معاهدة لندن مايو 1906م، بين بريطانيا ممثلة عن السودان ودولة الكونغو المستقلة (زائير حالياً).
3. الاتفاق الثلاثي بين بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، أبريل 1906م للمحافظة على مصالح بريطانيا ومصر في حوض النيل.
4. اتفاق بين بريطانيا ممثلة عن السودان، وإيطاليا ممثلة عن أثيوبيا، ديسمبر 1925م التي تضمنت الاعتراف بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان في مياه نهر النيل، والتعهّد بعدم إقامة أي أعمال على حوض النهر قد تؤدي إلى أي تأثير سلبي على كمية المياه المتدفقة نحو الدولتين.
5. اتفاقية بين بريطانيا ومصر عام 1929م تتضمن عدم السماح بالقيام بأي مشروعات على نهر النيل أو فروعه في البلاد الواقعة تحت سيطرة الإدارة البريطانية قد تؤثر على كمية المياه التي تصل إلى مصر وتلحق الضرر بها، إلاّ بعد موافقتها.
6. اتفاقية 1959م بين السودان ومصر تتضمن العديد من البنود، منها تقسيم مياه النهر التي تصل لهما بحيث يكون نصيب مصر (55،5) مليار متر مكعب ونصيب السودان (18،5) مليار متر مكعب(1)، حيث أخذ في الاعتبار حقوق مصر المكتسبة وعدد السكان والمساحات المزروعة التي تروي من مياه النهر في كلا البلدين آنذاك، فضلاً عن العلاقات الأخوية الحميمة والأزلية بين البلدين.
وإلى جانب الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الثنائية المبرمة، أدت الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة على أراضي معظم دول المنبع في حوض النيل وعدم امتلاكها التكنولوجيا الملائمة والتمويل المالي اللازم، إضافة إلى اتجاه مصر منذ أوائل الثمانينيات الميلادية (باعتبارها أكثر الدول تضرراً من حدوث أي توترات بين دول حوض النيل لاعتمادها الأساسي على مياه نهر النيل) إلىاتباع استراتيجية التنسيق مع دول حوض النيل، وعقد الاتفاقيات الثنائية معها، وإقامة مشروعات اقتصادية مشتركة بينها (حيث تركّز مصر على التعاون الثنائي مع دول المنبع، وليس على التفاوض الجماعي معها)، أدى ذلك إلى استقرار الأوضاع نسبياً وعدم حدوث صراع حاد بينها، كما إن إنشاء اتحاد (الأندوجو) عام 1983م، بين دول حوض النيل لتنمية علاقات التعاون الاقتصادي بشكل عام والتعاون المائي بشكل خاص بينها، أسهم في استقرار الوضع المائي في الحوض، إلاّ أن هذا الوضع المستقر نسبياً لم يخلُ من بعض التوترات بين الحين والآخر ـــ كما سلف الذكر ـــ فدول المنبع تعتبر تلك الاتفاقيات التاريخية بمثابة «اتفاقيات استعمارية»، لأنها وقعت من قِبل بريطانيا أثناء احتلالها لدولها، ولم تأخذ في اعتبارها مصالح دول المنبع، وبالتالي يجب ألاّ يُعتد بها ولا تُعده ملزمة لها، وإن توزيع مياه النيل وفقاً لتلك الاتفاقيات بين دول المنبع والمصب يُعتبر توزيع غير عادل.
لذا، تدعو تلك الدول لإعادة تقسيم المياه وإلغاء اتفاقية عام 1929م بشكل خاص (وتعتبر كينيا أكثر الدول تشدداً في هذا المطلب من بين دول حوض النيل)، كما أن أثيوبيا ترى عدم وجود اتفاقية واحدة ملزمة لجميع دول حوض النيل تنظّم حقوق والتزامات كل منها بالنسبة لاستغلال مياه النيل، وإن الاتفاقيات الثنائية التي عُقدت لا يتعين الالتزام بها، بينما يعترف القانون الدولي باستمرار الصفة الإلزامية لهذه الاتفاقيات وفقاً لقانون «التوارث الدولي للمعاهدات»، وبالصفة الإقليمية الملزمة في تلك الاتفاقيات كما تؤكده اتفاقية فيناً لقانون المعاهدات المبرمة عام 1978م(2).
وعلى الرغم من أن نهر النيل يعتبر نهر دولي حسب اتفاقية (هلسنكي) عام 1966م التي عرفت النهر الدولي بأنه: «الذي يمر حوضه بأقاليم دول مختلفة»، وحسب تعريف اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية عام 1997م بأن المجرى المائي الدولي هو: «أي مجرى مائي تقع أجزاؤه في دول مختلفة»، وبالتالي ليس من حق دولة ما التصرّف بمياهه دون موافقة شركائها في الحوض(3)، إلاّ أن الأمر لا يخلو من قيام إحدى الدول بمشروعات مائية مع دول أجنبية دون موافقة بقية دول الحوض، مما يؤدي إلى إثارة الصراع بينها، وهذا ماحدث فعلاً فتدخل بعض الدول كإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وإقامتها مشروعات مائية مشتركة على نهري النيل الأبيض، والأزرق، والبحيرتان اللتان ينبع النهران منهما مع بعض دول الحوض وتزويدها بالتمويل اللازم أسهم في إحداث توترات بين دول المنبع والمصب.
والسؤال المطروح هناك كيف ظهرت بوادر الأزمة الحالية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، أود أن أشير إلى وجود عدة عوامل أسهمت في تفجّر الأزمة، وهي:
1. عدم وجود قواعد دولية عامة تحكم عملية التوزيع العادل للمياه بين الدول المشتركة في مجري مائي واحد يسهم في زيادة حدة الصراع على المياه.
2. تُعدّ المياه أداة ضغط سياسي تمارسه الدول المسيطرة على منابع الأنهار على الدول المشتركة معها في المجرى المائي نفسه.
3. عدم التزام بعض دول الحوض بالمعاهدات الثنائية والجماعية التي عُقدت بينها بشأن تنظيم استغلال مياه النهر.
4. عزوف مصر مؤخراً عن توثيق علاقاتها مع بقية دول حوض النيل وغيابها عن العديد من الاجتماعات واللقاءات المشتركة بين تلك الدول رغم اعتمادها الكبير على مياه نهر النيل التي تسدّ حوالي (87?) من إجمالي احتياجاتها المائية.
5. رغم وجود اتفاقيات ثنائية ومشروعات مشتركة قديمة بين إسرائيل وبعض دول الحوض ــ كأثيوبيا مثلاً (التي تسهم بحوالي 85? من مياه النهر) ــ مقابل تحقيق مصالح سياسية لإسرائيل مع أثيوبيا، إلاّ أن تحرك إسرائيل مؤخراً وبشكل مكثّف له دور كبير في ظهور الأزمة، فقد قام وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي في سبتمبر 2009م بزيارة إلى أثيوبيا وافتتح (المنتدى الاقتصادي لأثيوبيا وإسرائيل)، كما افتتح مشروع زراعي مشترك بينهما، بالإضافة إلي الولايات المتحدة الأمريكية.
6. رغم اتفاق السودان مع مصر على استمرارية النظام القانوني الحالي لنهر النيل، إلاّ أن السودان يطالب أحياناً بزيادة نصيبه من مياه النهر وتعديل اتفاقية عام 1959م بما يحقق التوزيع العادل لمياه النهر التي تصل لهما بين البلدين، وهذه المطالبة قد تظهر مرة أخرى لو تمت الموافقة على انفصال جنوب السودان المحتمل في المستقبل القريب.
7. الإسراف في استخدام المياه من بعض دول الحوض الفقيرة مائياً كمصر التي يصنّف الوضع المائي للفرد فيها تحت خط الفقر المائي، حيث يبلغ نصيب الفرد من المياه (750) متراً مكعباً فقط، وهو أقل من خط الفقر المائي المحدد عالمياً بحوالي (1000) متر مكعب سنوياً.
الأزمة الراهنة:
أما عن ظهور الأزمة الراهنة بين دول الحوض، فقد بدأت في الاجتماع الذي عُقد في مدينة (شرم الشيخ) بمصر في أبريل من العام الحالي 2010م وضمَّ جميع دول المنبع والمصبّ، ودعت فيه دول المنبع إلى ضرورة التوصُّل إلى اتفاقية جديدة تكون بديلة للاتفاقيات القديمة التي عُقدت أثناء الاستعمار، بحيث تنظم تقسيم المياه بين دول الحوض بشكل أكثر عدلاً من السابق. وأعلنت دول المنبع بأنها ستبدأ محادثات منفصلة بينها لجمع توقيع الدول على الاتفاقية المقترحة في حالة عدم موافقة مصر والسودان على تعديل اتفاقية 1929م، وأن التوقيع على الاتفاقية الجديدة المسماة (اتفاقية الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة حوض النيل) ستبدأ في مايو من العام الحالي(2010م)، وسيترك الباب مفتوحاً لمن يرغب بالتوقيع على الاتفاقية لمدة عام، ثم عُقد لقاء في 14 مايو (2010م) في مدينة (عنتيبي) في أوغندا، ووقّعت على الاتفاقية خمس دول هي: أثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وكينيا، ثم وقّعت فيما بعد دولة الكونغو الديمقراطية على أن توقع عليها لاحقاً دولة بوروندي في يونيو.
وتعترض مصر والسودان على تلك الاتفاقية، وترفض التوقيع عليها، حيث تعترض مصر على بندين في الاتفاقية، وهما:
1. إن إقامة السدود والخزانات يكون بموافقة أغلبية دول الحوض (سابقاً كان بالإجماع)، فمصر تطالب بأن تبقى بالإجماع.
2. تلقى الاتفاقية شرط الإخطار المسبق قبل إنشاء مشاريع جديدة على النهر (وهذا ما كانت تتضمنه الاتفاقيات السابقة).
ومما يزيد الأمر سوءاً بالنسبة لمصر، هو احتمال انفصال جنوب السودان مع إجراء الاستفتاء عام 2011م، حيث سيضعف هذا من تحالف السودان ـــ مصر لصالح دول منابع نهر النيل التي لها مصالح مشتركة فيما بينها أكثر مما بينها مع دول المصب (مصر والسودان).
إن تخوُّف دول المصب من تلك الاتفاقية ومن المشروعات المقامة على منابع النيل له ما يبرره، فقد ذكر البرنامج البيئي للأمم المتحدة في تقريره عام 2005م بأن بحيرة فكتوريا والتي ينبع منها نهر النيل الأبيض معرّضة للخطر، حيث ستعاني من انخفاض كبير في مستوى الماء فيها كبقية بحيرات أفريقيا، مما سيكون له تأثير سلبي على كمية المياه التي تصل لدول المصب. كما أوضح عالم البيئة الإنجليزي (فرد بيرس) بأن السدود المقامة على منابع نهر النيل والإسراف في استخدام مياهه من قِبل دول الحوض ستؤثر على كمية المياه التي يٌُفترض أن تصل إلى البحر المتوسط، ويُتوقع قريباً ألاّ تصل مياه النهر فعلاً إلى البحر بسبب انخفاض كميتها، كما أن تصدير المنتجات الزراعية من بعض دول حوض النيل يعني بصورة غير مباشرة تصديراً للمياه التي هي محل نزاع، فعلى سبيل المثال تصدّر كينيا الورود لبعض الدول الأوروبية، مما أثّر سلباً على مياه بحيرات كينيا وزادت حاجتها للمياه، وبالتالي سبّب ذلك ضغطاً على مياه بحيرة فيكتوريا التي هي منبع نهر النيل الأبيض(4).
فما هو مستقبل تلك الأزمة؟ وهل ستجد دول حوض النيل حلاً لها يرضي جميع الأطراف؟
ماذا يخبئ المستقبل؟
في الواقع، بدأت مصر والتي تُعتبر أكثر الدول تضرراً من تلك الأزمة بالتحرّك لاحتوائها من خلال تكثيف الحوار والتعاون الثنائي مع دول الحوض الموقّعة على الاتفاقية كأوغندا، والكونغو، وكينيا، ومحاولة إقناع الدول التي لم توقّع بعد بعدم التوقيع عليها، وتدرس مصر حالياً الانسحاب من مبادرة حوض النيل التي هي عضوة فيها، كما تحاول إقناع الدول الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية بعدم تمويل مشاريع قد توثّر على حصتها من مياه النهر، وأخيراً، تفكّر مصر باللجوء للتحكيم الدولي لحل خلافاتها مع دول المنبع.
أما دول المنبع فهي مصرّة على موقفها وحقها في استغلال مياه النهر الذي ينبع من أراضيها، وقد أعلن مكتب مبادرة حوض النيل عن إعادة هيكلة المبادرة وتحويلها إلى لجنة عليا لإدارة شؤون نهر النيل يشارك فيها ممثلون عن دول الحوض وتشمل الاتفاقية الإطارية الجديدة التي تم التوقيع عليها.
وهذا يعني أن حل الأزمة قد يكون صعباً في ظل إصرار كل جهة على موقفها وعدم قبولها بأي تنازل من أجل التوصُّل لحل يرضي جميع الأطراف، مما قد يتطلب تدخل بعض الدول الكبرى المحايدة التي ليس لها مصالح خاصة مع أي من الطرفين وبإشراف منها وإشراك الأمم المتحدة، يمكن التوصُّل إلى حل سلمي لهذه الأزمة، وبمعنى آخر يجب على دولتي المصب (مصر والسودان) اعتماد أسلوب المفاوضات بدلاً عن أسلوب المواجهات ?
ولو ألقينا نظرة سريعة على جغرافية مجرى نهر النيل نجد أنه يمثل التقاء نهري : النيل الأبيض، الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا التي تقع حولها كينيا، وأوغندا، وتنزانيا، والنيل الأزرق، الذي ينبع من بحرية تانا في أثيوبيا، ويلتقي النهران في مدينة الخرطوم عاصمة السودان ليكوّنا نهر النيل الذي يمر بأراضي السودان ابتداءً من مدينة أم درمان ثم يواصل مسيرته نحو الشمال على طول ما يتبقى من أرض السودان متجهاً إلى مصر ليصب أخيراً في البحر الأبيض المتوسط.
وقد كانت العلاقات المائية بين دول حوض النيل حتى نهاية الألفية الثانية تتميز بالاستقرار النسبي نتيجة وجود العديد من الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الثنائية المبرمة بينها، ومنها:
1. اتفاقية عام 1902م بين الحكومة البريطانية ممثلة عن السودان وحكومة أثيوبيا.
2. معاهدة لندن مايو 1906م، بين بريطانيا ممثلة عن السودان ودولة الكونغو المستقلة (زائير حالياً).
3. الاتفاق الثلاثي بين بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، أبريل 1906م للمحافظة على مصالح بريطانيا ومصر في حوض النيل.
4. اتفاق بين بريطانيا ممثلة عن السودان، وإيطاليا ممثلة عن أثيوبيا، ديسمبر 1925م التي تضمنت الاعتراف بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان في مياه نهر النيل، والتعهّد بعدم إقامة أي أعمال على حوض النهر قد تؤدي إلى أي تأثير سلبي على كمية المياه المتدفقة نحو الدولتين.
5. اتفاقية بين بريطانيا ومصر عام 1929م تتضمن عدم السماح بالقيام بأي مشروعات على نهر النيل أو فروعه في البلاد الواقعة تحت سيطرة الإدارة البريطانية قد تؤثر على كمية المياه التي تصل إلى مصر وتلحق الضرر بها، إلاّ بعد موافقتها.
6. اتفاقية 1959م بين السودان ومصر تتضمن العديد من البنود، منها تقسيم مياه النهر التي تصل لهما بحيث يكون نصيب مصر (55،5) مليار متر مكعب ونصيب السودان (18،5) مليار متر مكعب(1)، حيث أخذ في الاعتبار حقوق مصر المكتسبة وعدد السكان والمساحات المزروعة التي تروي من مياه النهر في كلا البلدين آنذاك، فضلاً عن العلاقات الأخوية الحميمة والأزلية بين البلدين.
وإلى جانب الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الثنائية المبرمة، أدت الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة على أراضي معظم دول المنبع في حوض النيل وعدم امتلاكها التكنولوجيا الملائمة والتمويل المالي اللازم، إضافة إلى اتجاه مصر منذ أوائل الثمانينيات الميلادية (باعتبارها أكثر الدول تضرراً من حدوث أي توترات بين دول حوض النيل لاعتمادها الأساسي على مياه نهر النيل) إلىاتباع استراتيجية التنسيق مع دول حوض النيل، وعقد الاتفاقيات الثنائية معها، وإقامة مشروعات اقتصادية مشتركة بينها (حيث تركّز مصر على التعاون الثنائي مع دول المنبع، وليس على التفاوض الجماعي معها)، أدى ذلك إلى استقرار الأوضاع نسبياً وعدم حدوث صراع حاد بينها، كما إن إنشاء اتحاد (الأندوجو) عام 1983م، بين دول حوض النيل لتنمية علاقات التعاون الاقتصادي بشكل عام والتعاون المائي بشكل خاص بينها، أسهم في استقرار الوضع المائي في الحوض، إلاّ أن هذا الوضع المستقر نسبياً لم يخلُ من بعض التوترات بين الحين والآخر ـــ كما سلف الذكر ـــ فدول المنبع تعتبر تلك الاتفاقيات التاريخية بمثابة «اتفاقيات استعمارية»، لأنها وقعت من قِبل بريطانيا أثناء احتلالها لدولها، ولم تأخذ في اعتبارها مصالح دول المنبع، وبالتالي يجب ألاّ يُعتد بها ولا تُعده ملزمة لها، وإن توزيع مياه النيل وفقاً لتلك الاتفاقيات بين دول المنبع والمصب يُعتبر توزيع غير عادل.
لذا، تدعو تلك الدول لإعادة تقسيم المياه وإلغاء اتفاقية عام 1929م بشكل خاص (وتعتبر كينيا أكثر الدول تشدداً في هذا المطلب من بين دول حوض النيل)، كما أن أثيوبيا ترى عدم وجود اتفاقية واحدة ملزمة لجميع دول حوض النيل تنظّم حقوق والتزامات كل منها بالنسبة لاستغلال مياه النيل، وإن الاتفاقيات الثنائية التي عُقدت لا يتعين الالتزام بها، بينما يعترف القانون الدولي باستمرار الصفة الإلزامية لهذه الاتفاقيات وفقاً لقانون «التوارث الدولي للمعاهدات»، وبالصفة الإقليمية الملزمة في تلك الاتفاقيات كما تؤكده اتفاقية فيناً لقانون المعاهدات المبرمة عام 1978م(2).
وعلى الرغم من أن نهر النيل يعتبر نهر دولي حسب اتفاقية (هلسنكي) عام 1966م التي عرفت النهر الدولي بأنه: «الذي يمر حوضه بأقاليم دول مختلفة»، وحسب تعريف اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية عام 1997م بأن المجرى المائي الدولي هو: «أي مجرى مائي تقع أجزاؤه في دول مختلفة»، وبالتالي ليس من حق دولة ما التصرّف بمياهه دون موافقة شركائها في الحوض(3)، إلاّ أن الأمر لا يخلو من قيام إحدى الدول بمشروعات مائية مع دول أجنبية دون موافقة بقية دول الحوض، مما يؤدي إلى إثارة الصراع بينها، وهذا ماحدث فعلاً فتدخل بعض الدول كإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وإقامتها مشروعات مائية مشتركة على نهري النيل الأبيض، والأزرق، والبحيرتان اللتان ينبع النهران منهما مع بعض دول الحوض وتزويدها بالتمويل اللازم أسهم في إحداث توترات بين دول المنبع والمصب.
والسؤال المطروح هناك كيف ظهرت بوادر الأزمة الحالية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، أود أن أشير إلى وجود عدة عوامل أسهمت في تفجّر الأزمة، وهي:
1. عدم وجود قواعد دولية عامة تحكم عملية التوزيع العادل للمياه بين الدول المشتركة في مجري مائي واحد يسهم في زيادة حدة الصراع على المياه.
2. تُعدّ المياه أداة ضغط سياسي تمارسه الدول المسيطرة على منابع الأنهار على الدول المشتركة معها في المجرى المائي نفسه.
3. عدم التزام بعض دول الحوض بالمعاهدات الثنائية والجماعية التي عُقدت بينها بشأن تنظيم استغلال مياه النهر.
4. عزوف مصر مؤخراً عن توثيق علاقاتها مع بقية دول حوض النيل وغيابها عن العديد من الاجتماعات واللقاءات المشتركة بين تلك الدول رغم اعتمادها الكبير على مياه نهر النيل التي تسدّ حوالي (87?) من إجمالي احتياجاتها المائية.
5. رغم وجود اتفاقيات ثنائية ومشروعات مشتركة قديمة بين إسرائيل وبعض دول الحوض ــ كأثيوبيا مثلاً (التي تسهم بحوالي 85? من مياه النهر) ــ مقابل تحقيق مصالح سياسية لإسرائيل مع أثيوبيا، إلاّ أن تحرك إسرائيل مؤخراً وبشكل مكثّف له دور كبير في ظهور الأزمة، فقد قام وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي في سبتمبر 2009م بزيارة إلى أثيوبيا وافتتح (المنتدى الاقتصادي لأثيوبيا وإسرائيل)، كما افتتح مشروع زراعي مشترك بينهما، بالإضافة إلي الولايات المتحدة الأمريكية.
6. رغم اتفاق السودان مع مصر على استمرارية النظام القانوني الحالي لنهر النيل، إلاّ أن السودان يطالب أحياناً بزيادة نصيبه من مياه النهر وتعديل اتفاقية عام 1959م بما يحقق التوزيع العادل لمياه النهر التي تصل لهما بين البلدين، وهذه المطالبة قد تظهر مرة أخرى لو تمت الموافقة على انفصال جنوب السودان المحتمل في المستقبل القريب.
7. الإسراف في استخدام المياه من بعض دول الحوض الفقيرة مائياً كمصر التي يصنّف الوضع المائي للفرد فيها تحت خط الفقر المائي، حيث يبلغ نصيب الفرد من المياه (750) متراً مكعباً فقط، وهو أقل من خط الفقر المائي المحدد عالمياً بحوالي (1000) متر مكعب سنوياً.
الأزمة الراهنة:
أما عن ظهور الأزمة الراهنة بين دول الحوض، فقد بدأت في الاجتماع الذي عُقد في مدينة (شرم الشيخ) بمصر في أبريل من العام الحالي 2010م وضمَّ جميع دول المنبع والمصبّ، ودعت فيه دول المنبع إلى ضرورة التوصُّل إلى اتفاقية جديدة تكون بديلة للاتفاقيات القديمة التي عُقدت أثناء الاستعمار، بحيث تنظم تقسيم المياه بين دول الحوض بشكل أكثر عدلاً من السابق. وأعلنت دول المنبع بأنها ستبدأ محادثات منفصلة بينها لجمع توقيع الدول على الاتفاقية المقترحة في حالة عدم موافقة مصر والسودان على تعديل اتفاقية 1929م، وأن التوقيع على الاتفاقية الجديدة المسماة (اتفاقية الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة حوض النيل) ستبدأ في مايو من العام الحالي(2010م)، وسيترك الباب مفتوحاً لمن يرغب بالتوقيع على الاتفاقية لمدة عام، ثم عُقد لقاء في 14 مايو (2010م) في مدينة (عنتيبي) في أوغندا، ووقّعت على الاتفاقية خمس دول هي: أثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وكينيا، ثم وقّعت فيما بعد دولة الكونغو الديمقراطية على أن توقع عليها لاحقاً دولة بوروندي في يونيو.
وتعترض مصر والسودان على تلك الاتفاقية، وترفض التوقيع عليها، حيث تعترض مصر على بندين في الاتفاقية، وهما:
1. إن إقامة السدود والخزانات يكون بموافقة أغلبية دول الحوض (سابقاً كان بالإجماع)، فمصر تطالب بأن تبقى بالإجماع.
2. تلقى الاتفاقية شرط الإخطار المسبق قبل إنشاء مشاريع جديدة على النهر (وهذا ما كانت تتضمنه الاتفاقيات السابقة).
ومما يزيد الأمر سوءاً بالنسبة لمصر، هو احتمال انفصال جنوب السودان مع إجراء الاستفتاء عام 2011م، حيث سيضعف هذا من تحالف السودان ـــ مصر لصالح دول منابع نهر النيل التي لها مصالح مشتركة فيما بينها أكثر مما بينها مع دول المصب (مصر والسودان).
إن تخوُّف دول المصب من تلك الاتفاقية ومن المشروعات المقامة على منابع النيل له ما يبرره، فقد ذكر البرنامج البيئي للأمم المتحدة في تقريره عام 2005م بأن بحيرة فكتوريا والتي ينبع منها نهر النيل الأبيض معرّضة للخطر، حيث ستعاني من انخفاض كبير في مستوى الماء فيها كبقية بحيرات أفريقيا، مما سيكون له تأثير سلبي على كمية المياه التي تصل لدول المصب. كما أوضح عالم البيئة الإنجليزي (فرد بيرس) بأن السدود المقامة على منابع نهر النيل والإسراف في استخدام مياهه من قِبل دول الحوض ستؤثر على كمية المياه التي يٌُفترض أن تصل إلى البحر المتوسط، ويُتوقع قريباً ألاّ تصل مياه النهر فعلاً إلى البحر بسبب انخفاض كميتها، كما أن تصدير المنتجات الزراعية من بعض دول حوض النيل يعني بصورة غير مباشرة تصديراً للمياه التي هي محل نزاع، فعلى سبيل المثال تصدّر كينيا الورود لبعض الدول الأوروبية، مما أثّر سلباً على مياه بحيرات كينيا وزادت حاجتها للمياه، وبالتالي سبّب ذلك ضغطاً على مياه بحيرة فيكتوريا التي هي منبع نهر النيل الأبيض(4).
فما هو مستقبل تلك الأزمة؟ وهل ستجد دول حوض النيل حلاً لها يرضي جميع الأطراف؟
ماذا يخبئ المستقبل؟
في الواقع، بدأت مصر والتي تُعتبر أكثر الدول تضرراً من تلك الأزمة بالتحرّك لاحتوائها من خلال تكثيف الحوار والتعاون الثنائي مع دول الحوض الموقّعة على الاتفاقية كأوغندا، والكونغو، وكينيا، ومحاولة إقناع الدول التي لم توقّع بعد بعدم التوقيع عليها، وتدرس مصر حالياً الانسحاب من مبادرة حوض النيل التي هي عضوة فيها، كما تحاول إقناع الدول الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية بعدم تمويل مشاريع قد توثّر على حصتها من مياه النهر، وأخيراً، تفكّر مصر باللجوء للتحكيم الدولي لحل خلافاتها مع دول المنبع.
أما دول المنبع فهي مصرّة على موقفها وحقها في استغلال مياه النهر الذي ينبع من أراضيها، وقد أعلن مكتب مبادرة حوض النيل عن إعادة هيكلة المبادرة وتحويلها إلى لجنة عليا لإدارة شؤون نهر النيل يشارك فيها ممثلون عن دول الحوض وتشمل الاتفاقية الإطارية الجديدة التي تم التوقيع عليها.
وهذا يعني أن حل الأزمة قد يكون صعباً في ظل إصرار كل جهة على موقفها وعدم قبولها بأي تنازل من أجل التوصُّل لحل يرضي جميع الأطراف، مما قد يتطلب تدخل بعض الدول الكبرى المحايدة التي ليس لها مصالح خاصة مع أي من الطرفين وبإشراف منها وإشراك الأمم المتحدة، يمكن التوصُّل إلى حل سلمي لهذه الأزمة، وبمعنى آخر يجب على دولتي المصب (مصر والسودان) اعتماد أسلوب المفاوضات بدلاً عن أسلوب المواجهات ?